تخول القوانين الوطنية ومعظم أنظمة وإتفاقيات التحكيم التجاري الدولي، التي عرضت المحكمة التحكيم، سلطات مختلفة لهذه المحكمة لتمكينها من الإضطلاع بمهمتها ، وتتمثل أهم هذه السلطات في سلطة محكمة التحكيم في الفصل في الدفوع المتعلقة بإختصاصها ، وسلطة إتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية ، ونعالج هاتين السلطتين فى النظامين الوطني والدولي.
سلطة المحكم فى الفصل فى الدفوع المتعلقة بإختصاصه :
وذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أن المحكم ليس من سلطته فقط التحقق من تلقاء نفسه من مسألة إختصاصه ، قبل التعرض لطلبات الخصوم، بل أن ذلك واجب عليه أيضا ، حيث يلزم تعرف المحكم على المنازعة المرفوعة أمامه .
لكن إذا لم يكن الجدل قد ثار حول سلطة المحكم فى البت في مسألة إختصاصه compétence ، بغیر طلب من أحد الخصوم ، فإن الجدل قد إحتدم حول اختصاص المحكم بالفصل في المنازعة المثارة أمامه بشأن صحة ولايته investiture أصلا بالنزاع أو بشأن حدود هذه الولاية، وهى المسألة التى يطلق عليها أحياناً الاختصاص بالفصل فلا الإختصاص .
وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض الفرنسية أنه " لا يجوز " لمحكمة التحكيم الفصلي في صحة validité تكوينها لأنها لا تتولى سلطة القضاء pouvoir juridietionnel إلا بشرط صحة تكوينها، فإذا ما ادعي أحد الخصوم أمامها ببطلان اتفاق التحكيم فإنها تجد نفسها أمام مسألة أولية une question préjudicielle لا يملك الفصل فيها سوى المحاكم العادية ، ومن ثم يتعين على محكمة التحكيم ، حينئذ ، وقف خصومة التحكيم وقفاً تعلقياً لحين الفصل فى هذه المسألة الأولية من قبل المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع.
وإلى عكس ذلك ذهبت محكمة استئناف باريس فقررت المحكمة التحكيم سلطة الفصل في صحة ولايتها القضائية أصلاً بالنزاع فضلا على الفصل في حدود هذه الولاية ، وحجة هذه المحكمة هي أن صحة الولاية وحدودها ليست مسألة أولية وإنما هي مجرد مسألة فرعية une question préalable بالنسبة لمحكمة التحكيم ، ومن ثم يجوز لها - بل يجب عليها - النظر في وجود وفي صحة وفى حدود إتفاق التحكيم المنشىء لسلطتها، هذا فضلاً على أنه لا يوجد فارق عملى - فى الواقع - بين "الإختصاص " بالمعنى الدقيق" و"الولاية"، حيث يتعذر التمييز بينهما واقعياً)، وهو الرأى الذي رجح فى الفقه الفرنسي. وعلى ذلك يجوز لمحكمة التحكيم التصدى للدفع المبدى أمامها بعدم ولايتها أصلا بالنزاع بسبب بطلان إتفاق التحكيم أو بتجاوز هذه الولاية لحدود هذا الإتفاق والفصل في هذا الدفع أو ذاك بقبوله أو برفضه.
ولقد تبنى المشرع الفرنسى الإتجاه الأخير وشرعه صراحة في قانون المرافعات الجديد لعام ۱۹۸۰، فنصت المادة ١٤٦٦ على أنه إذا أثار أحد الطرفين نزاعا أمام المحكم يتعلق بأصل سلطته القضائية أو بنطاق هذه السلطة جاز له الفصل في صحة أو في حدود ولايته وعلى ذلك لم يعد يجوز للمحكم أن يفصل في حدود ولايته limite de son investiture- أي في صحة إختصاصه - فقط بل أصبح يجوز له الفصل في أصل ولايته Principe de cette investiture أيضا.
ومسايره لهذا الاتجاه الحديث تضمن قانون التحكيم المصرى رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ نصا صريحا يقابل نص المادة ١٤٦٦ مرافعات فرنسى جديد هو نص المادة ۱/۲۲ الذي بمقتضاه تفصل هذه التحكيم في الدفوع المتعلقة لعدم إختصاصها عدم ولايتها investitute) بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود إتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع.
ويعرض هذا النص لنوعين من المنازعات ، الأول هو المنازعة في صحة أو وجود الإتفاق الأصلى convention principale الذى تعلق به إتفاق التحكيم convention d'arbitrage ، والثانى هو المنازعة في صحة أو وجود أو حدود اتفاق التحكيم ذاته، وفيما يلى نبين سلطة محكمة التحكيم في الفصل في هذه المنازعات بنوعيها، ثم تعقب ذلك ببيان كيفية استخدام محكمة التحكيم لهذه السلطة.
( أ ) سلطة محكمة التحكيم في الفصل فى المنازعة في صحة أو وجود العقد الأصلى:
أحيانا ما ينازع أحد الطرفين أمام محكمة التحكيم ، في صحة La validite العقد الأصلي الذي ادرج فيه اتفاق التحكيم، زاعما بطلان ذلك العقد ومن ثم بطلان إتفاق التحكيم، حتى يتوصل لعدم ولاية هذه المحكمة بالنزاع من قبيل ذلك ، في فرنسا، الدفع المبدى من شركة scheider ببطلان إتفاقها مع شركة Marine-Firminy بتاريخ ۲۰ مارس ۱۹۷۰ على إنشاء شركة وليدة مشتركة filiate commune، بزعم أن هذا الإتفاق يتضمن افتئات على حقوق التصويت droits de vorte المقررة للمساهمين فيها، ومن ثم يجب إعتباره باطلا مما يؤدى - في زعم تلك الشركة - إلى بطلان شرط التحكيم الذي اشتمل عليه ذلك العقد وعدم ولاية محكمة التحكيم بالنزاع، بحيث إذا أصدرت حكم التحكيم إستنادا إلى هذا الشرط وجب إبطال هذا الحكم. بل أحيانا ما يتجاوز الأمر المنازعة في صحة العقد الأصلي الذي اشتمل على شرط التحكيم إلى المنازعة في وجود L'existence العقد الأصلي ذاته، ومن ذلك الدفع الذي أبدته إحدى الشركات - فى فرنسا - أمام محكمة التحكيم بأن عقد قصر التوريد الذي تزعم الشركة الأخرى اشتماله على شرط التحكيم لاوجود له في الأصل بما يستتبع عدم ولاية هذه المحكمة بالنزاع.
وفي مثل هذه المنازعات اتخذت محاكم الاستئناف الفرنسية موقفا واضحا أعملت فيها مبدأ إستقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلى من جهة ، كما اعتبرت الفصل في ولايتها بالنزاع مسألة فرعية وليست مسألة أولية من جهة أخرى. فقد ذهبت هذه المحاكم إلى أن شرط التحكيم ولدن تجسد ماديا matériallement في العقد الأصلي إلا أنه ينفصل عنه قانونيا jurdiiquement ، صحيح أنه يوجد إرتباط بين العقد الأصلى وشرط التحكيم إلا أن هذا الإرتباط لا ينفى الإزدواج la dualite الناشيء عن وجود شرط تحكيم إلى جانب العقــد التجارى بحيث لا يمكن القول بأنهما يمثلان عملا ذهنيا واحدا وإنما يمثلان عملين ذهنيين يستقل كل منهما عن الآخر الأول هو العمل الذهني المنصب على العقد الأصلي والآخر هو العمل الذهني المنصب على شرط التحكيم ومن ثم فان الفصل في صحة شرط التحكيم ذاته يستقل ويختلف تماماً عن الفصل في شرعية العقد الأصلي. وبما أن إرادة الطرفين هي وحدها الخالقة génératrice لولاية محكمة التحكيم فإن هذه الإرادة تنتج أثرها كاملاً ولو كان العقد الأصلي الذي يتضمن شرط التحكيم محل منازعة ، وبالتالي فان بحث محكمة التحكيم مسألة ولايتها بالنزاع يعد مسألة فرعية وليس مسألة أولية تختص بها فقط المحاكم العادية.
(ب) سلطة محكمة التحكيم في الفصل فى المنازعة في وجود أو صحة إتفاق التحكيم غالباً ما ينازع أحد الطرفين أمام محكمة التحكيم، في وجود أو صحة إتفاق التحكيم سواء أخذ شكل مشارطة أو شرط تحكيم، بغرض الإفلات من الخضوع للتحكيم وإفشاله.
ومن صور المنازعة في وجود اتفاق التحكيم الإدعاء من إتفاق التحكيم المزعوم لا يعدو أن يكون مستنداً سابقاً على التعاقد document précontractuel كخطاب إعلان النوايا أو خطاب متبادل بين الطرفين ، أو مستنداً وضعه الطرفان فى مرحلة التفاوض en négociation ولم يصل إلى مرحلة الإتفاق النهائي الملزم . وفى هذا الإطار زعمت إحدى الشركات، في سبيل إفلاتها من التحكيم إن الأوراق المقدمة إلى محكمة التحكيم لاتدل على أكثر من إقدامها على إبرام شرط تحكيم ولا تدل على أنها قد قبلت هذا الشرط فعلاً لتسوية المنازعات التي قد تنشأ عن تنفيذ مجموعة العقود المبرمة مع الشركة الأخرى بشأن بناء عقار . وأضافت تلك الشركة إلى دفاعها أن اشتراكها في كتابة خطاب موجه إلى أحد المحكمين لاستطلاع رأيه حول مهمة التحكيم المحتملة لم يكن القصد منه سوى ترتيب موعد على سبيل المجاملة فى إطار الاستعداد لوضع ملحق ينظم عملية التحكيم المحتملة، إلا أن هذا الملحق لم يوقع إطلاقاً من الطرفين. وعندما نظرت محكمة استئناف باريس الطعن في حكـــم المحكم المذكور بالبطلان إستناداً إلى ذلك الإدعاء اتضح لها أن السلطة الوصائية للشركة التي أبدته كانت قد أخطرتها بموافقتها على ذلك الملحق بما تضمنه من عبارات تفيد وجود شرط التحكيم وتحديد موضوع النزاع وتعيين المحكم الذى أصدر ذلك الحكم ، لذا رفضت محكمة الإستئناف الطعن مستندة إلى أن الطرفين كانا قد عبرا عن رضائهما بشرط التحكيم تعبيراً تاماً يكفي للقول بوجود الشرط . كذلك فمن صور الإدعاء بعدم وجود إتفاق التحكيم الزعم بأن الإتفاق الذي بمقتضاه عين الطرفان شخصاً ثالثاً لم يكن المقصود به تعيين هذا الشخص للقيـلم بمهمة تحكيم mission d'arbitrage بل قصد به تعيينه لمهمة خبرة mission Md'expertise
وفي كل هذه الحالات يجوز لمحكمة التحكيم التصدى لاتفاق التحكيم، سواء من تلقاء نفسها أو بناء على طلب أحد الخصوم، للتحقق من وجوده ومن صحته لتقول كلمتها في إختصاصها بالنزاع ، وهو ما يتفق مع مانصت عليه المادة ۱/۲۲ من قانون التحكيم المصرى رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ من أن تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلقة بعدم إختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود إتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلائه أو عدم شموله لموضوع النزاع.
(ج) كيفية فصل محكمة التحكيم في ولايتها أو إختصاصها بالنزاع:
ولقد أخذ قانون التحكيم المصرى رقم ۲۷ لسنة ۱۹۹٤ بهذه الحلول في نفس الوقت الذي حرص فيه على تحقييق فعالية التحكيم بتضييق نطاق الطعن في الحكم التمهيدي الصادر بإختصاص محكمة التحكيم بموضوع النزاع. فقد نصت المادة ۳/۲۲ على أن تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المشار اليها في الفقرة الأولى من هذه المادة قبل الفصل في الموضوع أو تضمها إلى الموضوع لتفصل فيهما معاً، فإذا قضت برفض الدفع لعدم إختصاصها) فلا يجوز التمسك به إلا بطريق رفع دعوى بطلان حكم التحكيم المنهى للخصومة كلها وفقاً للمادة ٥٣ من هذا القانون".
-(ثانيا) سلطة المحكم في إتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية :
إستقر الرأى فى الفقه والقضاء الفرنسيين، وعلى أن إختصاص محكمة التحكيم بموضوع النزاع الذي أبرم بشأنه إتفاق التحكيم لايسلب قاضي الأمور المستعجلة سلطة الأمر بإتخاذ أي تدبير من التدابير المؤقتة rovisoines أو التحفظية conservatoires المنصوص عليها في قانون المرافعات الفرنسي ، إذ لا يعنى توليه محكمة التحكيم سلطة الفصل في هذا الموضوع تخلى قضاء الدولة ضمنيا عن سلطة اتخاذ تلك التدابير . إنما يشترط لذلك أن يتوافر في التدبير طابع الإستعجال وإلا يتضمن مساسا بأصل الحق موضوع النزاع لأن سلطة الفصل في هذا الموضوع تنعقد لمحكمة التحكيم وحدها بناء على إتفاق التحكيم.
لكن هذه السلطة التي يقررها اتفاق التحكيم لمحكمة التحكيم لا تمنع مع ذلك، أحد الطرفين من اللجوء الى قاضى الأمور المستعجلة لطلب اتخاذ أي إجراء من الإجراءات المقدمة، إذ لا يجوز أن يسلبه هذا الإتفاق سلطة الأمر باتخاذ الإجراءات الوقتية أو التحفظية ، لأن القول بغير ذلك يحرم ذلك الطرف من الحماية القضائية الواسعة التي يقررها له قانون المرافعات في حالات الاستعجال ، خاصة عندما يتعذر علي محكمة التحكيم الأمر باتخاذ هذه الاجراءات لسبب أو لآخر . بالتالي إذا لم يتمكن أحد الطرفين من الحصول من محكمة التحكيم على أمر باتخاذ التدبير الوقتي أو التحفظي في الوقت المناسب وخالف مرور الوقت الذي يلحق له ضررا إذا لم يتخذ ذلك التدبير في وقت معين جاز له اللجوء إلى قاضي الأمور المستعجله للأمر بهذا الإجراء طالما توافر له طابع الاستعجال ولم يتضمن مساسا بموضوع النزاع المعروض علي محكمة التحكيم .
كذلك لا مناص أمام أحد الطرفين من اللجوء إلى القضاء العادي لاتخاذ إجراء وقتي لا يدخل في سلطة محكمة التحكيم ، كإجبار خصم علي تقديم مستند أو دليل تحت يده ، حيث لا تتمتع محكمة التحكيم بسلطة القسر والإجبار بعكس قضاء الدولة ، يضاف إلى ذلك أن قضاء الدولة ينفرد بسلطة إصدار أوامر الأداء والأمر باتخاذ إجراءات الحجز التحفظي والحجز التنفيذي علي أموال أحد الطرفين ، وذلك دون مزاحمة من محكمة التحكيم ، ومن ثم لا يسع هذه الأخيرة إلا أن تأذن لأحد الطرفين باللجوء إلى قضاء الدولة لاتخاذ تلك الاجراءات التحفظية أو التنفيذية ، وعلي ذلك انعقد الرأي في فرنسا والكويت . أما في مصر فقد عرض المشرع المصري لهذه المشكلة بنصه في المادة ٢/٢٤ من قانون التحكيم رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ . علي أنه " إذا تخلف من صدر إليه الأمر ( المتعلق بالتدبير الوقتي أو التحفظي) عن تنفيذه جاز لهيئة التحكيم ، بناء علي طلب الطرف الآخر ، أن تأذن لهذا الطرف في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذه، وذلك دون إخلال بحق هذا الطرف في أن يطلب من رئيس المحكمة المشار إليها في المادة 4 من هذا القانون الأمر بالتنفيذ " ، وعلي ذلك ينعقد الاختصاص بإتخاذ الاجراءات الوقتية أو المستعجلة أو التنفيذية المرتبطة بموضوع النزاع المعروض علي محكمة التحكيم لرئيس المحكمة المذكورة طبقا لقانون التحكيم المصري .
( ثالثا ) سلطة المحكم في تحقيق القواعد الإجرائية لخصومة التحكيم :
كان المبدأ السائد ، في فرنسا ، قبل صدور قاون المرافعات الجديد لعام ۱۹۸۰ أن المحكم يلتزم باتباع القواعد الإجرائية المنصوص عليها في قانون المرافعات إلا إذا اتفق طرفا التحكيم علي خضوع خصومة التحكيم لقواعد إجرائية أخرى ، وحينئذ لا يلتزم المحكم إلا بهذه القواعد الاخيره وغالباً ما تكون من قواعد قانون المرافعات لكن بصدور القانون المذكور إنعكس المبدأ فأصبح الأصل أن المحكم لا يتقيد ، في خصومة التحكيم بقواعد القانون الإجرائي ( قانون المرافعات) ما لم يخرج طرفا التحكيم على هذا الأصل إستثناء بالاتفاق على تقيد المحكم بتلك القواعد ، ومن ثم إذا لم يوجد هذا الاتفاق تمتع المحكم بحرية تحديد القواعد الإجرائية التي تخضع له خصومة التحكيم بالنحو الذي يوفر لها السرعة والفعالية . ويظهر ذلك مما نصت عليه المادة ١/١٤٦٠ مرافعات فرنسي جديد من أن يضع المحكمون القواعد المنظمة لخصومة التحكيم دون التقيد بالقواعد الواجبة الإتباع أمام المحاكم ( القضائية ) ما لم يقــر الطرفان غير ذلك في اتفاق التحكيم.
ولقد تبني المبدأ الحديث قانون المرافعات الكويتي وجسدته المادة ۱/۱۸۲ ، حيث نصت علي أن " يصدر المحكم حكمه غير مقيد باجراءات المرافعات عدا ما نص عليه في هذا الباب . ومع ذلك يجوز للخصوم الاتفاق على إجراءات معينة يسير عليها المحكم ". كما سار المشرع المصري في نفس الاتجاة مراعيا - في آن معا - الطابع الدولي للتحكيم التجاري وهو ما يظهر مما نصت عليه المادة ٢٥ من قانون التحكيم رقم ۲۷ لسنة ١٩٩٤ من أن . لطرفي التحكيم الاتفاق علي الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم بما في ذلك حقها في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو مركز تحكيم في جمهورية مصر العربية أو خارجها ، فإذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق كان لهيئة التحكيم ، مع مراعاة أحكام هذا القانون ، أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة " .
(رابعا ) سلطة المحكم في تحديد القواعد الموضوعية للنزاع :
علي خلاف قاضي محاكم الدولة أحياناً ما يخول الطرفان ، في اتفاق التحكيم ، للمحاكم سلطة تحديد القواعد الموضوعية Regles objectives التي يراها أصلح لتطبيق موضوع النزاع، وحينئذ لا يتفرد المحكم بقواعد القانون الموضوعي الواجبة التطبيق أصلاً على نفس الموضوع . ومن قبيل ذلك ما نصت عليه المادة ١٤٧٤ مرافعات فرنسي جديد من أن المحكم يفصل في النزاع طبقا لقواعد القانون ما لم يخوله الطرفان ، في اتفاق التحكيم ، مهمة الحكم فيه كمحكم بالصلح .. ويقصد " بقواعد القانون المذكورة في النص قواعد القانون الموضوعي الواجب التطبيق علي النزاع، حيث خص المشرع الفرنسي عدم تقيد المحكم بقواعد القانون الإجرائي بنص المادة ١٤٦٠ مرافعات فرنسي جديد علي نحو ما قدمنا أنفاً ... ويقصد بعبارة المحكم بالصلح amiable compositeur المحكم الذي لا يتقيد بقواعد القانون الموضوعي ويفصل في النزاع مراعياً قواعد العدالة L'equite والعادات التجارية وتحقيق التوازن بين العلاقات العقدية بين الطرفين وهي اعتبارات مختلفة يقصد بها المحكم الوصول إلى حكم تحكيمي مقبول من الطرفين كذالك يعرف هذا المحكم " بالمحكم الطليق " حيث يتمتع حورية تحديد القواعد الموضوعية الأنسب للنزاع سواء استمدها من القانون الموضوعي الواجب التطبيق أصلاً أو من مصدر آخر للقواعد الموضوعة ، وذلك بالمقارنة . بالمحكم المقيد " الذي يتقيد بقواعد هذا القانون . ويكون المحكم مقيداً - غير طليق – إذا لم يخوله اتفاق التحكيم مهمة المحكم بالصلح أو الطابق ، إذ يتقيد المحكم حينئذ بقواعد القانون الموضوعي الواجب التطبيق على موضوع النزاع ، وهو الأصل في التحكيم في ظل القانون الفرنسي . إنما لا يملك المحكم ، سواء كان طليقا أو مقيداً .
ولقد تضمن قانون المرافعات الكويتي المبادىء المتقدمة وأوجزها في نص المادة ۲/۱۸۲ التي تقرر أن يكون حكم المحكم علي مقتضي قواعد القانون ( الموضوعي ) إلا إذا كان مفوضا بالصلح فلا يتقيد بهذه القواعد عدا ما تعلق منها بالنظام العام () . ويتفق القانون الكويتي مع القانون الفرنسي في أن تحويل المحكم مهمة المحكم الطليق لا يكون إلا براده الطرفين التي يجسدها اتفاق التحكيم .
أما قانون التحكيم المصري رقم ۲۷ لسنة ١٩٩٤ فقد توسع في تحرير المحكم من قواعد القانون الموضوعي ، إذ بالإضافة إلى اعترافه للطرفين بسلطة تحويل المحكم مهمة المحكم الطليق فإنه قد اعترف لهما بسلطتهما في تحديد القواعد الموضوعية التي يلجأ إليها المحكم للفصل في موضوع النزاع حتى ولو لم يكن المحكم طليقا أي مفوضا بالصلح ، فقد نصت المادة ۳۹ من هذا القانون ، بفقراتها الأربع ، على ما يلي :
(۱) تطبق هيئة التحكيم علي موضوع النزاع القواعد التي يتفق عليها الطرفان . وإذا اتفقا علي تطبيق قانون دولة معينة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين ما لم يتفق علي غير ذلك .
(۲) وإذا لم يتفق الطرفان علي القواعد القانونية واجبة التطبيق علي موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في القانون الذي تري أنه الأكثر اتصالا بالنزاع .
(۳) يجب جب أن تراعي هيئة التحكيم ، عند الفصل في موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع والأعراف الجارية في نوع المعاملة .
(٤) يجوز لهيئة التحكيم - إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة علي تفويضها بالصلح - أن تفصل في موضوع النزاع علي مقتضى قواعد العدل والإنصاف دون التقيد بأحكام . القانون .
هذا كله إذا كان المحكم مقيدا غير طليق ، أما إذا كان طليقا أثر اتفاق الطرفين علي تفويضه بالصلح صراحة فإنه يتمتع بحرية تحديد القواعد الموضوعية التي يراها أنسب الموضوع النزاع دون أن يتقيد في ذلك بالقواعد الموضوعية في القانون الواجب التطبيق أصلا علي النزاع، ومن ثم يكون بالخيار بين تطبيق هذه القواعد الموضوعية باعتبارها محققة للعدالة والإنصاف وبين تطبيق قواعد موضوعية يستقيها من مصدر آخر متي رأي أنها هي وحدها الكفيله بتحقيق العدل والإنصاف فيفصل في موضوع النزاع علي مقتضاها بحكم يعتقد مخلصا أنه يوفق بين مصالح الطرفين ، ولنا عوده أخري إلي هذا الموضوع .
الفرع الثاني : في النظام الدولي
- يتمتع المحكم في النزاع الدولي بسلطات تشابه السلطات التي يتمتع بها المحكم فــــي النظام الوطني بل وقد تفوقها في بعض أنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي ، وقد حرصت هذه الأنظمة والاتفاقيات علي سرعة الفصل في الدفوع المتعلقة باختصاص المحكم الدولي حتى لا تتعطل الإجراءات ، وهو ما يبينه ما يلي :
سلطة المحكم الدولى في الفصل فى الدفوع المتعلقة باختصاصه :
ويبدو أن واضعي اتفاقية واشنطن لعام ۱۹٦٦ بشأن تسوية منازعات الاستثمار ، المنشئة لمركز تسوية منازعات الاستثمار ، قد حرصوا علي التأكيد علي المبدأ المذكور بالنص صراحة علي أن " محكمة التحكيم هي قاضي اختصاصها وعلي أنه إذا أثار أحد الطرفين أي دفع يستند إلي عدم اختصاص المركز أو محكمة التحكيم بالنزاع كان لهذه المحكمة أن تنظر في هذا الدفع وأن تقرر ما إذا كانت تعتبره متعلقاً بمسألة فرعية أو بمسألة أولية ، وتأسيساً علي ذلك يجوز لمحكمة التحكيم، في ظل هذين النصين ، اعتبار الدفع بعدم اختصاصها ( ولايتها ) بالنزاع متعلقاً بمسألة أولية ، وحينئذ لا تضطر لإيقاف خصومة التحكيم وقفا تعليقيا لحين الفصل فيه من قبل المحكمة القضائية الوطنية المختصة ، وهو حل يساير الاتجاه الفقهي والقضائي الحديث في النظام الوطني .
وتتراوح الدفوع التي تثار أمام المحكم الدولي بين الدفوع التي تنازع في صحة أو وجود العقد الأصلي والدفوع التي تنازع في وجود أو صحة اتفاق التحكيم ، وغالباً ما يقصد بهذه الدفوع عرقلة بدء إجراءات التحكيم ، وهي مشكلة واجهتها أنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي علي النحو التالي :
(أ) سلطة المحكم الدولي في الفصل في الدفوع المتعلقة بصحة أو بوجود العقد الأصلي :-
تثور هذه الدفوع في منازعات التجارة الدولية الناشئة عن عقود أصلية متضمنة شرط التحكيم . وبينما تعتبر مشكلة اختصاص المحكم بالفصل في مسألة ولايته أو سلطته القضائية في النزاع مسألة إجرائية une question de procedure فإن مشكلة صحة أو استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي الذي يتضمنه تعد مسألة موضوعية Une question de Fond تتعلق بتفسير ذلك الشرط ويظهر الطابع الموضوعي لهذه المشكلة خصوصا في التحكيم التجاري الدولي الذي أصبح الفكر الحديث يعتمد في تعريفه علي معيار موضوعي أو مادي مستمد من الطبيعة الإقتصادية nature economique للمنازعة، وهو المعيار الذي اعتمدته محكمة النقض الفرنسية وقننته المادة ١٤٩٢ مرافعات فرنسي جديد التي نصت علي أن "يعتبر تحكيما دوليا التحكيم الذي يثير مصالح التجارة الدولية مثل التحكيم الذي ينصب على منازعة تنشأ عن تداول الأموال والخدمات والنقود عبر الحدود الدولية.
ولقد اتخذت محكمة النقض الفرنسية موقفا واضحا ومحددا من أثر بطلان العقد الأصلي على شرط التحكيم الذي يتضمنه، وذلك في حكمها الصادر عام ١٩٦٣في دعوي Gosset .. ففى هذه الدعوي أحد الطرفين ببطلان العقد الأصلي الذي تضمن شرط التحكيم وزعم أن هذا البطلان بلحق إذن شرط التحكيم ومشارطة التحكيم التي أبرمها الطرفان بعد وقوع النزاع وكذلك التحكيم الذى تم عقب هذه المشارطة بيد أن محكمة النقض قد قررت صرحة أنه لما كان النزاع يدخل في نطاق التحكيم التجاري الدولي فإن شرط التحكيم" يتمتع باستقلال قانوني كامل، ومن ثم يتحصن من أى بطلان محتمل للعقد الأصلي " و وذلك سواء ورد شرط التحكيم ضمن نصوص هذا العقد أو ورد في اتفاق منفصل . وفتح هذا الحكم الشهير الطريق أمام القضاء الفرنسي لبرتب بعض النتائج الهامة علي الاستقلال الكامل لشرط التحكيم هي أن صحة هذا الشرط لا تتأثر مطلقا بفسخ العقد الأصلي أو بإنفساخه أو ببطلانه . ويعني ذلك أن بطلان العقد الأصلي لا ينال من اختصاص المحكم الدولي بموضوع النزاع سواء أثير هذا البطلان بدفع أمام المحكمة المختصة أصلا أو أمام المحكم الدولي نفسه، كما يعني ما تقدم استقلال اتفاق التحكيم في جميع الأحوال عن العقد الأصلي، وهو ما أقرته أنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي.
علي أن استقلال اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي لا يجول دون اختصاص المحكم الدولي بالفصل في النزاع المتعلق بصحة العقد الأصلي أو بطلانه، فطبقا للمادة ٣/٥ من الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي يتمتع المحكم بسلطة الفصل في صحة ذلك العقد أوفى صحة اتفاق التحكيم. ويظهر هذا المعني أيضا مما نصت عليه المادة ١/١٦ من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي من أن ينظر إلي شرط التحكيم الذي يشكل جزء من عقد كما لو كان اتفاقا مستقلا عن شروط العقد، وأي قرار يصدر من محكمة التحكيم ببطلان العقد لا يترتب عليه بحكم القانون بطلان شرط التحكيم .
(ب) سلطة المحكم الدولي في الفصل فى الدفوع المتعلقه بانعدام أو ببطلان اتفاق التحكم ذاته :
يبين من نصوص أنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي السابقة أنها تعترف المحكمة التحكيم بسلطة الفصل في مسألة اختصاصها بالنزاع إذا ما أثيرت أمامها أي دفوع يزعم فيها أحد الطرفين بانعدام أو ببطلان شرط التحكيم، وهي الدفوع الشائعة في العمل.
وتطبيقا لذلك رفض القضاء الفرنسي الدفع المبدي من أحد الوكلاء التجاريين. ويدعي Hecbt وهو فرنسي الجنسية، ببطلان شرط التحكيم المدرج في عقد وكالة تجارية بينه وبين شركه Buismam's يخولمه - بمقتضى شرط القصر - الاستنثار ببيع منتجات هذه الشركة في فرنسا، وهو دفع إقامة الوكيل التجاري الفرنسي على اساس أن القانون الفرنسي الواجب التطبيق لا يعترف بصحة شرط التحكيم في الأعمال المختلطة en matiere mixte وأن عقد الوكالة يندرج ضمن هذه الأعمال واستند القضاء الفرنسي في رفضه لهذا الدفع، ليس على أساس ما إذا كان القانون الفرنسي هو الواجب التطبيق من عدمه، إذا كان العقد المذكور يندرج ضمن الأعمال المختلطة من عدمه وإنما على أساس أن شرط التحكيم، إذا تعلق بنزاع ينصب على التجارة الدولية ، فإنه يجب أن يلقى فى التحكيم التجاري الدولي - تطبيقا كاملا حيث يستقل شرط التحكيم استقلالا تاما سواء عن العقد الأصلي الذي تعلق به .
ويعني ما تقدم أن مناسبات بطلان Nullite شرط التحكيم تقل فى التحكيم التجاري الدولي عنها في التحكيم الوطني ، إذ تقتصر أسباب هذا البطلان في التجارة الدولية علي الحالات التي يثبت فيها للمحكم الدولي انعدام إرادة أحد الطرفين أو تعيبها بالعيوب التي تفسدها أو انعدام أهلية أحد الطرفين أو نقصها أو تخلف شرط من الشروط الشكلية اللازمة لصحة شرط التحكيم طبقا لأنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي ، وهي مسائل لا تتجاوز الأركان العامة لتكوين العقود Formation des contrats .
(ج) كيفية الفصل في الدفوع المتعلقة بعدم ولاية المحكم الدولي أو بعدم اختصاصه :
حرصت أنظمة واتفاقيات التحكيم التجاري الدولي علي سرعة الفصل في الدفوع المتعلقة بولاية أو اختصاص المحكم الدولي وقطع الطريق علي الخصوم الذين يحولون دون بدء إجراءات التحكيم أو تعطيلها . وتدور كل هذه الأنظمة والاتفاقيات حول فلك المبدأ الذي جسده أخيرا القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، وهو مبدأ إجرائــــي لـــه وجهان .
الأول : أنه يجب إثارة الدفع بعدم اختصاصها (ولاية) محكمة التحكيم في موعد أقصاه تقديم بيان الدفاع ، ولا يجوز منع أي من الطرفين من إثارة مثل هذا الدفع بحجة أنه عين أحد المحكمين أو أسهم في تعيينه . أما الدفع بتجاوز محكمة التحكيم نطاق سلطتها فيجب إبداؤه بمجرد أن تثار - أثناء إجراءات التحكيم - المسألة التي يدعي بأنها خارج نطاق سلطتها ، وفي الحالتين يجوز لمحكمة التحكيم أن تقبل دفعا يثار - بعد هذا الموعد إذا اعتبرت أن التأخير له ما يبرره ( المادة ٢/١٦) .
الثاني : أنه يجوز لمحكمة التحكيم أن تفصل في أي دفع من الدفوع المذكورة آنفا إمــا باعتبارها مسألة فرعية ( تفصل فيها بحكم تمهيدي ) وإما في قرار التحكيم الموضوع ( المنهي للخصومة ) . فإذا قررت محكمة التحكيم بحكم تمهيدي أنها مختصة جاز لأي من الطرفين، خلال ثلاثين يوما من تاريخ إعلانه بذلك الحكم، أن يطلب من المحكمة المختصة أن تفصل في الأمر ، ولا يكون قرارها في هذا الشأن قابلا للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن ، ويجوز لمحكمة التحكيم المضي في إجراءات التحكيم وإصدار التحكيم ( المنهي للخصومة ) طالما لم يصدر قرار المحكمة المختصة المذكورة بعدم اختصاص محكمة التحكيم بموضوع النزاع ( المادة ٣/١٦).
(ثانيا) سلطة المحكم الدولي في اتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية :
تعترف معظم اتفاقيات وأنظمة التحكيم التجاري الدولي لمحكمة التحكيم بسلطه اتخاذ هذه التدابير متى تضمن اتفاق التحكيم تخويل المحكم هذه السلطة وذلك دون أن تسلب القضاء الوطني سلطته الأصلية في الأمر بتلك التدابير . فقد نصت المادة ٤/٦ من التقالية جنيف للتحكيم التجاري الدولي لعام ١٩٦١ على أنه " لا يجب اعتبار الطلب المقدم من أحد الطرفين إلي سلطة قضائية nutarite judiciare وطنية لاتخاذ تدابير النزاع لسلطان تلك القضائية الوطنية" . ويعني هذا النص ، ضمنيا ، أنه إذا تضمن اتفاق التحكيم نصا يخول المحكم الدولي سلطة اتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية فإن هذا الاتفاق يصح لكن دون أن ينزع اختصاص القضاء الوطني باتخاذ هذه التدابير بناء على طلب أحد الطرفين في نفس الوقت الذي لا يجوز فيه للقضاء الوطني التصدي لموضوع النزاع حيث يخضع لولاية محكمة التحكيم بناء على اتفاق التحكيم . وجاء القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي بنص يخول لمحكمة التحكيم السلطة المذكورة طالما لم يستبعدها اتفاق التحكيم وهو نص المادة ١٧ الذى يقرر أنه " يجوز لمحكمة التحكيم أن تامر أيا من الطرفين، بناء على طلب أحدهما باتخاذ أي تدبير وقائي مؤقت تراه ضرورياً بالنسبة لموضوع النزاع ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك وهنا يلاحظ أن محكمة التحكيم تتمتع بسلطة اتخاذ التدابير المؤقتة أو التحفظية اللازمة لحماية الحق موضوع النزاع ولو لم يخلوها اتفاق التحكيم هذه السلطة إنما لا تتمتع بها إذا نص الاتفاق علي استبعادها .
ولقد أخذت قواعد لجنة الأمم المتحدة للتحكيم UNCITRAL بنفس الحل السابق مع اهتمامها ببيان طبيعة التدابير الوقتية والتحفظية ومدي سلطة القضاء الوطني في هذا المجال فوفقا للمادة ٢٦ من هذه القواعد يجوز لمحكمة التحكيم، بناء علي طلب أحد الطرفين ، اتخاذ أي تدبير من التدابير المؤقتة التي تراها ضرورية للمحافظة علي موضوع النزاع، بما في ذلك التدابير التحفظية اللازمة لحفظ البضاعة موضوع النزاع، كالأمر بإيداعها لدي الغير أو بيعها إذا كان يخشى عليها من التلف ويجب أن يكون التدبير المؤقت أو التحفظي بحكم (قرار) وقتي interim award ، ويجوز للمحكمة أن تطلب تقديم ضمان لتغطية مصاريف ولا يجب اعتبار الطلب الذي يقدمه أحد الطرفين إلى السلطة القضائية ( المختصة ) لاتخاذ تدبير مؤقت أو تحفظي متعارضا مع اتفاق التحكيم كما لا يعتبر ذلك الطلب نزولا عن التدبير هذا .
(ثالثا) سلطة المحكم الدولي في تخفيف القواعد الإجرائية الخصومة التحكيم :
تجيز بعض اتفاقيات التحكيم التجاري الدولي للطرفين أنفسهم تحديد القواعد الواجبة التطبيق على إجراءات خصومة التحكيم ، وهو الحال في اتفاقية جنيف لعام ١٩٦١یشان التحكيم التجاري الدولي (المادة ٤ / ۱ ب ۳) ، وحينئذ يتقيد المحكم الدولي بالقواعد الإجرائية التي اتفق عليها الطرفان ، إلا أن القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لعام ١٩٨٥ ولئن خول للطرفين حرية الاتفاق على الإجراءات التي يتعين على محكمة التحكيم اتباعها في التحكيم ( المادة ۱/۱۹) فإنه قد أجاز لهذه المحكمة ، عند عدم وجود هذا الاتفاق ، السير في التحكيم بالكيفية التي تراها مناسبة واعترف لها بسلطة تقرير جواز قبول الأدلة المقدمة وصلتها بموضوع النزاع وجدواها وأهميتها .
(رابعا) سلطة المحكم الدولى فى تحديد القواعد الموضوعية للنزاع:
حرصت اتفاقیات وأنظمة التحكيم التجارى الدولى على تطبق القواعد الموضوعية المناسبة على موضوع النزاع حسبما يقرره الطرفان والمحكمون وأجازت للطرفين تفويض المحكمين بالصلح مع مراعاة شروط العقد مثار النزاع والعادات التجارية الجارية.
ويظهر ذلك من نص المادة ٧ من اتفاقية جنيف لعام ١٩٦١ بشأن التحكيم التجاري الدولي، حيث تقرر أن الطرفين يتمتعان بحرية تحديد القانون الذى يطبقه المحكمون على موضوع النزاع، فاذا لم يتفقا على القانون الواجب التطبيق طبق المحكمون القانون الذى يتحدد طبقاً لقواعد تنازع القانونين ويكون مناسباً لموضوع النزاع. وفي الحالتين يجب علــــى المحكمين مراعاة شروط العقد مثار النزاع والعادات التجارية الجارية "(فقرة 1)، ويجوز للطرفين تفويض المحكمين بالصلح اذا كان القانون الذى يخضع له التحكيم يسمح بذلك . (فقرة ٢) . . .
فإذا كان المحكمون مفوضين بالصلح فيتمثل القانون الذى يطبق على موضوع النزاع في القواعد الموضوعية التي يختارها المحكمون أيا كان مصدر هذه القواعد.
ولقد اهتم القانون النموذجي للتحكيم التجارى الدولى بتطبيق القواعد الموضوعية التي يتفق عليها الطرفان وأوجب مراعاة محكمة التحكيم لشروط العقد والعادات التجارية الجارية سواء كان المحكمون مقيدين بقانون موضوعی معين أو مفوضين بالصلح. فقد نصت المادة ٢٨ من القانون النموذجي على أن تفصل محكمة التحكيم في النزاع وفقاً لقواعد القانون التي يختارها الطرفان بوصفها واجبة التطبيق على موضوع النزاع وأى اختيار لقانون دولة ما أو نظامها القانوني يجب أن يؤخذ على أنه اشارة مباشرة الى القانون الموضوعي لتلك الدولة وليس الى قواعدها الخاصة بتنازع القوانين مالم يتفق الطرفان صراحة على خلاف ذلك (فقرة 1). وإذا لم يعين الطرفان أى قواعد وجب على محكمة التحكيم أن تطبق القانون الذى تقرره قواعد تنازع القوانين التى ترى الهيئة أنها واجبة التطبيق "(فقرة 2)" ولا يجوز لمحكمة التحكيم الفصل في النزاع على أساس ودى ex Aeque et bono أو باعتبارها محكماً طليقاً amiable compositeur إلا إذا أجاز لها الطرفان ذلك صراحة (فقرة ۳). وفي جميع الأحوال تفصل محكمة التحكيم فى النزاع وفقاً لشروط العقد وتأخذ في اعتبارها العادات المتبعة في ذلك النوع من النشاط التجارى المنطبقة على المعاملة .
ويقترب نص المادة ۲۸ المذكورة من نص المادة ۳۳ من قواعد تحكيم لجنة الأمم UNCITRALالى حد كبير ، إلا أن النص الأول يتميز بأنه يتيح للطرفين حرية اختيار مجموعة أوسع من القواعد الموضوعية التي يمكن تطبيقها على موضوع النزاع، إذ تكلمت المادة ٢٨ المشار اليها عن حرية الطرفين فى اختيار قواعد القانون Rules of the law" وليس في اختيار القانون The law الذي يطبق على النزاع. وينبنى على ذلك أنه يجوز للطرفين - فى ظل القانون النموذجي للتحكيم التجارى الدولى - اختيار أى قواعد موضوعية منصوص عليها في نظام أى محفل أو مركز من محافل أو مراكز التجارة الدولية ولو لم تكن هذه القواعد قد أدرجت فى أى نظام قانوني وطني ، وهو حل مرن تبناه المشرع المصرى وقننه في المادة ۲/۳۹ من قانون التحكيم رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ .
ولاشك في الاتجاه المذكور يمثل مرحلة متطورة من مراحل توحيد قواعد التحكيم التجاري الدولي ، حيث يضمن تطبيق أنسب القواعد الموضوعية لموضوع النزاع ولو لم تتقرر في نظام قانونى وطنى معين، وهو تطور قد ينعكس على القوانين الوطنية من جهة وأنظمة بعض مؤسسات التحكيم التجارى الدولى من جهة أخرى. ويلاحظ بالنسبة للأنظمة الأخيرة أن بعضها يتفق مع اتفاقيات التحكيم التجارى الدولى فيما يتعلق بتحديد القانون الموضوعى الواجب التطبيق على النزاع دون اختلاف يذكر. فطبقا للمادة ١٣ من نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية بباريس يكون الطرفين ملء الحرية في تحديد القانون الذي يتعين على المحكم تطبيقه على موضوع النزاع، فإذا لم يحدداه طبق المحكم قاعدة تنازع القوانين التي يراها ملائمة في هذا الخصوص ، " ويكون للمحكم سلطة المفوض في الصلح إذا اتفق الطرفان على منحه إياها ، يراعى المحكم في كل الأحوال أحكام العقد والعادات التجارية وهذه القواعد ولئن اتفقت مع القواعد المقررة في القانون النموذجي للتحكيم فيما يتعلق بضرورة مراعاة أحكام العقد والعادات التجارية سواء كان المحكم الدولى مقيداً بالقانون أو مفوضاً بالصلح إلا أنها تختلف عن قواعد القانون النموذجي من حيث اعتداد هذه الأخيرة بقواعد القانون التي يتفق عليها الطرفان وليس فقط بالقانون" الذى يختاره الطرفان . هذا بينما اعتد نظام مركز تسوية منازعات الإستثمار المقرر باتفاقية واشنطن لعام ١٩٦٦ بقواعد القانون التي يختارها الطرفان متفقا فى ذلك مع القانون النموذجي للتحكيم الذى اهتد فيما يبدو - بنظام تحكيم المركز المذكور في هذا الخصوص.
ومن ناحية أخرى فقد أجمعت الإتفاقيات والأنظمة المتقدمة على جواز تفويض المحكم الدولي بالصلح باتفاق الطرفين، الأمر الذى يتيح له اختيار القانون الموضوعى المناسب من بين القوانين وطنية أو اختيار القواعد الموضوعية المناسبة ولو لم يتضمنها أي قانون وطني.