1- إن عقد التحكيم بين الفرقاء من ناحية، وبين المحكم من ناحية أخرى، هو عقد متبادل، وإن كان ذا طبيعة خاصة 1(sui generis).
ويضع هذا العقد المتبادل موجبات والتزامات على المحكم. ومن هذه الالتزامـات أن يتـابع مهمته حتى نهايتها أي حتى إصدار الحكم في النزاع الذي أحيل عليه للفصل فيـه، وهـذا الالتزام هو التزام بنتيجة، في حين أنه يترتب على المحكم التزامات وسيلة أخرى في أدائـه لمهامه.
2- ترتبط استقالة المحكم بموضوع تعيينه وقبول مهمـة التحكيم، فعقـد التحكـيم لا يـسري ولا تكون له أية مفاعيل إلا بعد قبول المحكم مهمتـه. ذلـك أن قبـول المحكـم المهمـة هو شرط تعليق لسريان التحكيم. ويمكن أن يكون القبـول صـريحاً أو ضـمنياً، فيكـون ضمنياً عند قبول المحكم القيام بإجراءات التحكيم، وإذا لم يقبل المحكـم التعيـيين، لا يعـود من مجال للبحث في موضوع استقالته. ويعتبر التحكيم ساقطاً في لبنـان، عمـلاً بأحكـام الفقرة الأخيرة من المادة 766 من قانون أصول المحاكمات المدنيـة التـى تـنص علـى ما يأتي:
"يعتبر عقد التحكيم ساقطا إذا رفض المحكم المعين فيه المهمة الموكولة إليه"
وسبب ذلك أن تعيين المحكم قائم على الاعتبار الشخصي أي علـى الـصفات الشخـصية الخاصة بالمحكم.
أما إذا قبل المحكم القيام بمهمته، فيعتبر ذلك التزاماً تعاقدياً يرتّب عليه القيـام بـإجراءات التحكيم حتى صدور القرار التحكيمي.
وقبول التحكيم أو رفضه يعود تقديره لاستنساب المحكم المطلق، ولا مسؤولية عليـه ولا تثريب إذا رفض التحكيم. وإذا لم يتفق الفرقاء على تعيين محكم جديد، يعود الأمر للمحـاكم المختصة للنظر في موضوع النزاع.
وحيث لا ينال مما تقدم أن يكون التحكيم المتفق عليه مطلقاً، إذ إن الأحكـام المقـررة فـي المادتين 764 و766 أ.م.م. جاءت عامة وشاملة لكل العقود التحكيمية وسواء أكانت تنطوي على تحكيم عادي أم على تحكيم مطلق،
وحيث بالعودة الى البند التحكيمي المتفق عليه بين الفريقين، يتبـين أنهمـا قـد اخـتـارا السيد...... محكماً أصيلاً وأناطا به مهمة تعيين المحكمين الآخـرين، ولـم يـضمنا البنـد المذكور أية آلية يمكن إتباعها في سبيل تعيين الحكمين في حال عـدم قبـول الـسيد...... للمهمة الموكولة إليه، الأمر الذي يفضي الى سقوط البند التحكيمي، والى اعتبار اختصاص هذه المحكمة منعقداً لنظر الدعوى الراهنة، فيرد الدفع بانتفاء الاختصاص لوقوعه في غيـر محله وتقبل الدعوى شكلا".
ويقوم تساؤل إذا كان يجوز قبول المحكم التحكيم معلقاً على شرط.
وقليلة، إن لم تكن نادرة، هي حالات قبول المحكم التحكيم بشروط. ومثال ذلك، عند هيئة تحكيمية، أن يعلق المحكم المعين من أحد الفرقاء قبوله المهمة على معرفتـه بـاسـمى المحكمين الآخرين لخشيته أن لا يكون أحدهم على القدر المطلوب من الكفاءة أو النزاهة أو الاستقامة أو لأي أسباب أخرى. فهل يحق له ذلك؟
وبرأينا أن لا مانع من ذلك. فلئن احتفظ المحكم لنفسه بهذا الشرط في متن قبولـه المهمـة جازت له الاستقالة من مهمة التحكيم إذا لم يوافق المحكم على قبول المهمة بأسباب تتعلـق بأحد المحكمين الآخرين أو بكليهما.
3 - إن استقالة المحكم تعني انقطاعه عن ممارسة مهامه. وحالة الاستقالة هـذه ليـست الحالـة الوحيدة التي ينقطع فيه المحكم عن ممارسة مهامه، بل ثمة حالات أخـرى يتوقـف عمـل المحكم عن ممارسة مهامه، مما يقتضي معه إقامة التفريق بين هذه الحالات جميعاً، وهـذه الحالات هي الرد والعزل والتنحي.
أ - الرد:
تنص المادة 770 من قانون أصول المحاكمات المدنية على أن أسباب رد المحكـم هـي الأسباب ذاتها التي يرد بها القاضي، وهي التالية:
1- إذا كان له أو لزوجه أو لخطيبه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الدعوى ولو بعـد انحلال عقد الزواج أو الخطبة.
2- إذا كان بينه وبين أحد الخصوم أو وكيله بالخـصومة أو ممثلـه الـشرعي قرابـة أو مصاهرة من عمود النسب أو الحاشية لغاية الدرجة الرابعة ولو بعد انحلال الزواج الذي نتجت منه المصاهرة.
3- إذا كانت له صلة قرابة أو مصاهرة لغاية الدرجة الرابعة بأحد أعـضاء مجلـس ادارة الشركة المختصة أو بأحد مديريها، وكانت لهذا العضو أو المدير مصلحة شخـصية بالدعوى.
4- إذا كان أو سبق أن كان وكيلاً لأحد الخصوم أو ممثلاً قانونياً له أو كان أحد الخصوم قد اختاره محكماً في قضية سابقة.
5- إذا كان قد سبق له أو لأحد أقاربه أو أصهاره لغاية الدرجة الرابعة أن نظر في الدعوى قاضياً أو خبيراً أو محكماً أو كان قد أدى شهادة فيها. وتستثنى الحالة التي يكون فيهـا ناظراً في الاعتراض أو اعتراض الغير أو إعادة المحاكمة ضد حكم اشترك فيه هو أو أحد أقاربه أو أصهاره المذكورين.
6- إذا كان قد أبدى رأياً في الدعوى بالذات، ولو كان ذلك قبل تعيينه في القضاء. ولا يصح اثبات هذا الأمر إلا بدليل خطي أو بإقرار القاضي.
7- إذا كانت بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل. ولا يستهدف القاضي للرد لسبب التحقير الذي يوجهه له أحد الخصوم.
8- إذا كان أحد الخصوم دائناً أو مديناً أو خادماً للقاضي أو لأحد أقاربـه لغايـة الدرجـة الثانية.
وعلى المحكم، كما على القاضي أن يعرض تنحيه من تلقاء نفسه في الأحوال المذكورة أعلاه.
وفي لبنان، يقدم طلب الرد الى غرفة المحكمة الابتدائية الكائن فـي منطقتهـا مـركـز التحكيم، وذلك خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ علم طالب الرد بتعيين المحكـم أو تاريخ ظهور سبب الرد بعد ذلك. أما في التحكيم المحال الى غرفة التجـارة الدوليـة، وهو التحكيم الذي يحيل الى مؤسسة لإجرائه، فإن بت طلب الرد يعود الـى المحكمـة التحكيمية لدى غرفة التجارة الدولية، ومدة تقديم طلب الرد هي ثلاثون يوما بدلا مـن خمسة عشر يوماً.
ب- التنحي:
يحصل التنحي عندما يجد المحكم أنه قد أصبح في حالة من حالات الرد تفرض عليه عـدم السير بإجراءات التحكيم، كأن يتولى وظيفة لا تأتلف مع كونه محكماً، كتولي القـضـاء مـثلاً، أو يعقد قرانه على أحد الخصوم أو وكيله.
وفي قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي، تجيز المادة 1463 منه للمحكم التنحـي إذا تعرض المحكم الى طلب رده من أحد الخصوم فيسارع الى التنحي، بسبب أن ذلك يمس بكرامته وسلطته.
وليس في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني نص مشابه. ولكن المادة 122 من هـذا القانون تجيز للقاضي أن يعرض تنحيه إذا استشعر الحرج من نظر الدعوى لأي سبب. ونحـن نرى أن تطبيق هذا النص على المحكم هو أمر جائز بموجب القانون اللبناني، مما يتيح للمحكـم التنحي إذا طلب رده أحد الخصوم دون أن تترتب أية مسؤولية عليه من جراء ذلك.
وبعد قبول المهمة لا يجوز للمحكم التنحي بغير سبب جدي، وإلا جاز الحكم عليه بالتعويض للمتضرر، وفقا لنص المادة 769 أصول محاكمات مدنية.
ج- العـزل
عزل المحكم يجب أن يتم بموافقة الفرقاء جميعاً، ذلك أن نية جميع الفرقاء فيه قد تضافرت وتوافرت للاتفاق على عقد التحكيم. ولا يتم تعديل هذا العقد بعزل أحد المحكمين فيه، إلا بتوافق جميع الفرقاء الذين وقعوه.
وعليه، وفي حال تعدد المحكمين، لا يجوز عزل المحكم الذي عينه أحد الفرقاء مـن قبـل الفريق الذي عينه، بل يقتضي أن يتم ذلك بمو جميع الفرقاء في عقد التحكيم.
وعزل المحكم أو المحكمين، عندما يتم بتراضي الفرقاء جميعاً فـي عقـد التحكـيم، هـو حق لهؤلاء الفرقاء، ويقع صحيحاً وإن كــان مـجـرداً عـن أي سـبب، أي أنـه ad nutum كما يقال بالفرنسية. وينبني على هذه القاعدة أن المحكم المعزول لا يستطيع أن يطعـن بقـرار عزله فيه، ولا أن يطالب بالعطل والضرر نتيجة لهذا العـزل، إذا كانـت مـصاريفه وأتعابـه قد سددت، وإلا فله الحق في المطالبة بها. أما إذا كان العزل تعسفياً أو قد شهر بالمحكم أو نـال من كرامته، فعندئذ يحق للمحكم المعزول أن يطالب بالعطل والضرر وفقاً للقواعـد القانونيـة العامة.
4- ما هي النتيجة التي تترتب على رد المحكم أو تنحيته أو عزله؟
إن أثر ذلك في لبنان، كما في حال الاستقالة، هو انقضاء التحكيم أي انتهاؤه. ولكـن فـي التحكيم المؤسساتي، أي التحكيم الذي اتفق الفرقاء على إحالته الى هيئة مختصة، كتحكيم غرفـة التجارة الدولية مثلاً، فالحل هو غير ذلك. وهذا أفضل، ففي التحكيم وفقاً لنظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية، يكون للمحكمة التحكيمية تعيين البديل.
5- بينا في مطلع هذا البحث أن عقد التحكيم بين الفرقاء وبين المحكم هو عقد متبادل يلتزم فيه المحكم السير في إجراءات التحكيم حتى نهايتها أي إصدار القرار التحكيمي.
وعليه،
لا يستطيع المحكم الاستقالة إلا لأسباب مشروعة وجدية كالمرض الخطير أو العجز الصحي الذي يحول بينه وبين متابعة إجراءات التحكيم، كما يكون في حال فقدانه الأهلية الحاصـل خلال السير في إجراءات التحكيم، أو في صدور حكم من المحاكم الجزائية يقضي بحرمانه من التمتع بحقوقه المدنية، أو بصدور حكم بشهر إفلاسه. أما إذا استقال لغير هذه الأسباب، ترتبت عليه المسؤولية للتعويض عن الأضرار التي تسببها الاستقالة لأحـد الخـصوم أو لكليهما.
يبقى أن نشير الى حالة شبيهة بالاستقالة، وهي تغيب المحكم المتعمـد، ممـا يـؤدي عرقلة إجراءات التحكيم. وهو، وإن كان نادر الحدوث، إلا أنه قد يحدث في الحالـة التـى يشعر بها أحد المحكمين في هيئة تحكيمية بأن القرار قد يصدر على غير ما يشتهي ويريد، فيتمنع عن حضور جلسات التحكيم مبرراً ذلك بأسباب ليست حقيقية ولا مـشروعة. ومـن المؤسف حقاً أن نجد أحياناً في حالات التحكيم أحد المحكمين يقف مدافعاً عن وجهة نظـر الفريق الذي عينه، مما يعكس في حقيقة الأمر عدم تمتعه بالاستقلال التام عن الفريق الـذي عينه.
6- وبعد،
شهدت الخمسون سنة الأخيرة في المنطقة العربيـة نمـوا إحالـة النزاعـات الـى التحكيم. ويعود سبب ذلك، إلى حد كبير، الى حاجة البلدان النفطية إلـى مـشاريع إنمائيـة ولاسيما لجهة مشاريع البنية التحتية وانشاءات العمران وإلى تدفق رؤوس أمـوال أجنبيـة للإسهام في هذه المشاريع، وكانت تساور الشركات الأجنبية شكوكاً حـول قـدرة الأنظمـة القضائية في هذه البلدان على الفصل في أي خلافات تنشأ من العقود التي تقوم بهـا هـذه الشركات. وهذه الشكوك والهواجس قد تكون آنذاك في رأينا مشروعة، ولاسيما أن النظـام القضائي كان لا يزال في مراحله الأولى، وكان القضاة من أبناء الدول العربية موظفين في سلك القضاء.
واذكر أنني عام 1977 كنت في دبي لقضية رفعتها آنذاك أمام محكمة دبي فسألت القاضي، وكان سورياً من آل هارون على ما أذكر، بماذا تحكمون فأشار إلى مؤلفات السنهوري التي كانت خلفه، قائلاً: إنني أحكم بموجبها لأن هذا الذي أعرفه.
أما اليوم، وفي المقابل،
فإننا، نحن العرب، قد أصبحت لدينا شكوك وهواجس في الأنظمة القضائية في الدول الغربية ولاسيما في الولايات المتحدة الأميركية. وأقول ذلك عن تجربة وخبرة علـى الأقـل فـي دعويين، حيث اتضح وجود تحيز دفين ضد كل ما هو عربي، سواء لدى المحلفين أو حتى لدى القضاة، ذلك أنه في الولايات المتحدة تتألف المحاكم، وحتى المدنية منها، من رأسـين هما: المحلفون الذين يفصلون في الوقائع، والقاضي الذي يفصل في القانون المطبق علـى الوقائع التي يتبينها المحلفون.
ولدرء هذا التحيز الدفين، أصبحنا نحن العرب الذين نصر على وجود بند تحكيمي في العقود التي يوجد فيها فريق غربي، ولاسيما إذا كان هذا الفريق يتمتع بجنسية الولايات المتحـدة الأميركية.