الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / سلطات المحكم / المجلات العلمية / المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي العدد 33 / سلطة المحكم في تقرير اصول المحاكمة التحكيمية (دراسة مقارنة)

  • الاسم

    المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي العدد 33
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    15

التفاصيل طباعة نسخ

سلطة المحكم في تقرير اصول المحاكمة التحكيمية (دراسة مقارنة)

اذا كان الاعتراف بسلطة المحكمين في تنظيم اجراءات التحكيم بات اليوم أمرا مسلمة به، فان الأمر لم يكن كذلك في الماضي (القسم الأول)۔ غير أن هذه السلطة ليست مطلقة بل مقيدة بحدود ذات أهمية متفاوتة القسم الثاني)، لا بد من التطرق إلى وسائل ممارستها، قبل الانتقال الى مضمونها وبيان كيف أن التحكيم الدولي قد تخطاها (القسم الثالث)

القسم الاول - الاعتراف بسلطة المحكمين في تقرير اجراءات التحكيم

أن الأنظمة القانونية التي لا تعترف للمحكمين بسلطة تقرير اجراءات التحكيم باتت اليوم قليلة. فالأمر بات عاديا في ظل التشريعات الراهنة. غير ان هذا الموقف المتحرر ليس جديدا، فقد عرفه القانون الألماني منذ العام ۱۸۷۷ اذ منح المحكم، عند صمت الفرقاء، حرية تحديد سير الإجراءات التحكيمية (Freies Ermesen) 

تتضمن بعض التشريعات احكاما صريحة بهذا الشأن. فالمادة ۸۱۱، فقرة ثانية من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبنانية تنص على ما يلي:

وان لم يرد نص في الاتفاقية يطبق المحكم، بحسب مقتضى الحال، الأصول التي يراها مناسبة أن مباشرة او بالالتجاء الى قانون معين أو إلى نظام للتحكيم.

وتنص المادة 1460 من قانون اصول المحاكمات المدنية الفرنسي انه، عند عدم اتفاق الفرقاء على اتباع اصول محددة في التحكيم فيحدد المحكمون الأصول التحكيمية، بدون أن يكونوا ملزمين باتباع القواعد الموضوعة للمحاكم العادية.

وتنص المادة ۲4 من قانون التحكيم السويسري أن والأصول التحكيمية تنحدد باتفاق الفرقاء، والا بقرار من المحكمة التحكيمية. وقد اعتمد القانون البريطاني حول التحكيم في المادة ۱۱۱، الفقرة الأولى منه هذه القاعدة فنص على ما يلي:

«The parties to a reference shall agree the procedure for the

reference, and in so far as the parties do not agree, the tribunal shall determine all procedural matters,

أن بعض التشريعات الأخرى لا تذكر صراحة سلطة المحكم في تنظيم الأصول التحكيمية بل تكرسها ضمنيا بمجرد عدم التطرق البها، كالقانون الفدرالي الأميركي وقانون التحكيم السويدي.

لم يتحقق هذا الوضع الذي يحظى بشبه اجماع حوله إلا بعد مرحلة طويلة من التطور، فلفترة خلت، كانت عدة تشريعات تفرض على المحكم احترام قواعد الأصول القضائية أو تلك المستوحاة منها، ولا تترك له حرية تنظيم اجراءات التحكيم.

بقيت البلدان التي تعتمد نظام الأعراف common law بعيدة عن هذا الاتجاه، لانها عرفت تنوعا في الأنظمة القضائية، لكل نظام قواعده، ما ادى الى نفي وجود أي نموذج وحيد للاصول القضائية يمكن فرضه على المحكمين.

في البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني، كانت قوانین اصول المحاكمات المدنية، التي احتوت غالبا القواعد الراعية للتحكيم، تحث المشرع على مطابقة الأصول التحكيمية مع الأصول الفضائية مع بعض التعديلات الطفيفة التي تفرضها ظروف الملاءمة.

غير أنه لا يمكننا التعميم في هذا الصدد، لأن كل شيء مرتبط بالفكرة المكونة عن المحكم. وهذه الأخيرة بدورها مرتبطة بالظروف التاريخية العرضية.

اذا كنا نرى في التحكيم وسيلة لتحقيق العدالة، تختلف على المستوى الوظيفي عن قضاء الدولة، باعتبار أنه يذهب في اتجاه ارساء تفاهم بين الفرقاء، فانه يقتضي الاحجام عن فرض او حتى عن اقتراح أي نموذج قضائي. هذا ما فعله منذ القدم القانون الالمانی تحت تأثير التقليد الكنسي، وتبعه في ذلك القانون النمساوي والقانون الهولندي، وقوانين البلاد الاسكندنافية.

في البلدان التي تعتمد التحكيم المطلق كلبنان مثلا، ويعفي المحكم او المحكمون من تطبيق قواعد القانون واصول المحاكمة العادية ويحكمون بمقتضى الأنصاف، (المادة ۷۷۷ من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني)، وقد أثبع القانون الاسباني هذا الامرحتى في التعديل الذي طرأ في العام ۱۹۸۸.

يصبح الأمر مختلفا اذا اعتبرنا ان التحكيم وسيلة بديلة عن فضاء الدولة، بهدف الى تحقيق نفس الوظيفة، وان كان ذا طبيعة مختلفة. في هذه الحالة، سواء كان المششع مؤيدا او مناهضا لهذه العدالة المزاحمة، فانه سيعمد إلى تفريب الأصول التحكيمية من الأصول الفضائية، لقد تأثر المششع الفرنسي بهذا المفهوم الذي وضعه قانون أصول المحاكمات المدنية القديم في العام ۱۸۰۱، حيث جاء في المادة ۱۰۰۸ منه: انبع الفرقاء والمحكمون نفس الأعول والمهل والأشكال المتبعة أمام المحاكم، ما لم يتفق المحكمون على خلاف من ذلك).

عمدت بعض الدول الى تقريب اجراءات التحكيم من اجراءات المحاكمة امام فضاء الدولة، على الاقل في حالات التحكيم العادي؟ فنصت المادة ۷۷۹ أ.م.م.، الفقرة الثانية أنه في التحكيم العادي بطبق المحكم او المحكمون قواعد القانون واصول المحاكمة العادية باسخاء ما لا يتفق منها مع اصول التحكيم .... ذهب القانون البرتغالي الى حد النص على وجوب اجراء الجلسات التحكيمية في قاعات محاكم الدولة. وقد نحت بلجيكا، ايطاليا واليونان نفس المنحی

بصورة تقريبية، يمكننا تجزئة البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني إلى بلدان الشمال (ذات التقليد الجرماني) وبلدان الجنوب (ذات التقليد اللاتيني)، وقد كانت سويسرا القديمة منقسمة بين كانتونات خاضعة للتأثير الجرماني و كانتونات خاضعة للتأثير الفرنسي. منذ العام ۱۸۱۲، فوض كانتون جنيف المحكم مهمة أصول المحاكمة التحكيمية

حصلت خطوات جريئة أدت إلى محو كل هذه الفروقات، وأصبحت اليوم معظم الدول الأوروبية تكرس سلطة المحكم. لم تقف القاهرة عند حدود اوروبا بل امتدت إلى بلدان أميركا اللاتينية، لا سيما المكسيك التي تأثرت منذ العام ۱۹۹۳ بالقانون النموذجي لمنظمة CNUDCI. مهما تكن الوظيفة المنوي اسنادها إلى التحكيم، بات من اللازم تحرير المحكم من الشكليات الضيقة، وافساح المجال أمامه لحرية التأقلم مع تعددية النزاعات المعروضة أمامه، لقد طبعت التشريعات الحديثة ايضا بالرغبة في الانفتاح على التحكيم الدولي.

غير أن الاعتراف للمحکم بسلطة تنظيم الاجراءات التحكيمية تواكبه عند الممارسة العملية، بعض القيود. 

القسم الثاني. . اساليب تقييد سلطة الحكم في تقرير اجراءات التحكيم

تكبح حرية المحكم من ناحيتين: من ناحية الفرقاء، اذ يعود لهم ان يفرضوا عليه الأصول التي تناسبهم، كما هو الحال في القوانين المسانية، الفرنسية، السويسرية والانكليزية؛ ومن ناحية القانون، الذي قد يفرض على الفرقاء او على المحكم، احترام بعض القواعد، تنص المادة 776 ܙ ܐܕܕ الفقرة الثالثة، بهذا الشأن، أنه «يجوز للخصوم اعفاء المحكم او المحكمين من تطبيق المحاكمة العادية أو بعضها، بانشاء تلك التي تتعلق بالنظام العام .....

لن تطيل الكلام حول النوع الأول من القيود لأن القانون هو الذي يدير للفرقاء فرض اجراءات على المحكم ما يؤدي بصورة غير مباشرة إلى الحد من حريته. يشكل هذا الأمر نتيجة حتمية لمبدأ سلطان الارادة الذي يشكل الركن الاساسي للتحكيم، غير المنازع فيه من احد، غير أن مسألة واحدة تبقى مطروحة على هذا المستوى وتتمثل في معرفة ما اذا كان اتفاق الفرقاء. الحاصل بعد قبول المحكم للمهمة، يفرض عليه أم لا؟ لم تتطرق معظم التشريعات الى هذه المسألة، ما يجعل الغموض يكتنفها، ويبقيها عرضة للمنازعة، أخذت بعض التشريعات موقفا من المسألة؛ فالقانون البلجيكي والبرتغالي ابديا موقفا سلبيا، والقانون السويدي نحى منحى ايجابيا"). تبدو القيود التي يفرضها القانون اكثر شدة، فالتعارض التقليدي في البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني، بين القوانين الالزامية والقوانين المتممة lois supplétives ليس كافيا لأن الاشخاص المعنيين في هذه الحالة، عندهم ثلاثة وليس الثنين؛ فيقتضي استعراض القواعد انطلاقا من درجة الزاميتها. في الحالة التي يبلغ فيها الطابع الالزامي ذروته، يتم استبعاد أي احتمال للاتفاق بين الفرقاء والمحكم (الفقرة الأولى). في الحالة الثانية، ينشأ الطابع الالزامي عن رغبة احد الفريقين (الفقرة الثانية). بين هذين النوعين من القواعد الالزامية، تبرز قواعد تستمد الزاميتها من التقاء الرادة الفريقين (الفقرة الثالثة)، أو من ارادة المحكم (الفقرة الرابعة). واخيرا توجد بعض القواعد التي تفرض على المحكم من الوجهة النفسية وليس من الوجهة القانونية (الفقرة الخامسة). الفقرة الاولى. – القواعد الالزامية بصورة مطلقة عندما تكون القواعد الزامية بصورة مطلقة، لا يمكن للفرقاء مخالفتها، ويكون المحكم ملزما بالتقيد بها. فالقانون الاسباني، قبل تعديل 5 كانون الأول ١٩٨٨، كان يقسم اجراءات المحاكمة التحكيمية إلى اربع مراحل تالية؛ لا يجوز ان يتجاوز الوقت المحدد لكل مرحلة من المراحل الثلاث الأولى ربع الوقت الاجمالي المحدد للمحكم. ويكون هذا الأخير ملزما بسماع الفرقاء او ممثليهم").

وقد نصت المادة 776 أ.م.م.، الفقرة الثالثة انه وفي التحكيم العادي... يجوز اعفاء المحكم او المحكمين من تطبيق اصول المحاكمة العادية او بعضها، باستاء تلك التي تتعلق بالنظام العام وبشرط ان تكون متفقة مع قواعد اصول التحكيم. ولا يجوز ان يتناول الاعفاء بوجه خاص المبادىء المنصوص عليها في المواد 365 و ٣٦٨ و ۳۷۱ و ٣٧٤».

كما نصت المادة 777 أ.م.م. انه «في التحكيم المطلق يعفى المحكم او المحكمون من تطبيق قواعد القانون واصول المحاكمة العادية ويحكمون بمقتضى الانصاف.

تستثنى من هذا الاعفاء قواعد القانون المتعلقة بالنظام العام والمبادىء الأساسية لاصول المحاكمة لا سيما المتعلقة بحق الدفاع وبتعليل الحكم وايضا القواعد الخاصة بنظام التحكيم».

ان القواعد التي تتميز بهذه الدرجة من الالزامية قليلة جدا في الواقع. وتتوافر غالبا في المبادىء العامة التي ترعى المحاكمة كالمساواة بين وحق الدفاع. اما عندما ينص القانون على قواعد تقنية، فانه يخضعها في اغلب الأحيان لارادة الفرقاء. 

الفقرة الثانية. – القواعد الالزامية ذات المصدر الاحادي تعني بها القواعد الالزامية التي يطالب احد الفرقاء بالاستفادة منها، ويكون المحكم ملزما بالتقيد بها. فبعض القوانين تلزم المحكم بتحديد جلسة اذا طلب ذلك احد الفرقاء: كالقانون اليوناني(1) والهولندي(٢) والسويدي. اذا كان صحيحا ان تطبيق هذه القواعد ليس تلقائيا بل متوقفا على ارادة احد الفرقاء، فان طابعها الالزامي ليس موضوع منازعة، اذ لا يعود للفرقاء التنازل عنها مسبقا؛ هذا ما حمل البعض على وصفها بالقواعد والالزامية النسبية».

 الفقرة الثالثة. – القواعد الالزامية بالاتفاق

لا يطبق هذا النوع من القواعد الا باتفاق الفريقين. هذا الاتفاق قد يحصل بصورة ايجابية عندما يعلن الفريقان عن رغبتهما المشتركة بتطبيق هذه القواعد الالزامية، او بصورة سلبية عندما لا يتنازل الفريقان عن حقهما من هذه القواعد الالزامية.

عند صمت الفرقاء يصار الى تطبيق القواعد المتممة règles supplétives، كما هو الحال في القانون البلجيكي حيث تنص المادة 1694 من القانون القضائي على مبدأ شفوية المحاكمة؛ غير ان المجال يبقى متاحا امام الفرقاء للاتفاق على الاصول الكتابية والتنازل عن المحاكمة الشفوية.

في الأحوال المذكورة اعلاه، يحد القانون من حرية المحكم. اذا كان صحيحا انه يعود للفرقاء الحؤول دون تطبيق القاعدة بارادتهم المشتركة، فان الصحيح ايضا انه عند عدم حصول هذا الاتفاق تفرض القاعدة على المحكم

بنفس الشدة التي تطرح فيها القواعد الالزامية ذات الطابع المطلق. وقد نصت المادة ٧٧٦ ا.م.م.، الفقرة الرابعة انه في التحكيم العادي لا يثبت اعفاء المحكم او المحكمين من تطبيق اصول المحاكمة العادية او بعضها والا بنص صريح في اتفاق التحكيم او في اتفاق مستقل». هذه التقنية التشريعية ليست حكرا على البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني civil law؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية بنفي القانون النموذجي العائد للعام 1955 على ندبير مشابه.

نطرح السؤال عما اذا كان يمكننا الكلام عن حدود تشريعية الساطة المحكم في تنظيم سير المحاكمة التحكيمية عندما يكون تطبيق القانون موقوفا على رغبة الفريقين؟ قد يرى البعض في الأمر تطبيقا لحرية الفرقاء في اختيار الاجراءات التي تناسبهم. غير أن الفرق بين القواعد التي تضعها الدولة ويعود للفريقين مخالفتها وبين القواعد التي تضعها الدولة و يبقى تطبيقها معلقا

على رغبة الفريقين، هو فرق في الدرجة difference de degre وليس فرقا في الطبيعة difference de nature

أن الحالة الثانية ملحوظة في القانون الايطالي الذي ينص على أن خرق قاعدة او عدة قواعد (عندما يختار الفرقاء اتباع الأصول المعتمدة في القانون الايطالي بشكل سببا لابطال القرار التحكيمي، في كل مرة يكون الخرق المذكور سببا لابطال الحكم القضائي.

الفقرة الرابعة. - القواعد الالزامية على سبيل الاحتياط

تمثل هذه القواعد ادنی درجات الالزامية لأنها لا تطبق الا بصورة احتياطية وفي الحالة التي لم يعمد فيها المحكم أو الفرقاء الى اختيار قواعد أخرى. تشكل المادة ۲4، الفقرة 3 من قانون التحكيم السويسري تطبيقا عمليا لهذا النوع من القواعد اذ تنص: أعند غياب أي اصول محددة باتفاق الفريقين او بقرار المحكمة التحكيمية، يطبق قانون اصول المحاكمات الفدرالي (...) على سبيل القياس». لا بد من الاشارة الى ان الاتجاه الحديث . المعبر عنه في قانون التحكيم الدولي السويسري - يرمي إلى ترك المحكم يطبق الأصول التي يراها مناسبة على المحاكمة التحكيمية عند عدم اعتماد أي قواعد من الفرقاء. وقد أتى القانون اللبناني في السياق عينه عندما نص على جواز اعفاء المحكم من تطبيق اصول المحاكمة العادية، وعند غياب هذا الإعفاء تطبق اصول المحاكمة العادية على سبيل الاحتياط (المادة ۷۷۹ أ.م.م.).

الفقرة الخامسة. - القواعد الالزامية من الوجهة النفسية

تناولنا لغاية الآن الأحكام القانونية التي تفرض على المحكم. غير انه لا يجب أن يغرب عن بالنا أنه توجد قواعد اخرى تؤثر على سير المحاكمة التحكيمية من الوجهة النفسية، وليس من الوجهة القانونية: احترام المباديء العامة، التقيد بالأعراف المتجذرة في الممارسة الخ.

يمكننا القول في هذا المجال أن الالتزام قد ينشأ احيانا عن الممارسة العملية في التحكيم وذلك رغبة في احترام توقعات الفرقاء المشروعة.

القسم الثالث. . مضمون القيود المفروضة على المحكم

يفرض القانون على المحكم أن يتصرف بصورة معينة في بعض الأمور، کالزام المحكمة التحكيمية بتنظيم محضر ضبط للجلسات القانون السويسري)؛ او موجب تحليف اليمين للشهود (القانون البلجيكي)؛ حق الفرقاء بطلب دعوة الخبير المعين من المحكمة التحكيمية الى جلسة محاكمة، وحقهم بطلب سماع الخبير المكلف من احدهم (قانون البلاد الواطئة).

قد توضع بعض القيود على المحكم، مثل عدم اختصاصه لاتخاذ بعض التدابير: كالزام الغير بتسليم مستند او طلب مساعدة محاكم الدولة الخ. هذه التدابير تخرج عن اطار بحثنا وتدخل ضمن دراسة نظام المحكم وعلاقته بقضاء الدولة. ونشير الى بعض القيود الأخرى التي لا تدخل في اطار الاجراءات التحكيمية: تعليق المحاكمة التحكيمية بسبب افلاس المدين، او بسبب محاكمة عالقة امام مرجع جزائي تتناول نفس الواقعات.

تتمثل الحدود الأساسية لحرية المحكم في احترام المباديء التي ترعى والعدالة الطبيعية، natural justice. قد يرى البعض في ذلك حدودا وهمية غير قائمة باعتبار ان المحكم يحترم هذا القيد بصورة تلقائية بدون ان يكون مفروضا عليه، اضافة الى ان كل الانظمة القانونية تتأثر الى حد بعيد بوالعدالة طبيعية، Natural justice ما يعدم الفائدة من اي مقارنة على هذا المستوى.

ان هذه الملاحظة المزدوجة مؤيدة جزئيا. فاذا استعرضنا مجمل الانظمة القانونية نجد انها تكرس ثلاثة مبادىء لا يمكن اطلاقا مخالفتها: مبدأ حرية التقاضي، اذ لكل فرد الحق في إسماع دعواه للمراجع المختصة؛ مبدأ الوجاهية الذي بموجبه يحق لكل متقاض سماع حجج خصمه في الوقت المناسب ليتمكن من دحضها بحججه الخاصة. واخيرا مبدأ المساواة بين الفرقاء. غير انه لا بد من الاشارة الى انه توجد فوارق على مستوى المدى المعطى لكل من هذه المبادىء في كل دولة.

ففي القانون الانكليزي مثلا، يعود للمحكمين في بعض الدعاوى التحكيمية (لا سيما التحكيم بالقضايا البحرية) اصدار القرار التحكيمي بدون سماع الفرقاء. لا يذهب القانون الفرنسي والقانون اللبناني الى هذا الحد. كذلك، بالنسبة لمبدأ المساواة بين الفرقاء، فان الاهمية المعطاة له ليست نفسها في كل البلدان، اذ ان العديد من التشريعات التي تعتمد نظام القانون المدني civil law لا تأتي على ذكره، بدون ان يعني ذلك عدم تدخل قضاء الدولة لوضع حد للخروقات الصاخبة التي قد يتعرض لها. في البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني، لا تفرض على المحكمين اجراءات تحكيمية مستلهمة من اجراءات التقاضي امام المحاكم، خلافا لما هي عليه الحالة في البلدان التي تعتمد نظام الاعراف common law.

في بريطانيا مثلا، يجب على المحكم احترام القواعد المتبعة في المحاكمة القضائية؛ فالمحاكمة التحكيمية يسودها النظام الاتهامي procédure accusatoire ما يؤدي الى استبعاد أي دور للمحكم في البحث عن الادلة، اذ يقتصر دوره على الاختيار بين ادلاءات الخصوم.

هذا الأمر لا يحول دون لجوء الفرقاء احيانا الى اختيار النظام الا procedure inquisitoire لتطبيقه على المحاكمة التحكيمية الجارية بينهم واستبعاد النظام الاتهامي).

في الولايات المتحدة الأميركية، تطبق المحكمة التحكيمية واحد القواعد المطبقة في التحكيم وتلك المطبقة أمام مجاگیر البر فقانون التحكيم الفدرالي ينص في مادته السابعة انه يعود للمحك الشهود، كما ينص في المادة العاشرة منه على ابطال القرار التحك رفض المحكم سماع شهادة متعلقة بموضوع النزاع، او رد طلبا میرا إلى تأخير جلسة نحكيمية)

في التحكيم الدولي، ينمنع المحكم بحرية أكبر في اختيار الاجرامات المطبقة على المحاكمة التحكيمية. واذا كانت المحاكمة المذكورة متخاصمين من دول مختلفة، عليه أن يتخطى الخصوصيات العائدة لكل نغ وطني ليجعل الاجراءات مقبولة من الجميع.

يتمثل الحل الأول، في اعتماد المشترع قواعد اکثر ليبرالية في التحكيم الدولي الجاري على اقليم دولته (أ). غير أن هذا الأسلوب اتبعته بعض الدول دون الأخرى؛ ما يحملنا على تصور جوازية اختيار اجراءات مختلفة عن الاجراءات السائدة في اقليم الدولة حيث يجري التحكيم (ب)؛ كما يمكن أن تبرز الليبرالية ليس على مستوى مضمون القواعد المطبقة على الاجراءات التحكيمية، بل على مستوى تنفيذ القرار التحكيمي في بلد آخر غير البلد الذي جرت فيه المحاكمة التحكيمية (ج)؛ من جهة أخرى، يمكن التخفيف من شدة القواعد المطبقة على بطلان القرار التحكيمي او حتى الغاءها: وأخيرا على مستوى الممارسة العملية، يميل المحكمون تلقائيا الى التخفيف من حدة التمسك بقواعدهم الوطنية.

أ- في التحكيم الدولي، يلجأ المشترع عموما الى التخفيف من التشدد والميل نحو الليبرالية، كما هي الحال في لبنان، فرنسا، البرتغال، سويسراء الجزائر، تونس ومصر، ففي فرنسا ولبنان مثلا، يعفي المحكم في التحكيم الدولي من التقيد بالمبادىء الأساسية الراعية للدعوى المدنية

ب- كما يمكن من ناحية أخرى، الاجازة الفرقاء بإخضاع الاصول التحكيمية إلى قانون أخر مختلف عن قانون مكان التحكيم. هذه النظرة تصطدم في بلدان نظام الأعراف common law بالطابع الاقليمي للعدالة حتى التحكيمية منها. فاذا كان صحيحا أن الفقهاء البريطانيين يوافقون على اخضاع التحكيمات الحاصلة في بريطانيا الى قوانين اجراءات اجنبية؛ فانهم بالمقابل يشددون على ضرورة التقيد بقواعد الأصول الالزامية

تبدو البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني اكثر انفتاحا على مبدأ سلطان الارادة من البلدان التي تعتمد نظام الأعراف، لأن هذا المبدأ يرز كنتيجة حتمية للطابع العقدي للتحكيم لا سيما في المانيا وفرنسا وسويسرا واليونان. غير أن بلدانا اخرى تعتمد الطابع الاقليمي لقوانين التحكيم وتحد من دور سلطان الارادة: القانون الهولندي) والقانون السويدي

ج- من وجهة ثالثة، قد يلجأ المشترع الى منح المحكم صلاحية اختبار القانون المطبق على التحكيم عند عدم اختيار هذا القانون من قبل الفرقاء. ليس ما يمنع في هذه الحالة، أن يكون القانون المطبق على التحكيم مختلفا عن قانون مكان التحكيم (فرنسا، لبنان، سويسرا الخ).

ولكن هذا لا يعني المحكم من التقيد ببعض المبادىء التي ترعی المحاكمة مبدأ الوجاهية، ومبدأ المساواة بين الخصوم) (المادتان ۷۷۹ | و ۷۷۷ أ. م. م. ليناتي).

و- من وجهة رابعة، أن القواعد المطبقة على تنفيذ القرارات التحكيمية تكون غالبا اقل تشددا من تلك المطبقة على الإجراءات التحكيمية المؤدية الى صدور القرار. هذا مع الاشارة الى ان التنفيذ ينم عموما في بلد آخر مختلف عن البلد الذي صدر فيه القرار التحكيمي، ولا يطبق قاضي التنفيذ قواعده الخاصة اذا كان التحكيم حصل في الخارج، بل يكتفي بالثبت من احترام المبادىء الاساسية للعدالة. هذا ما حمل محكمة الاستئناف البريطانية (Count of Appeal) في قضية Dalmia Dairy"، على اعتبار القرار التحكيمي الصادر في قضية رفض فيها المحكم سماع شاهد غير مخالف اللمبادىء الأساسية في المحاكمة

يمكن للقاضي اجراء رقابته تبعا للقواعد المعتمدة في البلد الأجنبي حيث صدر القرار التحكيمي ). هذا ما تنص عليه معاهدة نيويورك للعام ۱۹۵۸ في المادة الخامسة منها، فقرتها الأولى:

«L'exécution peut être refusée si la procédure n'a pas été conforme à la convention des parties ou, à défaut de convention, qu'elle n'a pas été conforme à la loi du pays où l'arbitrage a eu lieu».

 

أن بعض التشريعات الأخرى لا تذكر صراحة سلطة المحكم في تنظيم الأصول التحكيمية بل تكرسها ضمنيا بمجرد عدم التطرق البها، كالقانون الفدرالي الأميركي وقانون التحكيم السويدي.

لم يتحقق هذا الوضع الذي يحظى بشبه اجماع حوله إلا بعد مرحلة طويلة من التطور، فلفترة خلت، كانت عدة تشريعات تفرض على المحكم احترام قواعد الأصول القضائية أو تلك المستوحاة منها، ولا تترك له حرية تنظيم اجراءات التحكيم.

بقيت البلدان التي تعتمد نظام الأعراف common law بعيدة عن هذا الاتجاه، لانها عرفت تنوعا في الأنظمة القضائية، لكل نظام قواعده، ما ادى الى نفي وجود أي نموذج وحيد للاصول القضائية يمكن فرضه على المحكمين.

في البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني، كانت قوانین اصول المحاكمات المدنية، التي احتوت غالبا القواعد الراعية للتحكيم، تحث المشرع على مطابقة الأصول التحكيمية مع الأصول الفضائية مع بعض التعديلات الطفيفة التي تفرضها ظروف الملاءمة.

غير أنه لا يمكننا التعميم في هذا الصدد، لأن كل شيء مرتبط بالفكرة المكونة عن المحكم. وهذه الأخيرة بدورها مرتبطة بالظروف التاريخية العرضية.

اذا كنا نرى في التحكيم وسيلة لتحقيق العدالة، تختلف على المستوى الوظيفي عن قضاء الدولة، باعتبار أنه يذهب في اتجاه ارساء تفاهم بين الفرقاء، فانه يقتضي الاحجام عن فرض او حتى عن اقتراح أي نموذج قضائي. هذا ما فعله منذ القدم القانون الالمانی تحت تأثير التقليد الكنسي، وتبعه في ذلك القانون النمساوي والقانون الهولندي، وقوانين البلاد الاسكندنافية.

 

غير أنه لا بد من الاشارة الى ان مجرد انتساب احدى الدول الى المعاهدة المذكورة لا يحول دون اعتمادها رقابة اقل اتساعا من تلك المنصوص عليها في المعاهدة، بحيث تقتصر على التقيد بمبدأي الوجاهية المساواة بين الفرقاء؛ اذ لا يمكننا أن نتصور قاضيا رفض تنفيذ القرار التحكيمي الاجنبي بحجة مخالفة قاعدة أصولية أجنبية، في حين أن القرار المذكور لم يتعرض للابطال في الدولة التي صدر فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية مقابلة، قضي في فرنسا بأن مجرد أبطال القرار التحكيمي في البلد الذي صدر فيه، لا يحول دون اعطائه الصيغة التنفيذية على الأراضي الفرنسية).

- من وجهة خامسة، أن بعض الدول تجيز للفرقاء في نحكيم دولي حاصل على اراضيها التنازل عن حقهم في طلب ابطال القرار التحكيمي او في التخفيف من حدة شروط الأبطال، كما هي الحال عليه، مثلا في كل من بريطانيا )، سويسرا والنمسا، في ما يخص اسباب مراجعة القرار التحكيمي في الأساس. بينما في بلجيكا، تم استبعاد مراجعة الابطال بنص قانوني، بمعزل عن ارادة الفرقاء

و- من وجهة سادسة، يصعب على المحكم في التحكيمات التي تضم مستحكمين من بلدان ذات تقاليد مختلفة، التمسك بقواعده الإجرائية، الا اذا كان قانون محل التحكيم يفرض عليه هذا الأمر، وبحجة اولى، عندما تضم المحكمة التحكيمية محكمين من ثقافات مختلفة، كما يحصل غالبا، فان القواعد الأساسية في المحاكمة العائدة لكل محكم تلطف بالقواعد الاخرى العائدة للمحكم الآخر

هذا الواقع يتمثل غالبا في اختيار اجراءات مختلطة mixtes تجمع بين الممارسة الحاصلة في البلدان التي تعتمد نظام الأعراف common law وتلك التي تعتمد نظام القانون المدني. وفي هذه الحال يطغى اتجاه الأكثرية او يرجح صوت الرئيس، تقتضي الإشارة، أنه لا يعتد في هذه الحالة، بمكان التحكيم: فاذا كان صحيحا أن قانون أصول المحاكمات، بالمفهوم الضيق، يتسم بالطابع الإقليمي، فانه بالمقابل، يجدر القول أن ثقافة المحكمين القانونية تتخطى الحدود الاقليمية extraterritoriale، لاتها، كما يقول يار مایر، السكن في دماغ المحكم وتسافر معها.

(elle habite le cerveau de l'arbitre et voyage avec lui). 

يبقى بالنهاية أن نشير إلى أن تطور التحكيم الدولى واتساع انتشاره ورغبة كل دولة باستقطابه نحو اراضيها، تشكل مجتمعة عوامل مؤثرة في ازدياد الطابع الليبرالي للأصول التحكيمية في البلدان التي تعتمد نظام القانون المدني وفي البلدان التي تعتمد نظام الأعراف على حد سواء