بداية يمكن تقسيم هذه التشريعات إلى اتجاهين اتجاه ينص على أن الحكم يكون بنفس أسباب رد القاضي، واتجاه حرر رد المحكم من هذه الأسباب، مما يجعلنا أمام اتجاهين مختلفين: اتجاه مضيق، واتجاه موسع.
أولاً: الاتجاه المضيق: رد المحكم بنفس أسباب رد القاضي المحكم:
حيث جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون رقم ۲۳ لسنة ۱۹۹۲ بتعديل بعض قواعد المرافعات، ما نصه يتأسس مبدأ حياد القاضي على قاعدة أصولية قوامها وجوب اطمئنان المتقاضي إلى قاضيه، وأن قضاءه لا يصدر إلا عن الحق وحده دون تحيز أو هوى، وإذا كانت جملة الأحكام التشريعية المنظمة لشئون القضاة قد حرصت على تدعيم وتوفير هذه الحيدة، فإنها لم تغفل حق المتقاضي إذا كانت لديه أسباب تدعو إلى مظنة التأثير في هذه والحيدة، أن يجد السبيل ليحول بين من قامت في شأنه هذه المظنة وبين القضاء في دعواه.
وهكذا بينت هذه العبارات الحكمة من رد القاضي واعتباره ضمانة تقاضي مرتبطة بحق التقاضي، ولذلك لا نوافق على ما ذهب إليه رأي من أن الحكمة من نظام رد القاضي تبدو في أن الدولة تفرض على المتقاضي قاضيها فتمنحه لذلك وسيلة لاستبعاده، لأن هذا القول يناقض الاتجاه الذي يطبق أسباب رد القاضي على المحكم مع أن المحكم ليس مفروضأ من الدولة، بل مختارا بارادة الخصم.
ومن التشريعات التي لا تزال تأخذ بهذا الاتجاه الضيق لرد المحكم. - قانون الإجراءات المدنية الاماراتي، حيث نصت المادة 4/207 على رد المحكم بنفس العبارات التي كانت واردة في المادة 503 مرافعات مصري، وهذا أيضاً ما أخذت به حرفياً المادة 194 من قانون المرافعات القطري، والمادة ۱۷۸ مرافعات كويتي، والمادة 749 مرافعات ليبي وفي نفس الاتجاه يأتي فائون المرافعات العراقي بالنص في المادة ۱/۲۶۱ يجوز رد المحكم لنفس الأسباب التي يرد بها الحاكم، ولا يكون ذلك إلا لأسباب تظهر بعد تعيين المحكم كما نصت المادة ۱۲ من نظام التحكيم السعودي على أنه يطلب رد المحكم للأسباب ذاتها التي يرد بها القاضي... إلا أنها لم تقيد ذلك أن يكون سبب الرد مجهولاً عند الاتفاق على التحكيم. عكس ما انتهت كافة التشريعات.
ومن التشريعات التي لا تزال في نفس الاتجاه المضيق، قانون أحسوا المحاكمات المدنية اللبناني، (م۷۷۰). وقد أعفى المشرع اللبناني التحدي الدولي إذا كان خاضعا للقانون اللبناني من تطبيق هذه المادة (۱۲۰ أم .م. ل)
ومن التشريعات التي أخذت بهذا الاتجاه المضيق ما جاء بمدونة التحكيم للمملكة المغربية، حيث فرقت بين التحكيم الدولي. ولم تبين موقفها من رد المحكم، والتحكيم الداخلي وأخذت فيه بالمعيار الضيق، حيث عددت المادة ۱۷ منها حالات معينة أسمتها حالات تجريح المحكم بالنص على أنه لا يكون تجريح المحكم إلا بسبب نشأ أو اكتشف بعد تعيينه.
يمكن تجريح المحكم إذا:
- كانت له أو لزوجته مصلحة شخصية مباشرة أو غير مباشرة في النزاع.
- وجدت قرابة أو مصاهرة بينه أو بين زوجه مع أحد الأطراف حتى درجة ابن العم المباشر بإدخال الغاية.
- كانت هناك دعوى قائمة أو انتهت منذ أقل من سنتين بينه أو بين زوجه أو أصولهما أو فروعهما وبين أحد الأطراف.
- كان دائنة أو مدينة لأحد الأطراف.
- رافع أو كان طرفة في النزاع أو نظر فيه كمحكم أو أدلى فيه بشهادة.
- سبق أن كان نائبا قانونيا لأحد الأطراف.
- وجدت علاقة تبعية بين المحكم أو زوجه وبين أحد الأطراف أو زوجة .
- وجدت صداقة أو عداوة مشهورة بين المحكم واحد الأطراف.
والواقع أننا نلاحظ في هذه الأسباب نفس أسباب رد القاضي حيح أنها محصورة، ولكنها ليست بالضيقة ولا بالواسعة إذا ما قورنت بما إذ استقر في الاتجاه الموسع على النحو الذي ستراه لاحقا
ومن ناحية أخرى فإن أسباب رد القاضي لا تنطبق حرفيا على رد المحكم نظرا لاختلاف طبيعة العلاقة التي تربطه بالخصم، فلنأخذ مثلاً بأكثر حالات عدم صلاحية القاضي شيوعاً وهي فكرة القرابة سواء كانت قرابة النسب أو قرابة المصاهرة. فلقد استخدم المشرع المصري في قانون المرافعات فكرة القرابة والمصاهرة في أكثر من مرة عند صياغة قواعد عدم الصلاحية، ويرجع ذلك من ناحية السياسة التشريعية أنه يهدف إلى ملاحقة كل ما يمكن أن تؤدي إليه هذه العلاقة الحميمة من مساس بحيدة القاضي ونزاهته، وهنا تبدو لنا العلاقة الوثيقة بين أهداف السياسة التشريعية الروالاليات الفنية لتحقيقها.
فقد استخدمها ضمن ما أسميناه بحالات عدم الصلاحية النسبية ذات المدى العام حينما تقوم العلاقة بين قضاة في دائرة واحدة (م ۱/۷۵ من قانون السلطة القضائية واستخدمها أكثر من مرة في المادة 146 مرافعات عندما تناول حالات عدم الصلاحية الحتمية وهي حالة إذا كان القاضي قريبة أو مدرة لأحد الخسوم إلى الدرجة الرابعة، (م ۱/۱46) وحالة ما إذا كانت له سبلة قرابة أو مدماهرة للدرجة الرابعة بوصي أحد الخصوم أو بالقيم عليه او بأحد أعضاء مجلس ادارة الشركة المختصة أو بأحد مديريها وكان لهذا العضو أو المدير مسلحة في الدعوی.
واستخدمت فكرة القرابة أو المصاهرة بشكل أخر حفاظاً على مظهر الحياة القضائية في المادة ۲/۷۵ من قانون السلطة القضائية بقولها ولا يجوز أن يكون ممثل النيابة أو ممثل أحد الخصوم أو المدافع عنه ممن تربطهم الصلة المذكورة بأحد القضاة الذين ينظرون الدعوی.
ثانيا: الاتجاه الموسع في رد المحكم
تحررت التشريعات التي حذت حذو القانون النموذجي للتحكيم من أسباب رد القاضي، إيماناً منها باختلاف المركز القانوني والاجتماعي للمحكم عن القاضي، ووسعت هذه الأسباب إن ابتعدت عن أسلوب الحصر والتعداد، إلى أسلوب المعيار العام المرن عند الصياغة.
حيث جاء هذا المعيار في القانون النموذجي للتحكيم بعبارة «لا يجوز رد المحكم إلا إذا وجدت ظروف تثير شكوكاً لها ما يبررها حول حيدته واستقلاله، أو إذا لم يكن حائزاً لمؤهلات اتفق عليها الطرفان.. (م ۲/۱۲).
وهما نفس العبارة الواردة من قبل في قواعد اليونسترال (م ۱/۱۰)
وقد تبنت هذه العبارة التشريعات التي أخذت بالقانون النموذجي. ومنها قانون التحكيم المصري (م ۱/۱۸) غير أنها قد أغفلت الشق الثاني المتعلق بعدم حيازة المحكم للمؤهلات المتفق عليها عند التعيين. وهو أيضا ما فعله المشرع الأردني (م ۱/۱۷) من قانون التحكيم وقانون التحكيم العماني (م۱/۸).
غير أن من التشريعات ما أخذ بنص القانون النموذجي حرفيا بشقيه المتعلق بالشكوك الجدية حول الحيدة، وعدم حيازة المؤهلات المتفق عليها ومن ذلك قانون التحكيم البحريني (م ۲/۱۲) وقانون التحكيم التونسي (م ۲/۵۷) وقد أسمت الرد (تجريحاً) وهذا هو المصطلح المعروف في قانون المرافعات التونسي.
ومن التشريعات ما أخذ بعبارة القانون النموذجي، وأضاف عليها عبارة فقدان شروط الصلاحية وبدلاً من عبارة عدم حيازة المؤهلات، من ذلك مشروع قانون التحكيم السوري (م ۱/۱۶) كما سبقت الإشارة، وقانون التحكيم اليمني (م۲۲).
ومن التشريعات ما اكتفى بالإشارة إلى رد المحكم دون بيان مناطه من ذلك نص المادة 1 من قانون التحكيم القضائي الكويتي، وكذلك قانون الإجراءات المدنية الجزائري في شأن التحكيم الداخلي حيث نصت المادة 448 أن لا يجوز للمحكمين أن يتحوا عن مهمتهم إذا بدأوا فيها ولا يجوز ودهم إلا إذا طرأ سبب من أسباب الرد مند اتفاق التحكيم، غير أنه في التحكيم الدولي توسعت المادة 458 مکرر ة مضافة بالمرسوم التشريعي رقم ۹/۹۳ الصادر في ۱۹۹۳/4/۲5 المعدل لقانون الإجراءات المدنية حيث نصت على أن يمكن رد المحكم:
- عندما لا تتوافر فيه المؤهلات المتفق عليها بين الأطراف.
ب - عندما يكون سبب الرد المنصوص عليه في نظام التحكيم الذي اعتمده الأطراف قائماً.
ج - عندما تسمح الظروف بالارتياب المشروع في استقلاليته لا سيما بسبب وجود علاقات اقتصادية أو علاقات مصالح مباشرة أو بواسطة شخص آخر مع طرف من الأطراف.
وهنا نلاحظ أن المشرع الجزائري قد أخذ بما استودعته الأمم المتحدة في القانون النموذجي من معيار عام، وأضاف عليه ما يكون منصوصا عليه في القانون الواجب التطبيق على التحكيم من الناحية الإجرائية، وقد ضبط معيار الشك في الحيدة بوجود علاقات اقتصادية او مصالح مباشرة أو غير مباشرة.