الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / تنحي المحكم واعتزاله / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / آخر مبتكرات التسويف والمماطلة في التحكيم: استقالة المحكم.. هل المحكمة المبتورة هي الحل؟

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 5
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    23

التفاصيل طباعة نسخ

   استقالة المحكم خلال سير اجراءات المحاكمة التحكيمية أو تمنعه عن المشاركة في سيرها، امران كانا استثنائيين واذا حصلا فيعالجا باستبدال المحكم!

   إلى ذلك ذهبت اكثر القوانين التحكيمية ولاسيما تلك المستمدة من قانون اليونسترال النموذجي، بينما ذهبت القوانين ذات الاتجاه الفرنسي الى انهاء الدعوى التحكيمية، فتعود المحاكمة الى اولها وتؤلف المحكمة من جديد. هذا اذا طرأ مثل هذا الطارئ.إلى أن بدأت استقالة المحكم أو امتناعه يتحولان إلى وسيلة للمماطلة والتسويف في التحكيم.

   وسبق أن استخدمت اجراءات قانونية للمماطلة والتسويف في التحكيم، فأوجد لها الفقه والاجتهاد حلولاً تنقذ مسيرة التحكيم. وكان الادلاء ببطلان العقد الذي يتضمن الشرط التحكيمي مفضياً إلى نزع اختصاص المحكمين الذين يستمدون سلطتهم التحكيمية من الشرط الوارد في العقد الذي يطلب ابطاله، هكذا أوجد اجتهاد محكمة النقض الفرنسية نظرية "استقلالية الشرط التحكيمي" فتوقفت المماطلة والتسويف وأصبح أمر الإدلاء ببطلان العقد التحكيمي وارد، ضمن التحكيم و غير معطل له.

   ولكن الطرف الذي يريد تعطيل التحكيم توصل إلى فكرة اخرى وهي الطعن في الشرط التحكيمي ذاته، كالإدلاء بعيوب الرضی مثلاً التي يزعم أنها تعيب الشرط التحكيمي كالغش والخداع والغلط والإكراه الخ... وكان الهدف من ذلك هو تعطيل سير التحكيم لأن المحكمين يستمدون سلطتهم من الشرط التحكيمي. وأقفل الفقه والاجتهاد الباب بنظرية اختصاص الاختصاص Competence compétence بحيث يبقى للمحكمين سلطة النظر في اختصاصهم في ما يخص عيوب الشرط التحكيمي المزعومة وهكذا أقفل باب ثان امام تعطيل التحكيم.

   اليوم اخذ يتكاثر استعمال وسيلة جديدة للمماطلة والتسويف ولتعطيل سير التحكيم عن طريق امتناع المحكم اي مقاطعته سير الإجراءات، أو استقالته من المحكمة التحكيمية، وأجمع الفقه والاجتهاد، على مساواة المحكم الممتنع الذي يقاطع التحكيم بالمحكم الذي لا يوقع الحكم التحكيمي بشرط أن تتوافر له كل الفرص والظروف للمشاركة في اجراءات المحاكمة التحكيمية فإذا امتنع رغم ذلك بدون سبب مشروع فإن امتناعه لا يؤثر على سير التحكيم ويعتبر امتناعه عن المشاركة مثل امتناعه عن توقيع الحكم التحكيمي اي بدون اثر قانوني.

   الا أن استقالة المحكم أمر آخر.

    فالإستقالة تعني أن المحكمة التحكيمية أصبحت غير مكتملة، والأمر يطرح قاعدتي الوجاهية والمساواة بين طرفي النزاع، ويطرح تشكيل المحكمة التحكيمية ومطابقتها للشرط التحكيمي، ومن هو الذي يقرر ما اذا كانت الاستقالة مشروعة أم غير مشروعة مبررة ام ليس لها أي مبرر؟

  المحكمان؟ القضاء ؟ ام مركز التحكيم اذا كان التحكيم مؤسساتي؟ واذا كان تحكيم حالات خاصة فمن يعين المحكم الثالث في هذا النظام؟ هل المرجع هو السلطة القضائية ام انه الطرف الذي سبق أن سمى المحكم المستقيل؟

   يجب تحديد المرجع الذي يقرر ما اذا كانت الاستقالة مبررة أم لا! ثم يجب تحديد ما إذا كان المحكم المستقبل يجب أن يستبدل أم أن المحكمة التحكيمية ستسير بمحكمين! وهل يكون الحكم التحكيمى صحيحاً اذا صدر عن محكمين؟ وفي أي مرحلة قدم المحكم استقالته، ما الذي يحصل عندما تكون الاستقالة تعسفية للمماطلة والتسويف، الذي يحصل أن يقدم المحكم استقالته في المراحل الأخيرة للتحكيم، عند المذاكرة مثلاً حين يتم الحسم ويتقرر من هو الذي ربح ومن هو الذي خسر الدعوى التحكيمية ولكن عند المذاكرة أو بعدها! لا يبقى وقت للإستبدال اذا اعتمدت صيغة استبدال المحكم.

  طبعاً المحكم المستقيل المتعسف الذي يهدف باستقالته إلى المماطلة والتسويف تبقى مسؤوليته القانونية قائمة، ويمكن ملاحقته بالمسؤولية المهنية، ويبقى الأمر أمر ملاءته، ولكن التحكيم في هذه الحالة سينتهي بدون حكم تحكيمي، الا اذا اعتمدت صيغة المحكمة المبتورة من محكمين اثنين.

   هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عنها وتبيان كيف نشأت هذه المشكلة؟ وكيف تطورت؟ وما هو موقف الاجتهاد والفقه؟ وكيف تتطور الحلول؟ والى أين تتجه هذه الحلول؟

 

نبذة أولى- استقالة المحكم في التحكيمات وموقف القضاء: 

نزاع Milutinovic في تحكيم غرفة التجارة الدولية 1987': 

فقرة أولى المحكمة التحكيمية:

   أول تحكيم دولي أحدث هزة جراء استقالة "تعسفية" للمحكم وكان له صدى في أوساط التحكيم هو نزاع Ivan Milutinovic PIM/ Deutsche Babcock AG.

   وخضع هذا النزاع لنظام تحكيم غرفة التجارة الدولية، وتشكلت المحكمة التحكيمية من البروفسور Eugen Bucher والبروفسور Vladimir Jovanovic والبروفسور

Karl-Heinz Backstiegel ويتعلق النزاع بخلاف بين أعضاء من "كونسورسیوم"، وقعوا عقداً لإنشاء محطة كهربائية في حمص (سوريا) وحدد الشرط التحكيمي زوريخ مكاناً للتحكيم، ووقع أطراف النزاع وثيقة التحكيم حسب نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية، التي تشير إلى تطبيق الإجراءات الواردة في نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية، وكذلك قانون المرافعات المدنية لمقاطعة زوريخ. وتبادل الأطراف المذكرات الخطية ثلاث مرات وعقدت جلستا محاكمة تم خلالهما استماع الشهود. في الجلسة الأخيرة وبعد استماع كل الشهود، طلب محامي المدعية استجواب بعض الشهود مجدداً، واستماع شهود جدد، الأمر الذي عارضه محامي المدعى عليها. قررت المحكمة التحكيمية بالأكثرية وبعد مذاكرة طويلة وبرغم معارضة المحكم المسمى من المدعية، رد طلب المدعية وعدم سماع شهود جدد. وبعد ابلاغ الطرفين هذا القرار، وفي اليوم التالي، قدم المحكم البروفسور Jovanovic استقالته، لأنه كان على خلاف مع قرار المحكمة التحكيمية". وبعد ذلك رفض محامي الجهة المدعية متابعة تقديم مذكراته.

   وطلب حينئذ محامي الجهة المدعية من محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية الدائمة عزل المحكمين البروفسور Bucher رئيس المحكمة التحكيمية والمحكم البروفسور Backstiegel. وقررت محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية الدائمة في 1987/1/29 رد طلب عزل المحكمين Bucher و Backstiegel وفي الوقت نفسه رفضت قبول استقالة البروفسور Jovanovic مؤكدة أن استقالته لا مبرر لها. كان يفترض اذا بالمحكم Jovanovic أن يتابع عمله كمحكم. وبالفعل دعاه رئيس المحكمة التحكيمية مع المحكم الآخر إلى جلسة مذاكرة للمحكمة فتخلف عنها المحكم Jovanovic مؤكداً استقالته.

   وفي غيابه قرر المحكمان Bucher و Backstiegel اصدار حكم تحكيمي جزئي، ودعی المحكم الثالث Jovanovic إلى توقيعه لعرضه على المحكمة التحكيمية الدائمة لغرفة التجارة الدولية. وقد ورد في الحكم التحكيمي الجزئي: "أن هذا الحكم التحكيمي يمكن اعلانه برغم تقديم البروفسور Jovanovic استقالته من مهمته كمحكم، وغيابه عن الجلسة التي عقدها المحكمان في /1987/2

وذلك عملا بقانون المرافعات المدنية في زوريخ، وبنظام تحكيم غرفة التجارة الدولية. أن استقالة البروفسور Jovanovic التي ليس لها أي مبرر شرعي، تبقى بدون اثر وبالتالي فان المحكمة التحكيمية الحالية تبقى مشكلة بشكل صحيح.

قانون المرافعات في زوريخ ينص على أنه لا يمكن للمحكم أن يستقيل بدون سبب، وفي ضوء هذا النص فإن محكمة تحكيم غرفة التجارة الدائمة قررت في

1987/1/29

عدم قبول استقالة المحكم البروفسور Jovanovic واعتبرت أن المحكمة الحالية كما هي مشكلة ستتولى مهمتها.

   ويضيف الحكم التحكيمي: "أن قرار رئيس المحكمة والمحكم العضو المعين من طرف، ان هذا القرار المتخذ في غياب المحكم الثالث له ما يبرره في ظروف الدعوى وهو موافق لنصوص قانون المرافعات المدنية لزوريخ المطبق على هذا التحكيم، واذا كان رفض أحد المحكمين توقيع الحكم لا يؤثر على صحته، فالمبدأ ذاته يطبق على محكم الأقلية اذا رفض المشاركة بالمذاكرة الداخلية حتى نهايتها".

    ثم يقول الحكم: "ان القاعدة التي بموجبها يجب اصدار الحكم النهائي بمشاركة كل المحكمين تتعلق بموضوع آخر: وهو وفاة أحد المحكمين قبل أن تعطي المحكمة التحكيمية حكمها التحكيمي، وهذا المحكم هو الذي يجب استبداله، كذلك الأمر مع محكم يستقيل لأسباب مشروعة ومبررة. في هاتين الحالتين فان الأكثرية في المحكمة التحكيمية لا يجوز لها استبعاد الأقلية من المذاكرة اللاحقة للحدث اي للوفاة او للاستقالة المبررة....

   ثم يقول الحكم: "هذه المشاكل وغيرها تفسر نص المادة 254 من قانون المرافعات المدنية الذي يحدد الاجراءات الواجب اتباعها لإصدار الحكم التحكيمي، ولكنها اجراءات لا تستبعد صحة الحكم التحكيمي اذا رفض أحد المحكمين الالتزام بموجباته وامتنع عن المشاركة في المرحلة الأخيرة من المذاكرة لأن هذه الحالة مطابقة تماما لحالة المحكم الممتنع عن توقيع الحكم التحكيمي.

   واضاف الحكم التحكيمي الجزئي: "... ان الطرف المدعي حين قدم طلب عزل المحكمين الاثنين دون المحكم الثالث المسمى منه البروفسور Jovanovic، اثبت ارادته قبول عدم مشاركة المحكم المسمى منه في المرحلة الأخيرة من اجراءات المحاكمة، أن الطرف المدعي لا يمكنه أن بلوم المحكمين لعدم طلبهما عزل البروفسور Jovanovic ما دام هذا الطرف ذاته قد امتنع عن طلب عزل المحكم المذكور".

   ويضيف الحكم التحكيمي الجزئي: "... وقد شارك المحكم Jovanovic، اذ لم يكن غائباً عن نشاط المحكمة التحكيمية الذي يقتضي حضوره، كذلك شارك في المذاكرة الداخلية حتى كان اعلانه الاستقالة في 1986/10/28، وقبل ذلك شارك في المذاكرة التي تعرضت لأساس النزاع. أن أي قرار في المحكمة التحكيمية بطلب عزل المحكم Jovanovic (سواء في زوريخ أو باريس) وبالتالي اعادة المحاكمة بكل اجراءاتها مع البديل من المحكم Jovanovic كانت ستكون معاكسة لمتطلبات حسن سير التحكيم الدولي وكانت ستقدم الى المحكم (او الطرف الذي اثر عليه)، امكانية تعطيل سير المحاكمة التحكيمية واعادة المحاكمة التحكيمية من اولها. آن موقفاً كهذا هو مناقض، بل يمس الثقة بالتحكيم الذي تقدمه غرفة التجارة الدولية والذي يتخذ زوریخ مقراً له.

 

فقرة ثانية - موقف القضاء السويسري من الحكم التحكيمي في دعوى Milutinovic: اولاً- محكمة استئناف زوریخ: مشاركة المحكمين الاثنين، لا تحيز: رد الطلب:

   قبل صدور الحكم التحكيمي الجزئي المشار اليه اعلاه قدمت المدعية Milutinovic دعوی امام اللجنة الادارية في محكمة استئناف "مقاطعة زوريخ" تطلب اعتبار مشاركة المحكمين والسير بالتحكيم بمحكمين اثنين أمراً يثير قرينة تحيز، وردت محكمة الاستئناف هذا الطلب معتبرة أن متابعة محكمين اثنين الإجراءات التحكيمية في ظروف غير اعتيادية لها ما يبررها ولا تفضي الى قرينة التحيز.

 

ثانياً- محكمة النقض في زوريخ: نقض حكم الاستئناف: تحيز :

   طعنت شركة Milutinovic بهذا الحكم التحكيمي أمام محكمة النقض في زوريخ التي فسخت حكم محكمة الاستئناف، معتبرة أن نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية الذي يسير عليه هذا التحكيم لا يلحظ الاستقالة المنفردة لمحكم.

   وكذلك فإن قانون المرافعات المدنية في زوريخ لا يجيز منح أي طرف معاملة لها طابع الافضلية، أن المساواة بين الأطراف هي مبدأ اساسي و الزامي، وبالتالي فإن محكمة تحكيمية مؤلفة من ثلاثة محكمين لا يمكنها المذاكرة بمحكمين: الرئيس وأحد المحكمين، وبالتالي فإن اتخاذ قرار في غياب المحكم الثالث، وان كان هذا المحكم قد رفض توقيع الحكم التحكيمي، هذا لا يبرر اطلاقاً أن يذاكر محکم مسمى من طرف من طرفي النزاع في غياب المحكم المسمى من الطرف الآخر، في حين أن المحكمة هي جماعية. كان بإمكان المحكمين Bucher و Backstiegel طلب عزل المحكم البروفسور Jovanovic بفعل رفضه القيام بوظيفته. آن معرفة ما اذا كانت استقالة البروفسور Jovanovic هي مشروعة ام لا ليست بالأمر الملائم. ان التعامل مع احد الطرفين تعاملاً له طابع الأفضلية ليس مخالفاً للقانون فحسب، بل هو تصرف يشكك في الثقة بالمحكمة التحكيمية، الأمر الذي يثير قرينة تحيز. هكذا فسخت محكمة النقض قرار محكمة الاستئناف واعيدت الدعوى إلى محكمة الاستئناف.

 

ثالثاً- محكمة الاستئناف في زوريخ: طلب ابطال الحكم التحكيمي: رده:

   قدمت شركة Milutinovic طلب ابطال الحكم التحكيمي الجزئي الذي صدر عن المحكمين مدلية بأنه مخالف لقانون اجراءات المحاكمة المدنية في زوريخ كما للمادة السادسة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الانسان. وردت محكمة استئناف زوریخ طلب الابطال بقرار أصدرته في 1990/7/4 معتبرة أن ما تدلي به المستأنفة من أن استقالة المحكم البروفسور Jovanovic كانت لها اسباب تبررها (غير قانونية)، وبأن المحكمة كانت غير مشكلة قانونا بعد استقالته وعند اصدارها الحكم التحكيمي، اعتبرت محكمة الاستئناف أن هذه الحجة ليس لها أساس. فالمحكم ملزم بمتابعة مهمته حتى نهاية التحكيم وبالتالي فإن استقالته غير مقبولة وليس لها ما يبررها. فالبروفسور Jovanovic برر استقالته بأن المحكمين رفضاً قبول اثباتات جديدة في تلك المرحلة من المحاكمة. ولكن كون المحكمين منقسمين على هذه النقطة ليس مبرراً لاستقالة المحكم، الذي صار موقفه من الأقلية. وبالتالي فإن استقالة المحكم لم تضع حدا لمهمته، وكان بالإمكان اعتبار المحكمة مشكلة بالفعل وصحيحة، وبالتالي فليس هناك مخالفة للمادتين 4 و 58 من الدستور الفدرالي السويسري ولا مخالفة للإتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان.

   واضاف الحكم: "ليس أمر دعوة المحكم البروفسور Jovanovic إلى جلسة المذاكرة، ليس هذا الأمر موضع جدال، فالمحكم اخرج نفسه من المذاكرة دون أن يقدم عذراً مشروعاً، في حين انه كان مدعواً وفقاً للأصول لحضور المذاكرة. كذلك فالأمر الثابت أن المحكم المذكور قد تلقى نسخة عن الحكم التحكيمي الجزئي، ولكنه رفض توقيع هذا الحكم. وبالتالي فإن رفضه حضور جلسة المذاكرة مشابه لرفضه توقيع الحكم التحكيمي، وبالتالي فإن المحكمين الآخرين، وكذلك الطرف الآخر، لا يمكن اعتبار تصرفهم مخالفة للقانون.

 

رابعاً - المحكمة الفدرالية السويسرية: ابطال الحكم التحكيمي لعدم مشاركة المحكم المستقيل

   بعد كل هذه الأحكام المتناقضة أصدرت المحكمة الفدرالية السويسرية حكماً نهائياً يبت طلب ابطال الحكم التحكيمي. وبالفعل قررت فسخ حكم محكمة الاستئناف، وحكمت بإبطال الحكم التحكيمي معتبرة أن الحكم النهائي يجب أن يصدر بمشاركة كل المحكمين وبعد مذاكرة يشتركون فيها معاً.

   واعتبرت محكمة النقض ان عدم مشاركة المحكم في المذاكرة يختلف عن عدم توقيع المحكم الحكم التحكيمي. واعتبرت انه اذا كان يجب بت أمر صحة استقالة المحكم ومبرراتها، فليس المحكمان هما اللذان يجب أن ينظرا في الأمر، فالقضاء هو وحده المختص بالنظر في هذا الأمر. فإذا وجد القضاء أن الاستقالة ليس لها مبرر، فهو ينذر المحكم بمتابعة السير بالتحكيم اما اذا كان للإستقالة ما يبررها، فلا يمكن متابعة السير بالتحكيم بدون المحكم المستقبل. وفي هذه الحالة يجب العودة إلى الشرط التحكيمي. وفي كل الأحوال وفي حال خلو الشرط التحكيمي من اشارة فإن المحكمة التحكيمية لا تعتبر مشكلة بشكل صحيح، الا اذا عاد المحكم المستقيل عن استقالته بناء على أمر القضاء المختص، او اذا كان قد جرى استبداله. وفي حال تابع المحكمان السير بالتحكيم بدون اجازة من الطرفين، فإن تشكيل هذه المحكمة ليس صحيحاً.

   هكذا قررت المحكمة الفدرالية السويسرية ابطال الحكم التحكيمي الصادر عن محكمة تحكيمية مبتورة مشكلة من محكمين اثنين. وقد تشكلت محكمة تحكيمية جديدة بعد هذا الحكم الفدرالي وفقاً لنظام غرفة التجارة الدولية وصدر الحكم عن محكمة مؤلفة من ثلاثة محكمين. وقد اعتبر البروفسور Stephen M. Schwebel نائب رئيس محكمة العدل الدولية في لاهاي آن حكم المحكمة الفدرالية السويسرية ليس مطابقة للمبادئ العامة للقانون، اذ لا يمكن أن يتذرع الطرف بأخطائه أو الأخطاء التي يضمنها لحرمان طرف آخر من حقوقه، وهذا مخالف للتحكيم الدولي. فالمحكمة الفدرالية السويسرية هي في حكمها على خلاف مع محكمة تحكيم غرفة التجارة الدولية الدائمة، كما يقول البروفسور Schwebel.

 

نبذة ثانية- النزاع التحكيمي الايراني الاميركي 1987:

   التحكيم لحسم المنازعات الايرانية الأميركية هو فعلاً أحد أكبر التحكيمات الدولية في التاريخ، وقد أعطى هذا التحكيم خلال 14 عاماً عدداً كبيراً من الأحكام التحكيمية التي نشرت في 27 مجلداً.

   تشكلت المحكمة التحكيمية وفقاً لإعلان الجزائر من تسعة أعضاء تعين من حكومتي الولايات المتحدة وايران ثلثي الأعضاء، ويعين المحكمون الذين تسميهم الدولتان بالتوافق الثلث الأخير من المحكمين. تحسم الخلافات محكمة تحكيمية (او غرفة تحكيمية مكونة من ثلاثة محكمين، وتسير التحكيمات وفقاً لنظام اليونسترال (لجنة قانون التجارة الدولية في الأمم المتحدة) مع بعض التعديلات عليه. ووفقاً لهذا النظام فإن المادة 13 منه تنص على أنه: "... في حالة استقالة أحد المحكمين اثناء اجراءات التحكيم يعين أو يختار محكم آخر بدلاً منه باتباع الإجراءات المنصوص عليها في المواد من 6 الى 9 التي كانت واجبة التطبيق على تعيين او اختيار المحكم الجاري تبديله". وخلال سير أعمال التحكيم طرأت مشكلة غياب أحد المحكمين المسمين من دولة ایران غياباً مقصوداً ولا مبرر ولا تفسير له. وأخذ هذا الموضوع يتكرر وفي عدة غرف تحكيمية، وكان ذلك يفضي إلى تأجيلات متكررة كما اعتبر المحكمان في المحكمة أن هذا الغياب ليس له ما يبرره فتابعا السير بالدعوى رغم غياب المحكم. وأدى صدور أحكام عن محكمة تحكيمية مبتورة اي مكونة من محكمين اثنين وغاب عنها المحكم الإيراني، أدى ذلك إلى اعتراضات ايرانية والى طلبات ايرانية قدمت لإبطال هذه الأحكام التحكيمية الصادرة عن محكمة تحكيمية مبتورة. قدمت امام القضاء الهولندي ولكن ایران عادت فتخلت عن اعتراضاتها وطلبات الأبطال، ونفذت الأحكام التحكيمية الصادرة عن المحاكم التحكيمية المبتورة.

   ودار جدال طويل حول صحة هذه الأحكام التحكيمية، فالمحكمون الإيرانيون كان موقفهم أن المحكمة بكامل أعضائها التسعة ليست مشكلة قانونية، ولا غرفها التحكيمية مشكلة قانونية، في حال غياب أحد المحكمين الذين سمتهم احدى الدولتين. وفي حال غياب هذا المحكم فإن الطريق الوحيد الذي يجوز أن يسلكه التحكيم هو ذاك الذي نص عليه نظام اليونسترال حول عزل المحكمين واستبدالهم، في حين ان اكثر محكمي المحكمة التحكيمية للخلافات الايرانية الأميركية، اعتبروا أن اعلان الجزائر حول تشكيل المحكمة التحكيمية وغرفها له طابع توصيفي، ولا يشكل شروطاً للنصاب، وبالتالي فإنه عندما يجري التحقيق والمحاكمة في قضية وتكون المذاكرة قد بدأت بشأنها، فإن غياب المحكم لا يلزم باللجوء الى اجراءات عزله واستبداله، لأن ذلك سيؤدي الى تأخير التحكيم وابطاء سيره وزيادة تكاليفه، ولاسيما اذا كان ذلك سيقتضي عقد جلسات محاكمة جديدة. أن ذهاب التحكيم في هذا الاتجاه عند استقالة المحكم واستبداله ولاسيما اذا تكرر الأمر، سيجعل عمل المحكمة التحكيمية بدون جدوى.

   وأكثر ما أثير أمر المحكمة المبتورة حدة في التحكيم الايراني - الأميركي كان في تحكيمين هما:

     فقرة أولي: قضية James M. Saghi, Michael R Saghi and Allan Saghi Claimants and the Government of the Islamic Republic of Iran

   طرح الأمر في دعوى James Saghi/Iran حيث أدلى المحكم الذي سمته ایران بأن القضية غير مقبولة، وبالتالي امتنع عن المشاركة في المذاكرة، ورفض توقيع الحكم التحكيمي. واعتبرت المحكمة التحكيمية بعضويها أن محكمة دولية دائمة مكلفة بحسم عدة منازعات لا يمكنها أن تسمح بتعطيل عملها بسبب رفض أحد أعضائها المشاركة في المذاكرة لطلب من الطلبات أو رفضه توقيع الحكم التحكيمي.

 

فقرة ثانية: قضية Viterwyk corporation et al) claimant and the Government of the Islamic Republic of Iran (et al) Respondents

   ورد في الحكم الصادر في هذه القضية ما يلي: "السيد مصطفافي (المحكم) شارك في جلسة المحاكمة كما شارك في ثلاث جلسات للمذاكرة حول مسائل تتعلق بإجراءات المحاكمة في هذه القضية، ولكنه في الجلسة الثالثة بسبب عدم اتفاقه مع القرار المتخذ من أكثرية أعضاء المحكمة (غرفة المحكمة) حول المسائل الإجرائية التي جرت المذاكرة حولها، فإنه أعرب عن رغبته في عدم المشاركة في سائر جلسات المذاكرة. وقد أبلغ رئيس المحكمة من جهته السيد مصطفافي أنه طبقا للنظام التحكيمي المطبق و على التطبيق الإجرائي الذي تقوم به المحكمة، فإن المحكمة لها الحق، على رغم غياب المحكم السيد مصطفافي أن تتابع سير المذاكرة وأن تحرر الحكم التحكيمي. وامتنع السيد مصطفافي بعد ذلك عن المشاركة في اجراءات الدعوى. تابع المحكمان في هذه الدعوى المذاكرة ثم حررا الحكم التحكيمي وفقاً للطريقة العملية التي تتبعها هذه المحكمة، هذه الطريقة تبررها ضرورة تجنب أن يعطل أحد أفراد المحكمة سير مهماتها، وهذه الطريقة متفقة مع المبادئ العامة للقانون الدولي المعترف بها. كما يذكر القاضي Stephen Schwebel فإن الفقه الدولي يميل بوضوح مع مساندة محكمة العدل الدولية، الى حق المحكمة التحكيمية الدولية في السير بإجراءات المحاكمة وبالتالي اصدار الحكم التحكيمي، على رغم حصول اشكال يسببه محكم.

   في هذه القضية اعطت المحكمة التحكيمية في النهاية حكماً لصالح المدعية، وقاطع المذاكرة المحكم الذي سمته ایران ولم يوقع الحكم التحكيمي. وردت هذه المحكمة طلب تصحيح الحكم التحكيمي النهائي بالأكثرية وهذا الحكم كان صادراً عن محكمة تحكيمية مبتورة ولكنه نفذ على رغم ذلك.

نبذة ثالثة- النظام القانوني الفرنسي ليس مع المحكمة المبتورة بعد وليس مع استبدال المحكم الا اذا اتفق الأطراف على غير ذلك:

   القانون الفرنسي نص في المادة 1464 من قانون المرافعات المدنية على ما يلي:

Art. 1464 (D. no 81-500, 12 mai 1981, art. 5. - L'instance arbitrale prend fin, sous réserve des conventions particulières des parties :

1° par la révocation, le décès ou l'empêchement d'un arbitre ainsi que par la perte du plein exercice de ses droits civils ;

2° par l'abstention ou la récusation d'un arbitre ; 

3° par l'expiration du délai d'arbitrage.

   وكذلك نصت المادة 781 من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني على ما يلي:    

   مع الاحتفاظ بما قد ينص عليه اتفاق خاص بين الخصوم تنتهي الخصومة:

  1- بعزل المحكم أو بوفاته أو بقيام مانع يحول دون مباشرته مهماته أو بحرمانه استعمال حقوقه المدنية.

  2- بامتناع المحكم او برده عن الحكم. 

  3- بانقضاء مهلة التحكيم.

    والقانون اللبناني مأخوذ عن القانون الفرنسي في هذا الصدد. ويفسر العلامة فيليب فوشار نص هذه المادة بأن نتيجته وضع مصير التحكيم في يد محكم واحد، كما وضع مصير كل اجراءات المحاكمة التحكيمية، حتى تلك التي تكون موضوع مذاكرة، بمجرد أن يدلي المحكم بالامتناع او يقدم استقالته فجأة، هكذا ففي إمكان محكم يمثل الأقلية أن يقضي على المحاكمة التحكيمية وكل الجهود التي بذلت. هذا النص يجيز هذا التشدد، مع الاسف، يقول فوشار ونتيجة انتهاء الخصومة في التحكيم مضرة مرتين: من حيث المبدأ، يجب اعادة تشكيل المحكمة التحكيمية بكاملها وبعد ذلك اعادة اجراءات المحاكمة من بدايتها أمام المحكمة التحكيمية الجديدة . ويتساءل العلامة فوشار: ماذا لو هدفت الاستقالة الى تأخير سير الدعوى وخدمة الطرف الذي سمى هذا المحكم؟ ويقترح العلامة فوشار تعديل هذا النص لقطع الطريق على المناورات الرامية إلى تأجيل سير التحكيم.

   طبعاً القانون الفرنسي كما القانون اللبناني في نص المادتين المذكورتين ترك الباب مفتوحاً لأي اتفاق بين الطرفين يعدل أحكام المادتين المذكورتين.

   بالطبع تفتح هذه القاعدة باب المماطلة والتسويف وهي واردة في التحكيم الداخلي. وليست مطبقة في التحكيم الدولي.

 

فقرة اولى- محكمة النقض الفرنسية: فسخت حكم تحكيمية صادرة عن ثلاثة محكمين امتنع فيه المحكم ثم عين محكم مكانه ولكنها اعتبرت أن التحكيم انتهى بمجرد امتناع المحكم الأول:

   وتطبيقاً لنص هذه المادة فقد تشدد الاجتهاد الفرنسي في تطبيقها في حكم تحكيمي بين طرفين فرنسيين، صدر في نزاع عن فيه كل طرف محكمه واختار المحكمان المحكم الثالث. ولكن خلال المذاكرة وبعد جلسة ختمت فيها المحاكمة، أبلغ أحد المحكمين المعينين من الطرفين المحكمة التحكيمية بقيام مانع يحول دون متابعته مهماته، وذلك لفترة غير محددة. فعقدت جلسة محاكمة جديدة حضرها محكمان هما رئيس المحكمة والعضو المعين من طرف و غير المستقيل. كما حضرها أطراف النزاع ومحاموهم. وجرى خلال هذه الجلسة اختيار محكم بديل للمحكم المستقيل كما اتفق على تمديد مهلة التحكيم.

   وبعد ذلك صدر الحكم التحكيمي فطلب الطرف الخاسر أبطاله مستند إلى المادة 1464 المذكورة أعلاه التي تعتبر التحكيم منتهية ولا تجيز تعيين محكم بديل، بل تقضي بتعيين محكمة تحكيمية جديدة والعودة الى اجراءات التحكيم من أولها أمام المحكمة الجديدة. 

   وفسخت محكمة النقض الفرنسية الحكم التحكيمي متشددة بتطبيق المادة 1464 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد، معتبرة أن الخصومة في التحكيم انتهت بمجرد قيام المانع الذي يحول دون مباشرة المحكم مهماته التحكيمية. وان الاتفاق على استبدال المحكم جاء بعد فوات أوانه و لهذا ينصح العلامة فوشار بأن يعطي الأطراف عناية للشرط التحكيمي الذي يمكنه أن يخفف من وقع المادة 1464 (مرافعات مدنية) فأما أذا أحال الأطراف إلى نظام مركز تحكيمي يعالج الأمر، أو يحددوا طريقة استبدال المحكم في حال استقالته أو امتناعه. ويعتبر البروفسور فوشار أن المحكمة المبتورة غير قادرة على اصدار أحكام تحكيمية في التحكيم الداخلي، لأنها ستصطدم بشرط الزامي وهو صدور الحكم التحكيمي عن عدد وتر من المحكمين وفي هذه الحالة فإن عدد المحكمين يصبح مزدوج.

 

فقرة ثانية - محكمة الاستئناف: استقالة المحكم في التحكيم الدولي تفضي إلى صدور حكم عن محكمة مشكلة بشكل مخالف للعقد التحكيمي

   وقد عاد الاجتهاد الفرنسي فأكد موقفه المتشدد، عند استقالة المحكم في تحكيم دولي وليس تطبيقا للمادة 1464 مرافعات مدنية فرنسي هذه المرة.

ففي نزاع تحكيمي دولي بين - Agence Transcongolaire des communications Chemin de fer Congo Océan/ compagnie minière de l'ogo outé (comilog)'

    جري هذا التحكيم بين الشركتين في باريس، بنتيجة نزاع بينهما، وصدر الحكم بعد أن قدم المحكم المعين من احد الطرفين استقالته بمجرد ان تبلغ صورة عن مشروع الحكم التحكيمي الذي جرت بشأنه المذاكرة وكان المحكمان الآخران موضوع طلب عزل عالق أمام القضاء الفرنسي.

    فطلب الطرف الخاسر من محكمة استئناف باريس أبطال الحكم التحكيمي مدلياً بأن الحكم صدر عن محكمة تشكلت خلافاً للعقد التحكيمي. 

   واعتبرت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 1997/7/1 أن الطابع التعسفي المحتمل الرامي إلى المماطلة والتسويف، لا تأثير له على حل النزاع الحالي الذي ينحصر في طلب ابطال الحكم التحكيمي وبالتالي فهو ينحصر بنقطة واحدة وهي معرفة ما إذا كان الحكم التحكيمي قد صدر عن محكمة تحكيمية قانونية. واعتبرت محكمة الاستئناف أنه بغض النظر عن مسؤولية وموجبات المحكم اللتين يمكن أن تكونا اطاراً لدعوى مختلفة، فإن المحكم المستقيل لم يقم بمهمته حتى آخر مراحلها، وان هذا الأمر لا يتعلق بأطراف النزاع، بل يتعلق بالمحكمة التحكيمية وسلطتها القضائية المنبثقة من العقد التحكيمي. وتلاحظ محكمة الاستئناف أن المحكم المستقيل قدم استقالته خلال المذاكرة، بحيث أن المحكمة التحكيمية حين اتخذت قرارها، فإنها كانت مكونة من رئيسها ومن المحكم المسمى من الطرف الذي ربح الدعوى، وبالتالي فهو صادر عن محكمة تحكيمية مبتورة، مقطوع منها عضو من أعضائها، وبالتالي فإن تشكيلها لم يكن متوافقة مع العقد الذي تستمد منه سلطتها القضائية، ويضاف إلى ذلك أن رئيس محكمة البداية في باريس قد روجع في هذا الاشكال عند صدور الحكم التحكيمي، في الوقت الذي عين فيه الطرف الذي استقال محكمه، سمی محکم بديلاً، واعتبرت محكمة الاستئناف أن هذا السبب وحده يكفي الإبطال الحكم التحكيمي.

 

نبذة رابعة - فقه التحكيم الدولي يناقش مشكلة استقالة المحكم ووسائل التسويف والمماطلة التي تجر اليها

   منح الفكر القانوني موضوع استقالة المحكم التعسفية الرامية إلى المماطلة والتسويف في التحكيم، اهتماماً كبيراً، وتصدى له علماء القانون الكبار، وبدا الفقه القانوني في العالم ميالاً الى التسليم بصحة المحكمة التحكيمية المبتورة، في حين أن الاجتهاد القضائي في دول القانون المدني ولاسيما فرنسا ما زال متردداً يخطو خطوة إلى الأمام ثم خطوة إلى الخلف، بينما حسم اجتهاد دول اعراف القوانين الأنكلواميركية، الأمر لصالح تكريس صحة الأحكام التحكيمية الصادرة عن محاكم تحكيمية مبتورة استقال أحد المحكمين فيها.

   وقد تصدى للموضوع عدد كبير من العلماء نلقي نظرة على آرائهم في الموضوع:

 

1- البروفسور Georges Scelle مقرر اليونسترال 1951: الاستقالة مخالفة للقانون والحكم الصادر عن محكمة مبتورة صحيح 

بين أوائل من تصدوا للموضوع، البروفسور G. Scelle، مقرر لجنة قانون التجارة الدولية في الأمم المتحدة (اليونسترال) سنة 1951 وكان هو الذي دق ناقوس خطر وسائل المماطلة والتسويف هذه! وكان ذلك في دورات اليونسترال باكراً في الأمم المتحدة منذ خمسينات القرن الماضي، حيث جرت محاولات لوضع معاهدات و تضمین القوانين النموذجية معالجة لهذا الأمر، بتشريع صحة الأحكام الصادرة عن المحكمة التحكيمية المبتورة، التي استقال أحد محکميها بدون مبرر. وكتب البروفسور Scelle يقول: عن محاولة تعطيل التحكيم عن طريق استقالة محكم خلال سير التحكيم، كتب يقول:

   "الأمر غير مبرر، من زاوية حسن النية وهو مخالف كلياً للقانون"، وبالتالي فليس هناك أي قاعدة قانونية تجيز ذلك من ناحية القانون الدولي، اذا فليس بإمكان لا المحكم المستقبل ولا الطرف الذي سماه أن يشكك في صحة حكم تحكيمي صادر عن باقي المحكمين.

2- البروفسور Stephen Schwebel نائب رئيس محكمة العدل الدولية في لاهاي 1987: الاستقالة مخالفة للقانون الدولي وللمبادئ العامة للقانون والمحكمة المبتورة هي الحل :

   يقول القاضي Stephen Schwebel: "أن استقالة عضو في المحكمة التحكيمية الدولية، بدون اجازة هذه المحكمة او موافقتها هو مخالف للقانون الدولي والمبادئ العامة للقانون المعترف بها. أن استقالة تعسفية لا مبرر لها كهذه، يجب أن لا تحرم محكمة تحكيمية دولية من سلطة متابعة اجراءات المحاكمة واصدار الحكم التحكيمي. ثم يقول القاضي Schwebel أن الفقه القانوني الدولي يميل بشكل واضح وبمساندة محكمة العدل الدولية لصالح حق المحكمة التحكيمية الدولية في حال إشكال يثيره محکم، يميل إلى تبني حقها في متابعة اجراءات التحكيم واصدار حكم تحكيمي يكون صحيحاً".

 

3-Alain Redfern و Martin Hunter: اذا كانت الاستقالة في آخر مراحل التحكيم، الحل المناسب هو محكمة مبتورة من محكمين اثنين:

   يقف العالمان القانونيان البريطانيان أمام الوقت الذي يقدم فيه المحكم استقالة بدون مبرر كاف. فإذا كان التحكيم في مراحله الأولى، اذ ذاك يجري استبدال المحكم المستقبل، أما اذا كان التحكيم في مراحل متقدمة ويتطلب فصلاً سريعاً في النزاع لحسن سير العدالة، فإنه يجري استبدال المحكم بصورة مستعجلة، اما اذا كانت الاستقالة في مرحلة متقدمة من التحكيم فان الحل المناسب هو أن يتابع المحكمان اجراءات التحكيم وان يصدرا حكمهما التحكيمي كما حصل في دعاوی طبقت نظام اليونسترال او خضعت لنظام تحكيم غرفة التجارة الدولية.

   ويضيفان أن الحل الأمثل هو أن يلحظ نظام مركز التحكيم او اتفاق الطرفين هذه الحالة ويجيز نظام المركز التحكيمي اتفاق الطرفين الذي يجيز للمحكمين أن يتابعا اجراءات التحكيم ويصدرا حكمهما التحكيمي واذ ذاك ليس هناك شك في أن القضاء سيعطي هذا الحكم التحكيمي صيغة التنفيذ.

4- E. Gaillard: لا يبقى سوى مطالبة المحكم المستقيل بالعطل والضرر: 

   يعتبر العلامة E. Gaillard أن كل القوانين لا تقبل بأستقالة المحكم التي يقررها هو وحده دون مبررات مقبولة. ويعتبر أن صيغة القانون الفرنسي متشددة، بالنسبة إلى إلزام المحكم بمتابعة مهمته، اذ أن النصوص القانونية الفرنسية تلزم "المحكم بمتابعة مهمته الى نهايتها". وكذلك القانون البلجيكي الذي يقضي بأن "المحكم الذي قبل مهمته لا يمكنه التخلي عنها، الا اذا طلب ذلك من محكمة الدرجة الأولى وهي التي ترخص له". كذلك الهولندي يذهب في نفس الاتجاه المتشدد في إلزام المحكم بمتابعة مهمته، كما القانون النموذجي للتحكيم الذي وضعته اليونسترال" الذي يشترط لاعفاء محكم قبل بمهمة، اشتراط أن تقبل هذه الاستقالة من كل الأطراف، أو من السلطة الخارجة عن التحكيم، أي اذا كان التحكيم مؤسساتية، فمركز التحكيم والا فالقضاء المختص أو سلطة التسمية. القانون الألماني ينص على أن استقالة المحكم تكون مقبولة اذا كان استبداله يمكن أن يتم بدون صعوبات او لأسباب جدية. القانون النمساوي يفرض سبباً معقولاً للاستقالة.  

    ويضيف E. Gaillard أن انظمة قانونية أخرى، لم تنص على ذلك في قوانينها، ولكنها کرست المبدأ في اجتهادات محاكمها وبموجبه لا يحق للمحكم أن يستقيل الا لأسباب معقولة.

   ويضيف العلامة Gaillard ولكن يجب أن نسلم بأن الاستقالة غير المبررة لا يمكن معالجتها، اذ ليست هناك وسائل الإلزام المحكم بالقيام بعمل Obligation de faire فلا يبقى سوی مطالبته بالعطل والضرر وتخفيض أتعابه. اذا حسب العلامة Gaillard ليست هناك وسيلة سوى ملاحقة المحكم بالمسؤولية ومطالبته بالعطل والضرر وتخفيض اتعابه، ولكن التحكيم سيتعطل ولن يصدر حكماً يحسم النزاع. فهذه الوسيلة لا تفضي إلى انقاذ التحكيم. فالتحكيم يمكن أن ينتهي، بأنهاء مهلته وبتعذر استبدال سريع للمحكم المستقيل. فكيف ننقذ التحكيم؟ هل يتابع المحكمان الباقيان التحكيم الى نهايته؟ هل يمكن القبول بصحة الحكم التحكيمي الصادر عن هذين المحكمين؟ 

   يجيب Gaillard انه من المشكوك فيه التسليم بنظرية البروفسور Schwebel التي تقضي بأن يتابع المحكمان وحدهما بكل بساطة سير التحكيم، لأن القانون النموذجي الذي وضعته اليونسترال ومعظم القوانين تقضي بأن المحكم الذي يستقيل يجب استبداله، (مع العلم أن العلامة البريطاني Veeder يختلف عن Gaillard في تفسير القانون النموذجي، اذ هو يعتبر أن القانون النموذجي للتحكيم الذي وضعته اليونسترال يمكن تفسيره أنه يجيز صحة الأحكام التحكيمية الصادرة عن محكمة تحكيمية مبتورة، تابعت التحكيم الى نهايته بعد استقالة غير مبررة من احد المحكمين).

   هناك أذا خلاف. فمعظم الفقه مع المحكمة المبتورة وأقلية منه تعتبر أن هذا الحل لا يتوافق مع القوانين المرعية! 

   ولكن العلامة Gaillard يعتبر أنه بالرغم من أن الباب القانوني مقفل أمام المحكمة المبتورة، فإن الباب يبقى مفتوحا في كل القوانين امام اتفاق الأطراف في العقد التحكيمي على اي حل آخر، ومنه حل المحكمة المبتورة الذي اذا كان العقد التحكيمي ينص عليه فهو صحيح. وهكذا فإن Gaillard لا يبدو متبنيا المحكمة المبتورة الا اذا نص عليها اتفاق الطرفين. 

   ومن باب الأمانة يشير Gaillard إلى أن القانون الهولندي في مادته 103 (قانون التحكيم) يسهل، منعاً لإضاعة الوقت، بإجازة استئناف التحكيم من النقطة التي وصل اليها عند استقالة المحكم، دون الرجوع الى أول اجراءات التحكيم من جديد.

 

5- البروفسور Thomas Clay: إذا تعذر الاستبدال فالحل بالمحكمة المبتورة: 

   يعتبر البروفسور Thomas Clay انه امام استقالة المحكم أو امتناعه، طرحت فكرة متابعة المحكمين سير التحكيم بمحكمة مبتورة لتجنب تجميد التحكيم، ولكن هذه الفكرة تصطدم بمبدأ مساواة الأطراف، ولكن البروفسور Clay يعود فيقول - وكأنه يريد أن يقول وامرنا الله - انه يجب استبدال المحكم، ولكن اذا رفض الطرف الذي سمى المحكم الاستبدال او تعذر ذلك، اذ ذاك يمكن للمحكمة التحكيمية المبتورة أن تتابع التحكيم إلى نهايته، ثم يضيف Thomas Clay: وهذا الحل هو المعمول به في الوقت الحاضر.

 

6- المجلس الدولي للتحكيم التجاري (ICCA) الايكا- 1990: مع المحكمة المبتورة:  

   خصص جزء مهم من مؤتمر المجلس الدولي للتحكيم التجاري ICCA (الايكا) الذي انعقد سنة 1990 لموضوع المحكمة التحكيمية المبتورة. ومن هذه المناقشات ولد التيار الفكري القانوني المساند للمحكمة التحكيمية المبتورة لقطع الطريق على هذه الوسيلة الجديدة المبتكرة من وسائل المماطلة والتسويف في التحكيم، والتي تفضي بالفعل إلى تعطيل التحكيم وانهائه بدون حسم النزاع.

    تحدث القاضي Howard M. Holtzman الذي ترأس المؤتمر، فأكد أن استبدال المحكم في هذه الحالة بمحكم جديد، لا يحل المشكلة، ولاسيما اذا كان التحكيم في مراحل متقدمة، ففضلاً عن المهل التي تضيق، فإن المحكم الجديد يحتاج إلى وقت ليلم بالقضية، ومن ثم فإن جلسات المحاكمة يجب اعادتها من اولها. كل ذلك لا يحل المشكلة. في هذه المرحلة "الحل الوحيد العملي، كما يقول Holtzman هو أن يتابع المحكمان الباقيان اجراءات المحاكمة ويصدران الحكم التحكيمي" في موقفه هذا كان القاضي Holtzman يلخص معظم التقارير القانونية المقدمة الى المؤتمر والتعليقات عليها والتي بينت أن المحاكم القضائية سواء محاكم القوانين المدنية أو محاكم اعراف القوانين الأنكلو اميركية تحترم الأحكام التحكيمية الصادرة عن محاكم تحكيمية مبتورة اذا اتفق الأطراف في العقد التحكيمي على ذلك أو أحال العقد التحكيمي إلى نظام تحكيمي يلحظ المحكمة المبتورة. وختم بالقول أنه حتى في غياب تعبير عن ارادة الأطراف، فمن الصعب تصور قضاء عصري لدولة محبذة للتحكيم التجاري الدولي، تبطل الأحكام التحكيمية الصادرة عن محاكم تحكيمية مبتورة، يكون المحكم فيها قد قاطع التحكيم في مرحلة المذاكرة. ويضيف أن القوانين الوطنية التي تشير إلى مشاركة المحكمين الثلاثة يجب أن تعتبر أن حقها قد وصلها حين تكون كل فرص المشاركة قد قدمت إلى المحكمين الثلاثة. 

   ويقول العلامة البريطاني V. V. Veeder أن القانون النموذجي للتحكيم - كما في دول اعراف القوانين الأنكلو اميركية يعتبر انه حين تتوصل اكثرية المحكمين الى المذاكرة التي فيها ثلاثة محكمين، فإن استقالة المحكم المخالف لا تمنع المحكمة التحكيمية من مواصلة المذاكرة وختمها واصدار الحكم التحكيمي في غياب هذا المحكم المستقبل. القانون النموذجي للتحكيم كما التطبيق العملي في الولايات المتحدة يقول العلامة Veeder يجيزان للمحكمة المبتورة المتابعة الى حين اصدار الحكم التحكيمي.

   ويشير البروفسور Ivan Szasz إلى أن محكمة لندن التحكيمية الدولية لحظت وضع المحكم الذي يرفض المشاركة في تحرير الحكم التحكيمي، بعد أن تكون قد عرضت عليه المشاركة في تحريرها فامتنع، فإن المحكمين الباقيين يتابعان الاجراءات التحكيمية في غيابه.

   كذلك فإن سلطة المحكمة التحكيمية المبتورة معترف بها في قرار متخذ في مؤسسة القانون الدولي سنة 1989 Institut du droit international.

 

نبذة خامسة- مراكز التحكيم الدولي تتبنى المحكمة المبتورة واحكامها والتيار المساند لهذا الحل مجمع في فقه واجتهاد اعراف القوانين، وهو يميل الى الارجحية في فقه واجتهاد القوانين المدنية: 

   تبنت الهيئة الأميركية للتحكيم في نظامها الذي وضع موضع التنفيذ في 1991/3/1 المحكمة التحكيمية المبتورة وتركت للمحكمين الاثنين مسؤولية تقرير ما اذا كانا يتابعان التحكيم ام لا، فإذا قررا أن للاستقالة سبباً وجيهاً جرى استبدال المحكم، أما في خلاف ذلك، فإن لهما سلطة متابعة السير بالتحكيم واصدار حكم تحكيمي صحيح .

   كذلك أقرت محكمة لندن التحكيمية المحكمة المبتورة في نظامها في حال استقالة المحكم بدون مبرر وكرست صحة الحكم التحكيمي الصادر عن المحكمة المبتورة .

   كذلك فعلت المنظمة الدولية للملكية الفكرية (OMPI) التي تبنى نظام مركزها التحكيمي المحكمة التحكيمية المبتورة وأحكامها في حال استقالة المحكم كذلك فعلت المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي في نظامها الذي وضع موضع التنفيذ في 1993/7/6.

   وفي مشروع التعديل على قواعد تحكيم اليونسترال بعد ثلاثين سنة من الممارسة، وضع تعديل على المادة 13 بإستبدال الفقرة الثانية التي صار نصها كما يلي: .

   2- في حالة اعتبار أحد الأطراف أن محكمة قد استقال لأسباب باطلة أو أنه مقصر في اداء وظائفه، يجوز له أن يلتمس من سلطة التعيين إما تبديل ذلك المحكم او الإذن للمحكمين الآخرين بمواصلة التحكيم واتخاذ أي قرار. واذا رأت سلطة التعيين أن ظروف التحكيم تبرر تعيين محكم بديل وجب عليها أن تقرر ما إذا كانت ستطبق الإجراء المنصوص عليه في المواد 6 الى 9 بشأن تعيين محكم أم أنها ستعين المحكم البديل. عدم قيام أحد المحكمين بمهمته أو فى حالة وجود استحالة قانونية او فعلية تحول دونه والقيام بها ، تطبق الاجراءات المنصوص عليها فى المواد السابقة بشأن رد المحكمين وتبديلهم .

   فالصورة التي تبدو اليوم هي أن مراكز التحكيم الدولية الكبرى قد تبنت فكرة المحكمة المبتورة واعتمدتها. ونظام تحكيم غرفة التجارة الدولية وان لم يعتمد صراحة الفكرة، الا أن التطبيق العملي في دعوى Milutinovic التي خضعت لنظام الـ ICC، أصدر فيها المحكمان حكماً جزئياً وصادقت عليه محكمة التحكيم الدائمة للـ ICC. وقد تحول الاجتهاد الفرنسي في موقفه سنة 2005 فسلم بصحة الحكم التحكيمي الصادر عن محكمين اذا تعذر تعيين المحكم الثالث، ولكنه اشترط أن يكون العقد التحكيمي قد لحظ ذلك، ثم عادت محكمة استئناف باريس سنة 2007 فأعطت صيغة التنفيذ الحكم تحكيمي صادر عن محكمة مبتورة في دعوى بين شركة انكليزية والدولة المصرية فالاجتهاد الفرنسي بالنسبة إلى المحكمة المبتورة يخطو خطوة إلى الأمام ثم خطوة إلى الخلف.

   والحدث الكبير في هذا المضمار هو تبني التعديلات المقترحة على قواعد تحكيم اليونسترال للمحكمة المبتورة وصحة قراراتها في حال استقالة المحكم التعسفية.

   في دول اعراف القوانين اعتمدت المحكمة المبتورة من قبل الاجتهاد بينما اجتهاد القوانين المدنية مازال متردداً، ولكنه بدأ يميل منذ سنة 2007 في حكم جديد اشرنا اليه سابقاً، إلى التسليم بالمحكمة المبتورة وهذه الخطوة الى الامام تؤكد اتجاه اجتهاد القوانين المدنية للإنضمام الى تیار الفقه في العالم، والى تيار الفقه والاجتهاد في دول اعراف القوانين الدولية، ولاسيما أن اليونسترال قد اعتمدت الفكرة أو هي في طريقها إلى ذلك في مشروع تعديلاتها على قواعد تحكيم اليونسترال وقد شاركت في اقرار هذه التعديلات دول القوانين المدنية في الأمم المتحدة.

   ماذا عن البلاد العربية؟

   الموضوع لم يطرح بعد - على حد علمنا ولكنه حين يطرح، فإن الحلول اصبحت جاهزة ولن يتخلى ركب الاجتهاد العربي عن مواكبة سير الفقه والاجتهاد في العالم، ولاسيما بعد مشروع تعديلات اليونسترال على قواعد التحكيم بعد تطبيق ثلاثين عاماً. وقد كانت الدول العربية مشاركة في هذه الدورات التي أقرت فيها هذه التعديلات التي تسلم بالمحكمة التحكيمية المبتورة وأحكامها. وهذه الدول تبنت المحكمة التحكيمية المبتورة لقطع الطريق أمام هذا الابتكار الجديد الساعي إلى التسويف والمماطلة في التحكيم عن طريق تقديم المحكم استقالة غير مبررة وغير مفهومة و غير قانونية.