1. من بين الجوانب العديدة في حياة روبير بادينتي Robert Badinter، هناك جانب، لـيس الأشهر دون شك، حيث، كما غيره من الجوانب، برع فيه: وهو جانب المحكـم الـدولي. بفضل خبرة لا مثيل لها كمحام، حافظ الأختام وقاض دستوري، يعين Robert Badinter بشكل حتمي لممارسة مهمات المحكم في نزاعات ما بين الأكثرها تعقيداً، وفي ملفات على قدر عظمته، حيث استطاع أن يبين بعض الصفات التي يعرفهـا الجميـع عـنـه، رؤيتـه الواسعة، الصحة في إصدار الأحكام، والقدرة على اتخاذ القرار. وعلاوة على ذلك، وضع خبرته ضمن نظرية، في رأي بقي مشهوراً، في حمى الفضيلة التي تجسد بالشكل الأفضل في الوقت نفسه Robert Badinter وأي محكم: التجرد. إن تعلقه بعدالة مستقلة، دوليـة وفعالة قد أدى سابقاً وبشكل منطقي، في حين كان لا يزال حافظ أختـام، إلـى أن يحتفـل بالذكرى السنوية الستين لغرفة التجارة الدولية، بخطاب جدير بالذكر حيـث قـدم التحيـة "لابتكار كل جزء من هذا القاضي الدولي الذي سمحت به محكمة التحكيم الدوليـة التابعـة لغرفة التجارة الدولية".
وبالتالي كان طبيعياً أن الذي حظي بامتياز لكونـه، خــلال سنوات عديدة، شـريك Robert Badinter في مكتب محاماة للاستشارات القانونية مـن نـوع جديـد، صـممه الشخص المهداة إليه هـذه الـسطور ويـديره مؤلفهـا، أن يـستطيع، بمناسـبة كتـاب "Melanges en l'honneur de Robert Badinter ، التصدي لقانون التحكيم الـذي، على وجه التحديد، غالباً ما كان يطلب بشأنه مكتب المحاماة هـذا. إن السلطة الفكريـة والخلقية التي مارسها Robert Badinter في مكتب محاماة كوريس كونسلتنس لـم تـكـن بعيدة إلى هذا الحد عن سلطة الشخصية الرئيسية في التحكيم وهي المحكم. ولكن في حين ان Robert Badinter هو شخصية متميزة، يبدو أن التحكيم أصبح اعتيادياً، وكذلك الأمر بالنسبة الى المحكم. هل يمكننا مع ذلك إعتبار المحكم كائن اعتيادي؟ هذا هو السؤال الذي سنعالجه في الأسطر الآتية.
2. قبل الإجابة عن هذا السؤال، ومع مراعاة رغبة متلقي المؤلف الحالي الخاصـة بالكلمـات ومعانيها وأصلها، يتوجب علينا، كما لو كان الأمر تفسيراً، العـودة إلـى مـصطلحات الموضوع، واحداً تلو الآخر.
"المحكم..." بادئ ذي بدء. حتى ولو كان مفهوم كلمة "محكم" معروفاً جيداً، يمكن التـذكير بثلاثة أشياء: أولا، إذا كان صحيحاً أن كلمة "محكم" مستقاة من الأصل اللاتيني " arbiter"، فإننا أقل معرفة بأصول كلمة "arbiter بحد ذاتها. لكن، وعلى وجه التحديد، يجب التفريق جيداً الـ "arbiter" عن الـ"arbitrator"، الذي لا علاقة له به، والذي مع ذلـك، كـان يختلط به على مر القرون حتى اليوم حيث أن قانوننا المدني لا يزال يلحـظ، فـي 1592، "تحكيم" الغير، حيث أن "الغير" المشار إليه هنا هو الـ "arbitrator“ الروماني، الذي يقيم، وليس الـ arbiter، الذي يفصل.
تنشأ كلمة "arbiter“ بحد ذاتها من جمع ad وbaetere، وهذا يعني "الذهاب إلى المكان، من أجل التفحص والمعاينة ومن أجل سماع الأطراف". إن كلمة arbiter لا تـأتي مـن الفينيقية، كما اعتقدنا، إنما من الأمبرية arputrati التي تعني، هنا أيـضاً، "القاض بالتالي، وبقدر ما يمكن أن نعود في الزمن، يكون المحكم قاضياً.
3. ثانياً، ينبغي التذكير أن كلمة "محكم" ظهرت في اللغة الفرنسية من الناحية الزمنية قبل كلمة "تحكيم". في العام 1213 بالنسبة للكلمة الأولى، وفي العام 1283 بالنسبة للكلمة الثانيـة. يأتي تاريخ لغتنا إذا للتأكيد أن "المحكم" هو بالفعل القاعدة – "كلمة الأساس» التي على أساسها المؤسسة التحكيمية، في الوقت ذاته من وجهة نظر مفهومية، ومن وجهة نظر لغوية واشتقاقية بما أنه المصطلح الأصلي، أي الذي من خلاله تـشكلت كـل الأخريـات. وأيضاً سواء اشتقاقياً، لغوياً أو قانونياً، إن المحكم يسبق التحكيم. إنـه المرجـع والفاعـل لرئيسي. علاوة على ذلك، عرض هذا الأمر على هذا النحو من قبل الأمبراطور الروماني جستنيان الأول في الفقه Digestel1 وفي القانون Codex12. .
4. ثالثاً ويا للأسف، إنه لا يزال ضرورياً التكرار أن لا محكماً إلا بتعيين من الأطراف كمـا أنه لا تحكيم إلا بإرادة الأطراف. بالتالي، يتوجب علينا استبعاد، عن موضوعنا، كل الذين يدعون أنهم محكمين بانتحالهم الإسم والصفة والسلطات. هناك متدخلان إثنان عرفا بكونهما مذنبين بهكذا انتحال: نقيب المحامين واللجنة التحكيميـة للـصحافيين La commission "arbitrale des journalistes. من المعروف منذ زمن أن تحكيم نقيـب المحـامين لا دخل له بالتحكيم، إلا بإسمه. ومع ذلك، منذ صدور المرسوم في 28 ديسمبر 2011، أصبح لنقيب المحامين ليس أن يفرض نفسه كمحكم فحسب، بل أيضاً أن يعهد سلطاته إلى نقبـاء المحامين السابقين أو إلى أعضاء مجلس نقابة المحامين السابقين لذلك يجب أن نشير أن عبارة "تحكيم نقيب المحامين" هي خاطئة بأكملها، حيث أنه ليس هنـاك تحكـيم أو نقيـب محامين! ولكن الأسوأ هو أنه بفرض هذا الإجراء على المحامين، توصلت النقابة إلى حـل مخالف جدا للاجماع بمنع هؤلاء من حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم التقليـدي. إذا فـإن المحامين هم المهنيون الوحيدون، في فرنسا، الذين لا حق لهم في اللجوء إلى التحكيم مـن أجل حل نزاعاتهم. وحتى قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بمعرفة إذا كان المحكـم كائنـاً إعتيادياً، يمكننا من الآن إعتبار نقيب المحامين، هو محكم غير إعتيادي.
والأمر ذاته بالنسبة إلى اللجنة التحكيمية للصحافيين، حيث أن المجلس الدستوري، الـذي رفعت إليه أخيراً مسألة أولوية دستورية، يشير إلى أنه، على الرغم من إسمها، لا تتعلـق بالتحكيم.
ها هي إذا الإجراءات التي من خلالها لا نختار لا التحكيم ولا المحكم، إنما التـي تـدعي ذلك أن لديها الخصائص والإسم. إن بدائل المحكمين هؤلاء ليسوا محكمين، وبالتـالي لا يمكنهم التطفل على محكم القانون العام الذي هو الوحيـد المعنـي بالمـسألة المعالجـة مع هنا.
5. من ثم، " [المحكم] هل هو..." . للوهلة الأولى، لا شيء في عبارة "هو"، وحتى في شكلها الإستفهامي، يجب أن يدعو لأي تعليق ما دامت الصيغة أساسية. ومع ذلك، وبأتباع تحليـل رمزي، تبين هذه العبارة أكثر بكثير مما يمكننا أن نتوقعه. إن استخدام الضمير الغائب في صيغة المذكر يذكر أن المحكم يكون بالعادة رجلاً. في العـام 1987، كـان البروفسور Jean-Denis Bredin قد أعلن سابقاً عما كان يسميه " ذكورية التحكيم". ولكـن حتـى ولو أن بعض النساء المحكمات قد تمكن من التغلب على هـذا الوضـع، تبقـى الهيمنـة الذكورية، بل تتزايد، في حين أن كل المهن القانونية والقضائية قد تأنثت بشكل كبير. وهذا هو خاصة حال القضاء حيث أن النساء يمثلن الآن 80 % من الطلاب في المدرسة الوطنية للقضاء. لا ينبغي أن نساهم في نوع من التصنيف الضمني: حيث ينـسـب القـضـاء العـام للنساء، والقضاء الخاص للرجال.
في وقت أصبح فيه التساوي هو الترياق، لم يدخل هذا الأخير بعد المحاكم التحكيمية التي لا تزال ذكورية بشكل عميق. لا يمكننا إلا التأسف على ذلك، إذ إن الطبيعة تعلمنا أن السكان المؤلفين من الذكور فقط هم غير قادرين على التكاثر. إن مجتمع المحكمين له القدرة على المقاومة وعلى التكاثر المثلي الجنس الذي يشكل تحدياً لعلم الحشرات، وحتى للطبيعة. ذلك يمكننا التأمل الأخذ بعين الإعتبار أن الأجيال الشابة هي في غالبيتها من الإنـاث، وأنه قد نشأت الآن تحركات كتحرك Arbitral Women" تناضل من أجل إعادة توازن مع مع الأمور بشكل عادل.
نجد التعزيز لهذه الرؤية القائمة على المساواة في فقه اللغة الذي يعلمنا أن كلمة "محكـم"، وخلافاً لما يمكن أن نعتقده، ليست في صيغة المذكر، إنما هي "مـشتركة الجـنـس": مـن الممكن استخدامها في المؤنث حتى ولو كان الأمر صحيحاً أنه يبقى استخدامها بهذه الصيغة نادراً في اللغة الفرنسية 1. لكن في اللغة الإنكليزية، وبغية عدم تحديـد الجـنـس مـسبقاً، أصبحت أكثرية الأنظمة تُحيد كلمة "محكم" وتستخدم "he أو she" بصيغة الضمير. بالتالي، على الرغم من أنه قد يبدو ذلك غريباً، إلا أن هذه المشاركة سميت بطريقة استفزازية " هل المحكم كائن اعتيادي؟"
6. "[هل المحكم كائن..." إن الملاحظة الأولى التي تعطى لكلمة "كائن" (باتصال مع ما قيـل للتو) هي إذا كانت كلمة "المحكم" كلمة مشتركة الجنس، فإنها ليست هي الحال بالنسبة الى كلمة "كائن" الذي لا يمكن أن يرد إلا في صيغة المذكر. يتوقف التأنيث عند المحكم ولا يصل إلى الكائن. من دون الغوص في استفهام ماورائي حول الكائن، يمكننا التساؤل إذا كان المحكم بالفعل كائن، هو الذي ليس له إلا مهمة مؤقتة.
يعرف المحكم من خلال وظيفته، التي لا تمنحه هوية معينة. ومع ذلك، فإن التحكيم لـيس حتى وظيفة، ولا يرد في أي قائمة مهن. مع نشهد على إضفاء الطابع المهنـي علـى ممارسة بعض المحكمين، إلا إن التحكيم ليس مهنة، والمحكم يشغل على الأكثر وضـعاً متنازع فيه. ولا سيما أن قانون التحكيم الفرنسي لا يفرض حتى على المحكـم الـدولي أن يكون شخصاً طبيعياً، فيمكن أن يكون مجرد شخص معنوي. والأكثر من ذلك: ليس فقط أن المحكم ليس كياناً، إنما ليس أيضاً مهنياً، إذ أنه "ممثل ظرفي للعدالة". فمن هو هـذا المحكم الذي ليس حتى شخصاً طبيعياً؟ هل هو كائن اعتيادي، غير اعتيادي، أو خـارق؟ هذا هو ما تبقى لتعريفه.
7. "هل المحكم هو كائن] اعتيادي؟ " من خلال هذا السؤال، يتبين أن مسألة الحالة الاعتياديـة هي المطروحة. ما هو المعيار الذي يمكن من خلاله تقييم المحكم؟ يعرف الاعتيادي مـن خلال نقيضه: هو الذي ليس غير اعتيادي أو الذي ليس استثنائياً – فبأي حال لا يكون ذلك مرادفاً له. يعتقد البعض أن حتى وظيفة القضاء أمر جنوني. وبالتالي، يكون كـل قـاض مجنون: والمحكم بكونه قاض، يكون مجنوناً.
والأكثر، إن القاضي، سواء كان خاصاً أو عاماً، لن يدرك ذلك، إذ أنه، وكما كتب الروائي الإسباني Carlos Ruiz Zafon: "المجنون هو الذي يعتبر نفسه شخصاً اعتياديـا والـذي يظن أن الآخرين هم أغبياء. وبعضهم هم أيضاً أكثر دقة أيضاً أكثر دقة حول طبيعة الآفة التي تصيب المحكم - مثل Eric Loquin الذي شخص المحكم بأنه مصاب بمرض "الفـصام"، "لأنـه يتوجب عليه في الوقت نفسه بت النزاع وإرضاء الأطراف. وصحيح أنه مـن الجنـون الرغبة في إرضاء الأشخاص الذين نحكم عليهم. مع أننا نعلم أنه، منذ اجتهاد جوسـتنيان، كان يجب على الأخص تفادي تسمية مجانين كمحكمين: ,Sed neque in pupillum“ « neque in furiosm, aut mutum, compromittetur23 هل هو إذا نشاط المحكـم الذي يجعل منه شخصاً مجنوناً؟ هل الكائن الاعتيادي يصبح غير اعتيادي عنـدمـا يكـون محكماً؟ هل هي مهمة المحكم التي تجعل منه كائناً غير اعتيادي؟ لمعرفة هذه الإجابـات، ينبغي التطرق في الوقت نفسه إلى حياة (1) ودور (II) المحكم.
I-هل يتمتع المحكم بحياة اعتيادية؟
8. "نعيش جميعنا حياة سخيفة، غريبة ومثيرة للسخرية، إنما بما أننا نعيشها جميعنا سوياً ف الوقت نفسه، نجدها في نهاية المطاف اعتيادية"، هذا ما رآه منـذ عـشرين سـنة كاتـب معاصر إن حياة المحكم لا تخالف القاعدة، وبالتالي تستحق أن نتوقف عندها. وإنه مـن خلال مقاربة إجتماعية نوعاً ما، يمكننا أن نتساءل إذا كان المحكم شخصاً اعتياديـاً (A) وإذا كان نشاطه اعتيادي (B).
A-هل المحكم شخص اعتيادي؟
في القرن السادس عشر، كتب Antoine Mornac، وهو في الوقت نفسه محام في برلمان باريس وشاعر 25"Non judices, sed simio judicum". إذا كان المحكم يقلد القاضي، فإنه يتمتع أيضاً بخصائص خاصـة بـه ومتعلقـة بمظهـره (1)، طبعـه (2)، ومنبتـه الجيوغرافي (3).
(1) هل يتمتع المحكم بمظهر اعتيادي؟
9. لقد تمكنا سابقاً من تبيان الطابع الذكوري والمتقدم في العمر نسبياً لدى المحكمين. فمـن المؤكد أن عالم التحكيم يعاني صعوبة معينة من ناحية التجدد. إن المراكز غالية ومحـافظ عليها بشكل جيد، حتى ولو نرى، في السنوات الأخيرة، ازدهار مبادرات من أجل تجديـد مجتمع المحكمين. إنما يبقى المكان محافظاً، وغالباً ما يعتبر الإبتكار، بل الخلـق كعيـب أكثر مما هو إغناء.
10. هل يتمتع المحكـم بخـصائص جـسدية معينـة أخـرى؟ جـاء جـواب البروفسور William Park إيجابياً في السطور الأولى من المقدمة فـي الطبعـة الأخيـرة لكتـاب "Arbitration of International Business Disputes“. يفسر البروفسور أن النجاح كمحكم يكمن في "كون دماغ المحكم أكبر بسنتمتر مكعب من دماغ بـاقي الأشخاص27"، رغم عدم التثبت من ذلك علمياً، هذا التأكيد يجعل من المحكمين كائنات أكثر ذكـاء مـن الآخرين.
11. أخيراً، تفرض حياة المحكم مقاومة جسدية كبيرة، تجعل السفر غير مؤلم، تمحو الفارق في الأوقات، وتسمح بتنظيم جلسات المحكمة حسب إيقاع ثابت. ولعل هذا هو ما يفسر، فـ القانون الفرنسي، أنه يفرض على المحكم الداخلي نوع من الأهلية المدنيـة الزائـدة. فـي الواقع، تنص المادة 1450 من قانون أصول المرافعات المدنية أن المحكم هـو الـشخص الاعتيادي "المتمتع بممارسة حقوقه بشكل مطلق". إذاً، تخلق هذه المادة فئـة معينـة مـن البشر، وبالتالي من المتوقع، لا أن يتمتعوا بالأهلية المدنية مثل الجميع، بل "بأهلية مدنيـة . بالنسبة للمحكم، لا يكفي أن يكون مؤهلا قانونياً، إنما يجب أن يتمتع بأهلية زائدة. بالإضافة إلى ذلك، إن تعديل قانون التحكيم الصادر بمرسوم بتاريخ 13 يناير 2011، قـد زاد أيضاً تطلب أهلية، لأنه في حين كانت المادة القديمة 1454 تفرض "ممارسة الحقـوق المدنية بشكل مطلق"، أصبحت المادة الجديدة 1450 تتطلب "ممارسة الحقوق بشكل مطلق". وبحذف كلمة "المدنية"، نكون قد وسعنا نطاق الأهلية المطلوبة، وبالتأكيد جعلنـا المحكـم رجلاً خارقاً.
(2) هل يتسم المحكم بمزاج اعتيادي؟
12. يتعلق الأمر هنـا بـصفات المحكـم الشخـصية فلـم تـنقص القائمـة منـذ صـدور "Le Manuel du bon arbitre“ في العام 1925 وحتى الإصدارات الأخيرة. يمكننا تقريباً الرجوع إلى النصوص الدينية. هكذا هو بالنسبة للإنجيل المقدس الذي يشير: "مثلمـا تدينوا تُدانوا"، وكما هو في حديث للنبي محمد (صلعم): "لا يحكم الحاكم [NDA: المحكم] بين اثنين وهو غضبان والقانون الإسلامي النابع من الشريعة هو أكثر دقة، لأنه ينتظر من المحكم ألا يتسم فقط "بالعدالة"، أي بطبع لا عيب فيه ومعتدل، إنما أيضاً يتمتع بحاسـة سادسة حقيقية تمكنه من تسوية النزاعات.
13. نحن لسنا بعيدين هنا عن المادة 14-1 من اتفاقية المركـز الـدولي لتسوية منازعـات الاستثمار التي تنتظر من المحكم أن يخصص "باحترام معنوي كبيـر، [...] باختـصاص معترف به في المسائل القانونية، التجارية، الصناعية أو المالية". كما لخص أحـد الكتـاب ذلك، ننتظر من المحكم أن تكون لديه السلطة، أن يعرف اتخاذ القرارات، أن يكون صبوراً وكريماً، إنما أيضاً شرساً إذا توجب الأمر، وخاصة أن يكون متمتعاً بقوة شخصية وبنزاهة فكرية كافية من أجل عدم التأثر بالمصالح ومن أجل مقاومة كل الضغوط (التي تصدر عن الأطراف بقدر التي تصدر عن مركز التحكيم، وعن التغطية الإعلامية)، وأخيراً أن يكون مجتهداً، واسع المعرفة، أثناء عمله "في ظل محكمة الإستئناف، التي يستهاب منها بحـق حتى ولو كانت متسامحة". ويستنتج هذا الكاتب ويتوجه إلى المحكم بقوله: "يجب أن تكـون قديسا، لن تستطيع أن تنجح بذلك، لكن عليك أن تسعى لذلك . في الواقع، نجد تقريباً هنا صفات "الرجل النزيه" التي كانت في القرن السابع عشر.
14. لكن صفة المحكم الرئيسية، وفي الوقت نفسه تشكل تحدياً له، هي معرفة كيفيـة الـسيطرة على مشاعره. يجب أن يكون موضوعياً، أن يتفوق على نفسه، باختصار، نوعـاً مـا، أن يتحول من شخص اعتيادي إلى كائن سام. وصـف Matthieu de Boisséson جدليـة المحكم الجوهرية والخاصة هذه بالطريقة الفضلي: "بكونه إنساناً مثقفاً، يجب على المحكـم أن يلتزم ما يمكن أن نسميها الجدلية التحكيمية: لن يستطع التنكر لتميزه ومعتقداته وثقافته، ولكن عليه، إلى حد ما، أن يكذبها [...]. "نجد هنا الكلمة الألمانية"aufheben" للفيلسوف الألماني هيغل Hegel، وهي تعايش في كل فـرد وجهـات نظـر "شخـصية" و"غيـر شخصية "، جدلية الفكر هذه تعني في الوقت نفسه المحافظة والتجاوز.
15. ولكن هل يجب الذهاب أبعد من ذلك والانتظار من المحكم، ليس فقط أن يتنكـر لـصفاته الشخصية، إنما حتى أن يتجرد منها، أن يكون كما سماه البروفسور Pierre Catala "آلـة تحكم"؟ "كلا"، هذا ما رد به أولا "محمد بجاوي" الذي برأيه أن المحكم "ليس إنساناً آليـاً وليس شيئاً جامداً. [...] هو كائن من لحم، تماماً كما هو القاضي العادي. [...] إن المحكم ليس كائناً عائماً بلا جسد، دون أصول أو روابـط، عرقيـة، ثقافيـة، دينيـة، إجتماعيـة وغيرها ". وبعد ثلاثين سنة تقريباً، يتمتع هذا التأكيد بمزيد من القوة في وقت تكون فيـه ضرورة الإستقلالية أكثر رسوخاً كل يوم. لا ننتظر من المحكم أن لا يكون ما هو عليـه. فيكون ذلك خلطاً بين ضرورة الإفشاء الواسع الذي يثقل المحكم وبين التطلب المميت، الذي يرتكز على الانتظار منه أن يحرم من تاريخه وثقافته الشخصية. نجد هذا الاستفهام مـن خلال مسألة التنازع في القضايا، أي الآراء التي عبر عنها المحكم فـي أحكـام تحكيميـة. سابقة .
لن يعرف المحكم أن يتخلى عن كل إلفة، حتى عن كل هوية، من أجل ضمان فعاليته؛ يجب أن لا يتنازل عما هو عليه من أجل أن يصبح من ليس هو عليه. لا يمكن أن ننتظر منه أن لا يكون له رأي سياسي، ولا ديني، ولا تفضيل جنسي، ولا حتى أن يبين ذلك. باختـصـار يجب الإحتراس من تحويل عدالة الإنسان إلى عدالة معدومة من الإنسانية، إذ إن مسألة معرفة ما إذا كان المحكم كائناً اعتيادياً لم تعد مطروحة.
(3) هل يتمتع المحكم بمركز اعتيادي؟
16. يقول البروفسور Berthold Goldman في ما يتعلق بالمحكم الدولي أن "المحكـم عنـده قانون، كما في روايات بلزاك، هو الكون". ونعرف جيداً، في المفهوم الفرنسي للتحكـيم الدولي، ليس للمحكم مجلس قضاء وطني. والأكثر: في الواقع، له بالفعل مجلس قضاء، إنما هو رمزي، كما كتب Matthieu de Boisséson: "إن المقر لم يعد مجلـس قـضاء. إن مجلس القضاء قد جرد من طابعه المادي. لقد انتقل، نوعاً ما، مـن المجـال المـادي، أي الإقليم، نحو مجال رمزي، ذاك الذي هو موافقة الأطراف." ينظر إلى مجلـس القـضاء كأساس للتكليف: حيث تكلف الدولة القاضي العدلي، تكلف إرادة الأطراف المحكم، وبالتالي لا يكون لمكان المقر أي تأثير في تكليف المحكم. هذا ما قرره القانون الفرنسي. أما في القوانين الأخرى، كما على سبيل المثال القانون المغربي، الذي يفرض على المحكمـين أن يكونوا مسجلين في لائحة في محكمة الإستئناف على غرار الخبراء، هذه ليست فقط طريقة لمراقبتهم، إنما هي على الأخص وسيلة لكي يتجذروا في الإقليم المغربي، إذا بشكل معـين لكي يجنسهم.
17. أما قانون التحكيم الدولي الفرنسي فهو على خلاف ذلك: يرفض أن يضفي آثـاراً قانونيـةً كثيرة الأهمية على مكان مقر المحكمة التحكيمية. من المؤكد أنه لا يمكن أن تكـون هـذه الأخيرة معدومة الجاذبية ولا عائمة في الفضاء. بكونها غير افتراضية، يجب على المحكم التحكيمية أن تستقر في مكان ما، وحتى يجب أن يجلس المحكمون (في المعنى الحرفي كما في المعنى المجازي) في مقر". مع ذلك لا يمكن إساءة الظن حـول نتـائج هـذا التجـذر الجغرافي، أولا لأنه لا مفر منه، ومن ثم لأنه زائف. في الواقع، إن المحكم الدولي متجذر في إقليم وليس في دولة. وهذا التجذر، لأنه اصطناعي، ولأنـه يقـع خـارج العـوارض الإقليمية، خارج كل رسوخ دولي، خارج حتى كل قرار قانوني وطني، فهو غير اعتيادي. إن المحكم ليس لديه مركز ثقل. في ذلك، لا يكون على الأرض. ويكون عالمه في مكـان آخر.
هل يمكنه، إذا، في هذا العالم الموازي، ممارسة نشاط اعتيادي؟ أو بالتحديد، هـل الأمـر يتعلق بنشاط غير اعتيادي؟
B- هل يمارس المحكم نشاطاً اعتيادياً؟
الجواب هو بالتأكيد إيجابي. لكن يتعلق هذا الجواب بالنشاط الرئيسي للمحكم، لأن التحكيم، كما ذكرنا، ليس مهنة. مع ذلك يميل إلى أن يصبح كذلك، وبالتالي أن يصبح اعتياديـاً. إن تطور نشاط المحكم هذا يدعو الى التساؤل عن طريق الممارسـة (1) وعـن الرهانـات الإقتصادية.
(1) طريقة ممارسة نشاط المحكم:
18. يتسم نشاط المحكم بميزة خاصة بأنه يمارسه أفراد، بالمبدأ، يمارسون مهنة أخرى. لا أحد، أو تقريباً لا أحد يكون محكماً فقط. فهذا نشاط تبعي ومؤقت. أولئك الذين يقومون بمهمـة المحكم هم محامون، أساتذة في القانون، حقوقيون في شركات، خبراء محاسبة، خبراء فـي موضوع النزاع، إلخ. يمكننا القول بشكل متناقض، أن المحكمين ليسوا محكمين. غیر أنه، ولو أن النشاط تبعي، يؤدي التحكيم إلى أجر أحياناً أعلى بكثير من أجر النشاط الرئيـسي. هذا هو تقريباً دائماً الحال بشكل خاص للذين هم موظفون عـامون، إنمـا لـيـس للـذين هم محامين، إذ الجميع يعلم أن النشاط الإستشاري هو أكثر كـسباً مـن نـشاط المحك ذلك يسبب، من جهة أخرى، تفاوتاً في وسط الهيئة التحكيمية ذاتها المؤلفة من أساتذة فـى القانون ومحامين، إذ أن الفريق الأول يكسب المزيد من المال مقارنة بنشاطه الرئيسي، الفريق الثاني فيخسر عموماً. إذاً، التحكيم يوفر الربح أو الخسارة بحسب مهنـة المحكـم أما الرئيسية.
19. إن التحكيم وبسبب عدم كونه مهنة، يتسرب في ثغرات النظـام ويقتـرن بنظـام المـهـن الأخرى: لا ضمان، لا نظام ضريبي معين، لا نقابة للمحكمين، لا واجبات أدبية، إلـخ. إن المحكم هو وحيد. وبالإضافة إلى ذلك، وهو وحيد، خصوصاً أنه يتطور في عـالم حيـث السرية هي القاعدة. هذه السرية هي في الواقع أحد أسباب الغموض الذي يحيطـه، وذلـك جراء الحسد الذي يثيره والإنتقاد الذي يتعرض له أحياناً. في حين أنه ليس لأن المحكم هو سر، يكون، لهذا السبب، شخصية شريرة.
لكن لا نخطئ: هو بالفعل غنى التحكيم أن يكون نشاطاً ملحقاً، لسببين: أولاً لأنه يتغذى من هؤلاء المهنيين الذين يأتون بمهارتهم وخبرتهم، الذين سيسمحون بالتقاء وجهـات النظـر وتقديم اختصاصات متكاملة في النزاع، من ثم، لأن ذلك يمنح المحكم استقلاليته. فبمجـرد أن المحكم لا يلتحق بشيء، فهو ليس تابعاً لشيء.
20. مع ذلك، يجب ذكر أن النشاط يتخذ طابعاً مهنياً، وأن ذلك يطرح عدداً معيناً مـن الأسـئلة الجديدة. من بينها، تلك المتعلقة بالإستقلالية. إن الإجتهاد حول استقلالية المحكم كان له أثـر جانبي بتحويل طريقة ممارسة نشاط المحكم هذه السنوات الأخيرة. إن القرار Tecnimont الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 2011 عن محكمة الإستئناف في ريمس التي أحيلت إليها الدعوى، ينص على ذلك صراحة: "لا شيء يتعارض مع إضفاء الطابع المهني على وظيفة المحكم " وأكثر، يبدو أن المحكمة نفسها تشجع على هذا الإمتهان، عندما تنص، حول قضية أخـرى متعلقة باستقلالية المحكم، في رأي غير ملزم للمحكمة: "باعتبار أن الممارسة المهنية للتحكيم هي قانونية تماماً، ويجب أن لا تعاني من أي شبهة بالنسبة للتحكيم العرضي " .
من الصحيح أنه، خلال بضع سنوات، شهدنا بروز هيئات هي مكاتب تحكيم حقيقية، غالبـاً ما ينشئ هذه المكاتب محامون ينتمون إلى هيئات كبرى، وكانوا يعـانون مـن تعـارض مصالح دائم يمنعهم من ممارسة نشاطهم الملحق كمحكمين. على الرغم من أنه فرعي، فإنّ نشاط المحكم أثر إذا في المهنة الرئيسية. إن بروز هكذا مكاتب تحكيم غير اقتصاد التحكيم الدولي. لهذا البروز نتيجة أولى وهي إمتهان عمل المحكم. أحياناً لا يكون التحكيم نشاطاً ملحقاً، أو مؤقتاً، إنما مهنة بحد ذاته، وليس مدرجاً في قائمة المهن، مـن جهـة أخـرى. النتيجة الثانية هي أنه يجب على المحكم الممتهن أن يضمن بقاءه، وإلا نجاحه، وأنه بالتالي يكون معتمداً من الناحية المالية على تعييناته كمحكم. على قدر مـا تشغل هـذه أمكنـة مرموقة، وتشرك معاونين مختصين ويتقاضون أجوراً جيدة، ولـديها مكتبـات مجهـزة باختصار، تكون عليها مصاريف كبيرة يجب أن تتحملها، حيث أن كل تدن للنشاط، ولـو كان مؤقتاً، يمكن أن يكون مميتاً.
21. في وجه هذا الإمتهان، الذي سبق أن ذكر، هناك طريقتان لتقدير الظاهرة. يمكننا اعتبار أن كل إمتهان هو شيء جيد، لأنه يقدم الخبرة والكفاءة، إضافة إلى ذلك، يمكننا اعتبار أنّ بعض النزاعات معقد جداً، بحيث أن المحكم الممتهن هو الوحيد الذي يمتلـك الوسـائل اللازمة من أجل حله بشكل صحيح. أخيراً، يذهب البعض إلى حد الإدعاء أن الإمتهان هو ضمانة للإستقلالية، لأن المحكم الذي تتضاعف تعييناته لن يعود تابعاً للطرف الذي اختاره. فإذا صح القول، كلما كان هناك المزيد من التحكيم مع المحكم نفسه، كلما قلـت المخـاطر على الإستقلالية. يجب الاعتراف، أن هذه المقاربة، هي خاصة مقاربة pro domo مـن أولئك الذين أصبحوا ممتهنين.
22. هناك طريقة أخرى من أجل تقدير هذا الإمتهـان، وهي الأقرب إلـى المفهـوم الأصـلي للتحكيم والذي يستنتج العكس تماماً، أي أن الإمتهان يؤثر عكسياً في الإستقلالية. كمـا أن النشاط المهني للمحامي مرتبط بزبائنه، فإن نشاط المحكم مرتبط بالمتنــازعين. بالتـالي، تتلاشى الحدود تدريجياً والمتنازع يتحول إلى زبون. هذا ما يفسر استراتيجيات المحكمـين الدوليين التسويقية الجديدة والقلق الدائم الذي يعانيه المحكم جـراء سـمعته45، ورأسـماله الأكثر قيمة. إذاً يصبح المحكم معتمداً على التحكيمات. لم يعد هو الذي يسيطر علـى التحكيم، إنما التحكيم الذي يسيطر عليه. ويؤدي ذلك إلى ثلاث نتائج مهمة للتحكيم ذاته.
23. أولاً، إن إمتهان نشاط المحكم تترتب عليه نتيجة بجعل التحكيم يميل نحو عنصره الإقتصادي أكثر من بعده القضائي. ينتج أيضاً من ذلك، تضييق على مكان المحكمين، وبالتالي الحد من "أرض الحريات" هذه ، التي يتشكل منها التحكيم. في القرن السابع عشر، كان المحكمـون حقوقيين بنسبة أقل مما كانوا خبراء في موضوع النزاع. كان هناك حتى، حـسب الحقـوقي Domat، واجب بالرفض الذاتي للذي لم يكن خبيراً في المسألة المتنازع فيهـا. إذا كـان المحكمون، على سبيل المثال، صانعي زجاج، خياطين، بلاطين، إلـخ. أليـسـت بالتحديـد مصلحة التحكيم أن يستطيع المتخصصون في المسائل المتنازع فيها والمعنيين بهـا الفـصل فيها، دون حاجتهم الى معرفة المزيد في الإطار الذي من خلاله يجري النزاع؟ هذا ما ذكره أحد الكتاب على الشكل الآتي: "كل حقوقي، كل تقني، في الحقيقة كل شخص، هو مدعو إلى أن يسمى محكماً." في الواقع، ثبت أنه في بلاد كإنكلترا أو أوستراليا، يكون المحكمون في الكثير من الأحيان خبراء في المسألة المتنازع فيها أكثر مما يكونون حقوقيين. وهو أيضاً الحال للذين يشكلون محاكم الإنترنت التحكيمية المكلفة الفصل فـي نزاعـات الإنترنـت53. وبالتالي يصل أيضاً تطور التحكيم الإقتصادي بانفتاحه إلى غير الحقوقيين.
والدفاع عن العكس يشبه الدفاع عن مصالح الحقوقيين الفئوية في مواجهة مصلحة التحكيم ذاتها بأن يمارس من قبل أكبر عدد. احتج Philippe Fouchard منذ وقت طويل علـى بنية جسم المحكمين الممتهنين، بسبب أخطار انفصالهم عـن المتـرافعين، حيـث أنهـم موجهون تماماً نحو البحث عن نجاحهم الإقتصادي، بل عن ربحهم الأكبر.
(2) الرهانات الاقتصادية للنشاط:
24. في مقال مميز لها، تستند عالمـة الإقتـصاد Sophie Harnay الـى مدرسـة التحليـل الإقتصادي للقانون، المتعلقة باقتصاد التحكيم، وتبين بالفعل أن المحكم هو مـا سـمته "الوكيل الإقتصادي العاقل"، أي أنه شخص يتخذ قراراته حـسـب مـصلحته الإقتـصادية الخاصة. وبالتالي لم يعد على الإطلاق "الشخص الثالث غير المنحـاز واللامبـالي"، كمـا عرفه في السابق Kojeve، بل هو مهتم بمصلحته الشخصية على الأخص.
لكن ما هي مصلحة المحكم الشخصية؟ هي أن يكون معيناً بصورة مستمرة، وبالتالي فـإن مقاربته للنزاع تكون مشوبة، حتى أحياناً بشدة، بهذا المعطى. وتـذهب Sophie Harnay إلى أبعد من ذلك عندما تكتب أن هذه المصلحة هي التفسير الوحيد لقرارات تحكيميـة قـد تبدو أحياناً غير منطقية.
هذا التحليل، الذي يجعل أخيراً من المحكم كائناً مرتشياً، هو بالتأكيد مفرط، ولكنه جدير في لفت الإنتباه إلى نقطة لم يشدد عليها بشكل كاف وتتعلق بالوضع الذي يوجد فيه المحكم.
وذلك غامض بشكل خاص، لأنه إذا كان قاضياً، فهو قاض يتقاضى أجراً. بالتـالي لديـه مهمة أن يحكم بالعدل، وهذا نبل، إنما لهدف أن يدفع له، الأمر الذي هو نافع. فـي ذلـك، يكون المحكم في وضع مختلف جداً عن وضع القاضي الـوطني الـذي لا يختـار مـن المتقاضين ولا يدفع له منهم. هكذا، على سبيل المثال، حيث يكون للمحكم مصلحة شخصية بأن تكون قيمة النزاع مرتفعة -حين تكون أتعابه محددة حسب قيمة الطلب- فإن القاض العدلي لا يأبه لذلك.
إضافة إلى ذلك، إن المقاربة الذي يعتمدها المحكم حول الإعتراض على اختصاصه، على سبيل المثال، يمكن أن يشوبها رهان شخصي في اتخاذ القرار. بالتأكيد، وفي المبـدأ أنـه ينظر الى ذلك فقط، وفقاً لعناصر النزاع. لكن من هو المحكم الذي يمكن أن يقسم أن يده لم ترتجف أبدأ في وقت تصريحه أنه غير مختص؟ إذ إنه في الأساس ليس قـط إلا انتحـاراً تحكيمياً يتنازل من خلاله المحكم عن اختصاصه في الدعوى، بالتأكيد عن وعـي وإدراك، لكن بالتخلي عن الأتعاب التي كانت ترافق تكملة الإجراء. ونعلم جيداً أن بعض الإجراءات التحكيمية تمدد بشكل مصطنع، إذ إنها تخدم مصلحة المحكم. حول هـذه النقطـة، يكـون المحكم والأطراف في أوضاع ذات مصالح متضاربة.
26. هذه هي المشكلة ذاتها بالنسبة إلى المصالحة. يجب على المحكـم أن يحـض الأطـراف على التصالح. ولكن هل يقوم بذلك حقاً؟ للأطـراف بـشكل طبيعـي مـصلحة بـأن تنتهي الدعوى في أسرع وقت ممكن، وبأقل كلفة ممكنة، في حين أنـه بالنسبة للمحكـم كلما طالت الدعوى، كلما، بشكل عام تقاضي المحكم أجـراً أعلـى. وإذا فـي فالعكس صحيح، ذهبنا في تحليلنا إلى أبعد من ذلك، يمكننا اعتبار أن المصالحة هي انتصار للأطراف، حين أنها خيبة أمل للمحكم. فإذا صح القول، تكون سعادة الأطراف على حساب عدم رضی المحكم. وبالتالي، وعلى أثر نجاح مهمة ما، يكون هناك خطر يتحمله شخص يحبطه هـذا ، النجاح.
27. إذا إن المحكم ليس غير مبال. بشكل أدق، هو غير مبال بحل النزاع، إنما ليس غير مبـال بالنزاع. لكن التحليل الإقتصادي يبين أيضاً أن المحكم هو قبل كل شيء قلق على سمعته، التي تؤدي "دوراً انضباطياً". فهو من خلال البحث عن أفضل سمعة ممكنة ينجز المحكم مهمته القانونية. وهي سمعته التي تؤمن له ازدهاره. حتى Yves Derains كتب أنهـا "رأسماله". من هنا تأتي الأهمية بالنسبة له ألا يدع الاعتبارات المالية تسيطر عليه.
هكذا، إن محرك القرار لم يعد إصدار أفضل حكم تحكيمي، إنما إصدار الحكم التحكيمـي الذي يؤمن أفضل سمعة. طبعاً، يمكننا اعتبار أن الأمر سيان تقريباً، إذ أن الحكم التحكيمي الجيد يؤمن له سمعة جيدة. في الواقع كل شيء يتوقف على الهدف من هذه السمعة الجيدة المنشودة. إذا كان مجتمع التحكيم الدولي، حيث الجميع يعرف بعضهم البعض، يقدر ذاتـه ويحكم على نفسه، لكانت اختلطت فعلياً الأهداف. الخطر إذا هو أن يكون المحكـم قلقـاً خصوصاً في شأن تقبل الجميع قراره بشكل جيد. من هنا الميل في رؤية أكثر فأكثر أحكام تحكيمية تصدر دون أن تفصل في النزاع، إنما تعطي حقاً للطرفين، اللذين ينتصفان رفضاً وقبولاً بكل من الأحكام التحكيمية. ويتبين ذلك خصوصاً في مخصصات مصاريف التحكيم أصبحت أكثر فأكثر من الأحيان تتقاسم، وإلا يتفاوض في شأنها. هذا الميـل يبعـد لتي المحكم عن القاضي ويقربه من الوسيط، الأمر الذي لا ينبغي أن يحصل.
لكن إذا كان الطرف هو الذي سمى من يسعى لسمعة جيدة، فيكون ذلك شيئاً آخر، إذ يجب قبل كل شيء إرضاءه. تتوقف السمعة على القدرة على إرضاء هذا الطرف. ومن ثم، هناك فرضية ثالثة، ترى أن المحكم يهتم خاصة برأي الطرف القوي. على سبيل المثـال، هـل نحن متأكدون أن المحكم الدولي يعامل بنفس اللامبالاة محامياً في مكتب محاماة كبير يدير عشرات التحكيمات في السنة، ويختار الكثير من المحكمين، والمحامي الذي لديـه قـضية واحدة والذي على الأرجح لن يتسلم غيرها أبداً. إذا إن المسألة لم تعد معرفة مـن سـمى إنما معرفة من سيسمي.
28. بالتالي إن المحكم سريع التأثر تجاه سمعته وهذه الأخيرة قد تؤثر في قراره. لمواجهة ذلك، عليه أن يبدي قسوة كبيرة قانونية وأخلاقية من أجل عدم الاستسلام للإغراءات ولا تفضيل مصلحته على نزاهة مهمته القانونية. إن الزمالة تؤدي أيضاً دورها، لأنه شـيء مهـم أن يكون لديه هكذا تجربة في مجاله، لكنه شيء آخر أن يعلن ذلك أمام المحكمـين الآخـرين الذين نكن لهم الاحترام والإعتبار. ويا للأسف، في ما يتعلق بهذه النقطة، المحكم هو مثل الجميع، هو اعتيادي.
لكن المحكم هو قبل كل شيء قاض، حتى ولو كان أيضاً متعاقداً، ما يبدو اقتراناً غريبـاً. هل حقاً يمكن للمحكم أن يكون في الوقت نفسه قاضياً ومتعاقداً؟ هل هي هدرة ذات رأسين، أو جانوس بوجهين؟ وهل يكون وحشاً أو إلاها؟ باختصار، ما هو دوره بالضبط؟ بعد تبيان أنه ليس للمحكم حياة اعتيادية، دعونا إذا نرى إذا كان دوره اعتيادياً.
II- هل يتمتع المحكم بدور اعتيادي؟
29. إنه بالتأكيد من غير المحتمل أن تؤدي حياة غير اعتيادية إلى دور اعتيادي. هـذا الـدور يرتكز على الحكم بالعدل، الفصل في النزاعات ووضع حد للخلافات، بالتالي ودون نقاش، يكون للمحكم دور إجتماعي، على الأخص في المسائل الدولية حيث لا بديل حقيقياً للتحكيم. لكن هل هو اعتيادي أن يكون للمحكم هذا الدور؟ على أي أساس، إن فـرداً عادياً، لـم تفحص ولم تراقب قدراته حتى عن طريق امتحان، والذي لا يمثل إلا نفسه، أن يـضطلع بمهمة تهدئة الخلافات في المجتمع؟ وأية ضمانات يقدمها هكذا شخص حتى يفرض قراره؟ إن الجواب يكمن في وضعه (A) وفي استقلاليته (B) فيجب التساؤل هل هما اعتياديين.
A- هل يتمتع المحكم بوضع اعتيادي؟
30. من أجل الإجابة عن هذا السؤال، يجب ربما الخروج عن كيفية تـصوير المحكـم بـشكل تقليدي والأخذ بعين الإعتبار التطور المهم الحاصل مـا بـين "Club de gentlemen“ الذي كان الأصل في تطوير التحكيم الدولي، هذا العهد الذهبي حيث كان الجميـع يعـرف بعضه البعض، حيث كان غير ملائم التصرف بشكل سيء، وحيث كان يتركـز مجمـوع القضايا أمام قلة من المحكمين، إلخ.، واللدد في المنازعة الذي يحكم الآن مجتمعاتنا الغربية والذي أفسد التحكيم الدولي، حيث أنه في معظم الأوقات تبدو كل الضربات مسموحة، بمـا فيها زعزعة استقرار المحكم الصالح. هذا التغيير في الممارسات سمح بتحديـد وتـصفية وضع المحكم الذي، وبما أنه يقترن بالتطورات المعاصرة، هو في طريقه إلى أن يصبح اعتيادياً.
يمكننا إذا إعتبار أنه من الوضع الفريد (1)، تطور المحكم تدريجياً حتى وصل إلى وضـع اعتيادي(2).
(1) وضع فريد:
31. بشكل متناقض، خلف هذه الوحدانية، هناك كائن متعدد يختبئ. في الواقع، المحكم ليس فقط كائناً هجيناً، بل إنه مزدوج. ليس نصف متعاقد، نصف قاض، كما يمكن أن نعتقـد، إنـه متعاقد بالكامل وقاض بالكامل. وهو ليس متعاقداً وقاضياً بالتعاقب؛ فهو دوماً وفي الوقـت نفسه متعاقد وقاض. وبالتالي فإن الكائن المزدوج لا يمكن أن تماماً شخصاً اعتيادياً. يصبح على أي حال، فإن النظام يرتكز على التوازن بين وجهـي جـانوس. إذا سـاد الجانـب القضائي، يكون المحكم قد ابتعد عن العالم الاعتيادي، إذ لا شيء يبرر قوة قراراته. المقابل، إذا سيطر الجانب التعاقدي، يصبح المحكم مقدم خدمات كالآخرين، بعيداً عن نبـل مهمته السامية. إذا فإن التوازن بين عنصري المحكم هو أساسي.
هذا ما يبرر أن فرداً، دون كفاءة خاصة لا يمثل أي سلطة تتفـوق عليـه، لا دينيـة ولا جمهورية، يستطيع أن يقرر شيئاً يفرض على الآخرين، حتى وإن كان ضد إرادتهم. فـي الواقع كيف يمكنه الحكم، هو، الذي لا يحكم بإسم أحد؟ لا يوجد في التحكيم هذه المـصفاة الثمينة التي تسمح بالفصل بين القاضي والفرد الذي يحكم. إن هويـة المحكـم الشخـصية مع هويته الوظيفية. المحكم مجرد من البعد المعنوي الذي يحمي القاضـي خلـف مظاهر وظيفته. إن المحكم هو قاض دون ثوب، دون طقوس، دون سـيف ودون قـصر عدل، إنما يحكم. إلى ماذا يعود ذلك؟ يمكن أن يبدو هذا السؤال ذا طابع فلسفي .
32. رغم ذلك إن الإجابة قانونية. وتكمن في كلمة واحدة- لكن أية كلمة: العقد. وهو في الواقع عقد المحكم الذي يمنح المحكم صفته كقاض. وهو ليس قاضياً، إلا في الوقت الذي يدوم فيه عقد المحكم. لكن المحكم هو متعاقد من نوع خاص، بل غير اعتيادي بما أن شـريكه المتعاقد أي المتنازعين، هو ليس بصيغة الجمع فحسب، إنما هو نفسه بنزاع جوهري. هناك نوع من النزاع الحميم داخل طرف الشريك المتعاقد المتعدد الذي قد ارتبط به.
هذا هو سحر التحكيم الذي يجبر الأطراف المتعاقدين، في الوقت نفسه الذين يدخلون فيـه إلى النزاع، على الإجتماع في طرف متعاقد متعدد ومعهم كشريك متعاقـد قاضـيهم، أي المحكم. وه وهو في أي حال من خلال هذه الجدلية بين الخلاف والوفاق، بين الخلاف علـى النزاع والوفاق حول المحكم، تحدد شرعية المحكم. إن هذا الوضع المحلل بطريقة منطقية ومجردة عندما ننظر إليه بصفتنا كحقوقيين، هو في الواقع أمر استثنائي، ويجعل من المحكم نوعاً من الكائنات الخارقة.
مع ذلك، باعتباره متعاقداً، المحكم أيضاً، بطريقة معينة، بإعادته إلى الواقع، وبشكل أوضح أيضاً في عالم العقود الذي يخضع لقوانينه الخاصة. في أي حال، إن التطور الأكثر حداثة في قانون التحكيم يميل تدريجياً إلى إحالة المحكم إلى شرط أكثر تقليـدي، أي أن فرادتـه تضعف، وأنه في طريقه إلى أن يصبح اعتيادياً.
(2) وضع في طريقه إلى أن يصبح اعتيادياً:
33. وفي حال أصبح المحكم شخصاً كالجميع؟ ننظر إلى هذا التطور سواء على الصعيد المدني أو الصعيد الجنائي.
أولا على الصعيد المدني، أظهرت عدة قضايا أن المحكم، بصفته كمتعاقد، يخضع لقانون الموجبات. هذا مقبول في ما يتعلق بتكوين عقد المحكم وتنفيذه.
حول التكوين، إنه قرار Elf Neftegaz الصادر عن محكمة التمييز الذي، بعـد تغيـرات عدة، أكد أن المحكم ليس قاضياً يقرر في صحة تكليفه، إذ إن هذا الأمر يعود الى قاضـي القانون العام66. حتى ولو لم يكن هذا الحل معتمد في الخارج67، لكنه منطقي بما أن هـذا القاضي، المختص أصلاً في ما يتعلق بتنفيذ عقد المحكم، يجب أن يكون أيضاً مختصاً بما ينتج من تكوينه. من ناحية أخرى، إن هذا الحل يتجنب الحالة المعاكسة الغريبة التي تـرى المحكم أنه في الوقت نفسه قاض وطرف في العقد، بحيث أنه هو بنفسه متعاقد. في الواقع، إن الأمر ليس ذاته أن نحكم إذا كنا مختصين، أي إذا كان يمكن التحكيم في النزاع، والحكم إذا تم تكليفنا، أي إذا كنا بالفعل المحكم. إن ذلك لا يمكن قبوله إلا بتكريس مبدأ مختلـف أوسع من مبدأ الإختصاص بالإختصاص، وهو مبدأ إختصاص المحكم بالتكليف الذي يسمح للمحكم أن يقرر أنه المحكم ويفرض نفسه كشريك تعاقدي للمتنازعين، في حـين أن أحد الشركاء في النزاع، من الناحية النظرية، يعارض ذلك. لم يعتمد هـذا الحـل فـي محكمة التمييز التي فضلت مقاربة القانون المدني على مقاربة قانون التحكيم، التي كانـت ستؤدي لإعتماد مفهوم واسع لمبـدأ الإختصاص بالإختـصاص. وبعبـارة أخـرى، إن اختصاص المحكم باختصاصه لا يغني عن البحث في توكيله. على الأقل، كان هذا الحـل مقبولاً حتى تعديل قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر عام 2011، لأنه، بالرغم مـن صدوره عام 2013، كان القانون السابق للتعديل هو الذي يطبق. لكن المادة الجديدة 1465 تمنح المحكم سلطة تقديرية أوسع حول اختصاصه، والتي قد تغير هذا المعطى.
هذا القرار ينكر إذا على المحكم البعد الإستثنائي الذي كان سيكون له لو استطاع أن يكـون قاضياً وطرفاً في عقده الخاص- كما أنه رفض أيضاً أن يكون لتحديد مبلغ الأتعاب في الحكم التحكيمي أية نتيجة قانونية - وجعل من المحكم متعاقداً مثل الآخرين، فقد جعله اعتيادياً.
34. حول تنفيذ عقد المحكم، فالأمر نفسه. في الواقع، ومع أن القانون الوضعي يحكم، بحق، أنه على المحكم أن يتمتع بحصانة قائمة على طبيعة مهمته القضائية، لا تكون هذه الحـصانة مطلقة بما أنها لا تعمل إلا "بغياب دليل على وقائع صالحة لوصف خطأ شخصي معــادل للغش أو مكون من احتيال، من خطأ جسيم أو من إمتناع عن الحك 70". فـي أي حـال، الإجتهاد لا يتردد بإقرار مسؤولية المحكم المدنية عندما يمتنـع عـن الحـكـم دون عـذر مشروع، عندما يكون غير مستقل أو عندما يترك المهل تنقضي .
أيضاً يمكننا اعتبار أن المصدر التعاقدي لتكليف المحكم يعقل أكثر فأكثر طبيعـة مهمتـه القضائية، وبالتالي، ان المحكم يميل إلى أن يصبح متعاقداً اعتيادياً.
35. إن هذا التماثل يقاس أيضاً على الصعيد الجنائي. يبين البروفسور David Chilstein كيف كان القانون الجنائي طواقاً لأن يحكم قانون التحكيم، حتى لدرجة أنه يدافع عـن أفـضلية القانون الجنائي على قانون التحكيم. إذا لم يكن هذا التأكيد الثاني مقنعـاً، فـالأول، فـي المقابل، غير قابل للجدل. لا يمكن أن يعفى التصرف الجرمي بحجة أن الفاعل هو محكم. لكن نشهد منذ فترة من الزمن، تضاعف تحقیقات جنائية تخص المحكمين. يمكننا أن نـرى التوضيح من خلال ازدياد المخالفات التي يرتكبها المحكمون. ولكن نرى خصوصاً صرامة أكبر بكثير تجاه تصرفات، حتى الآن، كانت أحياناً مسامحاً بها، ليس دون مجاملة معينة.
36. اليوم، يخاطر المحكم بأن يلاحق بسبب خطأ إذا كان إعلانه الإستقلالية ناقصاً بشكل غيـر اعتيادي – في القضية التي يحصل فيها ذلك يتعرض المحكم في نهايـة الأمـر للإقالـة، بحق بل بتهمة الاحتيال ضمن عصابة منظمـة، كمـا هـو الحـال فـي القـضـايا ه Elf Neftegaz76 و CDR ضد "Tapie. بالطبع دون إبداء رأي في هذه الملفات التـي، في الوقت الذي كتبت فيه هذه الأسطر، لا تزال في التحقيق، نقول ببساطة أنه، من الواضح أن، أحياناً، يكون القانون الجنائي نجدة لا غنى عنها. وهكذا، في قضية Elf Neftegaz إن المراقبة القضائية التي منعت المحكم المتهم من الإجتماع مع المحركين الآخرين للملف الذي أدى إلى استقالته، هي التي كان بإمكانها التدخل نفعاً في وقت سابق. وهكذا أيضاً، في قضية CDR ضد Tapie، هو بالفعل التحقيق الجنائي الذي سمح بتعزيز الطعـن بإعـادة النظر الذي أبطل الحكم التحكيمي بسبب الاحتيال. بالتأكيد، يحصل أن يحـرف القـانـون الجنائي ويستعمل كوسيلة ضغط من قبل طرف غير راض من الحكم التحكيمي. كان هـذا هو الحال بشكل واضح في القضية الأولى المثارة أعلاه. لكن يمكننا أيضاً أن نرى الدليل أن القاضي الجنائي يعتبر المحكم كائناً اعتيادياً يقتضي أن يكون مسؤولاً عـن تـصرفاته، وتعرضه لإهانات الإجراء الجنائي إذا كان مشتبها به من خلال دلائل خطيرة ومتطابقة.
إن القانون الجنائي هو وسيلة لإعادة المحكم إلى ميزته كإنسان، بعيداً عن الله الذي نتـشبه به أحياناً. هكذا يكون في طريقه إلى أن يصبح اعتياديا. إن هذا التطور هو ذو مغزى كبير، حيث أنه، من ناحية أخرى، فـي مـسألة استقلالية المحكم، يبدو التحرك مخالفاً بما أننا ننتظر دائماً أكثر منه، حتى أكثر مما يمكن أن ينجـزه كائن اعتيادي.
B- هل يتمتع المحكم بإستقلالية اعتيادية؟
37. أن ننتظر من المحكم أن يكون مستقلاً هو ليس بأمر جديد. وهي حتى الصفة الوحيدة التي نتطلبها منه، فترد في كل مكان، في القوانين الوطنية والإجتهادات وأنظمة التحكيم وقواعد الأخلاق والفقه، إلخ. لا أحد يدافع جدياً عن الفكرة المعارضة، أي أن المحكم ليس عليه أن يكون مستقلاً بسبب أن الإستقلالية هي متصلة بجوهر مهمة القاضي. من هو غير مـستقل ليس قاضياً، وبالتالي ليس محكماً. إذاً، من الناحية النظرية، يكون الجواب بالإجماع.
من الناحية العملية، إن الأشياء هي أكثر تناقضاً وتصدع هذا الإجماع. بالتالي ليس السؤال عن الإستقلالية، إنما عن الوسائل التي تضمنها. لكن، في هذا الموضوع، عـرف قـانون التحكيم تطوراً يتقيد تماماً مع تطور مجتمعنا، وذلك يعني أن هذا التطور ثبت الحاجة الـى الشفافية، حتى ولو كان ذلك منتقد.
خلال خمسة عشر عاماً، نما الإجتهاد الفرنسي بشكل كبير إستقلالية المحكمـين وواجـب الإعلان الذي يضمنها ويجسدها في الوقت ذاته. أصبح دورها الرئيسي معترف به مـن الجميع82، أو تقريباً من الجميع .
38. إذا المشكلة لم تعد ما إذا يجب الإعلان، إنما ما يجب إعلانه، وما هو معفى من الإعـلان. حول هذه النقطة بالتحديد، يمكن الاستفهام عن حالة المحكم الاعتيادية. في الواقع، حـسب حدود الإعلان، يمكن للمحكم تقريباً أن يكون مؤهلاً للقيام بذلك.
إذا كنا ننتظر من المحكم ألا يبوح إلا بالوقائع المهمة التي يعلم بها، ذلك يعني أننا نعتبـره كائناً اعتيادياً. إذا كنا ننتظر من المحكم أن يذهب أبعد من ذلك، وأن يبوح بما فـي ذلـك بالوقائع غير المهمة، ذلك يعني أننا نعتبره بالتأكيد كائناً اعتيادياً، ولكن خـصوصاً دقيقـاً ومنظماً بشكل أنه لا ينسى شيئاً، ولكن إذا كنا ننتظر من المحكم أن يذهب أبعد من ذلـك، وأن يبوح أيضاً بالوقائع التي يجهلها، إذاً لا نعتبره كائناً اعتيادياً، إنمـا شـخص متفـوق، خارج عن المألوف، ذو قدرات تسمح له بالكشف عن أمور يجهلها بنفسه، وكأنه عراف.
لكن هكذا هو بالتحديد حال القانون الوضعي، منذ القرارين Tecnimont الصادرين عـن محكمة الإستئناف في باريس بتاريخ 12 فبراير 2009، ومحكمة الإستئناف في ريمـس بتاريخ 2 نوفمبر 2011، رغم أن القرارين نقضا -لأسباب أخرى-، والقـرار AGI الصادر من جديد من محكمة الإستئناف بتاريخ 14 أكتوبر 2014، الذي أيدتـه محكمـة التمييز. بفرضها على المحكم أن يبوح بما يجهله، يجعل القانون الوضعي مـن المحكـم كائناً خاصاً، حيث تفرض عليه ضرورات التكليف النبيل واجبات كبيرة، على الأرجـح لا يمكن للكائن الاعتيادي في الأساس تحقيقها.
إذا كانت قضية Tecnimont نموذجية، فذلك لأن القضاة كانوا حريصين على التشديد في القرارين على أن نزاهة المحكم المناقشة ليست موضوع الخلاف، وتتعلق بشخصية تفـوق كل اشتباه. لكن، حتى هو، كان بإمكانه البوح بما يجهله إذ إن ما يهم، ليس ما يعرفه أو ما لا يعرفه، إنما هو ما يجهله المتنازعون. ويرفض الإجتهاد، بحق، أن يقلب المنظور بفرض واجب التحقيق على عاتق الأطراف. وبالتالي ينظر إلى الإستقلالية بحسب وجهة نظرهم، فهذا الأمر جيد، لأن التحكيم يقام لهم، وليس للمحكمين .
39. إذا، يتطور المحكم في عالم ليس مصمماً له. وهذا ليس أقـل التناقضات فـي وضـعه. وبالتطرق إلى جوانبه، نكون قد نجحنا باستخراج عناصر تجعل من المحكم كائناً اعتيادياً، وأخرى تجعل منه كائناً غير اعتيادي. في النهاية، ومن أجل الإجابة عن المسألة المثـارة هنا، نعتبر أن العناصر الأولى تغلبت على العناصر الثانية. إضافة إلى ذلك: هـو، حتـى بالتحديد، لأنه كائن اعتيادي فهو محكم. من يريد أن يحاكم من قبل كائن غير اعتيادي؟ إن إرادة الفرقاء، لأنهم يتلاقون في حين أنهم في نزاع بين بعضهم البعض، ولأنهـا توجـد الخلاف والوفاق، تمنح المحكم عظمته وتحوله إلى كائن مختلف عما هو عليه خارج نطاق مهمته كمحكم.
في الختام، يمكننا اعتبار أن المحكم هو كائن اعتيادي في وضع غير اعتيادي. وفي جدلية الوضع غير الاعتيادي والشخص الاعتيادي الذي يجب حله، تكون شـرعية التحكـيم. إن المحكم هو المتنزه الهادئ على طول الشاطئ الذي يقفز في المياه المثلجة لإنقاذ الطفل الذي يغرق. في مواجهة وضع غير اعتيادي، الشخص العادي يصبح استثنائياً. هكذا هو المحكم.