يعني عدم الاستقلال مفهوم موضوعي يشير إلى وجود صلات بين هيئة التحكيم وأحد الخصوم أو تأثيرات خارجية عليها أو مصلحة في النزاع المطروح عليها أو قيود أو إغراءات أو ضغوط أو تهديدات بما قد يؤثر في صدور حكم محايد ويجعل هيئة التحكيم غير صالحة أصلا لنظر خصومة التحكيم.
الحياد مفهوم ذو طابع شخصي فهو يشير للرأي المحايد لهيئة التحكيم وهو يفيد خلو الذهن عن موضوع النزاع بعيدا عن أي رأي مسبق أو أي معلومات شخصية بشأنها أو أي مؤثرات بما يتعارض مع تجردها ونزاهتها وذلك حتى يستطيع أن تزن حجج الخصوم وزناً مجردا وتقضي في النزاع بصورة محايدة في المسائل المطروحة عليها حسب تقييمها للوقائع وفهمها للقانون، فلا يمكن أن تستقيم العدالة إذا ما كان المحكم منحازا لأحد أطراف النزاع أو كانت له مصلحة فيه.
نجد أن السوابق القضائية بشأن الاستقلال والحياد تظهر وجود تشابه كبير بينها فعلى سبيل المثال قضت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 2004/6/10م " أن استقلال المحكم يتضمن كقاضي في النزاع المقدم إليه الاستقلال الموضوعي والشخصي " والمحكمة بذلك تكون قد جمعت الاستقلال والحياد معا وفي رأيي أن محكمة الاستئناف نظرت إلى الفكرة كأصل ثم فرعت من جانبيها الموضوعي والشخصي.
يستخدم قانون الاونسترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي بصيغته المعدلة في عام 2009م في المادة (12) تعبيري الحياد والاستقلال وقانون التحكيم الانجليزي لسنة 1996م يشير في المادة (1/23/أ) إلى معاملة الطرفين بنزاهة وحياد دون الإشارة إلى مصطلح استقلال، وقواعد غرفة تحكيم إستكهولم في المادة (1/15) نصت على اعتبار الحياد أو الاستقلال سببا لرد المحكم إذا وجدت ظروف تبرر توافر آيا منها والمشرع السوداني في المادة (16) من قانون التحكيم لسنة 2016م نص على على جواز رد المحكم إذا قامت ظروف تثير شكوكا جدية حول استقلاله أو حيدته وقد بسطت ذلك بمزيدا من الإيضاح عند الكلام عن حالة بطلان حكم التحكيم إذا تم تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكمين على وجه مخالف للقانون أو لاتفاق الأطراف إذ أن المشرع جعلها سببا منفرداً من أسباب دعوى بطلان حكم التحكيم.
المعاملة المتساوية
تكفل المعاملة المتساوية للخصوم أمام قضاء التحكيم درعاً مانعاً يحول دون الاعتداء على حقوقهم وهى مبدأ جوهري في التحكيم فهو الجسر الذي تعبر عليه أوجه دفاعهم ودفوعهم، فعلى هيئة التحكيم أن تتبع في المسائل الإجرائية معاملة إجرائية واحدة لكلا الطرفين ولا يعني ذلك بالضرورة أن تكون المعاملة متماثلة بل تتطلب أن تجد المواقف المتشابهة لأحد الطرفين ذات المعاملة التي اتبعتها هيئة التحكيم بالنسبة للطرف الآخر.
التنازل عن قواعد المحاكمة العادلة
قبل أن أتناول التطبيقات القضائية بشأن الخصائص الإجرائية للمحاكمة العادلة أورد التنازل عن قواعد المحاكمة العادلة وأثير التساؤل الآتي: هل بالإمكان لأيا من طرفي النزاع أن يتنازل عن حقوقه الإجرائية المتمثلة في مراعاة قواعد المحاكمة العادلة؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب التفرقة بين مرحلتين:
الأولى مرحلة التنازل اللاحق فالفرض هنا أن التنازل عن مراعاة قواعد المحاكمة العادلة قد تم بعد وقوع المخالفة من هيئة التحكيم، ففي هذا الفرض يكون التنازل مقبولا لأن القاعدة تتطلب أن الطرف الذي لا يعترض فورا على وقوع أي مخالفة تقع من هيئة التحكيم لقواعد المحاكمة العادلة فلا يحق له بعد ذلك الطعن على حكم التحكيم أو المعارضة في التنفيذ استنادا على هذا السبب.
الثانية مرحلة التنازل السابق التنازل هنا تم قبل وقوع مخالفة هيئة التحكيم بقواعد المحاكمة العادلة والخطورة التي تكمن في هذا التنازل هو أن الطرف الذي يتنازل مسبقا عن قواعد المحاكمة العادلة لا يستطيع التنبؤ بالآثار التي تترتب من جراء هذا التنازل .
ففي قضية Suovaniemi .v. Finland، قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في رأي استشاري لها بتاريخ 1999/2/23م في هذه القضية أنه يمكن التنازل مسبقا عن الحق في تشكيل هيئة تحكيم مستقلة بشرط استيفاء شروط معينة وفي هذه القضية وعلى الرغم من أن Suovaniemi كان يعلم أن المحكم المعين من قبل خصمه سبق له العمل كمحام لهذا الأخير في مستهل إجراءات التحكيم تقريبا إلا أنه قبل مع ذلك وبصورة صريحة أن يظل المحكم مستمرا في أداء مهمته ولكن بعد خسارة Suovaniemi للقضية لجأ إلى إقامة دعوى بطلان على الحكم أمام المحاكم الفنلندية على أساس أن المحكم الذي كان يعمل من قبل كمحام لخصمه لم يكن مستقلا ومحايدا، ولقد قررت المحاكم الفنلندية أن Suovaniemi كان يعلم أن المحكم المعين من قبل خصمه كان قد عمل كمحام له من قبل إلا أنه تنازل صراحة عن حقه في وجود هيئة تحكيم مستقلة إلا أن Suovaniemi لم يقبل الحكم واعترض عليه أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان زاعما بوجود انتهاك للمادة (6) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
يمكن أن نستخلص أن التنازل المسبق في سياق إجراءات التحكيم عن إحدى ضمانات المحاكمة العادلة المنصوص عليها في القانون صراحة وفي إنعدام النص القانوني الصريح المانع يكون مقبولاً إذا استوفي الشروط التالية:
1- أن يكون التنازل واضحا لا غموض فيه.
2 - أن يكون المتنازل عالما بحقيقة مضمون التنازل وآثاره ويتطلب هذا أن يكون المتنازل على علم تام بالحقوق التي تنازل عنها وبالمخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك وأن يكون مصحوبا بضمانات تتناسب مع أهمية الحق الذي تم التنازل عنه.