سبق أن ذكرنـا مـن شـروط التحكيم : أن يكون الحكـم صـالحـاً للتحكيم، وذلك باتصافه بالشروط اللازمة للمحكم ، وانتفاء التهم المانعة من الحكم ، وكما يشترط ذلك في الحكم ابتداء فإنه يشترط فيه دواماً ، فإذا اختل شيء من تلك الأوصاف اللازم توافرها في الحكـم انعزل يفقد تلك الصفة.
يقول ابن نجيم ( ت : ٩٧٠هـ ) من الحنفية نقلاً عن المحيط : « أنه ـ يعني الحكم ـ يخرج عن الحكومة بأحد أسباب ثلاثة ... أو بخروجه من أن يكون أهلاً للشهادة بأن عمي، أو ارتد وإن لم يلحق بدار الحرب »، لكن إذا كان ثم مقتض لاستمرار التحكيم كالمشارطـة عليـه انعـزل الحكم وعين غيره .
الطريق الثانية : غيبة الحكم ، أو سفره ، أو مرضه :
ذكر الحنفية : أن الحكم لو غاب أو أغمي عليه أو سافر ثم بـريء أو قدم من سفره : كان على حكمه، وظاهر ذلك أنه لا ينعزل بذلك.
والذي يظهر لي : بأن الحكـم إذا سافر ، أو غـاب ، أو مرض ، أو سجن مدة يتأخر بها التحكيم أو يتضرر بهـا الخصمان أو أحدهما عرفاً فإنه يجوز للخصمين أو لأحدهما عزل الحكـم ، وإن انتظـراه حتى ينتهي
عذره جـاز . ومتـى عزل الحكـم وكـان ثـمّ مقتـض لاستمرار التحكيـم كالمشارطة عليه عين غيره.
الطريق الثالثة : انتهاء الأجل إذا كـان التحكيـم محـدداً بمدة :
الطريق الرابعة : موت الحكم :
تجري ولاية الحكم ما دام حياً ما لم يتصف بوصـف يوجب عزله ، ولكنه إذا مات انتهت ولايته ، صرح به الحنفية، وهو ظاهر .
الطريق الخامسة : عزل الخصمين معا للحكم :
هل ينعزل الحكم باتفاق الخصمين معاً على عزله قبل الحكم ؟ .
ذكر هذه المسألة الحنفيـة ، والمالكيـة ، وقرروا : أن عـزل الخصمين معاً للحكم قبل الشروع في التحكيم أو بعده مـاض ، وليـس لـه بعد ذلك الحكم بينهما ، وإذا حكم لم يمض حكمه.
و لم أقف على ما عللوا به .
ولما ذكروه هنا قوة ؛ لأن الخصمين هما أصحاب القضيـة ، ولهما مصلحة تعجيلها ، وعليهمـا ضـرر تأخيرهـا ، وهمـا معـاً أولى بتقديـر مصلحتهما في ذلك وتقرير نظرهـا مـن قبـل حـكـم آخـر يتفقان عليـه أو تركها .
لكن ذكرت لجنة مجلة الأحكام العدلية الحنفية في ( م/ ١٨٤٧ ) : بأن الخصمين إذا اتفقا على الحكـم وأجـازه القاضي المأذون له بنصـب نائب : كان الحكم بمنزلـة نـائـب هـذا القاضي ، وعلـى هـذا فليـس للخصمين عزله إلا بإذن القاضي .
وهذا التفصيل معتبر بأن يقال : إذا أجازه القـاضي لم ينعزل بعزلهما إلا بعد إذن القاضي.
لكن إذا تضمن الفسخ في هذه الصورة ضرراً على غير المتخاصمين لم يجز و لم ينفذ إلا على وجه يضمـن بـه ذلك الضـرر ، كما لو كان التحكيم على جعل أو أجرة ، فللحكم المطالبة بما يستحقه مـن جعـل أو أجرة حسب المقرر في أحكامهما ، وكما لو كـان الحكـم قـد أنفق على القضية شيئاً مما لا يدخل في الأجرة فيضمن له .
الطريق السادسة: عزل أحد الخصمين للحكم:
والذي يظهر لي : أنه ليس لأحد الخصمين منفـرداً عـزل الحكـم عن التحكيم بعـد شـروعه فيه ؛ لأن أحـد الخصمين إذا استشعر الغلبة بعـد الشروع في التحكيم فسوف يصير إلى عزل الحكم ، مما يؤدي إلى إبطـال المقصود من التحكيم ـ وهو فصل النزاع ـ ويصير التحكيم لغواً لا فائدة فيه.
أما عدم لزوم العزل قبل الشروع فيه وبعد الرضـا بـه ـ وهـو القـول الثالث ـ فله قوة ؛ لما يلي :
أ) أن التحكيم عقد ؛ والأصل في العقود الصحة واللزوم.
ب ) أن للخصم الممتنع من الفسخ مصلحة في لزومه ، وهي : تجنب طول إجراءات التقاضي ، والمحافظة على أسرار المحاكمـة ، وعـدم حضـور المحكمة لمن لا يرغب ذلك ، وكلها مصالح معتبرة .
مسألة : حكم عقد التحكيم من ناحية لزومه وجوازه :
هل التحكيم عقد جائز أو لازم ؟ .
مما سبق ذكـره مـن أقـوال العلماء في عزل الحكـم مـن قبـل أحـد الخصمين يظهر أن في ذلك أقوالاً ثلاثة ، هي:
القول الأول : أن التحكيم عقد جائز.
وهـذا مقتضى القول الأول ، وصـرح بـه الحنفيـة ، يقـول علـي
حـيـدر ( كـان حياً : ١٣٢٧هـ ) : « التحكيم من العقود الغير اللازمـة في حق الطرفين ، كشركة المضاربة ، والشركة ، والوكالـة بـلا التمـاس الطالب ».
القول الثاني : أن التحكيم عقد جائز قبل الشروع فيـه ، ولازم بعـد الشروع فيه.
وهو مقتضى القول الثاني.
القول الثالث : أن التحكيم عقد لازم مطلقاً بعد الرضا بـه ولـو قبـل الشروع فيه.
وهو مقتضى القول الثالث.
والاستدلال والترجيح يعلم مما سلف.
الطريق السابعة : عزل الحكم لنفسه :
هل للحكم عزل نفسه عن التحكيم بغير رضا الخصمين ؟.
صرح بعض المالكية بأنه ليس للحكـم أن يعزل نفسـه عـن التحكيم بغير رضا الخصمين إذا شرع في نظر الخصومة ، ومفهومه : جـواز ذلك للحكم قبل الشروع في التحكيم .
وعللوا : بأن حق الخصمين المحكمين قد تعلق بولاية الحكم ، فليس له عزل نفسه بغير رضاهم.
وهذا القول يتفق مـع مـا ذكـره أصحاب القول الثاني في الصـورة الثانية من عدم عزل الحكم بعد الشروع في التحكيم .
وما ذكره أصحاب القول الأول في الصـورة الثانيـة مـن جـواز عـزل أحد الخصمين للحكم قبل الشروع وبعـده ولـو قبيـل الحـكـم يقتضي أن التحكيم عقد جائز ، ومقتضى ذلك أنه يجوز للحكـم عـزل نفسـه قبـل
الشروع في التحكيم وبعده قبل الحكم .
وما ذكره أصحاب القول الثالث في الصورة الثانيـة مـن عـدم جـواز عزل أحد الخصمين للحكم قبـل الشروع في التحكيم وبعـده يقتضي أن التحكيم عقد لازم ، وعليه فليس للحكم عزل نفسه بعد الرضا بالتحكيم
ولو قبل الشروع في التحكيم إلا بموافقة الخصمين.
ولهذا القول قوة ؛ لأن التحكيـم عـقـد ، والأصل في العقود الصحة واللزوم.
لكن إذا امتنع المحكم من مباشرة التحكيم ، أو الاستمرار فيـه كـان للخصمين أو أحدهما عزله ، ولا أجرة له عما مضى .