والجدير بالذكر أن العديد من القوانين ونظم التحكيم المختلفة قد تجاهلت الإشارة في نصوصها إلى مسئولية المحكم عن قيامه بمهمته التحكيمية تجاه اطراف خصومة التحكيم أو الغير، في حين نجد بعض التشريعات قد نصت صراحة على منح المحكم حصانة قضائية تحول دون إقامة دعوى مسئولية عليه في حالة الإخلال بالتزاماته، في حين بعض القوانين ونظم التحكيم
الأخرى كانت أكثر شجاعة، وأوردت بعض النصوص التشريعية التي تتحدث بشيء من الغموض عن مسئولية المحكم عن الأخطاء التي قد تقع منه أثناء قيامه بمهمته التحكيمية.
وترتب على اختلاف التشريعات وقوانين التحكيم في شأن تقرير مسئولية المحكم، أن تعددت الاتجاهات القضائية في معالجة هذا الموضوع، واختلفت اختلافا واضحا يدعو إلى الحيرة والغموض.
وتعتبر إرادة أطراف التحكيم، واتفاق التحكيم، هما أساس سلطات المحكم، وهذه السلطات ساعدت على تمكين المحكم من تسيير و إدارة إجراءات التحكيم بسرعة وفاعلية، وهذا التمكين ليس بهدف استعمال سلطاته حسب رغبته وسلطته وقتما يشاء، إنما هو مقيد بالمهمة التحكيمية التي قبل القيام بها.
حيث يستعمل السلطات الممنوحة له في تحقيق المصلحة التي يسعى أطراف التحكيم للوصول إليها، ومن ثم فإن استخدم هذه السلطات خارج الحدود المرسوم لها، يكون قد وضع نفسه تحت طائلة المسئولية القانونية.
وقد ساهم الغياب التشريعي والوطني والدولي المسئولية المحكم في عملية التحكيم بكل جوانبها في عدم وضوح الإطار العام لالتزامات المحكم، كذلك عدم تعرض الأحكام القضائية لتقييم دور المحكم وما يفرضه عليه من التزامات.
والتزامات المحكم سواء أكانت التزامات قانونية أم اتفاقية تبدأ بمرحلة سابقة على قبول المحكم لمهمة التحكيم، هذه المرحلة هي مرحلة ترشيح
أطراف التحكيم أو القضاء، أو هيئات تحكيم دولية للمحكمين الذين ينوبون عن أطراف التحكيم، وهذه الالتزامات قد تتمثل في الالتزام بالإفصاح بالقبول المباشرة مهام التحكيم الأطراف النزاع أو ممثليهم. ثم يلي ذلك مرحلة سير الخصومة، وصولا لمرحلة إصدار حكم التحكيم. ۔
وفي المقابل هناك العديد من الحقوق للمحكم بمثابة التزامات تقع على عاتق المحتكمين، هذه الحقوق منها ما ورد النص عليه في التشريعات والقوانين واللوائح، ومنها ما هو اتفاقي ورد في نص اتفاق التحكيم وفقا لما يتراضي عليه المحكم والمحتكمون، وتمثلت هذه الحقوق في حق المحكم في تقاضيه أتعاب التحكيم، وكذلك حق المحكم في عدم عزله بدون مبرر، أو التنحي بمبرر مقبول، وكذلك حق المحكم في الحصانة.
وترتبط طبيعة مسئولية المحكم ارتباطا وثيقا بطبيعة علاقته بأطراف النزاع التحكيمي، وبطبيعة عمله كقاض خاص يقوم بمهمة قضائية خاصة بناء على اختياره من طرف النزاع التحكيمي؛ لذا فتحديد مسئولية المحكم تقتضي تحديد النظام القانوني للمحكم.
طبيعة التزامات المحكم:
يعرف الالتزام بأنه "واجب قانوني يقع على عاتق شخص معين يلزمه أن يقوم بأداء مالي أو عيني لصالح شخص آخر معين أو قابل للتعيين، يسمى الدائن، فالالتزام بذلك له عنصران:
- عنصر شخصي: يتمثل في الرابطة بين الدائن والمدين.
وعنصر مالي: يتمثل في محله الذي يعتبر حقا للدائن، ودينا في ذمة المدين، وكل التزام له هذان العنصران، ولكن البعض يغلبون العنصر الشخصي على الالتزام، وهؤلاء هم أنصار المذهب الشخصي، فيرون أن العنصر الجوهري في الالتزام هو محل الالتزام أو موضوعه.
وقد قال بهذه النظرية الفقهاء الألمان، وتأثر بها الفقهاء الفرنسيون في أوائل القرن العشرين)، وإذا كان الالتزام في جميع صوره واجبا قانونا.
وتنقسم الالتزامات من حيث مصدرها إلى الالتزامات الإرادية، وتجد مصدرها في اتفاق التحكيم أو الإرادة المنفردة، والتزامات غير إرادية، وقد يكون مصدرها الفعل الضار أو العمل الغير مشروع، وقد يكون الفعل النافع مثل الإثراء بلا سبب، أو قد يكون نص القانون. ۔
وفي إطار هذا التقسيم للالتزامات، يعتبر التزام المحكم بإصدار حكم تحكيمي ملزم خلال مهلة التحكيم هو التزام إرادي مصدره عقد التحكيم المبرم بين المحكم و أطراف التحكيم.
ويقع عبء إثبات عدم تنفيذ الالتزام على أطراف التحكيم، فعليه أن يثبت عدم بذل المحكم العناية المطلوبة، والأصل أن يتعهد الملتزم ببذل عناية بما يبذله الشخص المعتاد في مثل ظروفه، ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غير ذلك.
وفي إطار هذا التقسيم للالتزامات، يعتبر التزام المحكم بإصدار حكم تحكيمي ملزم خلال مهلة التحكيم هو التزام ببذل عناية؛ لأنه التزام يدخل ضمن إمكانية وإرادة المحكم، فقد تتدخل أمور خارجة عن إرادة المحكم تمنع إصدار الحكم التحكيمي خلال ميعاد التحكيم، بينما التزام المحكم بالقيام بالمهمة التحكيمية هو التزام بتحقيق نتيجة؛ لأنه التزام يدخل ضمن إمكانية وإرادة المحكم.
ومن الالتزامات التي تفرض على المحكم دون حاجة لنص يقررها ضرورة الحفاظ على المستندات المقدمة إليه، وعدم إفشاء مضمونها للغير حتى بالنسبة لمساعديه أو القائمين على مؤسسات التحكيم التي يعمل في ظلها، ويمتد التزام المحكم بالمحافظة على أسرار الخصوم إلى كل ما يتعلق بالمعلومات والوقائع التي تصل إليه بمناسبة توليه للمهمة، وتعهد النزاع في مراحله المختلفة وحتى صدور الحكم بالعناية اللازمة، مراعية دقة الإجراءات وفعاليتها حريصا على إتمامها في الشكل والميعاد المتفق عليه، أو المقرر قانونا.
ومن الالتزامات التي تقع على عاتق المحكم أيضا
- عدم تفويض سلطاته للغير.
- وعدم التنحي إلا لأسباب جدية، وإخطار الأطراف بذلك في وقت مناسب.
- وعدم التعامل في المال المتنازع عليه.
التعاون مع زملائه المحكمين، والعناية في اختيار المحكم الثالث عند تفويضه في اختياره مراعيا توافر كافة الشروط القانونية والاتفاقية الواجب توافرها فيه.
- كما يلتزم بعدم الاتصال بأحد الأطراف في غيبة الآخر، أو قبول
هدية منه.
- ويمتنع عليه استخدام أية معلومات نمت إليه من خلال معرفته بالنزاع، وهذا الالتزام به جانب أخلاقي في مواجهة الأطراف، احتراما لما أولوه للمحكم من ثقة، واحتراما لمهنته ذاتها.
- وأخر قانوني يتمثل في مسؤوليته قبل الخصوم عن الإخلال بالتزامه بالسرية.
ولو نظرنا إلى مهام المحكم سنجد أن معظمها يتطلب منه القيام بعمل وتنفيذ تصرف محدد، فالالتزام بإصدار الحكم هو الالتزام الرئيسي، إلا أنه ليس الالتزام الوحيد على عاتقه.
ونظرا لتفرع التزامات المحكم في مراحل التحكيم المختلفة، فسوف نقوم بتناول الالتزامات الرئيسية في مرحلة الترشيح، وأثناء سير الإجراءات، والالتزامات في مرحلة إصدار الحكم كالمداولة والتسبيب و إيداع القرار.