المحكم وهيئة التحكيم / تمييز عقد التحكيم المبرم بين المحكم وأطراف التحكيم وغيره من النظم الأخرى / الكتب / التحكيم وبطلانه بين التشريع الإسلامي والتشريعات الوضعية / توجهات الفقهاء حول صفة المحكمين
اختلف الفقهاء في صفة الحكمين - في معرض كلامهم عن المحكمين في الشقاق بين الزوجين - هل هما حاكمان ، أو وكيلان على قولين:
الأول : أنهما وكيلان، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي في قول ، وأحمد في رواية وقول عطاء والحسن بن أبي الحسن .
الثاني : أنهما حاكمان ، وهذا قول أهل المدينة ، ومالك ، وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر وروى ذلك عن علي وعثمان وابن عباس وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي والنخعي وسعيد بنجبير والأوزاعي، وإسحاق ، وابن المنذر وحكاه ابن كثير عن الجمهور وقال ابن عطية هو مذهب مالك والجمهور من العلماء .
وقال ابن شاس من المالكية : المبعوثان حكمان لا وكيلان ، وإن كان البعث من جهة الزوجين ألا ترى أن للزوجين د خولا في التحكيم ، ولا مدخل لها في تمليك الطلاق . وقال ابن العربي في قوله تعالى " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها "، هذا نصمن الله سبحانه في أنهما حاكمان لا وكيلان ، وعند الشافعية هما وكيلان في الأظهر، وفي قول هما حاكمان موليان من الحاكم واختار الثاني جمع من الشافعية .
وعند الحنابلة قال في المغنى : اختلفت الرواية عن أحمد في الحكمين ، ففي إحدى الروايتين عنه : أنهما وكيلان لهما لا يملكان التفريق لهما إلا بإذن منهما . والثانية أنهما حاكمان ، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض ، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولارضاهما .
وحجة من قال إنهما وكيلان : أن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه الابوكالة منهما ، أو ولاية عليهما ، ولأن الطلاق لا يدخل تحت الولاية إلا فيالمولى ، وهو خارج عن القياس .
واحتج الإمام الجصاص بقولاً صحابه من الحنفية فقال : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها ، فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما ، لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فليس للحكمين انيفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ، وإنما الحكمانو كيلان لهما ، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك .
ثم قال : كيف يجوز للحكمين أنيخلعا بغير رضاه ، ويخرجا المال عن ملكها ، وقد قال الله تعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طين لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئاً " ، وقال تعالى : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا الا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ، وهذا الخوف المذكورههنا هو المعني بقوله تعالى : " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " ، وحظر الله على الزوج أخذ شئ مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما الا يقيما حدود الله ، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت ، وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما ، وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شئ مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب .
وقال أيضا : إن في فحوى الآينما يدل على أنه ليس للمحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى : "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، ولم يقل إن يريدا فرقة ، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه . وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده ، فإن كان الزوج هو الظالمانكرا عليه ظلمه ، وقالا له : لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك ، وإن كانت هي الظالمة قالا له : قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع كانا مع ماذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحافهما في حال شاهدان ، وفي حال مصلحان ، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق . وأما قول من قال : إنهما يفرقانويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة .
واحتج من قال بأنهما حاكما نبأدلة كثيرة منها :-
أن رجلا وامرأة أتيا ، عليا مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فبعثوا حكمين ثم قال علي للحكمين : هل تدريان ما عليكمـا مـن الحـق ؟ عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتها ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتها فقالت المرأة ترضيت بكتاب الله علي ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت حتى ترضى بما رضيت به وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك ، ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت عتبة فتخاصما فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس وحكما من أهلها معاوية ، فقالا بن عباس : لأفرقن بينهما وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فلما بلغا الباب كانا قد غلقا الباب واصطلحا .
إن الله تعالى قد نصبهما حكمين ، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين، ولو كانا وكيلين لقال فليبعث وكيلا منأهله ، ولتبعث وكيلا من أهلها ، فلو كانا وكيلين ، لم يختصا بأن يكونا من الأهل . إن الله جعل الحكم إليهما فقال : " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ، والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكلهما إن الوكيل لا يسمى حكما فيلغة القرآن ، ولا في لسان الشارع ، ولا في العرف العام ولا الخاص، فإن للوكيل أسمفي الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كلواحد منهما فلا ينبغي لأحد أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسير المحكمان بإذن الله ، ويخلصان النية لوجه الله ، وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما .
الحكم من له ولاية الحكمو الإلزام ، وليس للوكيل شيء من ذلك . الحكم أبلغ من حاكم ، لأنهصفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك ، فإذاكان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض ، فكيف بما هو أبلغ منه. ان الله سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين ، وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمرأة غيرهما وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : " وإن خفتم شقاق بينهما " ، فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ، ووكيلا من أهلها ، ومعلوم بعد لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه . بعث عثمان بن عفان عبد اللهبن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقيل لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما .
وصح عن علي بن أبي طالب أنهقال للحكمين بين الزوجين ، عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتها. فهذا عثمان ، وعلي ، وابنعباس ، ومعاوية ، جعلوا الحكم إلى الحكمين ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم .
ومن عرض الرأيين وأدلتهما يظهر رجحان القول بأنهما حاكمان ظهورا بينا ، ويتفرع على القول بأنهما حكمان أو وكيلان أمور منها :
إذا قلنا : إنهما وكيلان ، فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض، أو لا يجبران ؟ فإن قلنا : يجبران ، فلم يوكلا، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين، وإن قلنا : إنهما حكمان ، لم يحتج إلى رضى الزوجين .
ومنها : ما لو غاب الزوجان أو احدهما ، فإن قيل : إنهما وكيلان ، لم ينقطع نظر الحكمين وإن قيل : حكمان ، انقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب ، وقيل : يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتصرفا نلحفظهما فهما كالناظرين. وإن جن الزوجان ، انقطع نظر الحكمين ، إن قيل : إنهما وكيلان ، لأنهما فرع الموكلين ، ولم ينقطع وإن قيل : إنهما حكمان لأن الحاكم يلي على المجنون . وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما ، فكأنهما وكيلان، ولا ريبأنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة ، ووكيلان منصوبان للحكم ، فمن العلماء من رجحجانب الحكم ، ومنهم من رجح جانب الوكالة ، ومنهم من اعتبر الأمرين .