تتضمن معظم القوانين والقواعد المتعلقة بالتحكيم نصوصاً حول واجبات المحكـم القانونيـة والأخلاقية التي يجب أن يتقيد بها في عملية التحكيم. وكما هي الحال بالنسبة إلى القضاة الـذين يفصلون الدعاوى أمام محاكم الدولة النظامية والذين يتم تعيينهم بناء على معايير محددة، كـذلك الأمر بالنسبة الى المحكمين الذين يفصلون الدعاوى التحكيمية، فهم يعينون وفقاً لمعايير محـددة أيضاً. والمقصود من التحكيم هو تحقيق العدالة من قبل المحكم الذي يعطي كل ذي حق حقه.
يسعى أطراف التحكيم، في اختيارهم المحكم، إلى التأكد من توافر مميـزات عديـدة فيـه كخبرته القانونية والعملية، كما إلى التأكد من تاريخه المهني ومن الجانـب الخلقـي والنفـسي. والعامل النفسي للمحكم هو عامل أساسي لنجاحه في المهمة التحكيمية فيجب ألا تكون لديه مشاكل نفسية تؤثر فيه عند درسه الملف وتكوين قناعاته لإصدار حكمه. فالمحكم هو محـور التحكيم وحسن اختيار المحكم هو الركن الأساسي لنجاح أي تحكيم. وتلعب الثقافة العامة للمحكم الـدور الأكبر في عملية التحكيم إلى جانب ثقافته القانونية والعملية، فمن الضروري أن يتحلى المحكـم بالخلق الحميد، وأن يكون حكيم الرأي متبصراً في الأمور.
يعول أطراف التحكيم بشكل لافت على الجانب الأخلاقـي للمحكـم، إذ يعتبـر مـن العناصـر الضرورية في التحكيم. فالتشديد على ضرورة توافر عدد من الميزات والمـؤهلات الأخلاقيـة فـي المحكم هو أمر لا بد منه، وأبرز هذه الميزات والمؤهلات الأخلاقية هي النزاهة والحياد والإستقلالية. وغالباً ما يوقع المحكمون في بداية التحكيم إقراراً بقبولهم المهمة ومدى تفرغهم وحيادهم واستقلاليتهم.
عند قبول المحكم المهمة الموكلة إليه، فإنه يتولاها حتى صدور الحكم ما لم يطـرأ عـائق يمنعه من متابعة التحكيم كالوفاة أو وجود عائق واقعي أو قانوني يؤدي إلى استحالة تنفيذه مهمته. وقد يتمثل هذا العائق في مرض المحكم أو عجزه الصحي أو بعده عن مكان التحكـيم أو فقدانـه الأهلية أثناء سير خصومة التحكيم، أو في حدوث ظرف لديه كأن يعين في وظيفة عامة تمنعه من أن يكون محكماً، أو صدور حكم يقضي بعقوبة عليه لارتكابه جريمة أو نتيجة لشهر إفلاسه، فكل ذلك يحول دون متابعته التحكيم .
لا بد من التذكير بأنه يجوز للمحكم أن ينهي مهمتـه سنداً لأسباب متعددة بمـا فـي ذلـك الموت والمرض والإستقالة. وعند حدوث مرض (عقلي أو جسدي) دون أن يكون بالإمكان تقييم المدة التي يبقى فيها المرض قائما، تنشأ مشكلة استبدال المحكم حيث تتم معالجة هذه الحالة بطرق مختلفة بناء على اتفاق التحكيم أو القانون المطبق. تتناول هذه الحالة ما يطرأ على المحكم أثناء التحكيم. لكن ماذا لو كان المحكم مريضاً أثناء التحكيم وأكمل مهمته دون أي تـأخير أو عـائق خاصة في ظل عدم اعتراض الأطراف على أهليته وكفاءته؟
برزت في الآونة الأخيرة معضلة جديدة تتعلق بموجب إفصاح المحكم عن حالته الصحية أو عـدم الإفصاح عنها، وذلك في القضية بين شركتي Team Tankers Vinmar. تتلخص القـضية فـي أن Vinmar استأجرت سفينة من Team Tankers لنقل مادة كيميائية تستخدم في تصنيع البلاستيك. بعـد أسابيع من وصول الشحنة، ادعت Vinmar أن المادة الكيميائية قد تلوثت من بقايا مستوعب آخر كـان قد ترك على متن السفينة، وقدمت طلب التحكيم عام 2011. بعد أن خسرت الدعوى، قـدمت Vinmar (والشركة المؤمنة) أمام محكمة فدرالية في نيويورك طعنا لإبطال حكم التحكيم إثر صدوره عام 2013. بعد أن اكتشفت أن رئيس المحكمة التحكيمية كان مريضاً خلال التحكيم، عـدلـت فـي طـلـب الإبطـال وزادت سبباً إضافيا مدلية أن عدم الإفصاح عن الورم الدماغي الذي شخص به رئيس المحكمـة خـلال التحكيم يعتبر مغايرة لأصول العدالة في الحكـم "FAA $ 10(a)(3) "misconduct، وأنـه بموجـب قانون التحكيم الفدرالي هذا Federal Arbitration Act يمكن أن يصنف على أنه خروج أو خـرق أو منافاة للقانون a)(2) “corrupt)10 $. قضت المحكمة الفدرالية في نيويورك بأنه لا يجـوز للطـرف الخاسر أن يحول مأساة إنسانية إلى فرصة ثانية لقلب النتيجة لصالحه. كما قضت بأن من حق الأطراف أن يكون المحكمون غير منحازين وملتزمين القانون، ولكن ليس من حقهم أن يطالبوا بمحكمين مثاليين. كما أشارت المحكمة إلى عدد من الأمور التي من الممكن أن تؤثر في تركيز المحكم وفي قدراته، إلـى جانب الورم الدماغي، كالمشاكل الزوجية وقلة النوم وقضت أخيراً برد الطعن.
إن قانون التحكيم الفدرالي الذي استندت إليه Vinmar، الطرف الخاسـر فـي الـدعوى، لا يفرض على المحكمين موجب الإفصاح عن الحالات الصحية الطبية. كما أن الـ Maritime Arbitration rules التابعة لـ Society of Marine Arbitrators المطبقة في النزاع بـين الطرفين، وبخاصة القاعدة 59 التي استندت إليها Vinmar والتي تنص على وجـوب إفـصـاح المحكمين عن أية ظروف من شـأنها أن تفقـدهم أهليـة إكمـال المهمة disclosure by "arbitrators of disqualifying circumstances، لا تقتضي أن يفصح المحكم عـن حـالـة طبية خطيرة أثناء قيام التحكيم. كما أشارت المحكمة إلى أن هذه القواعد المتعلقة بالأخلاقيـات لا ترقى إلى قوة القواعد القانونية.
تلقي هذه الحالة الضوء على الصعوبات الكامنة في التعامل مع المحكمين الـذيـن يـصابون بأمراض خطيرة أثناء التحكيم ولا يفصحون عن حالتهم الطبية أو يقدمون استقالتهم طوعاً. فـإذا كان المرض من شأنه أن يؤثر بشكل واضح في أهليتهم وكفاءتهم، بصفتهم أعضاء فـي هيئـة التحكيم، ولا يفصحون عن الأمر أو يقدمون استقالتهم، تفترض هذه الحالة أن ينظم محضر دقيق ومفصل توثق فيه مخاوف الأطراف بغية استعماله في إجراءات لاحقة. لكن إذا لـم يكـن مـن الممكن اكتشاف تأثير المرض على المحكم ولم يفصح المحكم طوعاً عن حالته الطبية، وأصدرت الهيئة قراراً معاكساً لطلبات الطرف الخاسر، فإن الطرف الخاسر سيحتاج إلى أكثر من الإستناد فقط إلى الأسباب الواردة في قانون التحكيم الفدرالي (3) FAA $ 10(a)(2) or لإبطاله.
يجب التمييز بين حالتين، حالة مرض المحكم التي تؤثر في قدراته العقلية والجسدية أثنـاء قيام التحكيم، وتمنعه بالتالي من إتمام مهمته، وحالة مرض المحكم التي لا يكون لهـا أي تـأثير على التحكيم وعلى إصدار الحكم. ففي قضية Vinmar المذكورة أعلاه، لـم يـشكك الطـرف التحكيم في أهلية وكفاءة المحكم، وهو دليل على أن الـورم الـدماغي الـذي أثناء سیر الطاعن أصاب المحكم لم يؤثر في أدائه مهمته.
في التحكيم الدولي تنص معظم القواعد على جواز قيام الأطراف بطلب رد المحكـم الـذي يصبح عاجزاً عن اداء مهمته بسبب إدانته بجرم أو نتيجة لمرض إلخ... تتناول معظم القـوانين التي ترعى التحكيم الحالة التي يصبح فيها المحكم غير قادر على أداء المهمة الموكولة إليه أثناء قيام التحكيم ولا تتناول بوضوح مسألة وجوب إفصاح المحكم عن مرضه حين لا يكون له أي أثر في الإجراءات التحكيمية كما أنها لا تتناول أثر ذلك على الحكم التحكيمي الصادر،
تشير مثلاً إلى المادة 14(1) من قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي التي تنص تحت عنوان الإمتناع أو الإستحالة على أنه "إذا أصبح المحكم غير قادر بحكم القـانون أو بحكم الواقع على أداء وظائفه أو تخلف لسبب آخر عن القيام بمهمـته دون إبطـاء غيـر لازم، تنتهي ولايته إذا هو تنحى عن وظيفته أو إذا اتفق الطرفان على إنهاء مهمته...".
اعتبر مرض المحكم في هذه القضية أنه السبب الكامن وراء عدم قدرة هذا المحكـم علـى القيام بمهماته بالمعنى المقصود بالمادة 14.
في قضية Paul Brown، أكد القاضي أن عدم الثقة بالمحكم من قبل طرف من أطراف التحكيم لا يعد سبباً كافياً لطلب الإبطال. فالإبطال يتطلب الإستناد إلى الأسباب الموضوعية وليس الشخصية. يؤكد هذا المثل الرأي السائد عالمياً في التحكيم الذي يعتبر المحكـم مـحـصناً فـي محاولات التذرع بأسباب شخصية لرده أو الطعن في حكمه، إذ تنص معظم القوانين التي ترعـى التحكيم على أسباب محددة لذلك.
يسعى الطرف الخاسر بشتى الطرق إلى قلب النتيجة التي توصل إليها حكم التحكيم لصالحه. لذلك وضعت القوانين المتعلقة بالتحكيم نصوصاً وقواعداً محددة ترعى مثل هذه الحالات كـي لا يكون حكم التحكيم كما المحكم عرضة لأهواء الأطراف. فهل يجب أن نضيف إلى الإقرار الذي يوقعه المحكم بقبوله التعيين وبتفرغه وحياده واستقلاليته بنداً جديداً يقضي بالإفصاح عن المرض الذي من الممكن أن يشخص به خلال التحكيم؟
نختم بالحكمة اليونانية القديمة "العقل السليم هو في الجسم السليم" التي تطورت عبر الـزمن مع تطور الطب والإنسان بشكل عام لتصبح "الجسم السليم هو في العقل السليم" وليس العكـس حكمة تختصر ألف تسأؤل وتساؤل!