نصت المادة رقم 3/16 من قانون التحكيم المصري في هذا الشأن على أن يكون قبول المحكم القيام بمهمته كتابة، ويجب عليه أن يفصح عند قبوله عن أية ظروف من شأنها إثارة شكوك حول استقلاله أو حيدته"، وهذا ما جرى عليه العمل، ليس فقط في القانون المصري، بل في كافة قوانين التحكيم، ولوائح منظمات التحكيم، وهكذا تظهر أهمية حياد المحكمين واستقلالهم عن أطراف النزاع الذين قاموا باختيارهم؛ حيث لا يصح أن يكون المحكم ملتزمة أدبية بتبني وجهة نظر الخصم الذي اختاره والدفاع عنها، وإنما يتعين عليه بعد اختياره أن ينأى بنفسه عن التأثر بمصالح هذا الخصم، وأن يلتزم بالحياد والاستقلال عند نظر الخصومة وإصدار الحكم فيها ملتزمة في ذلك بما تقضي به العدالة وفقا للمستندات المقدمة إليه.
أما الحيدة فهي مسألة ترتبط بشعور المحكم وميله العاطفي والذهني، بحيث لا يكون محايدا في ظل الظروف المصاحبة للدعوى المعروضة عليه، ويرجح مع وجودها عدم استطاعته الحكم في النزاع بغیر میل الصالح أحد الخصوم أو ضده.
وفي جميع الأحوال يجب التسليم بأن توافر الحيدة من عدم توافرها هي من المسائل التي تختلف من حالة إلى أخرى، حتى ولو توافرت نفس الظروف والملابسات المحيطة بالمحكم، وعلى الرغم من صعوبة إقامة الدليل على عدم توافر حياد المحكم باعتبارها مسألة نفسية، إلا أن ذلی يعني استحالته؛ لأنه من الممكن من خلال تتبع مسلك المحكم أثناء نظر الخصومة التحكيمية إقامة الدليل على انحيازه لصالح أحد الأطراف ويلاحظ في هذا الشأن أن شرطي حيدة المحكم واستقلاله هما من الشروط الجوهرية التي يتعين توافرها طوال إجراءات التحكيم وحتى صدور الحكم المنهي للخصومة وانتهاء ميعاد الثلاثين يوما التالية لتسليم حكم التحكيم الأطراف النزاع، وهو الموعد الذي حددته المادة رقم 1/49 من قانون التحكيم المصري، والتي جاءت على النحو التالي:
"1- يجوز لكل من طرفي التحكيم أن يطلب من هيئة التحكيم، خلال
الثلاثين يوما التالية لتسلمه حكم التحكيم، تفسير ما وقع في منطوقه من غموض، ويجب على طالب التفسير إعلان الطرف الأخر بهذا الطلب
قبل تقديمه لهيئة التحكيم.
٢- يصدر التفسير كتابة خلال الثلاثين يوما التالية لتاريخ تقديم طلب
التفسير لهيئة التحكيم، ويجوز لهذه الهيئة من هذا الميعاد ثلاثين يوما
أخرى إذا رأت ضرورة لذلك. ٣- ويعتبر الحكم الصادر بالتفسير متمما لحكم التحكيم الذي يفسره، وتسري عليه أحكامه".
فقد حدد المشرع أجلا معينا من تاريخ صدور الحكم، بحيث يجوز خلاله لكل من الطرفين أن يطلب من هيئة التحكيم تفسير ما وقع في منطوق الحكم من غموض، ويتعين توافر هذا الشرط في كل محكم، وهذا ما دفع المشرع المصري بالنص على ضرورة وجوب الإفصاح عن أية ظروف لدى المحكم قد تثير شكوكا لها ما يبررها حول استقلاله وحيدته.
والاستقلال معناه ألا توجد للمحكم صلة أو مصلحة بموضوع النزاع أو ارتباط بأحد الأطراف أو ممثليهم، فالمحكم لا يجوز أن يكون طرفا في النزاع او له مصلحه فيه من اي وجه.
وإلى جانب هذه الشروط هناك شرطا الخبرة والكفاءة، إلا أنهما لا يعدان شرطة لاختياره، إلا في الحدود التي يقرها الخصوم، وهذه الشروط رغم طابعها الاتفاقي إلا أنها تعد شروط جوهرية لاختيار المحكي فالمتعاملون ينشدون التحكيم سعيا وراء قاض متخصص ذي خبرة ومران؛ فالخبرة والكفاءة تدعم استقلاله، فبدون ذلك يكون أكثر عرضة للتأثر بأراء الآخرين، والتأثر بعواطفه ومصالحه الشخصية.
كذلك اشترطت بعض الأنظمة القانونية أن يكون المحكم ذكرا، لكن مشرعنا المصري نص بما مفاده أن ليس هناك ما يحول دون تولي المرأة المهمة التحكيم، حيث نصت المادة رقم ۲/16من قانون التحكيم: "۲- لا يشترط أن يكون المحكم من جنس أو جنسية معينة إلا إذا اتفق طرفا التحكيم أو نص القانون على غير ذلك." ونعتقد أن الأمر يتعلق بثقة الأطراف في شخص المحكم وخبرته وصلاحيته لتولي المهمة رجلا كان أم امرأة.
قبول المحكم للمهمة التحكيمية:
لا يكفي لصحة تكوين هيئة التحكيم اتفاق الأطراف على المحكمين، بل يجب أن يقبل هؤلاء المحكمون إسناد مهمة الفصل في النزاع بحكم تحكيمي يصدر منهم، فعملية التحكيم لا يمكن أن تكون جبرا على المحكمين، حيث تنص المادة رقم 3/16 من قانون التحكيم المصري على أنه "يكون قبول المحكم القيام بمهمته كتابة ويجب عليه الإفصاح عند قبوله عن أية ظروف من شأنها إثارة شكوك حول استقلاله أوحيدته."، ولم ينص المشرع على ضرورة إفراغ هذا القبول في شكل محدد، فقد يرد هذا القبول في صلب الاتفاق على التحكيم، أو في خطاب يرسله المحكمون إلى الخصوم، سواء أكان معاصرا للاتفاق على التحكيم أم لاحقا له، والغالب أن الكتابة هي مجرد وسيلة لإثبات قبول المحكم، وليست شرطا لصحة التحكيم.
ولم يحدد المشرع المصري أثر رفض المحكم لقبول المهمة على اتفاق التحكيم، وفي فرنسا فإن اتفاق التحكيم يزول إذا رفض المحكم المعين قبول المهمة، فهو اتفاق معلق على شرط واقف، وهو قبول المحكم للمهمة، وقبول المحكم للمهمة يوجب عليه أن يتمها، وإلا تعرض للمسئولية، وقبول المحكم للمهمة يعني قيام عقد بينه وبين المحتكمين، الأصل فيه أن ينتهي بانتهاء مهمة المحكم وصدور الحكم.
وبذلك فبمجرد قبول المحكم للتحكيم يعد ملتزما قبل أطراف النزاع بوجوب أنه الفصل في النزاع بحكم ما لم يجد ما يمنعه من ذلك وفقا للقانون، وقد حدد المشرع وقت البدء في التحكيم من وقت وصول الإعلان إلى المعلن إليه، وذلك وفق نص الماده (۲۷) من قانون التحكيم المصري، والتي جرت على النحو التالي "تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يتسلم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدعي ما لم يتفق الطرفان علی موعد آخر".
. إلا أننا نرى أن التحكيم يبدأ من موافقة آخر عضو في هيئة التحكيم، ووفقا لنص الماده (16) في فقرتها الثالثة، والتي جاءت على النحو التالي:
1- لا يجوز أن يكون الحكم قاصر أو محجورأ عليه أو محروما من حقوقه المدنية بسبب الحكم عليه في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو بسبب شهر إفلاسه ما لم يرد إليه اعتباره.
۲- لا يشترط أن يكون الحكم من جنس أو جنسية معينة إلا إذا اتفق
طرفا التحكيم أو نص القانون على غير ذلك.
٣- يكون قبول المحكم القيام بمهمته كتابة، ويجب أن يفصح عند قبوله
عن أية ظروف من شأنها إثارة شكوك حول استقلاله أو حيدته".
وبالتالي يتعين أن يصدر القبول مكتوبا، ونرى مع أغلب الفقه أن النص لم يتكلم على الكتابة كشرط وجود، وإنما كوسيلة إثبات، وبالتالى يمكن إصدار القبول في أي صورة كانت بالقول والفعل، أو الكتابة، أو أي وسيلة تقوم مقام الكتابة، وهو في ذلك لا يشترط شكلا معينا تصدر فيه هذه الإرادة الحرة من المحكمين، وفي حالة رفض المحكم فإن ذلك الرفض لا ينتج اثاره.
مسئولية المحكم
والجدير بالذكر أن العديد من القوانين ونظم التحكيم المختلفة قد تجاهلت الإشارة في نصوصها إلى مسئولية المحكم عن قيامه بمهمته التحكيمية تجاه اطراف خصومة التحكيم أو الغير، في حين نجد بعض التشريعات قد نصت صراحة على منح المحكم حصانة قضائية تحول دون إقامة دعوى مسئولية عليه في حالة الإخلال بالتزاماته، في حين بعض القوانين ونظم التحكيم
الأخرى كانت أكثر شجاعة، وأوردت بعض النصوص التشريعية التي تتحدث بشيء من الغموض عن مسئولية المحكم عن الأخطاء التي قد تقع منه أثناء قيامه بمهمته التحكيمية.
وترتب على اختلاف التشريعات وقوانين التحكيم في شأن تقرير مسئولية المحكم، أن تعددت الاتجاهات القضائية في معالجة هذا الموضوع، واختلفت اختلافا واضحا يدعو إلى الحيرة والغموض.
وتعتبر إرادة أطراف التحكيم، واتفاق التحكيم، هما أساس سلطات المحكم، وهذه السلطات ساعدت على تمكين المحكم من تسيير و إدارة إجراءات التحكيم بسرعة وفاعلية، وهذا التمكين ليس بهدف استعمال سلطاته حسب رغبته وسلطته وقتما يشاء، إنما هو مقيد بالمهمة التحكيمية التي قبل القيام بها.
حيث يستعمل السلطات الممنوحة له في تحقيق المصلحة التي يسعى أطراف التحكيم للوصول إليها، ومن ثم فإن استخدم هذه السلطات خارج الحدود المرسوم لها، يكون قد وضع نفسه تحت طائلة المسئولية القانونية.
وقد ساهم الغياب التشريعي والوطني والدولي المسئولية المحكم في عملية التحكيم بكل جوانبها في عدم وضوح الإطار العام لالتزامات المحكم، كذلك عدم تعرض الأحكام القضائية لتقييم دور المحكم وما يفرضه عليه من التزامات.
والتزامات المحكم سواء أكانت التزامات قانونية أم اتفاقية تبدأ بمرحلة سابقة على قبول المحكم لمهمة التحكيم، هذه المرحلة هي مرحلة ترشيح
أطراف التحكيم أو القضاء، أو هيئات تحكيم دولية للمحكمين الذين ينوبون عن أطراف التحكيم، وهذه الالتزامات قد تتمثل في الالتزام بالإفصاح بالقبول المباشرة مهام التحكيم الأطراف النزاع أو ممثليهم. ثم يلي ذلك مرحلة سير الخصومة، وصولا لمرحلة إصدار حكم التحكيم. ۔
وفي المقابل هناك العديد من الحقوق للمحكم بمثابة التزامات تقع على عاتق المحتكمين، هذه الحقوق منها ما ورد النص عليه في التشريعات والقوانين واللوائح، ومنها ما هو اتفاقي ورد في نص اتفاق التحكيم وفقا لما يتراضي عليه المحكم والمحتكمون، وتمثلت هذه الحقوق في حق المحكم في تقاضيه أتعاب التحكيم، وكذلك حق المحكم في عدم عزله بدون مبرر، أو التنحي بمبرر مقبول، وكذلك حق المحكم في الحصانة.
وترتبط طبيعة مسئولية المحكم ارتباطا وثيقا بطبيعة علاقته بأطراف النزاع التحكيمي، وبطبيعة عمله كقاض خاص يقوم بمهمة قضائية خاصة بناء على اختياره من طرف النزاع التحكيمي؛ لذا فتحديد مسئولية المحكم تقتضي تحديد النظام القانوني للمحكم.