وبالتطبيق على مسئولية المحكم نستخلص جواز اتفاق المحكم م ع المحتكم المضرور من خطئه الجسيم أو من غشه على إعفائه من الالتزام بالتعويض أو التخفيف من أحكام المسئولية المتعلقة بالتعويض بعد تحقق المسئولية ، وذلك فضلا عن جواز الاتفاق على إعفاء المحكم من المسئولية الناشئة عن غش مستخدميه ومعاونيه وخطئهم الجسيم قبل وبعد تحقق مسئوليته إعمالا للنص الصريح على ذلك في الفقرة الثانية من المادة ۲۱۷ مدني مصري.
أما بخصوص التشديد من أحكام مسئولية المحكم المتعلقة بالتعويض فتكاد تخلو النصوص التشريعية المنظمة للتحكيم على صعيد القانون المقارن من الإشارة إلى حكم الاتفاقات المتصورة في هذا الخصوص ، ولعل السبب في ذلك يرجع اندفاع النظم التشريعية إلى دعم التحكيم وتهيئة المناخ له وتحفيز الأشخاص ع اللجوء إليه في منازعاتهم وهو ما يدعو إلى التخفيف على أطرافه - ومنهم المحكم - لا إلى التشديد عليهم ، كما أن المطلع على كافة لوائح مؤسسات و مراکز وبتطبيق حكم القواعد العامة للتأمين من المسئولية على فكرة التأمين من مسئولية المحكم يحبذ البعض ضرورة إعمال هذا الفكر في مجال التحكيم لأنه سيضمن للمضرور من الخصوم حقه في التعويض فلا يكون أمامه مدین واحد هو المحكم المسئول والذي قد يكون معسرا ، بل يكون أمامه مدینان هما شركة التأمين والمحكم.
وفي خصوص التطبيق العملي لهذا الفكر التأميني في مجال التحكيم فمن المنصور ورود التأمين من مسئولية المحكم في أحد صور ثلاث ، فأولا قد يرد التأمين من المسئولية في صورة عقد جماعي تبرمه مؤسسة تحكيم أو مركز تحكيم مع شركة تأمين التعويض المضرورين من أخطاء أي من المحكمين المنتمين إلى هذا المركز أو تلك المؤسسة أثناء مباشرة المهمة التحكيمية ، وثانيا قد يأخذ التأمين صورة عقد تأمين يبرمه المحكم لتأمين نفسه بصدد كافة التحكيمات التي يتولاها فلا يكون المستفيد من التأمين شخص معين وإنما أي محتكم يضار من خطأ المحكم أثناء مباشرة هذا الأخير لمهامه التحكيمية ، وثالثا - وأخيرا - قد يتم اتفاق التأمين بين المحكم وشركة التأمين في خصوص نزاع تحكيمي معين ، فيتحدد موضوع
أما من ناحية نطاق التأمين من حيث الأشخاص فيتم الرجوع إلى اتفاق التأمين المنشيء لهذه الحماية التأمينية ، وقد ذكرنا أن هذا الاتفاق قد يأخذ في الواقع العملي أحد صور ثلاث ، فإذا ما تم اتفاق التحكيم عن طريق مؤسسة تحكيمية - في التحكيم المؤسسي - فلا شك أن المستفيدين من هذا الاتفاق هم جميع المحتكمين الذين يلجأون إلى هذه المؤسسة التحكيمية لفض منازعاتهم تحكيميا ولا يتعداهم إلى غيرهم ؛ وعلى ذلك فالمحكم الذي ينتمي إلى المؤسسة التحكيمية التي شملت المتعاملين معها بحماية تأمينية لو تولى تحكيما حرا خارج نطاق هذه المؤسسة وأضير منه أحد المحتكمين فلا يمكنه الاستفادة من هذه الحماية التأمينية.
أما إذا أبرم اتفاق التأمين التحكيمي - إن صح التعبير - في صورته الثانية وهي أن يبرم المحكم مع شركة تأمين عقدا لتعويض كل المحتكمين الذين قد يضاروا من خطئه أثناء المهام التحكيمية التي يتولاها ، فلا شك من إقرار استفادة أي محتكم يرتبط مع هذا المحكم بعقد تحكيمي أو اتفاق تحكيم من هذه الحماية التأمينية.
كما أن إبرام عقد التأمين في صورته الثالثة والأخيرة بأن يقصر المحكم - المؤمن له - الاستفادة من الحماية التأمينية مع شركة التأمين - المؤمن - على تحکیم معين، فلا يستفيد من الحماية التأمينية إلا المحتكم في هذا التحكيم دون سواه.
وختاما وبالرغم من أن أحكام التأمين التي أوردتها القواعد العامة في مجال التأمين وخصوصا في مجال التأمين من المسئولية تجد من مسئولية المحكم أرضا خصبة للعمل في نطاقها ، وبالرغم من تحبيذ البعض لإعمال منطق التأمين من المسئولية في خصوص مسئولية المحكم ومؤسسات التحكيم ، وما يحققه ذلك من فوائد ومزايا للمحتكمين على السواء ، إلا أني أرى استبعاد التأمين من نطاق مسئولية المحكم للعديد من الأسباب أنكر من أهمها ما يلي:
ولكننا لا نؤيد هذا القول لما يلي:
١- في خصوص خروج الخطأ العمد عن نطاق الحماية التأمينية فإن هذا الأمر يثير الكثير من الصعوبات ، فالعمد في مجال التأمين يأخذ مفهوما ضيقا عما هو مقرر في خصوص القواعد العامة - على نحو ما ذكرنا سلفا - وهو ما يعني أن تعمد المحكم إتيان السلوك الضار لا يكفي لتحقق العمد الذي ينفي التغطية التأمينية إذ إن الأمر يتطلب تعمد إلحاق الضرر بالخصم ، كما أن إثبات العمد من الصعوبة بمكان لما ينطوي عليه من تدخل في الكوامن النفسية والتي يتعذر - في كثير من الأحوال – التثبت مما تكنه في أغوارها. ۲- في خصوص استحقاق الخصم المضرور تعويضا عن الأضرار التي قد تنشأ عن إهمال المحكم فلا شك أن هذا لا يستوي مع إنجاز المحكم مهمته بحرص وحذر وتجنيب المحتكمین خوض غمار خصومات جانبية وثانوية خارج أصل موضوع النزاع التحكيمي، كما أن هذا المنطق يتعارض وفلسفة التحكيم التي تقوم على تقليص حجم النزاع المعروض في أضيق نطاق وتجنب اللدد في الخصومة وما يتولد عنه من تشعب في الإجراءات على نحو ما هو موجود أمام قضاء الدولة ، ففتح طريق الخطأ والإهمال أمام المحكم وتقرير أحقية المضرور في التعويض يضر بنظام التحكيم ويعرقل مسيرته أكثر مما يفيد.
٣- تعارض فكرة التأمين من مسئولية المحكم مع أسس الشريعة الإسلامية والتي هي المصدر الأساسي للتشريع وفق نص المادة الثانية من الدستور المصري ، وبعد قليل سنحاول استعراض فكرة التأمين من مسئولية المحكم في رحاب الفقه الإسلامي وهو ما يوضح مناط هذا التعارض؛ ولذا فإن تعرض المشرع بتنظيم التأمين من مسئولية المحكم قد يلقي بظلال من عدم الدستورية على هذه النصوص .
التأمين من مسئولية المحكم بين القانون الوضعي والفقه الشرعي :
يثير الحكم الشرعي للتأمين من مسئولية المحكم مدى مشروعية التأمين عموما تأمين من المسئولية على وجه الخصوص ، و قد تعددت الآراء في هذا الشأن ، و خلاقا فقهيا واسعا حول مدى مشروعية التأمين في فكر الشريعة الإسلامية ، تمشيه أو تعارضه مع ثوابت هذه الشريعة الغراء ، ودون خوض في والات قد تخرج بنا عن موضوع هذا البحث أحاول جمع شتات هذه المسألة الخلافية في عرض موجز على النحو التالي :
بتأسيس الخلاف الفقهي حول مشروعية التأمين على محورين رئيسيين هما اور تحقق الغرر في عقد التأمين ، ومدى توافر الوصف الشرعي للربافي
المعاملات التأمينية ، وسوف أقتصر على عرض ما أراه راجحا في هذه المسألة مشيرا إلى الآراء المعارضة وما أبدته من حجج والردود الفقهية الواردة عليها بإيجاز على أن أضمن الهامش من المصادر والمراجع ما يكفي لري ظمأكل متعطش للإلمام بجميع جوانب هذه المسألة الخلافية الهامة شرعا وعملا والخطيرة في ذات الوقت.
ان بداية يوجد شبه إجماع فقهي على أن الغرر في العقد يفضي إلى بطلانه وعدم الاعتداد به شرعا ، ويقصد بالغرر الجهالة الفاحشة ، والغرر في مجال العقود التبادلية معناه جهالة أحد المتعاقدين لما يترتب على العقد من أداءات تبادلية سيبذلها او حقوق سيحصل عليها ، والغرر المجمع على بطلان العقد المشتمل عليه هو الغرر الشديد أي الجهالة الفاحشة بأحد الأداءات المتقابلة في العقد ، أما الجهالة السيرة الاتفاق منعقد على عدم تأثر العقد بها لقبولها عرفا و عدم خطورة نتائجها شرعا.