مبدأ الاختصاص بالاختصاص، هو الذي يعطي لهيئة التحكيم سلطة الفصل في موضوع اختصاصها، سواء من تلقاء نفسها، أو بناءً على دفع مقدم من أحد الخصوم بعدم اختصاصها، ويعد هذا المبدأ من أهم القواعد القانونية وأدقها خاصة في مجال التحكيم التجاري الدولي. ويعتبر موضوع نقل ولاية القضاء من المحاكم الرسمية إلى منصات التحكيم من أبرز الآثار الايجابية التي تترتب على اتفاق التحكيم، حين تحل هيئة التحكيم محل القضاء الرسمي في تسوية النزاع موضوع اتفاق التحكيم.
فطالما أعتبر المحكم قاضياً، وطالما كان القاضي يملك سلطة التحقق من اختصاصه، فإن المحكم يملك نفس السلطة. كما أن مسألة الاختصاص مسألة فرعية، متفرعة عن النزاع الأصلي فالقاضي الذي ينظر النزاع الأصلي هو الذي ينظر النزاع الفرعي، تطبيقاً لقاعدة أن: " قاضي الدعوى هو قاضي الدفع ".
أساس مبدأ الاختصاص بالاختصاص :
يتحدد الأساس لمبدأ الاختصاص بالاختصاص - في الطبيعة القضائية لهيئة التحكيم - التي منحتها قوانين التحكيم، مثلها مثل المحاكم الرسمية التي لها سلطة النظر في اختصاصها، واعتبارها صاحبة الاختصاص وحدها في تقدير سلطتها القضائية. وكما أشرنا فيما سبق فقد أجازت قوانين التحكيم محل الدراسة لهيئة التحكيم متابعة سيرها في نظر النزاع حتى وإن كان اتفاق التحكيم الذي تنظر النزاع على أساسه، محل نزاع وموضوع طعن بصحته . فهيئة التحكيم تستمد سلطتها القضائية من إرادة الأطراف، والهيئة تفقد سلطتها تلك متى خرجت عن حدودها ويصبح حكمها معرضاً للبطلان.
وقد ترسخ مبدأ الاختصاص بالاختصاص، في مختلف قوانين التحكيم وخاصة الحديثة منها بما فيها قوانين التحكيم محل البحث . . . وفي أحكام التحكيم وفي الاجتهادات القضائية المختلفة. وفي الوقت الحالي أصبح هذا المبدأ يشكل قاعدة قانونية هامة في قواعد التحكيم التجاري . . . وصار يطبق في جميع منازعات التحكيم التجاري الدولية والداخلية على حد سواء.
ويمكننا الرجوع في أساس مبدأ الاختصاص بالاختصاص إلى القواعد العامة الناظمة في القانون الداخلي، وإلى القواعد الموضوعية الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي. ونشير على سبيل المثال، إلى أن الدفوع المتعلقة بعدم اختصاص المحكمة الرسمية سواء تعلقت هذه الدفوع بعدم الاختصاص المكاني أو النوعي، أو لانتفاء الولاية، وكذا سائر الدفوع الشكلية والموضوعية الأخرى، فإن هذه المحكمة هي وحدها صاحبة الاختصاص في البت فيها.
ويظهر أوجه الشبه بين القاضي الرسمي والمحكم، بموجب قوانين التحكيم محل الدراسة من خلال إخضاع المحكم للقواعد العامة التي تعطي المحاكم سلطة النظر في اختصاصها، وهنا تظهر الفائدة القانونية لمبدأ الاختصاص بالاختصاص ، أما إذا كان العكس أي أن يكون القاضي وليس المحكم هو صاحب السلطة في نظر الطعون المتعلقة باختصاص الأخير، فإن ذلك سيشكل تراجعاً بل انتكاسة خطيرة لقضاء التحكيم ولا يساعد في تطوره.
مبررات مبدأ الاختصاص بالاختصاص :
إن من أبرز اسباب اللجوء إلى التحكيم هو سرعة البت في الإجراءات والفصل في النزاع من قبل هيئة التحكيم... وهذا ما يبرر مبدأ الاختصاص بالاختصاص . . . فإذا كان البت في الدفع بعدم اختصاص المحكم من اختصاص القضاء، فإن مؤدى ذلك في الغالب هو سلب التحكيم لهذه الميزة الأساسية فيه . . . وبهذا الشكل سيفقد التحكيم أهم أسباب اللجوء إليه. وبمعنى آخر فإن مبدأ الاختصاص بالاختصاص يساعد على اختصار أجال التقاضي أمام هيئات التحكيم، وعدم الأخذ بهذا المبدأ يعني عودة المتنازعين إلى ساحة القضاء الرسمي . . . ويمنح المحاكم سلطة النظر في الدفوع المتعلقة باختصاص هيئات التحكيم . . ويؤدي ذلك إلى تعليق إجراءات التحكيم في انتظار المحكمة حتى تفصل بموضوع الاختصاص والذي عادة يستغرق وقتاً طويلاً.
كما يبرر مبدأ الاختصاص بالاختصاص، من أنه يؤكد على احترام القضاء لإرادة الأطراف الذين اختاروا طريق التحكيم لحسم منازعاتهم . . . وأنه يساعد على الحد من محاولات بعض الأطراف سيئي النية من عرقلة الإجراءات والتحايل على القانون بما يتذرعون به عادة للمنازعة في صحة اتفاق التحكيم، بهدف إعاقة التحكيم من خلال رفع الدعاوى وتقديم الدفوع والطعون أمام المحاكم وهو ليس من اختصاصها، ولكن من اختصاص هيئات التحكيم وفقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص.
مبدأ الاختصاص بالاختصاص في النصوص القانونية :
قوانين التحكيم الحديثة بما فيها القوانين محل الدراسة عمدت على توسيع سلطات المحكم ومنحته سلطة الفصل في اختصاصه، بما في ذلك البت في الاعتراضات المتعلقة بوجود أو بصحة اتفاق التحكيم. وهكذا مُنحت هيئة التحكيم سلطة كاملة في تحديد ومتابعة اختصاصها والفصل في أية دفوع تتعلق باتفاق التحكيم أو في بطلان أو فسخ أو إنهاء العقد الأصلي بين الأطراف المحتكمة وهو نفس اختصاص القاضي الرسمي الذي يملك وحده سلطة الفصل في النزاع في حدود اختصاصه، على اعتبار أن المحكم قاضٍ على نحو ما، في منصة التحكيم وله نفس السلطات.
يجيز القانون النموذجي للتحكيم هيئة التحكيم البت في اختصاصها، بما في ذلك البت في أي اعتراضات تتعلق بوجود اتفاق التحكيم أو بصحته.
بالمقابل تمنح قوانين التحكيم العربية صراحة هيئة التحكيم سلطة الفصل في الدفوع الخاصة بعدم اختصاصها، فيكون لهيئة التحكيم دون غيرها ولاية الفصل في جميع الادعاءات التي تتناول أساس اختصاصها ونطاقه بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع. والدفوع بعدم اختصاص هيئة التحكيم يجب التمسك بها في ميعاد لا يجاوز ميعاد تقديم دفاع المدعى عليه . . . أما الدفع بعدم شمول اتفاق التحكيم لما يثيره الطرف الآخر من مسائل أثناء نظر النزاع فيجب التمسك به فوراً وإلا سقط الحق فيه . . . ويجوز في جميع الأحوال لهيئة التحكيم أن تقبل الدفع المتأخر إذا رأت أن التأخير كان لسبب مقبول ومبرر.