الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / الإلتزام بالقواعد المتعلقة بالنظام العام / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 3 / مدى التزام المحكم بمراعاة النظام العام في منازعات التجارة الدولية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 3
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    203

التفاصيل طباعة نسخ

 

   لا شك في أن النظام العام هو من المسائل المهمة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار خلال مختلف مراحل التحكيم، وذلك لما لها من تأثير على مرحلة الاعتراف بحكم التحكيم النهائي وتنفيذه، وذلك إذا وجدت المحكمة المطلوب منها التنفيذ أن الحكم مخالف للنظام العام, وعلينا أن ندرك أن طريقة البحث عن مدى مخالفة النظام العام قد تختلف باختلاف تلك المراحل، فالنتيجة التي قد يتوصل إليها المحكم يمكن أن تختلف عن النتيجة التي يتوصل إليها القاضي في محكمة مكان صدور حكم التحكيم، خاصة عند اللجوء إلى استخدام مبدأ النظام العام لتحديد القانون الذي سيطبق على إجراءات التحكيم أو على موضوع النزاع. 

   إن السبب الرئيسي وراء هذا الاختلاف يرجع إلى الفرق بين دور المحكم ودور القاضي واعتبارات كيفية أدائهم مهماتهم. فالقاضي قد يأخذ على عاتقه دور الحارس للنظام القضائي المحلي وبالتالي فهو ملزم بإعطاء أولوية لتطبيق قواعد النظام العام المرتبطة بنظامه القانوني الداخلي وذلك على حساب أية قواعد أمرة أخرى مأخوذة من قانون أجنبي. أما في الجانب الآخر، فنجد أن دور المحكم في التحكيم التجاري الدولي" مختلف، فهو ليس حارساً لنظام قانوني محدد ولا يوجد له ولاء لنظام قانوني خاص بدولة معينة، إذ أن المحكم يستمد سلطته مباشرة من اتفاق الأطراف على التحكيم. وبالتالي فإن المحكم غير ملزم بحماية المصالح الوطنية لدولة معينة. 

  وبالرغم من ذلك، وكما سيتم توضيحه لاحقاً خلال هذه الدراسة، فإن على المحكم في منازعات التجارة الدولية واجب تزويد أطراف النزاع بحكم تحكيم قابل للتنفيذ، وهو ما يتطلب منه أن يأخذ في الاعتبار الالتزام باحترام القواعد الآمرة المختلفة الموجودة في قوانين الدول التي لها ارتباط وثيق بالنزاع.

 

1- واجب المحكم نحو احترام النظام العام 

    يمكن بشكل عام تقسيم واجبات المحكم إلى قسمين رئيسيين، الواجب الأول هو "واجب المحكم تجاه أطراف النزاع"، والثاني هو واجبه نحو "احترام الأنظمة القانونية التي سيتم تطبيقها على النزاع". وكما سنتعرف لاحقاً، فإن هناك جدل فقهي حول مصدر تلك الواجبات؛ إذ أن الواجب الأول (واجب المحكم تجاه الأطراف) يرجع إلى مصدر اتفاقي، وذلك على أساس افتراض أن المصدر الذي يضبط وينظم العلاقة بين المحكم وأطراف النزاع يرجع إلى عملية اختيار الأطراف للمحكم، وذلك حين يعرض الأطراف على المحكم تولي الفصل بالنزاع القائم بينهم وقبول الأخير بتولي هذه المهمة. أما الواجب الثاني (واجب احترام القواعد القانونية) فيمكن استنباطه من صفة المحكم بعد تعيينه وتكليفه بمهمة حل النزاعات. إذ أن المحكم يبدأ حينها بممارسة اختصاص يعود في الأصل إلى صاحب الاختصاص الأصيل في حل النزاعات وهو قضاء الدولة، وبالتالي يفرض هذا التكليف على المحكم الالتزام بضرورة الوصول إلى حكم عادل بين أطراف النزاع، كذلك يفرض عليه واجب إقامة التوازن بين مراعاة مصالح أطراف النزاع من ناحية ووجوب مراعاة مصلحة المجتمع أو المجتمعات التي قد تتأثر بنتيجة الحكم من ناحية أخرى. حيث يمكن ضبط التزام المحكم في ممارسة الواجب الأخير من خلال احترام المحكم للنظام العام وفقاً لما سيتم توضيحه خلال هذه الدراسة. 

   

  لتوضيح هذا الواجب لابد من إلقاء نظرة عامة على طبيعة التزامات أطراف النزاع والتزامات المحكم، ثم الانتقال بعد ذلك إلى فحص مدى التزام المحكم بمراعاة قواعد النظام العام.

 

2 - هناك التزامات متبادلة بفرضها اتفاق التحكيم

   يمكن وصف العلاقة بين أطراف النزاع والمحكم على أنها ذات طبيعة تعاقدية، وهو المفهوم الذي اتبعته أنظمة قانونية مختلفة. فالنظام القانوني الذي يوصف بالنظـام غـيـر المكتـوب - Common Law Jurisdiction" يعتبر هذه العلاقة على أنها "عقد لتقديم خدمات". أما الأنظمة القانونية التي توصف "بنظام القانون المكتوب – Civil Law Jurisdiction" فهناك اتجاهـان البعض يعتبر هذه العلاقة بأنها ذات مصدر تعاقدي، بينما ينظر إليها البعض الآخر على أساس أنها ممارسة لوظيفة عامة. وفي الفقه الإسلامي، وكذلك وفقا لما تأخذ به أغلب الأنظمة القانونية في الدول العربية التي تستمد مصدرها من الشريعة الإسلامية، ينظر إلى هذه العلاقة على أنهـا تقوم على أساس عقدي وذلك باعتبار أن العقد يتكون من "إيجاب" - عرض من أحد الأطـراف، يقابله "قبول" من الطرف الآخر. وعلى هذا الأساس فإن "الإيجاب" الذي يعرضه أطراف النزاع على المحكم لتولي مهمة الفصل بالنزاع يجب أن يقابله قبول من ذلك المحكم لتعيينه لتولي مهمة التحكيم، وذلك كشرط لتمام تشكيل هيئة التحكيم قبل البدء بإجراءات فـض النـزاع. وكنتيجـة لوجود هذه الرابطة العقدية يتولد عن ذلك التزامات متبادلة بين أطراف النزاع والمحكم.

 

3- التزامات أطراف النزاع

    خلال إجراءات التحكيم يتوجب على الأطراف التزام باحترام إجراءات التحكيم والامتثال لها، مثال ذلك: التزامهم بتزويد المحكم بأوراق الدعوى والبينات التي تثبت ادعـاءاتهم. 6 كـذلك التزامهم بتنفيذ القرارات الوقتية والتحفظية التي يصدرها المحكم أثناء إجراءات التحكيم لمساعدته في تسيير إجراءات التحكيم. مثال ذلك: حالة إصدار المحكم أمراً لأحد أطراف النزاع وإلزامه بتقديم مستند موجود تحت يده، إذ يتوجب على ذلك الطرف أن يمتثل لقـرار المحكـم كـذلك يتوجب على الأطراف التعاون بحسن نية خلال إجراءات التحكيم، وأن لا يقوم أي طرف بتعطيل سير الإجراءات. كما يتوجب عليهم الامتناع عن اتخاذ أي فعل من شأنه أن يعطل تنفيذ حكـم التحكيم النهائي.

 

   إضافة إلى ذلك يتوجب على الأطراف دفع تكاليف التحكيم وأتعاب المحكمين، سـواء كـان ذلك بدفع هذه التكاليف مباشرة إلى المحكمين أو من خلال مؤسسة تحكيم دائمة. كما يتوجـب على أطراف النزاع احترام النظام العام الخاص بالدول ذات الصلة بالنزاع، وعليهم أن يختاروا تطبيق القواعد أو القوانين التي لا تخالف مبادئ النظام العام الدولي، وذلك على نحو مـا ســتم توضيحه لاحقاً.

 

4- التزامات المحكم

   يتوجب على المحكم، كالتزام أسفي، أن يعترم مبدأ سلطان الإرادة أي أن يحترم إرادة أطراف النزاع التي تتجسد في شروط وبنود اتفاق التحكيم، كما يتوجب على المحكم التزام بإعطاء كل طرف من أطراف النزاع حقاً وفرصة متساوية في عرض دعـواه، كذلك عليـه احـتـرام وتطبيق ما اختاره الأطراف من قواعد قانونية وفقاً لما يجدونه مناسباً لحكم نزاعهم. إذ عندما يتفق الأطراف على تطبيق قواعد قانونية معينة عندها يتوجب على المحكم احترام هـذه الإرادة وذلـك بتطبيق تلك القواعد.12 حيث يعتبر إخلاله بهذا الالتزام على أنه إخلالاً بواجب يفرضه عليه اتفاق التحكيم، وقد يؤدي هذا الإخلال بالنتيجة إلى التغير على تنفيذ حكم التحكيم النهائي، حيث يستطيع الطرف الخاسر - بنتيجة التحكيم – أن يطعن في الحكم وذلك على أساس عـدم تطبيـق المحكـم للقانون الذي اتفق عليه أطراف النزاع.13 مما يوجب على المحكم أن يأخذ دوماً في الاعتبار بـان إهماله أو عدم تطبيقه للقانون الذي اتفق عليه الأطراف قد يترك فرصة لتعريض الحكم للبطلان. 

   لكن على رغم مما ورد أعلاه فإن المحكم لين متزماً في كل الأحوال بالطاعة العمياء الإرادة الأطراف، إذ أنه في أحوال معينة يستطيع إهمال إرادة الأطراف وذلك بتجنبه تطبيق القواعد القانونية التي اختاروا تطبيقها، خاصة في الأحوال التي يجد فيها المحكم أن تطبيق تلك القواعد قد يؤدي إلـى مخالفة المبادئ الأساسية للنظام العام في الدول التي يكون لها ارتباط وثيق بموضوع النزاع." هنـا يمكن القول بأن الأساس الذي يمكن وفقاً له تبرير قيام المحكم باستبعاد وإهمال إرادة الأطراف التـي اختارت تطبيق قواعد قانونية معينة، يستند إلى واجب المحكم تجاه المجتمع أو المجتمعات التي ترتبط بموضوع النزاع ارتباطاً وثيقاً، وأنه على أساس هذا الواجب، على المحكم أن يراعي احترام النظـام العام الخاص بتلك المجتمعات.

   بالنتيجة يمكن القول أنه بالرغم من أن المحكم لا يمارس وظيفة عامة مقارنـة مـع القاضـي المحلي، إلا أن التزامه بتزويد أطراف النزاع بحكم قابل للتنفيذ ينقي على عاتقه التزاماً بتحري صحة قراره وذلك من خلال مراعاته واحترامه لقواعد النظام العام للدول ذات الصلة الوثيقة بالنزاع.

 

5- واجب المحكم احترام قواعد النظام العام

بناء على ما تقدم، يمكن القول بأن التزام المحكم بمراعاة واحترام قواعد النظام العـام فـي

منازعات التجارة الدولية يستند إلى عدة مصادر، منها ما هو مستمد من الالتزام العقـدي الـذي

يتجسد في التزام المحكم بمراعاة مصالح أطراف النزاع وتزويدهم بحكم تحكيم قابل للتنفيذ.

وبالإضافة إلى هذا الالتزام، يترتب على المحكم التزامات ذات مصادر مختلفة تستمد من واجبـه بمراعاة مصالح المجتمع أو المجتمعات ذات الصلة بموضوع النزاع.15 ويترتب هـذا الالتـزام الأخير إذا أخذنا في الاعتبار بأن الالتزام الأساسي للمحكم هو الالتزام بالفصل بالنزاع من خلال إقامة العدل والمساواة بين الأطراف. وعلى المحكم، في ذات الوقت، أن يتحرى وجود أية عوامل قد تسبب إخلالاً بالنظام العام.16 بالنتيجة فإن على المحكم واجب تقدير نوعين مـن المـصالح؛

   الأولى هي مصالح أطراف النزاع، والثانية هي مصلحة المجتمع (الصالح العام)، إلا أنـه فـي النهاية على المحكم التزام تغليب مصلحة المجتمع وذلك من خلال مراعاة مبادئ النظام العام التي يفرضها ذلك المجتمع. وإضافة إلى ذلك، فإن المحكم قد عهد إليه مهمة الفصل بالمنازعات، وهي سلطة أجازها القانون، حيث يحل بموجبها المحكم محل قضاء الدولة، لذلك,  وبسبب هذه الرخصة التي منحها له القانون، يتوجب عليه مراعاة تطبيق قواعد النظام العام. 

   إلا أننا يجب في الوقت نفسه أن نأخذ في الاعتبار بأن المحكم ليس حارساً للنظام العام لدولة معينة، كما هو حال القاضي العادي الذي يمارس اختصاصه ضمن نطاق قانون دولته. لذلك لا يجوز أن نتوقع من المحكم بأن يكون ملزماً بشكل تام بتطبيق قواعد النظام العام لدولة محددة، إذ يتوقع من المحكم أن يراعي احترام النظام العام لأكثر من دولة ذات صلة بموضوع النزاع وذلك بسبب احتمال ارتباط منازعات التجارة الدولية بقوانين دول عديدة، منها على سبيل المثال: الدولة التي تمت فيها إجراءات التحكيم،17 والدولة التي تم أو من المتوقع أن يتم فيها تنفيذ جزء رئيسي من العقد مصدر النزاع، بالإضافة إلى النظام العام للدولة التي يتوقع أن يتم فيهـا تنفيـذ حكـم التحكيم.

   وهناك مصدر آخر لالتزام المحكم بمراعاة قواعد النظام العام، ويمكن استنباطه من التـزام المحكم بحماية قواعد وأعراف التجارة الدولية. هذا الرأي يعود إلى الفقيه "جوليان لـو الـذي يرى في المحكمين:

  "هم من يحرس النظام التجاري الدولي، وعليهم أن يقوموا بالدفاع عن حقوق المتعاملين في التجارة الدولية، وعليهم أن يراعوا التزامات الأطراف التي يفرضها العقد المبرم بينهم، وحمايـة الأعراف التي طورتها ممارسة التجارة الدولية والقواعد التي انبثقت عن المعاهدات الدولية، وأن يحترم المبادئ التي أفرزتها المجتمعات التجارية الدولية والتي تم توثيقها في العديد من الاتفاقيات الدولية .

   فإذا تم فحص النزاع، وبالنتيجة تم تأسيس حكم التحكيم وفقا لما تقدم، فـإن المحكـم بـذلك سيكون قد توصل إلى قرار قابل للتنفيذ، وهذا الرأي يتفق مع الاتجاهات الحديثة في مجال التحكيم التجاري الدولي، حيث يتوقع من المحكم أن يبذل جهداً لضمان صـحـة قـرار التحكــم الـذي يصدره .

   على سبيل المثال، تنص المادة 32 (2) من قواعد غرفة لندن للتحكيم والمادة 35 من قواعد غرفة التجارة الدولية على:

  "وفي كل الأحوال التي لم يتم الإشارة إليها صراحة في هذه القواعد، يتوجب على محكمـة المركز وهيئات التحكيم ممارسة أعمالهم وفقاً لروح القواعد وعليهم بذل الجهـد المـستطاع لضمان قابلية حكم التحكيم للتنفيذ وفق أحكام القانون"

   ويمكن لنا أن نضيف هنا أن قيام المحكم بفحص النزاع على أساس مراعاة قواعـد النظـام العام يعد بمثابة الفحص الأولي الذي يسبق دور المحكمة عند تنفيذ الحكم، مما يؤدي إلى زيـادة الثقة في التحكيم التجاري الدولي. 

   وبعد استعراضنا النقاط السابقة، يتوجب علينا الآن أن نبحث عن قواعد النظام العام الواجبة التطبيق في التحكيم التجاري الدولي.

 

6 - قواعد النظام العام الواجب مراعاتها من قبل المحكم

   بسبب طبيعة ارتباط العلاقات التجارية الدولية بالعديد من الدول وبالتـالـي تتعـدد الأنظمـة القانونية ذات الصلة، لذا يفترض بالمحكم في التحكيم التجاري الدولي أن يأخذ في الاعتبار العديد من الأنظمة القانونية عند بحثه عن قواعد النظام العام التي يتوجب مراعاتها، ولتوضيح ذلـك يمكن أن نقسم نطاق بحث المحكم إلى قسمين رئيسيين:

 1- البحث في النظام العام الخاص بالقانون الذي اختاره الأطراف لحكم النزاع.

 2- البحث عن قواعد النظام العام الملائمة للتطبيق.

 

1- النظام العام الخاص بالقانون الذي اختاره الأطراف لحكم النزاع

   إذا نص اتفاق التحكيم صراحة على تطبيق قانون دولة معينة، عندها يتوجب على المحكم تطبيق ذلك القانون وأن يراعي كافة القواعد الآمرة التي يتضمنها ذلك القانون. 22 لكن المشكلة التي يمكن أن تبرز هنا هي أنه في أحوال معينة قد يقوم الأطراف باختيار قانون أجنبي معـين بهدف تجنب تطبيق القواعد الآمرة لقانون دولة أخرى ذات صلة وثيقة بالنزاع " وكذلك هنـاك حالة أخرى توصف الاختيار السلبي للقواعد"، مثال ذلك: اتفاق الأطراف على استثناء تطبيق بعض نصوص القانون، خاصة القواعد الآمرة منه، التـي تتعـارض مـع مـصلحتهم 23 الخاصة. 

   ويعود مصدر هذه المشكلة إلى التطبيق المطلق لمبدأ "سلطان الإرادة" الذي يمنح الأطراف الحرية في اختيار القانون الواجب التطبيق على نزاعاتهم، إذ تصل حدود هذه الحرية إلى حـد إجازة قيام الأطراف بالاتفاق على تطبيق "المبادئ العامة للقانون" أو تطبيق "مبـادئ وقواعـد التجارة الدولية دون تحديد لقانون دولة معينة. ويعتقد البعض أنه استناداً الـى هـذه الحريـة المطلقة يستطيع الأطراف الاتفاق على تطبيق قانون دولة معينة مع اشتراط استثناء بعـض النصوص القانونية من التطبيق، خاصة تلك التي لا تناسـب أو تتعـارض مـع مـصالحهم التجارية.

   في مثل هذه الأحوال قد يجد المحكم نفسه أمام تنازع في الالتزامات – وهو علـى الأصـح تنازع في الولاء فمن ناحية يجد المحكم نفسه ملزماً تجاه الأطـراف بـأن يقـوم بالواجـب المفترض فيه، وهو واجب الفصل بالنزاع القائم بين الأطراف وفقاً لما اتفقوا عليـه وبـشكل لا يؤدي إلى تعطيل مصالحهم، بالتالي يفترض فيه أن يطبق القواعد التي اختارها الأطراف لحكـم نزاعهم. ومن ناحية أخرى يجد المحكم نفسه أمام التزامه نحو أداء مهمته على نحو مساو لالتزام القاضي، وبالتالي يتوجب عليه إعطاء الأولوية لحماية المصالح العامة في دولـة معينـة، لـذلك يتوجب عليه في هذه الحالة إهمال وعدم الأخذ بإرادة الأطراف تحت ذريعة حماية وعدم مخالفـة النظام العام. ويقصد بالمسألة الأخيرة أنه يتوجب على المحكم أن يقوم بفحص اتفاق الأطـراف وأن يتاكد من أن القانون الذي اختاروا تطبيقه على النزاع لا يشكل مخالفة للنظام العام في الدولة التي ترتبط بالنزاع ارتباطاً وثيقاً.

  بالنتيجة يمكن القول بأن مسألة حرية الأطراف المطلقة باختيار القواعد القانونية التي ستحكم نزاعهم هي بلا شك محل جدل، حيث لا يجوز للأطراف انتقاء نصوص أو أجزاء معينـة مـن القانون يرغبون في تطبيقها ويستثنون أجزاء أخرى، إذ عندما يقوم الأطراف باختيار قانون معين لحكم النزاع فإن ذلك يجب أن يشمل تلقائياً تطبيق المحكم لذلك القانون ككل، بما في ذلـك كـافـة القواعد الآمرة التي يتضمنها ذلك القانون. إضافة إلى ذلك، فإن أطراف النزاع والمحكمـين لا يتمتعون بسلطة تخولهم استثناء تطبيق ما وجده المشرع في دولة معينة ملزماً وواجب التطبيـق على كافة الأحوال والدعاوى." بالنتيجة نجد أن هناك حدوداً تقيد "مبدأ سلطان إرادة الأطـراف" وحريتهم في اختيار القانون الواجب التطبيق، وهذا يسري حتى على عمليات التحكيم التجـاري الدولي. وهنا تبرز فكرة مسؤولية المحكم في تعقيب أولوية حماية المصالح العامة على حماية المصالح الخاصة بأطراف النزاع. حيث تستند هذه الفكرة إلى طبيعة التزام المحكـم بـصفته "الحامي لنظام التجارة الدولية ، وبالتالي فإنه يتوجب عليه أن يستبعد اتفاق الأطـراف الـذي يؤدي إلى إهمال مراعاة أحكام النظام العام الخاصة بالقانون الذي له ارتباط وثيق بالنزاع وذلـك عندما تكون تلك الأحكام جزءاً من النظام العام الدولي.

 

2- البحث عن قواعد النظام العام الملائمة للتطبيق 

  لتوضيح المقصود بالبحث عن قواعد النظام العام الملائمة للتطبيق، علينا في البداية أن نميز بين هذه الحالة وحالة البحث عن القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع التي يقـوم بـهـا المحكم أو القاضي عند وجود تنازع قوانين وفقاً لأحكام القانون الدولي الخاص. إذ يمكن التمييـز بين هاتين الحالتين بسهولة، وذلك لأن الحالة الأولى قد تبرز بعد انتهاء المحكم من تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع. ولتوضيح هذه العملية نفترض أن المحكم قرر تطبيق قانون أجنبي معين على موضوع النزاع وذلك بعد فحصه للقانون الواجب التطبيق وفقاً لقواعد تنازع القوانين. وأنه بعد تحديد ذلك القانون الأجنبي من بين قوانين متعددة لها صلة بموضوع النزاع المعروض على التحكيم، قام أحد أطراف النزاع بالطعن أمام المحكم والإدعاء بأن تطبيـق ذلـك القـانون الأجنبي سيؤدي إلى نتيجة يمكن أن تخالف النظام العام الخاص بدولة أو أكثر من الدول التي لها ارتباط بموضوع النزاع.

   هنا على المحكم أولاً أن يبحث عن وجود علاقة أو رابطة وثيقة بين النزاع وبين النظـام العام الخاص بالدول الأخرى ذات العلاقة المطلوب حمايتها، وإذا اختلف الحكم القانوني بين تلك القوانين، سيجد المحكم نفسه أمام نوع جديد من التنازع وهو تنازعاً بين قواعد النظـام العـام" لمختلف الأنظمة القانونية المرتبطة بالنزاع. وهنا على المحكم أن يحدد قواعد النظام العام الواجبة التطبيق وفقاً لما سبجده الأنسب لحكم النزاع.

 

السؤال هنا هو ما هي قواعد النظام العام الملائمة التي تكون واجبة التطبيق؟ 

   يمكن أن نستعرض عدة احتمالات لمجموعة من الأنظمة القانونية الواجب مراعاتهـا عنـد البحث في هذه المسألة، وهي:

  - قواعد النظام العام لدولة مكان التحكيم.

  - قواعد النظام العام لدولة (أو الدول) التي يحتمل أن يتم فيها تنفيذ حكم التحكيم النهائي.

  - قواعد النظام العام للدول الأخرى التي لها ارتباط وثيق بالنزاع.

  - النظام العام الدولي.

  لا شك في أن هناك احتمال وجود صلة وثيقة بين النزاع مع كل من هذه الأنظمة القانونية.

  فيما يتعلق بالاحتمالية الأولى، وهي مراعاة قواعد النظام العام لدولة مكان التحكيم"، فيمكن بحثها من خلال فرضيتين: 

    - الفرضية الأولى تستند إلى إمكانية الطعن بحكم التحكيم أمام محكمـة الدولـة التـي صدر على إقليمها حكم التحكيم" وذلك على أساس مخالفة الحكم للنظام العام في تلك الدولـة. فإذا صدر قرار ببطلان حكم التحكيم عن محكمة مكان صدور الحكم فإن ذلك سيؤثر بالنتيجة على تنفيذ الحكم في دول أخرى إذا ما أخذنا فـي الاعتبـار اتفاقيـة نيويورك (الخاصـة بالاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها للعام 1958) التي تعتبر بطلان حكم التحكيم في الدولة التي صدر فيها الحكم سبباً لعدم تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي وفقاً للمادة 1/5/هـ مـن الاتفاقية.

 

  - والفرضية الثانية ترتبط بواجب المحكم عند ممارسته مهمة التحكيم، حيث يتوجب عليه

أن يأخذ بالحسبان دور قاضي دولة مكان التحكيم عند قيامه بالفصل بالمنازعات. وعلـى هـذا الأساس، إذا وجد المحكم أن موضوع النزاع أو القواعد التي اختارها الأطراف لحكـم النـزاع تشكل مخالفة للنظام العام في تلك الدولة، عليه التزام بأن يتخذ ذات الموقف الذي يمكن أن يتخذه القاضي في تلك الدولة، إذ من الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يطبق قاضي دولة مكان التحكيم ما تنص عليه قوانين دولته وأن يراعي النظام العام في تلك الدولة.

  وفقاً للفرضيتين السابقتين قد يظهر لنا، للوهلة الأولى، أن فحص صحة أية مسألة تثار أثناء التحكيم من حيث مدى موافقتها للنظام العام يجب أن يتم وفقاً لقواعد النظام العام الخاص بالدولـة التي يجري على إقليمها التحكيم.

   إلا أنه لا يمكن الاعتماد على هذه النظرية بشكل مطلق، إذ أن إجراءات التحكيم التجـاري الدولي قد تعقد في دول مختلفة، وليس بالضرورة وجود علاقة مباشرة بين النزاع ومكان التحكيم، خاصة وأنه يمكن للأطراف أو لهيئة التحكيم أن يختاروا دولة معينة كمكان للتحكيم لمجرد كونها دولة محايدة أو لقربها من الدولة التي تم فيها تنفيذ العقد محل النزاع. لذا قد لا يكون من الملائم أن يتقيد المحكم بمراعاة قواعد النظام العام لدولة مكان التحكيم وهو ما عبر عنـه الفقيـه (أوكيزى) برأيه

  "خلافاً لحال القاضي الوطني، فإن المحكم الدولي لا يترتب عليه التزاماً بالولاء لقوانين مكان التحكيم، إذ يستطيع المحكم أن يعقد جلسات التحكيم في دول عديدة، لذلك مـن غيـر الواقعي أن نقيد المحكم بتطبيق قواعد النظام العام لدولة مكان التحكيم، فهو ليس مقيـداً بالولاء لتطبيق كافة القواعد القانونية الآمرة الخاصة بتلك الدولة وذلك بشكل مساو لما يلتزم به القاضي".

   لكن، مع ذلك ، يجب 39 أن لا تغفل الواقع العملي الذي يفرض على المحكـم واجـب مراعـاة النظام العام في دولة مكان التحكيم، ونجد أن المادة (1/5/هـ) من اتفاقية نيويورك تتضمن حكماً يؤيد هذه النظرية، إذ أن عدم مراعاة النظام العام لدولة مكان التحكيم قد يعرض الحكم للبطلان في تلك الدولة، وذلك إذا ما تم الطعن بحكم التحكيم أمام محاكم تلك الدولة. فإذا حكـم بـبطلان الحكم لمخالفته للنظام العام فإن ذلك قد يؤدي إلى رفض تنفيذ حكم التحكــم فـي دول أخـرى. وبالنتيجة نجد أن المحكم لا يستطيع تجاهل قواعد النظام العام في دولة مكان التحكــم سـواء كانت تلك القواعد ذات طبيعة إجرائية أو كانت ترتبط بموضوع النزاع. فعلى سبيل المثال، إذا كان تصرف معين يعد من التصرفات المخلة بالأسس الاجتماعية العليا في دولة ما، عندها سيتم اعتبار إجراءات التحكيم التي تتم على إقليم تلك الدولة باطلة وغير نافذة حتى وإن كان تنفيذ حكم التحكيم سيتم في دولة أخرى تعتبر ذلك التصرف مشروعاً.

   وبالرجوع إلى الاحتمالات الأخرى السابق ذكرها، يمكن أن نضيف أن على المحكم أن يأخذ في الاعتبار قواعد النظام العام للدول التي لها صلة وثيقة بالنزاع وذلك طالما كان من المحتمـل أن تتأثر مصالح تلك الدول بالنزاع سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، خاصة إذا كان اتفـاق الأطراف يخفي تصرفات غير مشروعة قد تؤدي إلى مخالفة جسيمة للنظام العام في تلك الدول. على سبيل المثال: إذا تضمن موضوع النزاع تهديداً للأمن الاجتماعي لدولة ما عندها يتوقع من المحكم أن يراعي النظام العام لتلك الدولة.42 ولابد من الإشارة في هذا الخصوص إلى النصوص المميزة التي تضمنتها الاتفاقية الأوروبية للعام 431980 التي أشارت إلى الحلول الواجب إتباعها في حالة وجود تنازع بين قواعد النظام العام المطبقة في الدول الأطراف فـي الاتفاقيـة، حيـث تتضمن المواد (3/3) و(7) و(16) ضوابط إرشادية لتحديد قواعد النظام العام الواجبة التطبيق.

تنص المادة (7):

  "يتوجب عند تطبيق هذه الاتفاقية مراعاة القواعد الآمرة لأية دولة يكون بينها وبين المسألة المطروحة ارتباطاً جوهرياً، خاصة في الأحوال التي تنص فيها قوانين تلك الدول على وجـوب تطبيق تلك القواعد بغض النظر عن القانون الواجب التطبيق على العقد".

 

كذلك تنص المادة (16):

   لا يجوز رفض تطبيق القواعد القانونية لآية دولة طرف في هذه الاتفاقية إلا في الأحـوال التي يكون فيها تطبيق تلك القواعد يشكل مخالفة جوهرية للنظام العام". 

   وعلى المحكم كذلك أن يراعي النظام العام الخاص بالدولة التي يحتمل أن يتم فيها تنفيذ حكم التحكيم، وأن يبذل الجهد اللازم للتأكد من أن حكم التحكيم الصادر عنه قابل للتنفيذ، وذلـك مـن ،  خلال تأكده من خلو الحكم مما قد يخالف النظام العام في تلك الدولة. 

  لكن بالرغم مما سبق ذكره أعلاه، من الصعب القول بأن على المحكم مراعاة تطبيق النظام العام لجميع الأنظمة القانونية. إذ أن ذلك سيواجه عقبات عديدة من الناحية العملية. فمن ناحيـة، يصعب سيصعب على المحكم مراعاة كافة القواعد الآمرة النافذة في دولة مكان التحكيم، وأن يراعـي بذات الوقت النظام العام الخاص بالدول الأخرى التي يكون لها صلة وثيقة بالنزاع. كذلك . على المحكم أن يقوم بإجراء بحث موضوعي لكافة الأنظمة القانونية، إذ أنه من شبه المستحيل أن يقوم المحكم بالبحث العملي في كل نزاع عن كافة قواعد النظام العـام الخاصـة بقـوانين دول متعددة. إذ قد لا يتوافر للمحكم الوقت أو حتى المعرفة العلمية للقيام بهذه المهمة الصعبة. لذلك يكون أقرب للمنطق بأن يقوم المحكم عند بحثه عن قواعد النظام العام الواجبة التطبيق أن يؤسس حكمه على فكرة أكثر مرونة وذلك من خلال مراعاة قواعد النظام العام المتعارف عليها دوليـاً، باعتبارها الأنسب لحكم علاقات التجارة الدولية.45

 

7- تطبيق المحكم قواعد النظام العام الدولي

  إن قيام المحكم بمراعاة النظام العام الدولي على منازعات التجارة الدولية سيوفر لـه آليـة ملائمة لتجنب مشكلة تنازع قواعد النظام العام. ويبرر ذلك عدة أسباب: 

   -أولاً، يتمتع المحكم التجاري الدولي بفرصة أفضل من فرصة القاضي العادي من حيث فهمه لما تحتاج اليه عمليات التجارة الدولية، وهذا السبب بالذات هو من الأسباب التـي تـدفع أطراف العلاقات التجارية الدولية لتفضيل اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي كوسيلة لفـض النزاعات. 

  -ثانياً، إن المحكم، في عمليات التحكيم التجاري الدولي، ليس مقيداً بقانون معين أو بنظام عام لدولة معينة. ولا يتوقع من المحكم التجاري الدولي الالتزام بالنظام العام الداخلي الذي تشكل وفقاً لمعايير محلية ونظام قانوني داخلي في دولة ما، خاصة وأن مثل هذه المعايير عادة ما تكون موضوعة لحكم العلاقات الداخلية في تلك الدولة. وهو الاتجاه الذي أتبعته قواعد غرفة التجـارة الدولية. ففي نزاع بين طرف إيطالي وآخر بلجيكي، وكان القانون الإيطالي هو الواجب التطبيـق على النزاع، رفض المحكم تطبيق القواعد الآمرة للقانون البلجيكي وذلك على أساس أنها غيـر ملزمة للمحكم في نزاع تجاري دولي.

 

   خلاصة لما سبق، يجب القول أن على المحكم أن يصدر حكم تحكيم مبني على أسس قانونية صحيحة حتى يكون حكمه قابلاً للتنفيذ، لذلك عليه أن يكون حريصاً عند اختياره للقواعد التي سيطبقها على التحكيم، إذ لابد من أن يتحقق من وجود علاقة وثيقة بين تلك القواعد وموضوع النزاع، وأن لا تبتعد تلك القواعد عما يتوقعه الأطراف من نتائج قانونية. كذلك عليه أن يتجنب قدر الإمكان أي تعارض بين القانون الذي يتم اختياره مع النظام العام الخاص بالدول الأخرى التي لها صلة وثيقة بالنزاع، فسواء كانت دولة مكان التحكيم، أو الدولة التي يحتمل أن يتم فيها تنفيذ حكم التحكيم، أو النظام العام للقانون الذي اختار الأطراف تطبيقه على النزاع أو النظام العام للدولة التي سيتم فيها تنفيذ الالتزام العقدي فإنه يتوجب على المحكم أن يحترم ويراعي جميع هذه الأنظمة القانونية طالما وجد المحكم، وفق تقديره، بأن هذه الأنظمة واجبة المراعاة. لكن ذلك يجب  أن لا يؤدي إلى الاعتقاد أن المحكم التجاري الدولي ملزم بتطبيق النظام العام بمفهومه الداخلي، أي الخاص بمجتمع معين، وذلك على علاقات التجارة الدولية. إذ على المحكم أن يقوم بقدر من التحري والبحث عن قواعد النظام العام التي تعتبر ذات أهمية جوهرية لحماية المصالح الوطنية والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية الأساسية التي لا يسمح قانون الدولة "في أي حال من الأحوال" بمخالفتها عن طريق تطبيق قوانين دولة الأخرى." 

 

الممسوحة ضوئيا بـ CamScanner