الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / احترام مبدأ المواجهة بين الخصوم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 38 / التحكيم، الحق في التقاضي، وإنكار العدالة (خواطر حول الحكم الاستئنافي الصادر في قضية سكندي في 2016/11/21)

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 38
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    121

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمـة:

1. أصدرت محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 2016/11/29 تحت عدد 85246 حكماً قـضى بإبطال حكم تحكيم داخلي حر يتعلق بنزاع بين شركتين مختصتين في مجال صنع الأجبان. وهو من أحدث أحكامها في هذا المجال، وتحديداً في مجال إنفاذ اتفاقيات التحكيم وتأويلهـا وضمان فاعليتها ورفع الالتباس عن معانيها.

2. ومن ميزات التحكيم موضوع هذه القضية أنه من الحالات النادرة التـي تـصدت فيهـا هيئة تحكيم إلى مـسألة دقيقـة تتعلـق بتطبيـق أحكـام الدسـتـور مـن قبـل القـضاء الخاص (التحكيم)، وانتهت إلى التأكيد على أن حق التقاضي مـضمون بالدسـتور. لكـن الطريف أن الطعن بالإبطال المسلط على هذا الحكم التحكيمي اسـتند إلـى نفـس المبـدأ الدستوري الذي "تباهت" هيئة التحكيم بتفعيله، واعتبرت الطاعنة شركة "سكندي" (المدعيـة في الأصل) أن هيئة التحكيم قد خرقت ذات المبدأ الذي بنت عليه حكمها حين أنكرت العدالة ورفضت بت النزاع بتعلات غير جدية، وتركت الخصومة بلا حل لأسباب غير صحيحة وغير جدية.

3. وأكدت الشركة الطاعنة "سكندي" في طعنها بالإبطال أمام محكمة الاستئناف بتونس أن هذه القضية أخذت أشواطاً كثيرة وطويلة وغير مبررة باعتبار الحيـز الزمنـي الـذي تطلبـه الحصول على حكم تحكيمي لم يقتصر على رفض طلباتها (أي طالبة الابطال) بل أكثر من ذلك فقد جاء متناقضاً وغير قابل للفهم inintelligible، مما ألجأها إلى طلب شرحه علـى أمل أن تستوضح ما به من غموض، فلم تكن النتيجة أفضل من سابقتها، إذ رفضت هيئـة التحكيم طلب الشرح لسبب شكلي اعتبرته الطاعنة مصطنعاً وغير وجيه ويتـضـح غيـاب المنطق عنه بالرجوع إلى نص الفصل 36 من مجلة التحكيم وإلى فقه قضاء محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في أول قرار صادر عن الدوائر المجتمعة في مادة التحكيم سنة 2002، والذي ميز بين تسليم نسخة من حكم التحكيم من قبل هيئة التحكيم إلى الأطراف (والـذي لا يترتب عليه شيء في خصوص الآجال، وخاصة أجـال الطعـن ومعهـا أجـال الـشرح والإصلاح) والإعلام بالحكم التحكيمي الصادر عن أحد الخصوم.

4. ومع أن محكمة الاستئناف بتونس لم تعتمد المطعن المتعلق بإنكار العدالة، وبالتالي بخـرق النظام العام، فإنها انتهت إلى نتيجة مقاربة جداً، إذ جاء في قرارها أن ما صدر عن هيئـة التحكيم لا يشكل إنكار عدالة، لكنه يقترب منه، وذلك باعتبار أن هيئة التحكيم لم تعمل على إفراغ النزاع، بل أبقت على الخصومة قائمة، ولم تقم بما هو متوقع مـن المحكمـيـن مـن اجتهاد إيجابي في تأويل القواعد الإجرائية من أجل التوصل إلى بت أصل الحقوق عوضـاً عن الاستناد إلى أسباب شكلية غير وجيهة لرفض النظر في أصل الخصومة وتأبيد النزاع.

5. ويمكن القول إن العنوان العريض لهذه القضية هو إنكار العدالة. فالمثل الإنجليزي يقـول: "عدالة متأخرة، عدالة منتفية" justice delayed, justice denied.

6. وتتمثل وقائع هذه القضية في أن شركة "سكندي" سوغت عقـاراً لفائـدة شـركـة أخـرى لاستغلاله لفترة محدودة في صنع الأجبان، ونص عقد الكراء على شرط يسند الاختـصاص إلى القضاء العدلي، لكن هذا العقد كان مزامناً ومرتبطاً بعقد آخر وهو عقد بيع الأصـل التجاري المتمثل في مصنع أجبان وعقد آخر يتعلق بصنع الأجبان (عقد إسـداء خـدمات) تعهدت به بائعة الأصل التجاري بأن تقوم بمساعدة أعوان الشركة المشترية على صـناعة الأجبان لفترة محددة ترتبط بها مدة عقد الكراء. ونص عقد صنع الأجبان على شرط تحكيم حر. وإثر فسخ عقد الصنع، طلبت الشركة البائعة للأصل التجاري من معاقـدتها مغـادرة العقار المكرى عملاً بأحد بنوده الذي ينص على أنه مبرم في ارتباط كامل بعقد الصنع، لكن المكترية بقيت في العقار مستندة إلى عدة أسباب، فأقامت ضدها المالكة دعـوى تحكيميـة وطلبت إلزامها بأن تدفع لها باقي معينات الكراء، ثم "غرامة شغول" تعاقدية لقاء مواصلتها المكوث في العقار رغم زوال الموجب التعاقدي بفسخ عقد الصنع وفسخ عقد الكراء تبعا له. واعتبرت هيئة التحكيم أن المدعية تخلت أثناء نشر القضية عن طلبها الأول، ثـم قـضت برفض التعهد به، كما جاء في حيثيات الحكم أن دعوى أداء غرامة الشغول حري بالرفض (ص. 57 من الحكم التحكيمي) لكن في نص الحكم انتهت هيئة التحكيم إلى الحكـم بعـدم سماع الدعوى في شأن هذا الفرع.

7. ولرفع الغموض عن مدلول الحكم في خصوص غرامة الشغول، طلبت المدعية في الأصل شرح المقصود بالرفض وعدم سماع الدعوى وبيان ما إذا كانت تقصد شيئاً واحداً، وإن لـم تقصد نفس المفهوم فقد طلبت المدعية في الأصل إصلاح الحكم. لكن هيئة التحكيم قـضت برفض طلب الشرح شكلاً.

8. وبناء على ذلك طعنت المدعية في الأصل في الحكم التحكيمي بالإبطال، واعتبرت أن هيئة التحكيم وقعت في إنكار العدالة بما أنها رفضت بت أي فرع من فروع النزاع، ثم أصدرت حكماً مبهماً ومع ذلك فقد رفضت حتى شرحه لأسباب مصطنعة.

9. إن جوهر القضية يتمثل حسب مطاعن شركة "سكندي" في أن هيئة التحكـيم وقعـت فـي تناقضات خطيرة تجعل حكمها غير متماسك بسبب تناقض التعليل من جهة، وأخطر منـه، تناقض أسباب الحكم التحكيم مع منطوقه أي تناقض المقدمات مع المخرجات.

I. تناقض نتيجة الحكم مع حيثياته: هل هي صورة من صور ضعف التعليل؟

10. عاينت هيئة التحكيم في حكمها أن المدعية عدلت عن بعض طلباتها، وهو ما يعني منطقيـاً اعتبار هذه الطلبات كأنها لم تكن، وبالتالي عدم بتها، في حين أن هيئة التحكيم قضت برفض التعهد في شأنها. وهكذا نظرت هيئة التحكيم في طلبات لم يعد لها وجود بـإرادة المدعيـة (حسب ذكرها) ثم أصدرت في شأنها قراراً، واعتبرت أنها ما زالت متعهدة بها، ويحق لها أن تتخذ بشأنها موقفاً وقراراً، وكان على هيئة التحكيم في الواقع أن تعاين عدول المدعيـة عن بعض طلباتها، وأن تقتصر على تسجيل هذا العدول وأن لا تبني عليه أي قـرار، لأن العدول الاختياري عن الدعوى أو بعض فروعها ينهي ولاية هيئة التحكيم عليها ويمنعها من القضاء في شأنها بأي وجه. فهي تعتبر ملغاة من الدعوى ولم يعد لها وجود أصلاً.

11. وفي خصوص هذه النقطة، وقعت هيئة التحكيم في خلط واضح في ما يتعلق بحدود سلطتها القضائية، إذ اعتبرت تعهدها بالفرع من الدعوى قائما وقضت برفض التعهد به، وهو وجه غریب من أوجه القضاء.

12. وحسب تحليل شركة سكندي فإن حكم التحكيم وقع في إنكار العدالة déni de justice بأن رفض التعهد بطلب قائم، فرفض مبدأ النظر فيه سواء من حيث مقبوليته شكلاً أو من حيث وجاهته في الأصل. وبذلك ناقض هذا الحكم نفسه بأن تنكر لمبدأ الحق في النفاذ إلى العدالة الذي أعلنته هيئة التحكيم بنفسها بناء على أحكام الفصل 109 من الدستور. وذكرت طالبـة الإبطال بأن إنكار العدالة هو خرق على غاية الخطورة لمساسه بحق دستوري يهم النظـام العام دون ريب ولمساسه بأحد حقوق الإنسان الأساسية التي اعترفت المحكمة الأوروبيـة لحقوق الإنسان بامتدادها إلى الأشخاص المعنوية أيضاً وهو الحق في العدالة أو الحق فـي التقاضي droit d'accès à la justice .

13. لكن من ناحية ثانية، وفي ما يتعلق بالفرع الرئيسي من النزاع، عللت هيئة التحكيم حكمهـا بما معناه أنها ستقضي برفض الدعوى (ص. 57)، وانتهت في خلاصة تحليلها بالصفة 57 إلى "عدم قبول" طلبات المدعية في الأصل، وهو ما يعني رد هذه الطلبات لـسبب شـكلي يتعلق بعدم استقامة الدعوى من الناحية الشكلية، لكنها انتهت بغتة بالصفحة 58 مـن نـص الحكم إلى القضاء بعدم سماع الدعوى.

14. وقد سعت شركة "سكندي" إلى رفع هذا اللبس بأن طلبت من هيئة التحكيم توضيح المـراد بمصطلح "عدم سماع الدعوى" الوارد في الصفحة 58 أي في نص الحكم dispositif وما إن كان له نفس معنى مصطلح "عدم قبول الدعوى" الوارد في الصفحة 57، فتفادت هيئـة التحكيم الإجابة عن هذا السؤال، وذلك برفض طلب الشرح (أو الإصلاح) شكلاً.

15. ولئن كان الفقه وفقه القضاء مختلفين في خصوص مسألة تناقض تعليل أحكام التحكيم ومـا إذا كان يعتبر من قبيل ضعف التعليل الذي يخرج عن رقابة قاضي الإبطال أم مـن قبيـل انعدام التعليل (عملاً بقاعدة "تناقض تهادم")، فإن الأمر مختلف في قضية الحال باعتبار أن الأمر يتعلق هنا بتناقض منطوق الحكم مع أسبابه، وهو ما لا يمكن اعتبـاره مـن قبيـل تناقض التعليل، لأن التعليل كان في داخله منسجماً ومؤدياً إلى النتيجة التي انتهت إليها هيئة التحكيم، وإنما تضارب منطق الحكم المعبر عنه في التعليل مع النتيجة، وهذا ما جعل شركة سكندي تعتبر أن حكم التحكيم كان مصاباً باعتلال خطير يجعله منتفي التعليل باعتبـار أن فيه تعليلاً لنتيجة أخرى، أما الحكم بعدم سماع الدعوى فلا يوجد له أي تسبيب فـي حك التحكيم.

16. وعليه اعتبرت الطاعنة أن حكم التحكيم كان عديم التعليل في فرعـه الرئيـسي، وطلبـت إبطاله بناء على أحكام الفقرة "سادساً" من الفصل 42 من مجلة التحكيم المتعلق بإبطال حكم التحكيم متى كان مخالفاً للمبادئ الأساسية للإجـراءات المدنيـة والتجاريـة principes .fondamentaux de la procédure civile et commerciale

II. المحكم أمام خطر إنكار العدالة:

17. الحق في التقاضي هو أصل الحقوق الإجرائية كافة، ومن دونه لا يكون لـسائر المبـادئ الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية (المساواة بين الخصوم والمواجهة بينهم وحق الدفاع والنزاهة) أي معنى أو وجود، ومن ثمة فقد تعين اعتباره في رأس قائمة المبادئ الأساسـية للإجراءات المدنية والتجارية المعلن عنها بالفصلين 13 و42 من مجلة التحكيم، وترتيـب النتيجة المتعينة قانونا على خرقه وهي بطلان حكم التحكيم، لحسن تطبيق الفصل 42 مـن مجلة التحكيم.

18. فحكم التحكيم الصادر في قضية "سكندي"، وبعد أن اعتبر أن الفرع الأول من الطلبات تـم إسقاطه بقرار من المدعية عند تحرير دعواها، عاد فنظر فيه وانتهى إلى رفض التعهد به، دون أن يبين الأسانيد القانونية لهذه النتيجة غير المألوفة.

19. ودون حاجة إلى الخوض في مدى وجاهـة ما قضت به هيئة التحكيم (وهو ما يخرج عـن ولاية قاضي الإبطال) فإنه من الواضح أن هيئة التحكيم أهملت أحد فروع الدعوى واعتبرته غیر موجود بحكم التخلي عنه في نظرها، ثم عادت وبتته وقضت فيه بوجه مـن الأوجـه وبالتالي كان حكمها في خصوص هذا الفرع خالياً تماماً من التعليل.

20. وقد اعتبر فقه القضاء التونسي التعليل هو مظهر من مظاهر احترام حقوق الـدفاع، التـي هي روح الإجراءات، وفيه احترام مبدأ المواجهة، لأن المواجهة لا تقتصر على الأطراف، بل تمتد إلى علاقة المحكم بالأطراف، بما يحقق الشفافية في الإجراءات ويجنب الأطـراف المباغتة بصدور حكم لا يتوقعه ولم يتوقعه أحد منهم.

21. وفي خصوص غرامة الشغول، اعتبرت الطاعنة أن هيئة التحكيم وقعت في جميع الحالات في خرق القواعد الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية المنصوص عليها بالفـصلين 13 و42 من مجلة التحكيم، إذ أن تعليل الحكم تسلط على القضاء بـرفض الـدعوى أو بعـدم قبولها، ثم جاء منطوق الحكم بالقضاء بعدم سماع الدعوى دون أن توجد ولو حيثية واحـدة تفسر كيف انتهت هيئة التحكيم إلى الحكم بعدم سماع الدعوى، أي بعدم وجود الحق المدعى به. وقد استنتجت طالبة الابطال من ذلك أن هيئة التحكيم استعملت مصطلح "عـدم ســماع الدعوى" بمعنى "الرفض" لسبب شكلي أو إجرائي أو متعلق بالإثبات، لكن عدم يقينهـا مـن المعنى المقصود جعلها تطلب من هيئة التحكيم إما إصلاح حكمها وذلك باستعمال نفـس المصطلح في الحيثيات، ثم في المنطوق، أو على الأقل شرح الحكم وبيان المعنى المراد من هذه المصطلحات، بحيث يمكن اعتبار الحكم منسجماً إن صـرحت هيئـة التحكـيم بأنهـا استعملت جميع هذه المصطلحات (رفض، عدم قبول، عدم سماع) بنفس المعنى. غيـر أن هيئة التحكيم رفضت طلب الإصلاح (أو الشرح) شكلاً ولم تبته وتركت الغموض قائماً، مع أن طالبة الابطال شرحت لها في طلب الإصلاح (أو الشرح) أن المطلب تـم تقديمـه فـي الأجل القانوني الذي يتم تحديده على ضوء موقف فقه القضاء التونسي المجسد فـي قـرار الدوائر المجتمعة في ما يتعلق بتعليق أجل الطعن في صورة طلب شرح حكم التحكيم (قرار سنة 2002).

22. وفي الحقيقة، لم يكن الطعن مبنياً على تناقض تعليـل حـكـم التحكـيم، بـل بنـي علـى وجود تناقض بين التعليل والنتيجة، وهي صورة مختلفـة عـن الـصورة التـي اختلـف حولها فقه القضاء في تونس وفي فرنسا. فالصورة الحالية تعني أن النتيجة سـبقها تعليـل يتنافى معها كلياً بما يجعل التعليل منصباً على نتيجة أخرى غير النتيجة التي صـرح بهـا المحكم، ومن ثم تكون النتيجة التي انتهى اليها المحكم غير معللة إطلاقاً. فيكـون غيـاب التعليل واقعياً لا حكمياً، بخلاف صورة تناقض التعليل، التي يعتبر فيها التعليل مفقوداً حكما لا واقعاً (لأنه يوجد مادياً "تعليل" أو ما سمته الطاعنة أسوة بالفقه التونسي "تعليل الواجهـة" motivation de façade الذي يعتبر كالعدم سواء، لكن يعتبر كلا شيء).

III. كيفية تطبيق مبادئ تأويل العقود على مجموعة العقود الحالية:

23. اعتبرت المدعية في الأصل أن عقد بيع الأصل التجاري وعقد صنع الأجبان وعقد كـراء المحل والالتزام بعدم المنافسة تشكل معا، مجموعـة تعاقديـة متكاملـة un ensemble contractuel، وهو ما يعني حتمية تأويلها مجتمعة كوحدة معنوية ومنطقية يكمل بعـضها بعضاً، وفي صورة التناقض بينها، فإنه يتم تطبيق المبادئ العامة لتأويل البنـود التعاقديـة المتناقضة، وذلك إما بتقديم الخاص على العام أو بتقديم النص اللاحق على النص السابق أو اللجوء إلى التأويل النسقي والمنطقي interpretation et logique. systématique

24. وبالنسبة للعقود الحالية فإنها أبرمت بنفس التاريخ في شكل سلسلة مـن العقـود série de contrats المتتالية منطقياً والمتزامنة من حيث تاريخ إبرامها، ومن ثم لا يمكـن العمـل بقاعدة "تسبيق" اللاحق على السابق.

25. كما لا يمكن تطبيق مبدأ "تسبيق" الخاص على العام، لأن موضوع كل واحد من هذه العقود مغاير لموضوع العقود الأخرى: فعقد بيع الأصل التجاري موضوعه بيـع مـال منقـول بطبيعته، لا يشمل العقار، أما عقد صنع الأجبان فهو عقد إجارة على الـصنع موضـوعه إسداء خدمة، في حين أن عقد كراء المحل يهم تسويغ عقار، ومن ثمة لا يمكن تطبيق مبدأ "الخاص يقدم على العام" في صورة الحال.

26. وفي ظل استحالة تطبيق مبدأي تقديم الخاص على العام وتقـديم اللاحـق علـى الـسابق، ينبغي الرجوع إلى مبدأ التأويل النسقي الذي ينطلق من معاينة وجود مجموعة من العقـود المتكاملة، والتي تشكل حزمة مترابطة من الحقوق والالتزامات الرامية إلى تحقيق هـدف موحد، وهو ما يبرز خصوصاً من خلال توطئة كل واحد من هذه العقود، حيث إن كل عقد يحيل إلى الآخر ويؤكد على ارتباطه به، إذ جاء بعقد كراء المحل، خصوصاً أنه تم إبرامه لغرض وحيد وهو ضمان حسن تنفيذ اتفاقية صنع الأجبان، وأن مآل عقد الكراء مرتبط بمآل عقد الصنع.

27. فالأمر يتعلق بمنظومة تعاقدية متكاملة système contractuel تقرأ برمتهـا، بـضميمة بعض عناصرها إلى بعض. وإن هذا التأويل النسقي ينبغي أن يقود جهة التأويل إلى تحديد المقصد المشترك للطرفين من هذه العملية التعاقدية المركبة، وما إن كان الأمر متعلقاً بخيار مقصود ونابع من تفكير وترو، أو من سوء تعبير أو عدم انتباه محرر العقد، خاصة إذا كان تحرير هذا العقد أو ذاك قد وقع باستعمال أنموذج جاهز modèle préétabli، حيث يقـع كثيراً (خصوصاً في عصر تكنولوجيا المعلومات الحديثة) أن يتم استعمال أنمـوذج جـاهز والسهو عن ملاءمته مع خصوصية عقد محدد، فيوقع الأطراف شرطاً لم يرد بـألهم ولـم يتفطنوا إليه، أو شرط مألوف clause de style، كما لاحظت ذلـك محكمـة الاستئناف بتونس في قضية تتعلق بشرط يسند الاختصاص إلى محاكم الدولة تم إدراجه في كمبيالـة، في حين أن العقد الذي صدرت الكمبيالة بناء عليه يتضمن شرطاً تحكيمياً، حيث اعتبـرت المحكمة أيضاً أن الأمر يتعلق بمعاملة واحدة، وأن من واجب المحكم والقاضي البحث عـن الإرادة الحقيقية للأطراف، مستنتجة أن شرط إسناد الاختصاص للمحـاكم المـدرج فـي الكمبيالة، إنما هو من قبيل الشروط المألوفة التي اعتاد أصحاب المطابع إدراجها في نماذج الكمبيالات التي يروجونها، في حين أنه من الواضح أن العقد كان موضوع دراسة وتفاوض وتدقيق، وبالتالي فهو يعبر عن إرادة الطرفين أكثر من الكمبيالة، فاستبعدت بـذلك شـرط إسناد الاختصاص إلى محاكم الدولة.

IV. في نظرية التبعية وامتداد الشرط التحكيمي المدرج في العقد الأصـلـي إلـى العقود الفرعية:

28. إن نظرية التبعية من النظريات العتيقة الراسخة في تاريخ القانون، إذ كرسها الرومان ثـم الفقه الإسلامي ومجلة الأحكام العدلية (1871–1876) والقوانين الحديثة، ولم يـضـع لهـا القانون التونسي نصاً عاماً، لكنه كرسها في عدة مواضع فـي نـصوص خاصـة تتعلـق خصوصاً بتسليم المبيع وتسليم المكرى ومفهوم العقار. ولذلك يعتبر الفقه التونسي أن نظرية التبعية مكرسة في القانون التونسي، كما هو شأن مصادر إلهامه (القانون الروماني، القانون الفرنسي، الفقه الإسلامي).

29. وقد اعتبر الفقه أن تطبيق نظرية التبعيـة théorie de l'accessoire يستلزم تـوافر عنصرين رئيسيين وهما: تفاوت الحجم أو القيمة، والعلاقة الوثيقة.

30. فبالنسبة للعنصر الأول المتعلق بتفاوت الحجم فإن الثابت أن الأصغر حجماً هو الذي يكـون تابعاً أو يمكن أن يكون تابعاً للأكبر حجماً أو قيمة. وبالنسبة للعقدين الحاليين، فـإن عقـد الكراء من توابع عقد الصنع دون ريب. فمعين الكـراء لا يتجـاوز سـتين ألـف دينـار (60.000) لكامل المدة التعاقدية المحددة بـ 23 شهراً (حوالي سنتين)، في حين أن ثمـن الأصل التجاري يبلغ ثلاثة ملايين دينار، فيما يبلغ المقابل المالي عن عمليـة التـدريب والمساعدة على صنع الأجبان لكامل مدة الـ23 شهراً نفسها مبلغاً لا يقل عـن 575 ألـف دينار بحساب 25 ألف دينار شهرياً (الفصل 10، فقرة ثانية، من عقد الصنع).

31. وبالنسبة للعنصر الثاني فهو واضح من عقد الكراء نفسه حيث جعل من توابع عقد الصنع ومستلزماته، واتفق الطرفان صراحة على أنه يدور معه وجوداً وعدماً فينتهي العمـل بـه بمجرد فسخ عقد الصنع. وهذه التبعية من حيث المآل هي التي تؤكد وجود العلاقة الوثيقـة بين العقدين.

32. وحيث توافر بذلك عنصرا التبعية وهما الصلة الوثيقة وتفاوت الحجم، بمـا يكـون مـعـه الأصغر حجماً أو أهمية تابعاً للأصل. وإن الأصل في العملية التعاقدية الحالية هو عقد الأصل التجاري، الذي تم لتنفيذه إبرام عقد الصنع، ثم عقد كراء المحل الـلازم لممارسـة النشاط الصناعي للمدعى عليها، ثم لمباشرة الالتزامات المتولدة عن عقد الصنع. فالكراء من ضرورات المعاملة وقد استوجبه الوضع ولم يكن معاملة مستقلة بذاتها. فلو انفسخ عقد بيع الأصل التجاري لانهار ما يتبعه من العقود، أي عقد الصنع ثم عقد الكراء. وحين ينهار عقد الصنع يتهاوى معه عقد الكراء.

33. ويتضح هكذا أن عقد الكراء إنما هو تابع من توابع باقي العقود الرئيسية الأخـرى، التـي تضمنت شرطاً تحكيمياً، لذلك اعتبرته المدعية في الأصل مشمولاً بما تتضمنه من الشروط الأفقية، وخاصة منها الشرط التحكيمي، وهو ما تأكد من سلوك المدعى عليها نفسها، حيـث قبلت بالتحكيم في الجزء الأهم من الخلاف المتعلق بالكراء الذي كـأن موضـوع التحكـيم الأول، ثم قبلت به أيضاً في قضية الحال بتوقيعها وثيقة المهمة في الجلسة التمهيدية دون أن تتمسك أو تشير إلى اعتزامها التمسك بعدم الاختصاص بما كان من الممكـن أن يستوجب (من الناحية الإجرائية) إصدار حكم تحكيم جزئـي sentence partielle يفصل في الـدفع بعدم الاختصاص. وإن سكوتها في كامل هذه المراحل يجعلها مشمولة بقرينة الفصل 50 من مجلة التحكيم الذي ورد فيه ما يأتي:

"يعتبر متنازلا عن حقه في الدفع كل طرف - "مع علمه بمخالفة شرط من شروط التحكـيم أو نص من نصوص هذا الباب التي يجوز للأطراف التمسك بها- يستمر فـي إجـراءات التحكيم دون أن يبادر إلى الدفع حالا أو خلال الأجل إن سبق تعيينه".

V. إنكار العدالة والتحكيم:

34. عابت "سكندي" على هيئة التحكيم أنها تورطت في إنكار العدالة، وذلك "باعتمادهـا منطقـاً شكلانياً أجوف" للتخلص من عبء القضاء في الخصومة وأبقت النزاع قائما ولـم تـسمح لأحد من الطرفين بأن يتقدم قيد أنملة نحو تسوية نهائية للنزاع، بل رفضت حتـى شـرح حكمها لتمكين المنوبة من أن تعرف ما تفعل بعد إبطال هذا الحكم التحكيمي أو حتـى بعـد رفض إيطاله. فالحكم لم يجزم بأن طالبة الإبطال (المدعية في الأصل) لا حق لها، بل قرر رفض الدعوى وعدم قبولها، ثم تسربت إليه فجأة عبارة "عدم سماعها"، وهو ما يـوحي أن المراد هو رفض الدعوى لسبب شكلي، بما يقر" حق المدعية في الأصل في القيام مجددا مع تجاوز الخلل الشكلي. ولو أفصحت هيئة التحكيم بموقفها بوضوح لما احتاجت "سكندي" إلى طلب إبطال حكم التحكيم، لأنه كان بإمكانها عندئذ بقضية أصلية جديدة أمام هيئـة تحكـيم جديدة أو حتى أمام المحكمة إن كان المقصود هو أن رفض الدعوى يعـزى إلـي بطـلان الشرط التحكيمي أو عدم امتداده إلى مادة النزاع. أما وقد تركت هيئة التحكيم الأمر مبهمـ بسبب امتناعها عن الفصل في الخصومة بأي وجه كان ذلك، فإن النتيجة الوحيدة التي آلت إليها كل الإجراءات هي أن النزاع ظل قائما برمته بعد صدور حكم التحكيم وقرار رفـض الشرح أو الإصلاح، كما أن المدعية لم تستطع أن تفهم إن كان عليها (بعد صـدور حكـم التحكيم) أن تقوم من جديد أمام هيئة تحكيم أخرى أم أن تقوم أمام محاكم الدولة، وهو مـا جعلها في حالة شلل تام منعها من تبين المسلك الإجرائي الذي عليها انتهاجه بعـد الحكـم التحكيمي السلبي.

35. ومن ثم فإن التحكيم بجميع مراحله لم يفض إلى حسم الخصومة، فاعتبرت الطاعنة أن حالة إنكار العدالة قائمة، لأن انكار العدالة يعني موضوعياً إبقاء النزاع قائماً على حالـه وعـدم الحسم فيه لصالح هذا الخصم أو ذاك. وليس القضاء برفض الدعوى شكلاً من صور إنكار العدالة، بل المراد فقط هو أن إنكار العدالة يكون قائماً إن لم يقض المحكم في الحقيقة بشيء وترك الحقوق تتأرجح، كما كانت عند بداية الإجراء التنازعي. وفي إنكار العدالـة خـرق للنظام العام يصير الحكم التحكيمي عرضة للإبطال.

VI. خاتمة:

36. أثار قرار محكمة الاستئناف بتونس في قضية سكندي إشكاليات جديدة تتعلـق خـصوصاً بالمنفذ بين قانون التحكيم والقانون الدستوري في بعض فروعه على الأقل، وفتح باباً جديداً للتظلم من أحكام المحكمين، أن محكمة الاستئناف حاولت أن توصد هـذا البـاب بـأن مع أرجعت النقاش إلى حضيرة مجلة التحكيم ومبادئها الإجرائية الصرفة. ونتوقـع أن تـشهد علاقة التحكيم بالقانون الدستوري ومبادئ حقوق الانسان تطورات أخرى، خصوصاً فـي علاقته بالحق في النفاذ الفعال إلى العدالة.

37. ومع أن هذا التعليق السريع ورد في صيغة إسهاب في شرح وجهة نظـر طـرف واحـد (المدعية في الأصل) فإنه يصلح على كل حال منطلقاً للنقاش.