تختلف ولاية التحكيم في منازعات الصفقات العمومية عن ولاية القضاء، فهذا الأخير ولايته عامة ومطلقة أما ولاية التحكيم فهي خاصة ومحددة ومؤقتة، مصدرها الإرادة والاجازة التشريعية هذا ما جعل مسألة تشكيل محكمة التحكيم من الأركان الجوهرية التي لا يتصور قيام عملية التحكيم دونها، وإن كان الأصل أن تتولى الإرادة ذلك، غير أن القانون رسم طريقا في حال تخلفت الإرادة عن تشكيلها الفرع (الأول)، واشترط قبول هذه الهيئة للمهمة التحكيمية حتى تكتمل معالم العملية التحكيمية، مما يثير التساؤل عن الشروط والمؤهلات المتطلبة في المحكم أو المحكمين (الفرع الثاني).
الفرع الأول: طرق تشكيل محكمة التحكيم
تعد مسالة تشكيل محكمة التحكيم في غاية الأهمية، فقد أولتها بالاهتمام معظم الاتفاقيات الدولية ومراكز التحكيم المؤسسية، وتختلف المسألة بحسب القانون الاجرائي المتبع وبحسب المكان الذي يجري فيه التحكيم فالمشرع الجزائري في تنظيمه لهذه المسألة ميز بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي.
أولا: التحكيم الداخلي
يعد تشكيل محكمة التحكيم نتاج اتفاقية التحكيم (شرط أو إتفاق التحكيم)، فبالرجوع إلى المادة 1008 ق إ م إ نجدها نصت في فقرتها الثانية على أنه: " يجب أن يتضمن شرط التحكيم، تحت طائلة البطلان، تعيين المحكم أو المحكمين أو تحديد كيفيات تعيينهم ونصت أيضا المادة 1012 ق إ م إ في فقرتها الثانية على نفس الحكم بقولها: يجب ان يتضمن اتفاق التحكيم، تحت طائلة البطلان موضوع النزاع وأسماء المحكمين، أو كيفية تعيينهم".
ويفهم من ذلك أن المشرع ترك للأطراف حرية اختيار وتعيين المحكمين أو تحديد كيفية تعيينهم، كأن يتم الاحالة إلى نظام تحكيمي أو مركز تحكيمي يؤدي إلى تعيين محكمة التحكيم، وذلك بمقتضى شرط التحكيم أو بمقتضى إتفاق التحكيم، ويترتب عن عدم الاتفاق على هذه المسألة البطلان، رغم أن هذه المسألة غير واردة في الجزائر لتعلقها بالتحكيم الداخلي في ظل غیاب مراكز دائمة للتحكيم في الجزائر في مجال الصفقات العمومية.
ويرى البعض أن المشرع تجنب إلزام الاطراف التعيين الاسمي لأعضاء هيئة التحكيم فمجرد الاتفاق على كيفية تعيينها عدت اتفاقية التحكيم منتجة لأثارها .
غير أنه يجب أن تتشكل محكمة التحكيم بعدد فردي، إما من محكم واحد أو عدة محكمين وفق ما قضت به المادة 1017 ق إ م إ، وتعد الوترية قيد على تشكيل هيئة التحكيم أقره المشرع تحسبا لاختلاف أعضاء التحكيم ولان أحكام التحكيم تصدر بأغلبية الأصوات ولا يمكن الحصول على هذه الأغلبية دون أن يكون العدد فرديا.
ونشير أنه قد يعترض تنصيب محكمة التحكيم عوارض معينة وإشكالات عديدة، لان التوازن بين المصالح المتضاربة في مجال الصفقات العمومية أمر صعب المنال، كما أنه قد تعترض صعوبة ما في تشكيل محكمة التحكيم، إما بفعل أحد الأطراف أو بمناسبة تنفيذ إجراءات تعيين المحكم او المحكمين، فيرجع الأمر إلى رئيس المحكمة الإدارية الواقع في دائرة اختصاصها محل إبرام الصفقة أو محل تنفيذها، وذلك استنادا إلى الجمع بين أحكام الفقرة الأولى من المادة 1009 ق إ م إ ، والمادة 976 ق إ م إ، هذه الأخيرة التي قضت بأنه تطبق الاحكام المتعلقة بالتحكيم والمنصوص عليها في هذا القانون أمام الجهات القضائية الإدارية.
وبذلك يكون المشرع قد حدد الاختصاص النوعي للمحكمة التي تتولى البت في هذه المسألة، وحدد أيضا الاختصاص الإقليمي هذا الأخير الذي يوافق النص المتعلق بالاختصاص الإقليمي في المادة الإدارية الوارد في الفقرة الثالثة من المادة 804 ق إ م.
ثانيا : التحكيم الدولي
حددت المادة 1041 ق إ م ثلاث طرق يتم بموجبها تعيين المحكمين في التحكيم ذو الطابع الدولي، فقد يكون ذلك عن طريق التعيين المباشر من الأطراف، حيث يتفق الطرفان على تعيين المحكمين في اتفاقية التحكيم تعيينا دقيقا أو تحديد طرق تعيينهم، ويلاحظ أن المشرع لم يرتب البطلان متى لم يتفق أطراف التحكيم على ذلك، ولعل هذا مراعاة لغايات التحكيم ذو الطابع الدولي وتيسيرا في إجراءاته.
وما يمكن ملاحظته أنه متى تعلق الأمر باللجوء الى التحكيم في إطار الصفقات العمومية، فإنه لا مجال للفرق بين الهيئات ذات الطابع المركزي أو الطابع المحلي، على اعتبار عدم وجود هيئات للتحكيم الداخلي في مجال الصفقات العمومية، وعلى اعتبار أن اللجوء إلى التحكيم الدولي يتوقف على موافقة السلطة المختصة، وعلى اعتبار أيضا أن منازعات القرارات الإدارية المنفصلة عن الصفقة الصادرة مركزيا أو محليا ، تعد من المسائل المستبعدة من التحكيم.
ومن ثم لا مجال للتمييز بين بالمؤسسات الإدارية ذات الطابع المحلي أو الوطني او المركزي ولا فائدة ترجى من ذلك، وفي ظل غياب نص إجرائي لا يمكن أن نفهم أن المشرع قصد الاجازة، ولا يمكن أيضا القياس على مجال الاختصاص النوعي الموزع بين المحاكم الإدارية ومجلس الدولة، وتأسيسا على ما سبق نرى أن المشرع حسم هذه المسألة، وذلك تأسيسا على المادة 976 ق إ م إ، التي أشارت إلى أنه تطبق الأحكام المتعلقة بالتحكيم بنفس الأوضاع أمام الجهات القضائية الإدارية، هذا ما لم ينص القانون او الاتفاق على خلاف ذلك.