فإن تطبيق على هذا المبدأ على المحكم لا يثير إشكالية بحسب الأصل.
ومع ذلك فإننا نرى أن حرية الأطراف في التحكيم لا يمكن منعها كلية عارف من هذه الخشية، وإنما لا بد من إحاطتها بمجموعة ضمانات تکفل استعمالها، ولذلك يبقى التحكيم الاختياري رغم محاذير أفضل من عدم اللجوء إلى التحكيم أصلا، وفقدان مزاياه العديدة.
وأن الدولة تخضع للقانون و استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات (م 65 من الدستور المصري) فإن المحاكم وحدها هي التي تتمتع بالضمان الدستوري الطبيعتها القضائية، أما ما عدا ذلك من هيئات فإن طبيعتها القضائية لها قيمة تشريعية بحتة، وأن المعيار الذي يجب الاعتداد به في اضفاء الطبيعة القضائية على هيئة ما هو طبيعة الوظيفة التي تقوم بها وما إذا كانت قضائية ولئن كان استقلال المحاكمين أو هيئة التحكيم، أو مراكز وهيئات التحكيم المؤسسي في مواجهة الدولة أمر بديهي لما سبق بيانه.
غير أن المسألة تدق في حالة التحكيم الإجباري من ناحية، والتحكيم القضائي من ناحية أخرى.
ويبدو أول وجه من أوجه هذا الاختلاف فيما يتعلق بحرية الالتجاء إلى القضاء، فإذا كان الأصل هو حرية التقاضي، إلا أن هذه الحرية مقيدة بعدة ضوابط أولها - فيما يتعلق بالقضاء الرسمي للدولة - أن المدعي مقيد بما تفرضه علية قواعد الاختصاص القضائي، وهي قواعد في معظمها أمرة متعلقة بالنظام العام ينعدم إزاءا تماما مبدأ سلطان الإرادة, فالمستقر عليه في قانون المرافعات أنه لا يجوز مخالفة قواعد الاختصاص سواء بالإرادة المتفردة للمدعي، أو بالاتفاق مع المدعى عليه إلا في حدود - جد - ضيقة تتمثل في جواز الاتفاق على القاعدة العامة في الاختصاص المحلي، وهي قاعدة اختصاص محكمة موطن المدعى عليه.
ولذلك قيل بحق أن استقلال القضاء حق من حقوق الإنسان، وذلك من زاوية أنه القضاء هو الحصن الأخير لحماية الحقوق والحريات، فإن لم يكن مستقلا فلن يستطيع أن يكون كذلك، ولذلك نصت المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه «لكل شخص الحق في محاكمة عادلة علنية أمام محكمة مستقلة ومحايدة»، وقد اعتنق الدستور الفرنسي الصادر سنة ۱۹۵۸ نفس المبدأ فنصت المادة 2/11 منه على أن السلطة القضائية تحافظ على الحرية الفردية وتضمن احترام هذا المبدأ بالشروط المنصوص عليها قانونا.
كما اعتنق الدستور المصري الحالي نفس المبدأ بالنص في المادة 65 منه على أن «تخضع الدولة للقانون، واستقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسين لحماية الحقوق والحريات".
أما الاعتبار الثاني الذي ترتبط بضمانات الحيدة المتبادلة فيما بين الخصوم والمحكمين.
يلتقي فيه إرادتين، وإن إختلف الفقه في تكييف هذا العقد ما بين عقد وكالة أو عقد مقاولة، أو عقد عمل، ولن ندخل في تفاصيل ذلك، ولكن حسبنا التأكيد هنا أيا كانت طبيعة هذا العقد - وهو يختلف حتما عن اتفاق التحكيم - فهو من عقود الاعتبار الشخصي البحت، وهذا الاعتبار ينعكس بشكل مباشر على ضمانات حيدة واستقلال المحكمين.
وقد رصدت التشريعات الدولية، وكذلك التشريعات الوطنية مجوعة من التدابير التي رأتها كفيلة بتحقيق ضمانة ألحيدة والنزاهة بالنسبة للمحكمين ويمكننا تقسيم هذه التدابير إلى نوعين: تدابير وقائية، وتدابير علاجية.