والحيدة مُكمَّلة للاستقلال ومرتبطة به، إذ لا يمكننا تصور وجود الحيدة بدون الاستقلال. فإذا كان الاستقلال مسألة موضوعية، فإن الحيدة حالة عاطفية تتعلق بالميل العاطفي والذهني كصلة قرابة أو مصاهرة أو مودة تجعل المحكم يميل أو ينحاز إلى أحد الأطراف، أو إذا كان قد أبدى رأياً في موضوع النزاع المعروض على التحكيم.
وشرط الحيدة مسألة شخصية أو حالة تعني عدم التحيز لأي من الخصوم أو التعاطف المسبق مع وجهة نظر أحدهم، ويقهم هذا الشرط ضمناً من المبادئ القانونية العامة، ويفرضه المنطق السديد حتى بغير نص قانوني، بحسبانه أمرا يقتضيه المركز القانون للمحكم، ويتأسس مبدأ الحياد هذا على قاعدة أصولية دينية وحضارية - وإن وردت في التشريعات - قوامها وجوب اطمئنان الخصوم إلى من يفصل فيها شجر بينهم من خلاف سواءً كان قاضياً أو محكماً، وأن حكمه لا يصدر إلا عن الحق دون تحيز أو هوى.
التطبيقات القضائية :
في التطبيقات القضائية، قضت محكمة استئناف القاهرة، بأن "المحكم المسمى من قبل أحد الخصوم يصبح في منزلة القاضي بمجرد قبوله المهمة المسندة إليه، وبذلك فإنه ليس وكيلاً أو محامياً للخصم الذي أختاره، بل ، قاض مختار يجب أن يتوافر فيه شرطا الحيدة والاستقلال عن جميع أطراف النزاع بما فيهم الخصم الذي اختاره " .
وفي حكم آخر لنفس المحكمة اعتبرت أن عدم الحيدة هو " ميل نفسي أو ذهني للمحكم الصالح أو ضد أحد أطراف النزاع بحيث يرجح معه عدم اسـ استطاعته الحكم بغير ميل أو هوى لأحد أطراف النزاع أو ضده، بيد أنه يجب أن تكون العداوة أو المودة شخصية ومن القوة بحيث يستنتج منها قيام خطر عدم الحيدة عند إصدار الحكم ".
وفي السويد، قضت المحكمة العليا بأنه " يجب تقدير الظروف المؤثرة في حيادية المحكم بصورة موضوعية دون التركيز على خاطر تأثر المحكم بالعلاقة (الوكيل - الموكل) القائمة بين أحد الأطراف في التحكيم ومكتب المحاماة الذي يعمل فيه المحكم. عندما تكون العلاقة القائمة بين مكتب المحاماة وموكله ذات أهمية على الأقل تجارية، فإن رابطة المصلحة والولاء بين محامي المكتب والموكل هي ظرف يستدعي التساؤل حول حيادية المحكم العامل في هذا المكتب عندما يكون الموكل طرفاً في التحكيم ".
وفي الأردن وفي مسألة مشابهة قالت محكمة استئناف عمان " إن مسألة إثارة الشكوك في حياد المحكم لا تعنى بالضرورة أنه غير محايد ولكن المقصود هو أن يطمئن الخصوم إلى حياد المحكم التام دون أية شكوك كون قرار التحكيم بالنتيجة هو حكم قضائي وأن ارتباط المحكم بعلاقة شراكة مع وكيل أحد أطراف التحكيم وهذه العلاقة الشخصية ثابتة كون مساهمة الوكيل المذكور هي من مرحلة التأسيس، أي أنه لم يقم بشراء حصص من أحد الشركاء بطريقة عرضية وإنما من خلال معرفة وعلاقة ما تربط المحكم بالوكيل المذكور وهذا من شأنه أن يثير شكوكاً في حيدة المحكم في ذهن الخصم الآخر مما يتعين معه الحكم برد المحكم ".
ولكن ماذا يكون مصير حكم التحكيم إذا كان المحكم قريباً لأحد الأطراف وكان الطرف الآخر يعلم بهذه القرابة ؟ فهل يؤثر ذلك على حيدة المحكم ؟.
في اليمن قضت المحكمة العليا على أنه " لا يمنع أن يكون المحكم قريباً لأحد الأطراف إذا كان الطرف الآخر عالماً بذلك ولم يتقدم بطلب رد ذلك المحكم ".
وفي التحكيم التجاري الدولي هناك من يربط بين الحيدة والدين أو بينها وبين الجنسية، ويعتقد أن المحكم عندما يكون من جنسية أحد أطراف المنازعة أو من نفس دينه فإن ذلك يكون مظنة عدم حيدة هذا المحكم.
لذلك يلاحظ في التحكيم التجاري الدولي غالياً أن المحكمين أو رئيس هيئة التحكيم يكون من غير جنسية أطراف المنازعة. وقد جاء في قواعد الحكيم الغرفة التجارة الدولية (ICC) بياريس بأنه "يتعين أن يكون المحكم المنفرد أو رئيس هيئة التحكيم من جنسية المختلفة من جنسيات الأطراف..." .
استقلال المحكم وحيدته في نصوص قوانين التحكيم :
استقلال المحكم وحيدته من الشروط التي أوجبتها قوانين التحكيم محل الدراسة، فقد ورد في القانون النموذجي للتحكيم بأن على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه محكماً أن يصرح بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكاً لها ما يبررها حول حياده واستقلاله، وعلى المحكم، منذ تعيينه و طوال إجراءات التحكيم، أن يقضي بلا إيطاء إلى طرفي النزاع بوجود أي ظروف من هذا القبيل، إلا إذا كان قد سبق له أن أحاطهما علما بها. وجاء في قانون التحكيم المصري بأنه يجب على المحكم أن يفصح عند قبوله عن أية ظروف من شأنها إثارة شكوك حول استقلاله أو حيدته. ويتطابق مع هذا النص الفقرة (ج) من المادة (١٥) من قانون التحكيم الأردني.
أما نظام التحكيم السعودي فقد أوجب الا يكون للمحكم مصلحة في النزاع، وعليه منذ تعيينه وطوال إجراءات التحكيم أن يُصرح كتابة - الطرق التحكيم كل الظروف التي من شأنها أن تُثير شكوكاً لها ما يُسوّغها حول حياده واستقلاله، إلا إذا كان قد سبق له أن أحاطَهُما علما بها.
ويكون المحكم تمنوعاً من النظر في الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد طرفي التحكيم - في الحالات نفسها التي يُمنع فيها القاضي.
كذلك قانون التحكيم السوري أوجب على المحكم أن يفصح لطرفي التحكيم وللمحكمين الآخرين عن أية ظروف من شأنها أن تثير شكوكاً حول استقلاله أو حيدته سواء أكانت هذه الظروف قائمة عند قبوله لمهمته أم استجدت أثناء إجراءات التحكيم ويكون الطرفي التحكيم في هذه الحالة الخيار لقبول استمراره بمهمة التحكيم أو مطالبته بالتنحي عنه.
وجاء في القانون اليمني للتحكيم أنه يجب على الشخص حين يفاتح بقصد احتمال تعيينه محكماً أن يصرح لمن سيوليه الثقة بكل الظروف التي من شأنها أن تثير شكوكا حول حيدته واستقلاله.
وعلى ذات السياق نص قانون التحكيم العراقي بأن على المحكم عند اختياره مهمة التحكيم التصريح بكل ما من شأنه إثارة شكوك جدية في شأن استقلاله أو حياديته، أو نزاهته من تاريخ تعيينه وحتى انتهاء مهمته.
لكن هذا الحال التشريعي رغم أهمية تصديه لأمر الحيدة والاستقلال بما شمله من أحكام إلا أنه قد لا يضمن حيدة واستقلال المحكمين، لأن الالتزام بهذه المبادئ يعود بشكل أساسي إلى المحكمين وأطراف النزاع.
فهناك أطراف تدرك اختصاص ومهام المحكم ولا تسعى إلى التأثير عليه وتكون قد منحت المحكم عند اختيارها له ثقتها المطلقة، وهناك أطراف أخرى على عكس من ذلك ترى أن المحكم المختار من قبلها يفترض أن يكون إلى جانبها بحق أو بباطل.
وهناك بالمقابل محكمين لا يخضعون إلى أي تأثير أو ضغوطات أو إغراءات من قبل من اختاروهم ولديهم إدراك كامل بمدى أهمية ووجوب الحيدة والاستقلال في المحكم. وعلى العكس من ذلك هناك أيضاً بالمقابل محكمون في حالات كثيرة تميل عواطفهم إلى مصلحة الطرف الذي اختارهم ويتحولون في بعض الأحيان إلى محامين لهم.
إذا كان وعلى نحو ما ذكر يصعب في حالات إثبات أو نفي تمتع هذا المحكم أو ذاك بالحيدة أو الاستقلال، وأن بعض أطراف التحكيم خاصة الطرف الذي يلمس أن الحق لا يسير في مصلحته، فإنه يجد في مثل هذه النصوص وميول بعض المحكمين مرتعاً مشجعاً لعرقلة استمرارية وسير إجراءات التحكيم بشكل منتظم حتى نهاية مراحلها.
لذلك فإن بقاء المحكم عايداً ومستقلاً يعد من أهم العناصر الأساسية في العملية التحكيمية ولكن وفي كل الأحوال فإن توفر الحيدة والاستقلال في شخص المحكم لا يمكن ضمانها إلا متى أحسن الأطراف اختيار المحكمين، وعندما يحرص المحكمون أنفسهم على سمعتهم المهنية.