ان التحكيم عمل ذو طبيعة قضائية (من الناحية الإجرائية) وتترتب عليه آثار خطيرة جـداً، ولا سيما أن أحكامه غير قابلة للاستئناف وطرق الطعن فيه محدودة، ويفصل فـي قـضايا ذات مبالغ كبيرة وعلاقات اقتصادية معقدة.
وبما أن المحكم يمارس دوراً مشابهاً للقاضي، فيجب عليه أن يتحلى بما يتحلى به القاضي من أخلاق وسلوكيات وأدبيات والتزامات قانونية، ولا سيما مع وجود الفراغ التشريعي المتمثـل في عدم وجود قواعد تضبط أخلاق المحكم.
ولا نعني هنا الأحكام الخاصة بمسؤولية المحكم بصفته شخصاً عادياً يقوم بمهمـة قـضائية وقد يرتكب من الأخطاء ما يستوجب مقاضاته وتقرير مسؤوليته المهنية.
فالمحكم عندما يتولى التحكيم فهذا يعني انه حاز ثقة الأطراف، وهي ثقة مستمرة منذ بـدء التحكيم وحتى نهايته، وهي مرتبة أدبية عالية المستوى تفـرض مجموعـة مـن الـسلوكيات والأدبيات تتمثل في عدة صور أخلاقية.
الصورة الأولى- انتفاء المصلحة في الدعوى:
فلا يجوز أن يكون للمحكم مصلحة في النزاع سواء أكانت أدبية أم مادية أو بصورة مباشرة أم غير مباشرة، فلا يجوز للدائن أو الكفيل أن يكون محكماً في الخصومة بين المدين والغير، لأن للدائن أو للكفيل مصلحة دائماً في تأييد مركز المدين، ولا يجوز كذلك للضامن أن يكون محكمـاً في الخصومة بين المضمون والغير، ولا يجوز للمساهم في شركة مساهمة أن يكون حكمـاً فـي نزاع بينها والغير لما له من مصلحة حسب نتيجة الحكم وغير ذلك من الصور .
إذن اتجاه المحكم في حسم النزاع في اتجاه معين لمصلحة أحد الأطراف يؤدي إلى نقـض الحيدة التي يجب أن يتصف بها المحكم .
الصورة الثانية- توافر الخبرة في موضوع الدعوى :
وهذه الصورة تأتي من القوانين الخاصة بالتحكيم وقواعد مراكز التحكيم بصفته العموميـة باعتبار أن تقدير ذلك متروك لتقدير الأطراف الذين لا يضعون مصالحهم إلا عند القوي الأمـين في تخصصه (بشكل عام)، ولكن من الأخلاق المفترضة أن يكون المحكم المختـار متخصـصاً بموضوع الدعوى ومحيطاً بشكل تجعله متمكناً من تحقيق العدالة، وأن يقود التحكيم إلى نهايتـه، فعمل المحكم عمل فني دقيق كعمل القاضي في قضائه.
ومن استحقاقات هذه الصورة معرفة اللغة التي يجرى بها التحكيم، والتخصص في موضوع النزاع والقدره على إدارة الدعوى.
الصورة الثالثة- عدم عرض المحكم نفسه على أطراف الدعوى لتولي مهمة التحكيم:
فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تولية من طلب الإمارة، وعهد الخلفاء الراشـدين رضي عنهم في تولية القضاء من يرغب عنه ويتحاشاه.
فالسعي لتولي مهمة التحكيم يوقع المحكم في الحمى ويثير حوله الشبهات والشكوك، ومـن وضع نفسه موضوع التهمة أتهم ولا أجر له، ولكن لا يعني ذلك الاعتزال والابتعاد، فلا حرج في أن يبرز المحكم نفسه في الوسائل المناسبة كالمشاركة في الأنشطة العلمية كالمؤتمرات وغيرها.
الصورة الرابعة- توفر الوقت للنظر في الدعوى:
لا يجوز للمحكم أن يقبل التحكيم وهو لا يملك الوقت لإنهائـه، فهـذا يـؤدي إلـى بـطء الإجراءات وإطالة الوقت وهو لا يتناسب وطبيعة التحكيم.
ولا يعني ذلك التفرغ الكامل وإنما التفرغ النسبي الذي يتناسب وإنهاء الدعوى خـلال مـدة التحكيم المتفق عليها.
ومن استحقاقات هذه الصورة التزام المحكم بإخطار الأطراف بوقت كاف باستبداله إذا قـام مانع لديه.
وأيضاً عدم قبول الدعوى أصلاً إذا كانت واجباته أكثر من وقته، لأن المحكم في هذه الحالة سيكلف غيره النظر في الدعوى من الباطن، وهذا خلاف التحكيم الذي يعتبر التزاماً شخصياً، أو أنه يصدر حكماً غيـر مدروس دارسة كافية تحت ضغط الوقت وضـيقه وكثـرة الالتزامـات الأخرى.
الصورة الخامسة- الالتزام بالحيدة والاستقلال لتحقيق العدالة:
هذه مسألة حساسة جداً، إذ كيف تتحقق الحيدة والاستقلالية للمحكـم أمـام الطـرف الـذي إختاره؟!
فالمحكم الذي يبتغي العدالة، ويحترم مهنيته يجب أن يفصل بين كونه مختـاراً مـن أحـد الأطراف واستقلاله عنه في الوقت نفسه، فالحيدة تعني التجرد وعدم الانحياز لأحـد الأطـراف لسبب نفسي شخصي وإلا أصبح ميزان العدالة مائلاً.
والاستقلالية تعني عدم وجود صلة للمحكم بأحد الأطراف أو موضوع النزاع، فالاستقلال يتصل بوقائع مادية حول علاقة المحكم بأطراف الدعوى تجعله تابعاً ويكون ضـميره وقناعاتـه للغير.
ولذلك يجب على المحكم الإفصاح للأطراف عن كل ما من شأنه التأثير علـى اسـتقلاليته وحياديته، وهذا التزام مستمر منذ بداية التحكيم وحتى نهايته، وتقدير ذلك متروك للأطراف.
الصورة السادسة- السعي لتحقيق العدالة:
وهذا يقتضى عدة متطلبات:
1- وضع جدول زمني لإدارة التحكيم والالتزام به لضمان انتهاء التحكيم في مدته الاتفاقية.
2- عدم قبول هدايا أو مزايا بطريق مباشر أو غير مباشر من الأطـراف أثنـاء أو بعـد التحكيم إذا كانت مرتبطة به.
3- مراعاة حقوق الدفاع الأساسية للأطراف.
4- الحفاظ على سرية المداولة.
5- تسليم صورة الحكم لكل الأطراف.
6- ضبط التكاليف بما يتناسب ومبلغ الدعوى.
7- عدم الانسحاب من التحكيم، أو الامتناع عن مباشرة التحكيم وهو ما قد يكون بدون عذر أو مبرر مقبول وهو ما قد يسبب ضرراً، أو إذا ما حصل في توقيت غير مناسب، كأن يحدث في أواخر مراحل الدعوى، وهو ما قد يسبب ضرراً لأحد الأطراف.
8- التعاون مع أعضاء الهيئة، من خلال اختيار المواعيـد الإجرائيـة التـ تناسبهم، أو المداولة معهم قبل إصدار الحكم، والتعامل معهم بحسن الخلق والمودة والاحترام المتبادل.
9- الوعي بأساليب الأطراف التي قد تؤدي إلى تأخير الفصل في الدعوى وأطالـة أمـدها وإعاقة سير إجراءات التحكيم دون افتراض سوء الظن.
الصورة السابعة- تجنب العلاقة مع الأطراف:
وهذا يعني أن المحكم يلتزم بعدم الاتصال بطرف على حـدة دون الآخـر، بـشكل يثيـر الشبهات، أما الرد على استفسار أحد الأطراف عن مدى قبوله للتحكيم أو اجابته عـن غمـوض حول احد إجراءات التحكيم دون مناقشة موضوع الدعوى فلا يدخل ضمن هذا المحظور.
وإن حصل شيء من هذا القبيل فإن الحل يكون بعرض الحالة على أعضاء هيئة التحكيم أو الطرف الأخر شفاهة أو كتابة حسب نوع الاستفسار الوارد إليه.
وتعني هذه الصورة أيضاً عدم الضغط على أحد الأطراف دون الآخر لحمله علـى اتخـاذ إجراء معين أو تسوية معينة، ولا تدخل في ذلك الدعوة إلى إجراء التسوية.
الصورة الثامنة- عدم الاستفادة من إجراءات التحكيم: وهذا يعني أن المحكم لا يجوز له أن يستفيد من المعلومات التي حصل عليها أثناء إجراءات التحكيم لتحقيق أي منفعة له أو لغيره، كما لا يجوز له شراء الحقـوق المتنازع عليهـا محـل موضوع الدعوى، كما يلتزم بعدم استخدام أي معلومات حصل عليها مـن خـلال النظـر ف الدعوى، كما يلتزم بالحفاظ على سرية المستندات وعدم إفشاء مضمونها للغير وهذا التزام مستمر حتى بعد انتهاء التحكيم.
الصورة التاسعة- الإفصاح عما قد يؤثر على حياديته: والإفصاح يعني أن يبادر المحكم بإحاطة الأطـراف بصلته السابقة والحاليـة بموضـوع النزاع واطرافه وممثليهم من لحظة ترشيحه وحتى صدور الحكم بشكل واضح لا لبس فيـه ولا غموض.
والافصاح بطبيعة الحال يحدث في بداية الترشيح مما يعني أنه إجـراء وقـائي لمنـع الإخلال بواجبات المهمة التحكيمية، فالإفصاح يتعلق بالظروف التي لها علاقة وثيقـة ومـؤثرة بموضوع دعوى التحكيم والتي قد تؤدي إلى التشكيك في حيادية المحكم وعدالته.
وهذا الإفصاح يجب أن يكون مكتوباً حتى يتسنى للأطراف وأعضاء الهيئة الاطلاع عليــه،وهو لا يعني التنحي عن الدعوى، وإنما القرار للأطراف إذا قدروا أن الظروف المفصح عنها قد تؤثر على حيادية المحكم.
وهناك توجيهات للمحكمين ينبغي الانتباه إليها ومنها ألا يضع المحكم نفسه موضع التهمة أو الشبهة وهي مواضع تتجاوز الحصر، إلى جانب تحري حسن الاختيار للأصدقاء في أن يكونوا أصحاب فضل وعلى مستواه، كما أنه من الأسلم للمحكم، ألا يكون طرفاً فـي خـصومة قـدر الإمكان لكي لا يخضع لحكم زميل، كما أن المحكم يجب أن يجتهـد ألا يكـون مـديناً، ولـتكن الاستقامة في السلوك الخاص صفة من صفات المحكم المستقيم في قضاياه. ان لمهنة التحكيم تقاليد توجب على المحكم الالتزام بالأمور السالفة الذكر وغيرها، وسـوف يلمس كل محكم بفطنته تفصيل كل أمر من هذه الأمور والتحكيم الجيد يكون جيداً بقدر ما يكـون المحكم جيدا، والتحكيم أمانة عند المحكمين، فسمعة التحكيم هي نتاج سلوك وعمل المحكمين.
ان للمحكم صفات فيها: الاستقامة – النزاهة – الاستقلال – عفة اللسان - هـدوء الفك – وتواضع العلماء، وهي صفات تلازمه في سلوكه الخاص وعمله التحكيمي.
وأخيراً: يجب التأكيد على أمر مهم، وهو أن التزامات المحكم حيال الأطراف لا تقوم على التقابل فلا يملك المحكم الامتناع عن تنفيذ التزاماته حتى عندما يخل الأطراف بالتزاماتهم أو حتـى عنـدما يرفضون الاستجابة لأوامره.
وهكذا فإن الواجبات الأخلاقية للمحكم وان لم تنص عليها القوانين تجد أساسها في ضـمير المحكم وأخلاقه.