الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / المحكم - هيئة التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 28 / المشكلات العشر التي يواجهها المحكم الدولي في معرض تطبيقه القواعد الموضوعية التي اختارها الخصوم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 28
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    165

التفاصيل طباعة نسخ

مقدمة:

   لعل الفارق الجوهري بين القانون الحاكم لموضوع النزاع والقانون الحاكم لإجراءات الفصل فيه أن الأول – دون الثاني- هو قانون غاية يجسد حقوق والتزامات كل من الطرفين، ويعـين حدودها وأوصافها. ولذلك فإذا كان لإرادة الطرفين من ناحية، ولهيئة التحكيم من ناحية أخـرى، دور في اختيار هذا القانون – أي القانون الموضوعي – فإن مفهوم الاختيار يختلف في الحالين. فاختيار الطرفين اختيار شخصي حر من كل قيد - اللهم إلا قيد النظام العام - باعتبار مالهما من سلطان في تحديد حقوقهما والتزاماتهما. أما اختيار هيئة التحكـيم – فـي حـال تخلـف اتفـاق الطرفين – فهو اختيار موضوعي مقيد، عماده إما إعمال قواعد الإسناد التـي يـضعها النظـام القانوني، وإما إعمال القواعد المادية الحاكمة للعلاقات الدولية.

   وفي ضوء هذا الفارق الأساسي بين دور كل من إرادة الطرفين وهيئة التحكيم في اختيـار القانون الموضوعي، فإن البحث الماثل سيتم التركيز فيه على الحالة الأولى فقط، وهي الحالة التي يختار فيها الطرفان القواعد الموضوعية لحل النزاع.

   وعلى سبيل المثال، فقد أجازت المادة 38 من قانون التحكيم السوري رقم 4 لعام 2008 في فقرتها الأولى، أن تطبق هيئة التحكيم القانون الذي اختاره الطرفان. وفي حال اختيار الطرفين لقانون دولة معينة، فالأصل أن يكون المقصود بهذا الاختيار هو الأحكام الموضوعية فـي هـذا القانون، وليس القواعد المتعلقة بتنازع القوانين، ما لم يتفق على غير ذلك. وبالمثل فإنـه يجـوز الاتفاق على إعمال قواعد العقود النموذجية المنظمة للتعامل في نوع السلعة أو الخدمـة محـل التعاقد، داخلية كانت أو دولية، أو على إعمال المبادئ العامة والأعراف المعمول بها في مجـال التجارة الدولية بصفة عامة، مما يعرف باسم LEX MERCATORIA.

   وإن التزام المحكم تطبيق القواعد الموضوعية التي حددها الأطراف مرده مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وهذا الالتزام ليس مصدره وظيفته، وإنما هو مستمد من المهمة التـي أوكلهـا إليـه أطراف التحكيم، وبالتالي لا يمكنه أن يستبعد تطبيق هذا القانون، إلا لعلة مخالفة النظـام العـام الدولي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإن أي مخالفة للمحكم لجهة عدم تطبيق هـذه القواعـد يعتبـر خروج عن حدود المهمة الموكولة إليه، ثم إن عدم تقيد المحكم باختيار الفرقاء يترتب عليه إبطال القرار التحكيمي، ولهذا فإن اختيار الفرقاء للقانون الواجب التطبيق وللقواعد الموضوعية ملـزم للمحكم الدولي.

     ولا صعوبة في تحديد القواعد القانونية الواجبة التطبيق عندما يكون الأمر متعلقـاً بعلاقـة داخلية. فاختيار الأطراف لقانون أجنبي في هذه الحالة لا يوقف تنفيذ أي من القواعد الآمرة فـي القانون الوطني الذي تنتمي إليه العلاقة وهيئة التحكيم بدورها يتعين عليها اختيار هـذا القـانون وحده، دون غيره لكونه الوحيد صاحب الصلة بالعلاقة، على نحو يتعين معـه تطبيـق قواعـده المكملة، والآمرة على حد سواء. لكن الأمر يختلف في العلاقات الدولية عندما يختار الطرفـان قانوناً معيناً لحكم علاقتهما، وقد يسود اعتقاد مبدئي أن الدور الذي يضطلع به المحكـم يمنحـه فسحة واسعة تتميز عن تلك الممنوحة للقاضي، من حيث الإجراءات وتطبيـق القـانون وكيفيـة إصدار الأحكام.

   لكن الحقيقة التي تظل من خلال التشريعات التحكيمية الدولية، والقواعد والنظم التي أرستها المؤسسات التحكيمية، بالإضافة إلى القيود التي تفرضها الأطراف المتنازعة في اتفـاق التحكـيم كلها تشكل صرحاً من القيود لا يستطيع المحكم تجاوزها، إلا في حالات محـدودة، كما هو في حالة التحكيم بالصلح حيث يكون للمحكم استجماع عناصر حكمه من قواعد العدالة والإنصاف.

    ولكن عندما يكون التحكيم بالقانون، فإن ممارسة المحكم مهمته وقيامـه بإعمـال القواعـد القانونية الموضوعية التي اختارها الخصوم فقد تواجهه في سعيه لتطبيقها مشكلة أو أكثر. وهنا ينبغي على المحكم أن يحسن التصرف، لأن إصدار الحكم التحكيمي ليس هدفاً بذاته، بل المهـم هو فعالية هذا الحكم عن طريق الاعتراف به أو منحه الصيغة التنفيذية، ولهذا ينبغي على المحكم أن يبقى أخذاً هذا الأمر في الاعتبار طيلة مهلة العملية التحكيمية حؤولاً دون إبطال حكمه.

   ويبقى السؤال المطروح: ما هو المنهج السليم المطلوب من المحكم إتباعه لتطبيق القواعد الموضوعية التي اختارها الخصوم لتحكم موضوع النزاع؟ وما هي تلك المشاكل التي يواجههـا المحكم الدولي في معرض تطبيقه تلك القواعد؟

    ستكون هناك محاولة في هذه الدراسة في ضوء ما توفرت لها من عناصر، ووفقاً لما سيتم طرحه من مسائل وأفكار تجري مناقشتها للإجابة عن السؤال المذكور.

   ولكن في بداية الأمر، وقبل الدخول في مواضيع البحث لا بد من تسليط الضوء على مفهوم التحكيم بالقانون، ومن ثم استعراض ومناقشة المشكلات التي يواجهها المحكـم الـدولي، والتـي تتلخص في:

- المشكلة الأولى- التفرقة بين القانون الإداري والقانون المدني والقانون التجاري، وكـذلك بين القانون العام والقانون الخاص.

- المشكلة الثانية - فهم وتفسير القانون الواجب التطبيق.

- المشكلة الثالثة- تفسير المصطلحات الغامضة في العقد.

- المشكلة الرابعة- القواعد المتعلقة بأسباب البطلان.

- المشكلة الخامسة- القوانين المزاحمة للقانون المختار.

- المشكلة السادسة- إثبات القانون الأجنبي.

- المشكلة السابعة- وقت الاختيار.

- المشكلة الثامنة- تفسير القانون المختار.

- المشكلة التاسعة- تفسير قواعد وأعراف التجارة الدولية.

- المشكلة العاشرة- قواعد البوليس والنظام العام الدولي.

- ومن ثم الخاتمة.

أولا- التحكيم بالقانون:

    الأصل أن يكون الفصل في النزاع على أساس أحكام القانون التي تحكم موضوعه، فيمارس المحكم سلطة القاضي في تطبيق أحكام القانون على النزاع المطروح عليـه، ويلتـزم الحـدود المرسومة لهذه السلطة. وتحقيقاً لهذا الأصل يتقدم كل من الطرفين بادعاءاته أمام المحكم، الـذي تكون مهمته هي تحقيق مدى صحة الادعاءات المتبادلة من خلال التعرف الى وقـائـع النـزاع، وإنزال حكم القانون عليها، والاستجابة من ثم لما ثبت لديه منها ورفض ما عداها، وإيـداع كـل ذلك في حيثيات الحكم، بصرف النظر عن تقديره لمدى عدالة النتائج التي توصل إليها، كما يفعل القاضي سواء بسواء. ويسمى التحكيم في هذه الحالة التحكيم بالقانون، تعبيراً عن الالتزام فيـه بأحكام القانون، أو بالتحكيم بالقضاء، تعبيراً عن حقيقة الدور الذي يؤديه المحكم فيه، وهـو دور القاضي. ومن الواضح على هذا النحو السابق أن المحكم في التحكيم بالقانون يكون عليه – بعـد أن يتعرف الى وقائع النزاع- أن يبحث عن حكمها في مصادر القانون الواجب التطبيق، الواحـد منها تلو الآخر على الترتيب الذي وضعه المشرع، والذي يبدأ عادة بالقواعد الآمرة، ثم شـروط العقد إن وجدت، ثم العرف والعادة، ثم القواعد التشريعية المكملة، ثم قواعد العدالة فـي نهايـة المطاف إن لم يجد حكماً في المصادر المقدمة عليها. .فليس له أن يلجأ إلى هذه الأخيرة، إلا إذا لم يجد حلاً في أي من هذه المصادر.

ثانياً- المشكلات التي يواجهها المحكم الدولي:

المشكلة الأولى التفرقة بين القانون الإداري والقانون المدني والقانون التجاري، وكذلك بـين القانون العام والقانون الخاص:

    يتعين على المحكم تحديد طبيعة الرابطة التعاقدية المعروضة عليه، أي تكييفها أو تصنيفها، من أجل تحديد القواعد القانونية المناسبة الواجبة الإعمال عليها، وهو أمر يختلف بطبيعة الحـال عما إذا كانت هذه الرابطة التعاقدية تكون عقداً إداريا أو عقداً مدنياً أو عقداً تجارياً، وما إذا كانت الرابطة التعاقدية مما ينطبق عليها قواعد القانون العام أم قواعد القانون الخـاص، ولمـا كانـت القواعد القانونية محدودة العدد، وحيث أن العلاقات القانونية غير قابلة للحصر، لهذا كان لا بد من إجراء التكييف للمسألة القانونية المعروضة على المحكم وإعطائها وصفها الحق مـن أجـل تطبيق القانون المختص عليها، لأنه قد يحدث أحياناً أن يخطئ المحكم بتكييف الرابطة التعاقديـة، مما يؤدي بالنتيجة إلى عدم تطبيق القانون الذي اختاره الفرقاء.

   فإذا اختار الأطراف قانوناً وطنياً ليحكم عقدهم، فإنه يتوجب على المحكم أن يحسن وصـف القواعد القانونية سواء كانت قواعد إدارية أم مدنية أم تجارية.

    وإذا كان العقد محل النزاع عقداً إدارياً، توجب على المحكم الدولي أن يوائم روح القـانون الإداري مع روح التحكيم الدولي الذي فرض الكثير من المتغيرات الحديثة على الساحة القانونية والاقتصادية.

   وعلى المحكم أن يتقيد أيضاً بالتفسير المعتمد في الدولة التي يعود إليها هذا القانون المختار، وبالتقسيم المعتمد لها في النظام القانوني الذي تنتمي إليه.

   ويرى الفقه أن الخطأ الجسيم في تطبيق ذلك القانون المختار يعادل في جـسامته استبعاد تطبيق ذلك القانون، لأن هذا الخطأ يعتبر استبعاداً غير مباشر لتطبيق ذلك القانون يعادل في أثره وخطورته استبعاده مباشرة.

  واستناداً إلى ما سبق، فإنه يتوجب على المحكم الدولي عند تطبيقه قواعد القانون الإداري على العقد الإداري أن يتحلل من القانون الخاص، وأن يلتزم توجيهات القانون الإداري وتفسيراته في كل المسائل التي ينظمها هذا القانون، فإذا لم يجد، فإنه لا يتوجب عليه أن يعود إلـى قواعـد القانون المدني، على اعتبار أن نظرية القانون الإداري هي نظرية قضائية. وعلى سبيل المثـال، ففي قضية Chromalloy حيث تتلخص وقائع القضية بأنه بموجـب عـقـد تـم توقيعـه فـى 1988/6/16 بين كل من شركة كرومالوي، وهي شركة أمريكية، وهيئة تسليح القوات الجويـة التابعة لوزارة الدفاع المصرية، فقد تعهدت الشركة الأمريكية بتقديم معدات وخدمات ومعونة فنية متعلقة بطائرات الهليكوبتر. ونظراً لعدم قيام الشركة الأمريكية بالالتزامات المنصوص عليها في العقد الموقع بينها وبين الطرف المصري، أنهى الطرف المصري العقد وقام بصرف خطابـات الضمان المقدمة من الشركة الأمريكية.

   ولما كان هذا الإجراء المتخذ من قبل الطرف المصري لم يحز رضى الشركة الأمريكيـة، فإنها لجأت إلى إعمال شرط التحكيم الوارد في العقد.

   وبالنتيجة انتهت محكمة التحكيم إلى إصدار حكم قضت فيه بأن إنهاء العقد غيـر قـانوني، وألزمت الطرف المصري أن يدفع تعويضاً للشركة الأمريكية يتجاوز 17 مليون دولار.

   ولقد طعن الطرف المصري في هذا الحكم بالبطلان أمام محكمة استئناف القاهرة لعدد مـن الأسباب: منها استبعاد حكم التحكيم للقانون الواجب التطبيق، وبطلان حكـم التحكـيم لمخالفتـه ضوابط التسبيب المعتبرة قانونا طبقا للمادة 5/53 من القانون رقم 27 لعام 1994.

   وفي جلسة 1995/12/5 أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكماً ببطلان حكم التحكيم مستندة في ذلك الى أن المشرع أجاز لأطراف التحكيم الطعن على حكم التحكيم في حالات عددتها المادة 53 من القانون 27 لعام 1994، على سبيل الحصر، حيث ينص على أنه "لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:

   (د) إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه فـي موضـوع النزاع.

   وقد ذهبت المحكمة إلى أنه: "لما كان ذلك، وكان من غير المتنازع فيه مـن الطـرفين أن القانون المصري هو المتفق بينهما على تطبيقه على النزاع الماثل، وكذلك من غير المتنازع فيه أن العقد محل التداعي مبرم بين هيئة تسليح القوات الجوية المرفوعة التابعـة لـوزارة الـدفاع المصرية، وهي من المرافق العامة، والشركة المدعى عليها، وهي أحدى شركات القطاع الخاص الأمريكية، وأن العقد ينصب على قيامها بتوريد قطع غيار لأسطول طائرات الهليكوبتر المبينة في العقد والقيام بالصيانة وتنظيم مخازن قطع الغيار.

    ولما كان القانون المصري لم يعرف العقود الإدارية، ولم يبين خصائصها التي تميزها عـن غيرها من العقود التي يهتدى بها في القول بتوافر الشروط اللازمة لها ولحصانتها وصيانتها من تعرض المحاكم لها بالتعطيل أو بالتأويل، إلا أن إعطاء العقود التي تبرمها جهة الإدارة ووصفها الصحيح باعتبارها عقوداً إدارية أو مدنية، إنما يتم على هدي ما يجري تحصيله منها، ويكـون مطابقاً للحكمة من إبرامها.

    ولما كان من المقرر أن العقود التي تبرمها الإدارة مع الأفراد لا تعتبر عقوداً إدارية، إلا إذا تعلقت بتسيير مرفق عام أو بتنظيمه وأظهرت الإدارة نيتها في الأخذ بشأنها أسلوب القانون العام وأحكامه واقتضاء حقوقها بطريق التنفيذ المباشر بتضمين العقد شروطاً استثنائية غيـر مألوفـة بمنأى عن أسلوب القانون الخاص.

   وعلى هدي ما تقدم، وكان من الثابت لهذه المحكمة أن العقد محل المنازعة هو عقـد إداري مبرم مع مرفق عام لتوريد مهمات وخدمات متعلقة بتسييره وتنظيمه وتضمن العقد – حسبما هو وارد في دفاع الطرفين بأوراق التداعي الماثل – أن الإدارة أظهرت نيتها في الأخـذ بأسـلوب القانون العام وأحكامه واقتضاء حقوقها بطريق التنفيذ المباشر بما تضمنه العقد من حـق جهـة الإدارة في توقيع جزاءات مالية في بعض الحالات، وسلطتها في إنهاء التعاقد في حالات معينـة بإرادتها المنفردة بمجرد إخطار بخطاب مسجل، وهي شروط استثنائية غير مألوفة بمنـأى عـن القانون الخاص، فإذا تضمن ذلك العقد النص على أن القانون الواجب التطبيق - بمعرفـة هيئـة التحكيم – هو القانون المصري، فإن مفاد ذلك أن المقصود هو القانون الإداري المصري، فـإذا أعمل حكم التحكيم القانون المدني المصري دون القانون الإداري المصري فإنه يكون قد استبعد القانون المتفق في العقد على إعمال أحكامه بما تتوافر معه حالة من حالات طلب بطـلان حكـم التحكيم المنصوص عليها في المادة 53، وفقاً لفقرتها الأولى بند (د) من القانون رقـم 1994/27 آنفة البيان".

    ومما لاشك فيه أن تطبيق محكمة التحكيم للقانون المدني المصري على العقد الإداري المبرم بين الحكومة المصرية والشركة الأمريكية لا يعد مجرد خطأ في تطبيق القانون، بل هـو عـدم تطبيق للقانون المختار من أصله.

    ومن ناحية أخرى، درج الفقه على تقديم النص التجاري الأمر علـى النـصوص المدنيـة الأمرة، وعلى الأعراف التجارية على حد سواء. لكنه اختلف بعد ذلك على تقديم أي من العرف التجاري أو النص المدني الأمر على الآخر. فالغالبية تقدم العرف التجاري انطلاقـاً مـن مبـدأ استقلال القانون التجاري بحكم العلاقات التجارية، وضماناً لفعالية العـرف التجـاري فـي أداء الوظيفة التي أناطها به المشرع التجاري. والبعض الآخر يقدم النص المدني الأمر حفاظاً علـى النظام العام الذي تجسده القواعد الآمرة أياً كان موضعها من فروع النظام القانوني الكلي.

   ومن الواضح أن لكل من الاتجاهين منطقه الفلسفي. لكن أياً منهما يفتقر إلى مـسب مـسبق لأهداف ومقاصد القواعد المدنية الآمرة، وموقع كل منها على حدة من معطيات النظـام القـانـون الكلي.

   والواقع أنه رغم تعدد فروع النظام القانوني الكلي، فلا شك في وحـدة المـشرع ووحـدة المجتمع الذي يشرع له، وحدة لا تنفي تعدد واختلاف الظواهر التي تستدعي التشريع، وتباعـدها أحياناً، وتراكبها في معظم الأحيان. ولذلك لا يمكن التسليم مقدماً بأي من الاتجاهين السابقين على إطلاقه، وإنما الأمر مرده إلى إرادة المشرع في كل حالة على حدة، ومدى شمول النطاق الـذي توضع له القاعدة الآمرة، وموقع المعاملة التجارية المطروحة من مقاصد هذه القاعدة. والأصـل هو إطلاق النص المدني الأمر، بحيث يقدم على ما قد يكون هناك من عرف تجاري، ما لم يتبين غير ذلك من النص التشريعي ذاته، أو من مقاصده.

   وكذلك هو الحال حيث ينبغي على المحكم أن يفرق بين قواعد القانون الخـاص وقواعـد القانون العام، لأن القواعد التشريعية في القانون المختار تتوزع – في النظر التقليدي السائد - بين القانون الخاص والقانون العام. ويرى البعض أن اختيار قانون معين لحكم علاقة بين أشـخاص القانون الخاص، إنما ينصرف إلى قواعد القانون العام، وحتى دون قواعد الأمن المدني. ومرجع ذلك بالطبع أن قواعد القانون الخاص هي التي تنظم العلاقات الخاصـة بـين الأفـراد أو بين أشخاص القانون الخاص بصفة عامة.

   ويستند هذا البعض إلى اتصال العلاقات القانونية العامة بالمصلحة العامة للدولة وسيادتها، فلا يمكن للقاضي الوطني أن يطبق قواعد دستور دولـة أجنبيـة أو قواعـد القـانون الإداري الأجنبي أو قواعد القانون المالي الأجنبي أو قواعد القانون الجنائي الأجنبي على نزاع مطـروح أمامه.

   ومع ذلك، فالفقه بصفة عامة يذهب إلى الاعتداد بجميع القواعد القابلة للتطبيق في القـانون المختار، سواء كانت متعلقة بالقانون الخاص بالمعنى الدقيق، أو كانت متعلقة بالقانون العام بمعناه الدقيق. وهو يستند في ذلك إلى طبيعة قواعد الإسناد، التي يتحدد وفقـاً لـهـا القـانون الواجـب التطبيق. فهذه القواعد تتمتع بخاصة التجريد، بمعنى أنها عندما تسند العلاقة إلى قـانون معـين فهي لا تعتد سلفا بطبيعة القواعد القانونية التي تنطبق عليها في هذا القانون، وما إذا كانت تنتمي إلى القانون الخاص أو إلى القانون العام.

    ولا يخفى في هذا المقام ما كان لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية من أثر في زعزعة دعائم التفرقة بين القانون الخاص والقانون العام، على نحو أدى بالبعض إلى الكلام على غزو القانون العام للقانون الخاص، وأدى بالبعض الآخر إلى تجاوز التفرقة المذكورة باعتبارهـا نتاجا لمجتمع معين ونظام قانوني مرافق له صار في ذمة التاريخ، على نحو لا يمكن معه القول بأن اختيار قانون وطني معين يعني قواعد القانون الخاص فيه دون قواعد القانون العام.

   والجدير بالذكر أن المحكم الدولي لا يعمل في إطار قانون معين تكون أحكامه قيداً عليـه وإنما يعمل في إطار إرادة الطرفين، فتكون هذه الإرادة وحدها هي القيد الذي يقيده. وانطلاقاً من هذه الحقيقة فإذا اختار الطرفان قانوناً معيناً للتطبيق تعين عليه إعمال قواعد هذا القانون برمتها، حتى ما تعلق منها بالقانون العام، ما لم يكن اتفاق التحكيم قد تضمن نصوصاً تخالف مثـل هـذه القواعد، فإنه يتعين عليه في هذه الحالة الامتناع عن تطبيقها، التزاما بإرادة الطرفين.

   أما إذا كان اختيار القانون الواجب التطبيق من عمل المحكم الدولي ذاته – نظراً الى نكـول الطرفين عن استخدام حريتهما في الاختيار - فإنه يكون على المحكم إعمال قواعد القانون العـام في هذا القانون، بحسبان أن تطبيق القواعد المذكورة في هذه الحالة لا يكـون فيـه أي إخـلال بتوقعات الطرفين.

   ولعل أهم مجال، في هذا الصدد، هو حيث يدعى المحكم إلى تطبيق قواعد القانون المالي أو الضريبي. حيث لم تتردد هيئات التحكيم في إعمال قواعد القانون المالي والضريبي على النـزاع المطروح عليها، كلما كان استحقاق الضريبة ومقدارها خارج منطقة النزاع، وكان النزاع يـدور ج حول ترتيب أثرها على علاقة الطرفين، وحقوقهما والتزاماتهما الناشئة عنها. وهذا هو الشأن فيما لو تعلق الأمر بمخالفة للقانون المالي يرتب لها هذا القانون جزاء مدنياً هو بطلان التصرف، كأن يقضي هذا القانون مثلاً ببطلان التصرف الذي لا يتم تسجيله في ميعاد معين، ضماناً لحق الدولة في رسوم التسجيل، أو ينص على بطلان التصرف الذي يتضمن قيمة للمحل المتصرف فيه أقـل من قيمته الحقيقية، تهرباً من جزء من ضريبة مستحقة، وهذا هو الشأن أيضاً فيما لو تعلق الأمر بتحديد المسؤولية المدنية لأحد الطرفين عن مخالفة قواعد القانون المالي، كعدم توريد الضريبة المستحقة في الميعاد أو تقديم إقرارات غير صحيحة عن النشاط الخاضع للضريبة.

    ومن جهة أخرى، فإن الأمر قد يدق في الدول التي تسود فيها النظم الخاصـة بالتأمينـات الاجتماعية، حيث تتولى القوانين الخاصة بالتأمين الاجتماعي تنظيم بعـض المسائل المتعلقـة بالعمل، كما هو الحال بالنسبة لأحكام التعويض عن إصابات العمل ومكافأة نهاية الخدمة..الخ ذلك باعتبار أن قوانين التأمينات الاجتماعية تعد فرعاً من فروع القانون العام، قد يثير التساؤل عـن مدى التغيير المتصور في الحلول التقليدية لتنازع القوانين في هذا المجال.

    ونشير إلى أن دعوى التعويض عن إصابات العمل لا تعد من دعاوى المسؤولية التقصيرية التي تخضع للقانون المحلي، أي قانون محل الفعل المنشئ للإلتزام. فالمسؤولية التقصيرية تقـوم على أساس الخطأ الثابت أو المفروض، أما المسؤولية من إصابات العمل وأمراض المهنة فهـي تقوم على عاتق رب العمل، ولو لم يكن هناك ثمة خطأ من جانبه، بل ولو كان الخطأ من جانـب العامل المصاب، على الأقل ما لم يكن هذا الخطأ جسيماً أو متعمداً.

المشكلة الثانية- فهم القانون الواجب التطبيق وتفسيره:

   قد يرتكب المحكم خطأ في فهم القانون الواجب التطبيق على النزاع وتفسيره، أو فـي فهـم العقد موضوع النزاع وتفسيره، ما يؤدي في كلتا الحالتين إلى تطبيق أحكام قانونية مختلفة عمـا كان يجب تطبيقها، لو فهمت أو فسرت الهيئة القانون أو العقد بشكل صحيح. وهنا يثور التساؤل أيضاً عما إذا كان هذا الأمر يعتبر من قبيل استبعاد قانون الإرادة أم لا؟

   والمسألة هنا اجتهادية قد يختلف الرأي في شأنها. فقد يذهب رأي إلى القول إنه ما دامـت الهيئة طبقت القانون الواجب التطبيق، فإنها لا تكون في حقيقة الأمر قد "استبعدته". أما فهم هـذا القانون واستخلاص الأحكام القانونية منه، فهذه من مهمة هيئة التحكيم، التي قد تخطئ في ذلـك وقد تصيب، بل إن مسألة الخطأ والصواب هي نسبية، قد تختلف من هيئة تحكيم لأخرى، ومـن قاض لآخر، فما يراه قاض أنه فهم صحيح للقانون، قد يراه قاض آخر عكس ذلك، والشيء ذاته يطبق على التحكيم. ويقود هذا الرأي إلى القول بعدم قابلية حكم التحكيم للبطلان.

   ولكن من وجهة نظر أخرى، يمكن القول إن استبعاد القانون الواجب التطبيق على النـزاع، ليس بالضرورة أن يكون صريحاً، بل من النادر أن تقرر هيئة التحكيم صـراحة استبعاد هـذا القانون، وتطبيق قانون آخر محله، بل هي في الغالبية العظمى من الحالات تقرر عكس ذلك، أي تقرر تطبيق قانون الإرادة صراحة، ولكنها قد تستبعد أحكامه عملياً تحت إطار فهم النـصوص وتفسيرها. ولو صح ذلك، لكان بمقدور هيئات التحكيم استبعاد قانون الإرادة عمليا في كل قضية تعرض عليها، وبالتالي إفلات حكم التحكيم من الرقابة القضائية. وهنا يثور التساؤل عن الفـرق بين هيئة تحكيم تقرر تطبيق قانون الإرادة نظرياً وتستبعده عملياً، وأخرى تقرر استبعاده، نظرياً وعمليا؟ والخلاصة، سنداً لهذا الرأي، أن تطبيق القانون تطبيقاً غير سليم، يعتبر بمثابة استبعاد له، مما يجعل الحكم عرضة للبطلان.

   وهناك من يرى ضرورة التفرقة بين أمرين: أن تكون المسألة المعروضة محددة في القانون الواجب التطبيق، وليست محل اجتهاد، أو على العكس من ذلك تكون اجتهاديـة يختلـف فيهـا الرأي، فحكم القانون قد يكون واضحاً لا مجال للاجتهاد فيه. وهنا تطبق القاعدة الفقهية الشهيرة بأنه "لا مجال للاجتهاد في مورد النص". وفي كل قانون وطني، هناك عشرات، بل مئات القواعد من هذا القبيل. ومثال ذلك في القوانين العربية بالنسبة للقواعد العامة في العقود، أن العقد يتكون من إيجاب وقبول، وأنه يجوز التعبير عن الإرادة بكل وسائل التعبير، وأن كل تـصرفات عـديم الأهلية باطلة، وأنه يجوز التعاقد بالأصالة أو بالنيابة، وأنه يجوز لأطراف العقد فسخه بالاتفـاق، وأن العقد الباطل لا يرتب التزامات تعاقدية على طرفيه. وفي عقد البيع، يجب على البائع تـسليم المبيع، ويجب على المشتري دفع الثمن، وفي عقد الإجارة، على المؤجر تسليم المأجور، وعلـى المستأجر دفع الأجرة. وفي عقد المقاولة، يجب على المقاول تسليم الأعمال، ويجب على صاحب العمل دفع مستحقات المقاول عن هذه الأعمال. وفي عقد القرض، يجب على المقترض إعادة مثل المال المقترض وفي عقد التأمين، يجب على شركة التأمين دفع تعويض لصاحب الحق فيـه إذا توافرت شروط ذلك.

المشكلة الثالثة- تفسير المصطلحات الغامضة في العقد :

   وتعتبر إحدى أهم المشكلات التي يواجهها المحكم الدولي في تطبيقه قواعد القانون الـذي اختاره الأطراف تفسير بعض الاصطلاحات الغامـضـة فـي العقـد، خاصـة إذا كانـت هـذه الاصطلاحات غير مستعملة في القانون الموضوعي الواجب التطبيق على النزاع أو كانت تعطي مدلولاً مختلفاً عن المدلول المعروف دولياً، ومن هذه المشكلات ما يعرف في العمل، بالنسبة الى عقود الإنشاءات الدولية، باسم التعويض النقدي، وكذلك غرامة التأخير، إذ أن التعبير الأول يقصد به وفقاً لقواعد "الفيديك" أنه يستحق التعويض بالقدر المحدد في العقد بصرف النظر عن تحمـل لیا الطرف الدائن بالتعويض لأية أضرار فعلية، بينما المادة 225 من القانون المدني السوري تنص على أنه لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقا، إذا أثبت المدين أن التقدير مبالغ فيـه إلـى درجـة كبيرة، أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ جزء منه. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقـام أنـه لا يعتبر خطأ في تفسير القانون استبعاد المحكم الدولي أثر القواعد الآمرة التـي يحتويهـا القـانون المختار في إبطال التصرف، وذلك لأن القانون المختار يعد بمثابة شروط تعاقدية ملحقة بالعقد.

   كما أن المحكم قد يلجأ في ظروف معينة، لتفسير بعض مصطلحات العقد، لأحكـام قـانون آخر غير القانون المطبق على العقد، ولا يعتبر ذلك خروجاً منه على قانون الإرادة، أو أي قانون آخر مطبق على العقد استناداً لأحكام القانون. ومثال ذلك، أن تكون هناك مصطلحات معروفة في قانون معين، وغير معروفة في قانون آخر، فيضطر المحكم إلى اللجوء للقـانون الأول لمعرفـة المقصود منها. فقد يبرم عقد مقاولة في بريطانيا بين شركة مقاولات بريطانية وصـاحب عمـل قطري، يتفقان فيه على تطبيق القانون القطري. ولكـن تـرد فـي العقـد مـصطلحات مثـل rescission ، estoppel ،anticipatory ،breach of the contract Waiver وكلهـا لهـا مدلول في القانون الإنجليزي، غير معروفة في القانون القطري. في هذا الفرض، قد يجد المحكم أن من واجبه الاستعانة في تفسير هذه المصطلحات بالقانون الإنجليزي لفهمها فهمـاً صـحيحاً، وليس القانون القطري.

  وأبعد من ذلك فقد يلجأ المحكم في تفسير العقد لقواعد دولية تتضمن عادات وأعرافاً تجارية لفهم مصطلحات عقدية معينة، ومثاله اتفاق الأطراف على أن يكون العقد فوب FOB أو سـيف CIF، أو يكون اعتماداً مستندياً يتضمن مصطلحات معروفة في التجارة الدولية، وغير معروفـة القانون القطري باعتباره القانون المطبق على العقد. في مثل هذه الظروف، قد يلجأ المحكـم في تفسير هذه المصطلحات للأعراف والعادات التجارية الخاصة بها، ولا يعتبـر ذلـك أيـضاً خروجا منه عن قانون العقد.

المشكلة الرابعة- القواعد المتعلقة بأسباب بطلان التصرف:

    كثيراً ما يتبين لهيئة التحكيم أن القانون المختار من الطرفين يتضمن نصوصاً أو أحكامـاً يؤدي تطبيقها إلى بطلان التصرف الأصلي المنشئ لعلاقة الطرفين. وفي هذه الحالـة يثـور التساؤل عن مدى قابلية هذه النصوص والأحكام للتطبيق على النزاع المعروض، ومدى إمكـان الحكم ببطلان التصرف المنشئ للعلاقة إعمالاً لها.

    وقد ذهب البعض إلى أنه: "من الخطأ القول بأن الأطراف قد ارتضوا سلفاً بطلان مضمون إرادتهم" أو "تقويض الهدف المراد الوصول إليه"، وأن اختيار قانون دولة معينة لإخضاع العقـد له، لا يمكن أن يثير أي اعتراض منطقي ضد اتجاه إرادة المتعاقدين إلى الارتبـاط الـصحيح. ومقتضى ذلك أنه يتعين استبعاد نصوص أو أحكام القانون المختار المؤدية إلى بطلان العلاقـة، على الأقل كلما كان اختيار القانون الواجب التطبيق من قبل أطراف العلاقـة ذاتهمـا، احترامـاً لإرادتهما الحقيقية، صاحبة السلطان في اختيار القانون الواجب التطبيق. وهذا بالطبع ما لم يكـن النظام العام الدولي ذاته يقتضي هذا البطلان.

   لكن البعض الآخر يلاحظ أن الأصل هو وحدة الخضوع للقانون المختار برمته، دون تفرقة بين نصوصه المكملة ونصوصه الآمرة. ومن ثم كان طبيعياً أن تؤدي هذه النصوص الأمرة حتماً وبالضرورة إلى بطلان العقد المخالف لها، سواء كان تحديد القانون المطبق قد تم عـن طـريـق الاختيار الإرادي أو الاختيار الموضوعي بواسطة هيئة التحكيم. وهذا بالطبع ما لم توجـد إرادة واضحة للطرفين في استبعاد أحكام معينة بذاتها من أحكام القانون المختار، كتلك الأحكام المرتبة للبطلان فيه.

   وفي حكم لمحكمة النقض الفرنسية الصادر في 28 يونيه 1966، إذ قضت بـأن تطبيـق القانون المختار يمكن أن يؤدي إلى بطلان العقد الدولي، ثم أكدته أخيراً محكمة استئناف بـاريس المختصة بنظر الطعون المرفوعة على أحكام التحكيم في حكمها الصادر بتاريخ 29 مـارس 1991م، إذ قضت بأن "المحكم يتمتع بسلطة تطبيق قواعد النظام العام، طالما كانت عدم قابليـة النزاعات للتحكيم لا تترتب إلا بسبب واحد هو النصوص الأمرة في الدعوى، ويكون له السلطة الاحتمالية للحكم ببطلان العقد أو بعض شروطه التي تخالف قواعـد النظـام العـام، أو بمـنـح تعويضات للطرف المتضرر".

   والجدير بالذكر أنه في حالة اختيار القانون الواجب التطبيق من قبـل هيئـة التحكـيم، يـتم الاختيار بمقتضى قاعدة إسناد ذات صفة دولية، تقضي باختيار أكثر القـوانين اتـصـالا بـالنزاع، ومن ثم فالقانون المختار يحتفظ بصفته كقانون موضوعي يحكم التصرف المنشئ لعلاقة الطرفين، على نحو يتعين معه القول ببطلان هذا التصرف كلما كان مخالفا لقاعدة من القواعد الآمرة فيه.

   أما في حالة اختيار القانون الواجب التطبيق من قبل الطرفين، فالقانون المختار يكون بمثابة شروط تعاقدية ملحقة بالعقد. ومن غير المعقول منطقياً أن تنصرف نيتهما إلى هـدم التـصرف الذي أقاماه بإرادتهما. ومن ثم فإنه يتعين استبعاد أثر القواعد الآمرة التي يحتويها القانون المختار في إبطال التصرف، وهذا بالطبع ما لم تكن هذه القواعد الآمرة – والمؤدية إلى البطلان- ممـا تفرضه مقتضيات النظام العام الدولي. وإن هذه القواعد تعد من النظام العام في القانون الـذي يحتويها. ولكن تطبيقها على العلاقة لا يستند إلا إلى اختيار الطرفين لها. ومن ثم فهي تعتبر، كما قدمنا، بمثابة شروط تعاقدية على الرغم من صفتها الأمرة. وبعبارة أخرى فقواعد القانون المختار المكمل منها والآمر تعتبر جميعها قواعد مكملة عند تطبيق المحكم لها على العلاقة الدولية استناداً إلى اختيار الطرفين.

المشكلة الخامسة- القوانين المزاحمة للقانون المختار:

   إن حرية اختيار القانون الواجب التطبيق، إنما تنصب على القواعد الموضـوعية الواجبـة التطبيق على النزاع، لكن هذه الحرية ليست مطلقة من كل قيد. فهناك من المسائل ما يخرج عن مجال الاختيار ليخضع لقواعد إسناد موضوعية تلغي دور القانون المختار، أو في الأقل، تـزاحم هذا القانون، وتتلخص هذه الحالة في أمرين، وهما: الإسناد المكاني والإسناد الشخصي.

   أ – الإسناد المكاني: في ما يتعلق بالحقوق العينية الواردة على العقار يكون اتـصـال هـذه الحقوق بقانون موقع العقار اتصالا لا فكاك منه، نظرا لثبات العقار في حيزه المكاني وعدم إمكان نقله منه. ومن ثم فلا يتصور الاتفاق على اختيار قانون آخر غير قانون العقار للتطبيق في شأن هذه الحقوق أو تعديلها أو نقلها أو انقضائها، وفي هذا المجال، فإنه يتعين استبعاد العقود التي ترد على عقار من مضمون الفكرة المسندة، إذ تخضع هذه العقود لقانون موقع العقار، وفقـا للفقـرة الثانية من المادة 2. من القانون المدني السوري والتي تنص على أن "قانون موقع العقار هو الذي يسري على العقود التي أبرمت في شأن العقار".

    وعلى هذا النحو، فإن عقود إيجار العقارات الواقعة في سورية مثلاً تخضع للقانون السوري بوصفه قانون الموقع ولا شأن لها بالتالي بالقانون الذي يحكم العقد، (قـانون الإرادة أو المـوطن المشترك أو بلد الإبرام). وبالمثل فإن عقود البيع التي ترد على العقارات الواقعة فـي سـورية تخضع بدورها للقانون السوري بوصفه قانون الموقع.

    وإذا كان قانون موقع العقار هو الذي يحكم العقود التي ترد على هذا العقار، إلا أنه يلاحـظ من جهة أن الأهلية تخضع دائماً لقانون جنسية المتعاقدين، وفقاً للمادة 12 من القـانـون المـدني السوري. ومن جهة أخرى، فإن شكل العقد يظل في جميع الأحوال محكوماً بقاعدة الإسناد الواردة في المادة 20 من القانون المدني السوري. ولئن كان الأصل هو خضوع موضوع العقد لقـانـون الإرادة على نحو ما قررت المادة 1/20 ما دام أن هذا العقد يتعلق بالمعاملات المالية ولا ينصب على عقار، إلا أن هناك من العقود ما يخرج مع ذلك عن مضمون الفكرة المسندة، نظـراً الـي طبيعته الخاصة والتي تقتضي تطبيق قانون آخر.

   ولعل المثال التقليدي لذلك هو عقد العمل الذي يفلت إلى حد كبير من نطاق قـانون الإرادة ويخضع لقانون بلد التنفيذ، بل إن هناك عقوداً أخرى قد يحرص المشرع الوطني على تنظيمهـا تنظيماً موضوعياً مباشراً، كما هو الحال في عقد نقل التكنولوجيا في مصر .

  ب- الإسناد الشخصي: من المسلم به أن سلطان قانون الإرادة لا يمتد الى مسألة الأهليـة ومسألة النيابة في التعاقد بأوضاعها المختلفة.

   فالأهلية تخضع دائماً للقانون الشخصي للمتعاقد غير أن هذا القانون هـو قـانون جنـسية المتعاقد في بعض النظم وقانون موطنه في بعضها الآخر، ولا صعوبة في تحديد القانون الواجب التطبيق على الأهلية أمام القاضي، إذ عليه أن يأخذ بالقانون الذي تعينه قواعد الإسناد في قانونه الوطني، سواء كان هذا القانون هو قانون الجنسية أو كان قانون الموطن. لكن الصعوبة تثور أمام المحكم نظراً لعدم ارتباطه بقانون وطني ما دون غيره. وقد تعددت الحلول المقترحة للتغلب على هذه الصعوبة. فالبعض يرى الأخذ بالقاعدة المعتمدة في القانون الواجب التطبيـق علـى اتفـاق التحكيم. والبعض الآخر يرى الأخذ بالقاعدة المعتمدة في قانون مقر التحكيم. ويبدو أن الاتجـاه الراجح يذهب - انطلاقاً من خصوصيات التحكيم في العلاقات الدولية – إلى ترك الحرية للمحكم في اختيار قاعدة الإسناد المناسبة، وإسناد هذه الحرية إلى قاعدة موضوعية تجد مـصدرها ف قواعد التجارة الدولية. وقد يرى المحكم اختيار قاعدة الإسناد الأكثر شيوعاً بين الدول، تأسيـساً على أن شيوعها يجعل منها مبدأ من المبادئ العامة. وقد يرى إعمال قاعدة الإسناد في قانون البلد المحتمل تنفيذ حكم التحكيم فيه ضماناً لتنفيذه؟. لكن أياً كان القانون الواجب التطبيق فـي شـأن الأهلية، فإن تمسك أحد الطرفين بعدم أهليته – وفقاً لأحكام هذا القانون – بغيـة إيطـال اتفـاق التحكيم، يتيح للطرف الآخر أن يتمسك بجهله أحكام هذا القانون جهلاً مغتفراً، بغية استبعاد أحكام القانون المذكور، على النحو الذي توصل إليه القضاء الفرنسي في حكم "لبزاردي" الشهير، والذي سجلته بعد ذلك كثير من التشريعات .

   أما النيابة عن الغير في إبرام التصرفات القانونية – ومن بينها إبرام اتفاق التحكيم – فهـي تختلف في شروطها ونطاقها من قانون لآخر، كما تختلف في القانون الواحد باختلاف الحـالات، كحالة النيابة الاتفاقية وحالة النيابة القانونية من غير كامل الأهلية وحالة النيابة عن المفلس وحالة النيابة عن الزوجة وحالة النيابة عن الأشخاص المعنوية، وهذا ما يضع المحكم أمام مشكلة اختيار قواعد الإسناد التي يرجع إليها لتحديد القانون الواجب التطبيق في كل حالة من حـالات النيابـة. وفي هذا الصدد تتعدد الحلول المقترحة، والراجح هو ترك الحرية للمحكم لاختيار القانون الأكثر مناسبة.

    وكثيراً ما تعرض كل من مسألة الأهلية ومسألة النيابة في العقود التـي تبرمهـا الأجهـزة التابعة للدولة مع أشخاص القانون الخاص الأجنبية. وقد صار من المسلم به في القانون الـدولي الخاص خضوع هاتين المسألتين لقانون الدولة التي يتبعها الجهاز العام المتعاقد. فهذا ما تفرضـه كل الظروف المحيطة بهذا الجهاز، إذ أنه مجرد انبثاقه من الدولة فهذه الأخيرة هي التي أنشأته وخصصت له رأس المال اللازم لممارسة نشاطه وتمارس أيضاً نوعاً من الرقابة عند أدائه هـذا النشاط.

المشكلة السادسة- إثبات القانون الأجنبي:

    الحقيقة أن افتراض علم الكافة بالقانون ليس له سوى معنى واحد هو أن القـانـون واجـب التطبيق على الكافة، من يعلمه منهم ومن لا يعلمه. أما من يتولى الفصل في الدعوى من قاض أو محكم، فهو ليس محلاً لتطبيق القانون، وإنما هو مكلف بتطبيقه على غيره ممن تخاطبهم أحكامه. واضطلاعه بهذا التكليف يقتضي علمه به علماً حقيقياً لا مفترضاً، كمـا هـو الحـال بالنـسبة للمخاطب بأحكام القانون، ويفترض عليه من ثم التزاماً إيجابياً بالبحث عنه بما يتـاح لـه مـن وسائل. لكن التزامه البحث عن القانون، ومن ثم علمه به، يقف عند حد الاستطاعة. والاستطاعة تتحقق دائماً بالنسبة للتشريع والقضاء في دولة القاضي أو المحكم الوطني، نظراً لأن التشريع ينشر دائماً نشراً معتمداً يتيح له العلم به، وأن أحكام القضاء غالباً ما تكون منشورة بدورها. لكن الأمر ليس دائماً كذلك بالنسبة للعرف في دولته. وكذلك الشأن بالنسبة للقانون الأجنبـي بكـل مصادره بما فيها التشريع. ومن هنا كان للقاضي والمحكم على حد سواء استخدام كل الوسـائل التي تمكنهما من الوقوف على أحكام العرف الوطني أو على أحكام القانون الأجنبـي بمـصادره المختلفة، خلافا لما يؤدي إليه منطق افتراض العلم بالقانون وعدم جواز الاحتجاج بجهله.

    فللقاضي والمحكم أن يكلف الخصم الذي يتمسك بقاعدة عرفية أو بقاعدة في قانون أجنبـي واجب التطبيق على النزاع، إقامة الدليل على القاعدة العرفية أو الأجنبية التي يتمسك بها.

     وللقاضي والمحكم أن يستعين بالخبرة للتعرف الى أحكام العرف أو الـى أحكـام القـانـون الأجنبي. وحاجة المحكم إلى الخبرة في هذا المقام قد يكون أكبر من حاجـة القاض لأنه لا يشترط في المحكم أن يكون من ذوي الخبرة القانونية. وفي هذه الحالة يكون في حاجة إلى الخبرة في مجال القانون، بل وحاجته إلى الخبرة في مجال القانون لا تقتصر على العرف، وعلى القانون الأجنبي، وإنما تمتد إلى التشريع الوطني ذاته.

    ولا شك في أن فتح طريق الإنابة القضائية أمام القاضي والمحكم للوقوف علـى مـضمون القانون الأجنبي في الدولة المنابة بوصفه طريقاً يضاف إلى الطرق الأخرى المعروفـة – مثـل تقديم نصوص القانون الأجنبي نفسها أو ترجمتها وتقديم المؤلفات الفقهية أو الأحكام الصادرة عن القضاء الأجنبي أو اللجوء إلى الخبرة الشفوية أو المكتوبة أو الاستفادة من خبرة المتخصصين- يبدو لنا واحداً من بين الوسائل التي يمكـن الاستعانة بها للكشف عن مضمون القانون الأد الأجنبـي، وذلك على النقيض مما يقول به الفقه بصفة عامة. –

   ومما تجدر الإشارة إليه أنه متى كان من الثوابت أن البحث عن مضمون القانون الأجنب هو التزام يقع على عاتق القاضي، فإن مقتضى ذلك أنه ينبغي عليه، حينما يتعذر الوقوف علـى القانون الأجنبي بنفسه، أن يلجأ إلى طريق الإنابة القضائية من تلقاء نفسه، ولـو لـم يطلـب الخصوم ذلك. فإن تقاعس عن هذا متذرعاً بأن الخصوم لم يطلبوا ذلك، كان بذلك مخالفاً للقانون، وكان قراره حرياً بالطعن عليه.

   والجدير بالذكر في هذا المقام أنه يعتبر مخالفاً لمبدأ الوجاهية من جهة، ولحق الـدفاع مـن جهة ثانية، عدم قيام المحكم بدعوة الفريق الذي يتمسك بقانون أجنبي إلى إبـراز نـسخة عنـه وإبلاغه للفريق الآخر، ووضعه قيد المناقشة، تمكيناً له من الاطلاع على نصوصه وبناء دفاعه، قبل قيام المحكم باعتماد ذلك القانون وترتيب ما يراه من نتائج انطلاقا من ذلك القانون، وفي قرار لمحكمة استئناف بيروت12، وما يهمنا من هذا القرار الإستئنافي استعراض ما جاء فـي الناحيـة المتعلقة بمبدأ الوجاهية، وبلغة القرار نفسه بالنظر لوضوح حيثياته: "حيث أن طالبـة الإبطـال تدلي... بأن القرار التحكيمي خالف الفقرة الرابعة من المادة 717/أصول محاكمات مدنية لجهـة صدوره بدون مراعاة حق الدفاع للجهة طالبة الإبطال، وقد عرضت في هذا المجـال أن الهيئـة التحكيمية استندت في قرارها المطعون فيه إلى الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس الاتحادي الأمريكي لتعتبر أن واقعة إفلاس شركة ATI الأجنبية تشكل القـوة القاهرة بمفهـوم القـانون الأمريكي، علماً أن الفصل الحادي عشر من القانون المذكور لم يبرز إطلاقاً، وبالتالي لم تطلـع عليه طالبة الإبطال تمهيداً لمناقشته، وكل ما ابرز في الدعوى صورة غير مصدقة لقرار محكمة الإفلاس في ولاية نيفادا، بالإضافة إلى صورة مجتزأة من طلب الإفلاس الوقائي، الأمـر الـذي يخالف مبدأ الوجاهية المنصوص عليه في المادة 373/أصول محاكمات مدنية.

   وحيث أن المطلوب الإبطال بوجهها ردت على إدلاء خصمها بأنه من قراءة أسباب القـرار التحكيمي، أن الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس الأمريكي المشار إليه أعلاه كـان محـلاً للجدل بين طرفي الخصومة، وقد أتيح لطالبة الإبطال الاطلاع على مفهوم هذا القانون من خلال المستندين 30 و31 من مستندات المطلوب الإبطال بوجهها، وهي تقر بذلك فـي استحـضارها، علماً أن الطرفين تجادلا في شأن الفصل 11 وطرح النقاش بينهما أمام هيئة التحكيم خلافـاً لمـا تدعيه طالبة الإبطال، وإن هيئة التحكيم قد أعلمت الشركة المدعية بدفاع المدعى عليهـا بـشأن القانون الأمريكي ومكنتها من مناقشته، وإن المقصود بالوجاهية إعلام الخـصم الآخـر وتهيئـة الفرصة له كي يعلم، ومتى تحقق ذلك فلا إخلال بهذا المبدأ ولا ضرورة لتمام العلم أن يكون عن طريق التبليغ، بل بأية طريقة أخرى، كما لو تم الإجراء أثناء سير الخصومة.

   وحيث يستنتج من إدلاء الطرفين، أن ما يتجادلان فيه تحت هذا السبب يتعلق أساساً بمخالفة نص المادة 373/أصول محاكمات مدنية، أنه وإن كان يحق للقاضي أن يثير مـن تلقـاء نفـسه الأسباب القانونية أو الأسباب المتعلقة بالنظام العام، ولكنه لا يستطيع ذلك إلا بعد طرح مضمون هذه الأسباب على الخصوم لمناقشتها.

   وحيث يقتضي معرفة ما إذا كانت الهيئة التحكيمية قد احترمت المبادئ المتقدمة، لجهة مـا يتعلق بقانون الإفلاس الأمريكي الاتحادي.

   وحيث يتبين من أوراق الدعوى ومستنداتها ما يلي:

  - يتبين من محضر المحاكمة التحكيمية أن الهيئة التحكيمية طلبـت فـي جـلـسـتـهـا تـاريخ 1999/3/11 من المطلوب الإبطال بوجهها شركة فالكون للشحن السريع أن تقدم مذكرة لشرح الأثر القانوني لتطبيق الفصل 11 من قانون الإفلاس الأمريكي.

  - لقد وجه رئيس اللجنة التحكيمية خلال الجلسة المسائية في التاريخ نفسه سؤالا إلى ممثل شركة فالكون للشحن السريع حول الفرق بين الإفلاس والمرحلة السابقة للإفلاس، فقـدم الأستاذ حاراتي، ممثل الشركة المذكورة شرحاً حول ذلك الموضوع.

  - بتاريخ 99/4/13 قدمت طالبة الإبطال، مؤسسة الخطوط الجوية الكويتيـة مـذكرة ورد فيها، أنه لا يمكن الأخذ برأي منسوب لمحامي شركة فالكون فـي الولايات المتحـدة الأمريكية حول مسألة الإفلاس، وأنه للتأكد من المعلومات والحقائق يجب عدم الاعتـداد برأي هذا الأخير، وإنما يجب الإطلاع على ملف إفلاس ATI كاملاً منذ أو قبـل عـام 1996.

- لم يتبين مطلقاً أنه تم إبراز الفصل 11 من قانون الإفلاس الأمريكي الاتحادي في الدعوى ووضعه قيد المناقشة بين الفرقاء، بل فقط طلب الإفلاس وقرار الإفلاس.

- قول القرار التحكيمي بأنه لا مناص من سريان القانون الأمريكي على شركة ATI فـي قيامها وانقضائها وإفلاسها وطلبها الوقاية من الإفلاس، لينتهي الى الاستنتاج أن طلـب الإفلاس وواقعة الإفلاس أضحت سبباً أجنبياً لا يد للطرفين فيـه، كمـا ورد أن الهيئـة التحكيمية تفحصت الطبيعة القانونية لطلب الإفلاس وفق الفصل 11 من قانون الإفلاس الاتحادي الأمريكي".

- وأضاف قرار هذه المحكمة:

- وحيث من الواضح مما تقدم أن القرار التحكيمي انطلق من القانون الأمريكـي المتعلـق بالإفلاس ليرتب على إفلاس شركة ATI نتائج معينة كان لها أثرها المباشر على اعتبار الإفلاس سبباً أجنبياً، وبالتالي حول عدم مسؤولية شركة فالكون، دون أن يوضع القانون الأمريكي المذكور قيد المناقشة ودون إبراز نسخة عنه في الدعوى.

- وحيث أن تذرع شركة فالكون بقانون الإفلاس الأمريكي، ومن ثم اعتماد القرار التحكيمي على القانون المذكور، توصلاً إلى نتائج حاسمة في الدعوى التحكيمية، كـان يـستوجب استباقا بعض الإجراءات هي:

- أولاً- إبراز نسخة عن القانون الأمريكي المذكور، إذ أن القانون الأمريكي – وهو قانون أجنبي بالنسبة للمتقاضين وللهيئة التحكيمية، لا يكون ثابتا، في مفهوم الفقرة الثانيـة مـن المادة 142/أصول مدنية، إلا بإبراز نسخة عنه ممن يتمسك به، ما لم يكن القاضي عالماً به .

- ثانياً- على اللجنة التحكيمية ولو كانت عالمة بمضمون القانون الأمريكي، أن تدعو مـن يتمسك به إلى إبراز نسخة عنه، وأن تبلغ النسخة المذكورة للفريق الآخر لوضـعه قيـد المناقشة، تمكيناً لطالبة الإبطال من الإطلاع على نصوصه وبناء دفاعها الملائم انطلاقـاً من مضمونه، كل ذلك قبل قيام اللجنة التحكيمية باعتماده وترتيب ما تـراه مـن نتـائج إنطلاقاً منه، وذلك تقيداً بالفقرة 3 من المادة 373/أصول مدنية.

- وحيث أن عدم قيام اللجنة التحكيمية بتنفيذ الموجبات القانونية المنوه عنهـا أعـلاه قبـل قيامها بالأخذ بمضمون القانون الأمريكي لتنتهي إلى استنتاج تـوافر الـسبب الأجنبـي المستمد من واقعة الإفلاس (إفلاس شركة ATI) يعتبر مخالفاً لمبدأ الوجاهية من جهـة، = ولحق الدفاع من جهة ثانية، لعدم إعطاء الجهة طالبة الإبطال فرصة إبداء دفاعها انطلاقاً من مضمون القانون الأمريكي المتعلق بالإفلاس.

- وحيث يضاف إلى ما تقدم أنه لا يكفي، كما تتذرع المطلوب الإبطال بوجهها، أن يتـاح لطالبة الإبطال الإطلاع على مضمون القانون الأمريكي من خـلال بعـض المستندات المبرزة كطلب الإفلاس وحكم المحكمة الأمريكية، فالمطلوب أن يتبلغ الفريق الذي يفيده الأمر مضمون القانون بحد ذاته، وليس مستندات ترتكز عليه، كما لا يكفـي أن يتنـاقش الفرقاء في موضوع الإفلاس في أمريكا دون إبراز القانون المذكور وطرحـه للمناقشة تمكيناً لاطلاع طالبة الإبطال على مضمونه، مع العلم أن طالبة الإبطال أشارت صراحة في مذكرتها إلى ضرورة الإطلاع على ملف إفلاس ATI كاملاً، الأمر الذي لم يحصل، بل تجاوزته اللجنة التحكيمية التي أصدرت قرارها معتمدة على القانون الأمريكـي دون إبرازه في الملف، ودون أن يوضع قيد المناقشة".

    وقد انتهى هـذا القـرار الاستئنافي إلـى اتخـاذ القـرار بالأكثريـة (إذ خالفـه أحـد المستشارين)13 إلى أن القرار التحكيمي المطعون فيه قد صدر بدون مراعاة حق الدفاع المكرس لطالبة الإبطال، مما يجعل السبب التمييزي للإبطال المنصوص عنه فـي المـادة 817/أصـول مدنية، متوافراً في الدعوى فيقتضي بالتالي إعلان إبطال القرار موضوع الطعن.

المشكلة السابعة- وقت الاختيار:

   كما هو معلوم، فإن قانون الإرادة هو القانون الذي تشير إليه إرادة الأطراف ليحكم عقـدهم المبرم بينهم. إلا أن التساؤل هنا عن الوقت الذي يتعيّن فيه على الأطراف ممارسة حقهـم فـ اختيار قانون العقد لكي يعتد به. فإذا كان عدم اختيار القانون الواجب التطبيق عند إبرام العقد لا يحول دون إمكانية إبرام العقد، فهل يجوز للأطراف بعد إبرام العقد الحق في اختيـار القـانون الواجب التطبيق على العقد في وقت لاحق؟

   تذهب غالبية الفقه إلى تحويل المتعاقدين الحق في الاختيار اللاحق لقانون العقد بعد إبرامـه في اتفاق مستقل عن العقد، حتى ولوفي مرحلة متأخرة وعند طرح النزاع القائم بينهم أمام المحكمة المختصة أو أمام المحكم، وقبل الفصل في النزاع. فما دام تحديد القانون الواجب التطبيق هو مـن مهمة الأطراف في الدرجة الأولى، فإنه يتعين الإقرار بحقهم في الاختيار اللاحق لهذا القانون.

   وكذلك، فإن الممارسة التحكيمية تضفي أهمية على اتفاقات اختيار القانون الواجب التطبيق، حتى ولو في مرحلة لاحقة أثناء النظر في النزاع، حيث اعتدت هيئات التحكيم باتفاقات الأطراف ونفذتها، كما هو الحال بالنسبة للعقد المبرم بين شركة AAPL وحكومة سريلانكا، حيث لم يتفق الأطراف عند إبرام العقد على القانون الواجب التطبيق، لكنهم استندوا في تنفيذ العقد على الاتفاقية الثنائية للاستثمار الموقعة بين المملكة المتحدة وسريلانكا.

    وعندما ثار النزاع بين الطرفين، وتم عرضه على المركـز الـدولي لتـسوية منازعـات الاستثمار، فقد صرحت هيئة التحكيم عند نظر مسألة القانون الواجب التطبيق بما يلي:

    "في ظل هذه الظروف الخاصة سوف تتجسد عملية اختيار القانون عقب ظهـور النـزاع، وذلك عن طريق ملاحظة وتأصيل سلوك وتصرف الأطراف عبر وقائع التحكيم. وفي حالتنا هذه تصرف كل من الطرفين بشكل يظهر الموافقة المتبادلة على احترام ومراعـاة بنـود الاتفاقيـة السريلانكية – البريطانية- (ثنائية الأطراف) لتكون المصدر الرئيسي للقواعد القانونيـة واجبـة التطبيق، وهذه القواعد الأساسية استند اليها الطرف المدعي وقوبلت بموافقة تامة مـن المـدعى عليه".

   والأمر ذاته ينطبق على قضية أخرى طرحت على المركـز الـدولي لتسوية منازعـات الاستثمار، وتتعلق بالعقد المبرم بين:

 Benvenuit & Congo V. People .Republic of the Bonfant S. A. R. L ففى غياب نص يتعلق باختيار القانون الواجب التطبيق بعد نـشوء النـزاع، وذلـك عنـدمـا فـوض الأطراف في إحدى الجلسات هيئة التحكيم للفصل في نزاعهم طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف 16 ex aequo et bono

المشكلة الثامنة- تغيير القانون المختار:

   إن اختيار أطراف النزاع للقانون الموضوعي الذي يحكم النزاع يعد امتداداً للعقد أو ملحقاً له ويعتبر بمثابة شروط تعاقدية، وترتيباً على ذلك فإن اختيار الطرفين القواعد الموضـوعية ف قانون معين، إنما ينصرف إلى قواعده النافذة وقت هذا الاختيار. فإذا أصابها تعـديل أو تغييـر لاحق، فلا محل للأخذ بهذا التعديل أو التغيير، لأن إرادتهما لم تنصرف إليه، ما يجعل الأخذ بـه مخالفا لتوقعاتهما.

   غير أن المتتبع لواقع العقود الدولية، وعلى وجه الخصوص عقود الاستثمار المبرمـة بـين الدولة والمستثمرين الأجانب، يمكنه أن يلاحظ وجود اعتراف من جانب بعض التشريعات وأحكام التحكيم، للأطراف بسلطة التجميد الزمني لقانون العقد. وذلك إذا ما قام الأطراف بإدراج شـرط في العقد، ينص صراحة على أن قانون الإرادة لا يسري على العقد المبرم بينهم، إلا بحالته التي كان عليها وقت توقيع العقد. مع استبعاد كل التعديلات التي يمكن أن تطرأ عليه فـي المـستقبل.

    ويطلق على هذه الشروط تسمية شروط الثبات التشريعي أو التجميد الزمني لقانون الإرادة، وقـد ورد النص على شروط الثبات التشريعي لأول مرة في اتفاقية الامتياز المعقودة سنة 1933 بـين إيران وشركة النفط الأنجلو-إيرانية، إذ نص على أن التشريعات الحكومية لا يمكنها أن تغير من الامتياز أو من شروطه.

   وأيضاً المادة 21 من العقد المبرم بين حكومة ليبيريا وشركة الحديد والصلب الليبيرية يونيو 1975 التي نصت على أن "اتفاقية الامتياز هذه ستكون خاضعة لقوانين جمهورية ليبيريـا، ويتم تأويلها وتفسيرها بموجبها، إنما باستثناء أي تشريع يصدر أو ينفذ في الجمهورية قبل تاريخ هذه الاتفاقية أو بعده، ويكون غير متوافق أو مناقض لنصوصها. وقد انتهى مجمـع القـانون الدولي في دورته المنعقدة بمدينة أثينا عام 1979 والمخصصة لمناقشة موضوع القانون الواجب التطبيق على العقود المبرمة بين الدول والأشخاص الخاصة الأجنبية، إلى الاعتراف بمـشروعية اتفاق الأطراف على التجميد الزمني للقانون المختار، حيث نصت المادة الثالثـة مـن التوصـية الصادرة عنه على أنه: "يجوز للأطراف الاتفاق، على أن أحكاماً فـي القـانـون الـداخلي التـى يرجعون إليها في العقد ،  هي تلك المقصودة في مضمونها لحظة إبرام العقد .

   كذلك جاءت أحكام التحكيم الصادرة بمناسبة منازعات عقود الاستثمار لتكـرس الاعتـراف بإمكانية تثبيت القانون الواجب التطبيق عند لحظة إبرام العقد.

   ففي تحكيم Sapphire ضد الحكومة الإيرانية، ذهب المحكم Cavin في الحكم الصادر فـي 15 مارس 1963 إلى أنه: "بمقتضى الاتفاق المبرم بين الطرفين، فإن الشركة الأجنبية قـدمت لإيران مساعدات مالية وفنية واستثمارات تتضمن مسؤوليات ومخاطر واسعة، وبالتالي يبدو مـن الضروري حمايتها ضد التعديلات التشريعية التي يمكن أن تؤثر في حقوق الأطراف والتزاماتهم، وأن يكفل لها الأمان القانوني، وهو ما يصعب تحققه إذا تم التطبيق الخالص والبـسيط للقـانون الإيراني، الذي يكون من سلطة الدولة الإيرانية أن تعدله..." كمـا أقـرت بـصحة شـروط الثبات التشريعي أحكام التحكيم الصادرة تحت مظلة المركز الدولي لتسوية الاستثمار، ففى قضية Agip ضد حكومة الكونغو، والتي تضمنت اتفاق استثمار بين حكومة الكونغو والشركة المدعية نص فيه على وجود شرط يقضي بتجميد القواعد القانونية التي تطبـق علـى الاتفـاق المذكور، وبحيث تكون وحدها هي السارية دون غيرها من التعديلات أو التغييرات اللاحقة فـ القوانين التي تصدرها دولة الكونغو، قضت هيئة التحكيم بأن من سلطة الدولة تغيير تشريعاتها الداخلية باعتبار أن ذلك ينبثق مما لها من سيادة على إقليمها، ومع ذلـك متـى وافقت الدولـة المضيفة للاستثمار على تضمين عقد الاستثمار شرطاً يقضي بتجميد العلاقة في الوقت الذي انعقد فيه الاتفاق، فإن القوانين الجديدة لا تؤثر ولا تنقص من الالتزامات التعاقدية للدولة.

   ولكن ثمة اتجاهاً يرى أن شروط الثبات التشريعية التي تنطوي عليها عقـود الاستثمار لا يترتب عليها أي أثر قانوني يحد من سلطات الدولة التشريعية في المستقبل ويؤسس أنصار هـذا الاتجاه موقفهم على اعتبارات السيادة التي تمنح الدولة الحق في إصدار تشريعات جديدة تـسري على العقد المبرم بينها وبين الطرف الأجنبي، وذلك بصرف النظر عن تضمن هذا العقد لـشرط الثبات التشريعي. غير أن هذا الاتجاه لم يسلم بدوره من النقد، وبناء عليه فقد برز اتجـاه آخـر يعتبر أن شروط الثبات التشريعي تعتبر عاملاً من العوامل التي يتعين أخذها في الاعتبـار عنـد تقدير التعويض المناسب، مع الاعتراف بحق الدولة في تعديل وإصدار التشريعات التي تقتضيها مصلحتها العامة.

   وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن وجود شروط الثبات التشريعي في عقـود الاستثمار لا يسلب الدولة سيادتها، ويبقى ما تصدره من تشريعات أو قرارات بعد العقد سارياً على الطـرف الآخر وملزماً له، ولكن يترتب عليه التزام الدولة تعويض الطرف الآخر عـن زيـادة الأعبـاء الناشئة عنه نتيجة هذه التشريعات أو القرارات، وهذا ما أخذت به هيئـة التحكـيم قضية . Aminoil

المشكلة التاسعة- تفسير قواعد التجارة الدولية وأعرافها:

   إذا اختار الفرقاء قواعد التجارة الدولية لكي تطبق على النزاع، فإن المحكم في هذه الحالـة يتمتع بحرية واسعة في تقدير مضمون هذه القواعد، إلا أنه يجب أن يحدد هذه القواعد بدقة، وأن يعلل هذا التحديد، ومما تجدر الإشارة إليه فإن عرض هذه القواعد على الأطراف خلال المحاكمة لمناقشتها ضروري لإضفاء المصداقية على هذه القواعد.

   وبالتالي إذا ما تبين للمحكم أن هذه القواعد يمكن استنباطها من قانون دولة معينة، فإنـه لا يمكن أن نطعن على هذا القرار بالبطلان بحجة عدم تطبيقه للقواعـد القانونيـة التـي اختارهـا الخصوم، إذا ما قام بتعليل هذا التحديد الذي يفترض أنه يعبر عن إرادة الفرقاء، وناقشه الفرقـاء فيما بينهم.

    ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً، فإن العمل يشهد في الوقت الحاضر كثيراً من الوثائق التـى تتضمن تدويناً للأعراف والعادات السائدة في مجال أو آخر من مجالات المعاملات الدولية. مـن ذلك مثلاً الوثيقة المعروفة باسم inco terms أو trade terms، التي صدرت عن غرفة التجارة الدولية بباريس، والتي تتضمن تفسيرا للمصطلحات القانونية المستخدمة في مجال التجارة الدولية، کالبیع سيف cif والبيع fob وغيرها من المصطلحات. لذلك يمكن دائما الرجوع إلى هذه الوثيقة لتحديد مضمون ما يورده اتفاق الطرفين من المصطلحات المذكورة فيها. و

   ومن ذلك أيضاً العقود النموذجية المستخدمة في مجال المعاملات الدولية، على نحـو مـا نعرفه في العقود المتعلقة ببيع السلع المختلفة كالحبوب والقطن والحرير والصوف، والأخـشاب والمطاط، والمواد البترولية، والقواعد المتعلقة بالائتمان الدولي - خاصة الاعتمادات المستندية التي دونتها غرفة التجارة الدولية، وسندات النقل بأنواعه البحري والجوي والبري.

     ومن ذلك الشروط العامة المعدة لتسهيل صياغة العقود فـي مجـال أو آخـر مـن مجـالات المعاملات الدولية. وهذا هو الشأن مثلاً في الشروط العامـة التـي وضـعتها اللجنـة الاقتصادية الأوروبية التي أنشأها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة عام 1947، لبعض أنواع المعاملات، كالشروط العامة لبيع الآلات الصناعية، والشروط العامة لبيع الأخشاب. وكذلك الحال في الشروط العامة التي وضعها الاتحاد الدولي للاستشارات الهندسية، لعقود الهندسة المدنية.

   على أنه ينبغي على المحكم دائماً في تقصيه للأعراف والعادات السائدة في التجارة الدولية، من خلال العقود النموذجية والشروط العامة المدونة، أن يراعي عدة اعتبارات هامة:

   الاعتبار الأول: وهو أن نصوص العقود النموذجية والشروط العامة كثيراً ما لا تقتصر على تسجيل الممارسات السائدة بالفعل في مجال المعاملات الدولية، وإنما تتضمن إلـى جانـب ذلـك قواعد لم تتحقق لها بعد السيادة في المعاملات الدولية، أو قواعـد مـستحدثة يـرى واضـعوها مناسبتها لحكم هذه المعاملات ويستهدفون من وراء وضعها في هذه العقود أو الـشروط العامـة إشاعة العمل بها. وعلى هذا النحو فالعقود النموذجية والشروط العامة المدونة سلفاً ليست لها في ذاتها قوة الأعراف والعادات السائدة في التجارة الدولية، وإنما هي وسيلة من وسائل الكشف عن هذه الأعراف والعادات من ناحية، وهي من ناحية أخرى، أداة مـن الأدوات التـي تـستخدمها أطراف المعاملات الدولية في بناء الأعراف والعادات الحاكمة للتجارة الدولية.

   الاعتبار الثاني: وهو أن العقود النموذجية والشروط العامة المتداولة في مجال المعـاملات الدولية، بعضها من صياغة المشروعات العملاقة العاملة في هذا المجال، أعدتها لاستخدامها في علاقتها بالمتعاملين معها، وبعضها الآخر من صياغة الجمعيـات والهيئـات المهنيـة الراعيـة للمعاملات الدولية في مجال أو آخر من مجالاتها. وبديهي أن الأولى تعبر عادة عـن مـصالح الأطراف التي صاغتها بصرف النظر عن مدى الاستجابة للأعراف والعادات السائدة في مجـال المعاملات الدولية. لذلك فالعقود النموذجية والشروط العامة التي يعول عليها في الكـشـف عـن الأعراف والعادات السائدة، هى تلك التي تضعها الهيئات المهنية المعنية وحدها.

   الاعتبار الثالث : هو أنه لا يكفي ثبوت وجود نص في عقد مـن العقـود النموذجيـة – أو مجموعة من الشروط العامة – كان تدويناً لعرف أو عادة دولية إبان وضعه، لتطبيقه على العلاقة محل النزاع، وإنما يتعين دائماً التثبت من أن العمل ما زال يجري بالفعل على ما يتضمنه هـذا النص، ولم يتجاوزه، وأن إرادة الطرفين لم تتجه بالفعل إلى غيره باعتبار أن الغلبة إنمـا تكـون لهذه الإرادة في حال قيامها.

   الاعتبار الرابع: وهو أنه ينبغي على المحكم دائماً أن يراعي الحذر فـي تطبيـق القواعـد المنصوص عليها في العقود النموذجية، وفي مجموعات الشروط العامة انطلاقـاً مـن التـسليم بدورها في رصد الأعراف والعادات السائدة. ذلك أن هذه النصوص هي في النهاية مـن صـنع هيئات مهنية الغلبة في توجيهها للأقوياء من المنتمين إليها، على نحو تخرج معه الوثائق الصادرة عنها معبرة عن مصالحهم على حساب الضعفاء من أطراف المعاملات الدولية.

المشكلة العاشرة- قواعد البوليس والنظام العام الدولي:

   إن النظام العام الذي يطبقه المحكم، من الطبيعي أن يكون مرتبطاً بدولة معينة، ولكن هـذا الأمر ليس مفروضاً بشكل دائم وحتمي، بمعنى أنه يحق للمحكم في التحكيم الدولي أن يطبـق قاعدة من قواعد النظام العام الدولي بالمعنى الحقيقي للكلمة أي النظام العام الذي أفرزته أعراف التعامل التجاري الدولي.

   فإصدار الحكم التحكيمي ليس هدفاً بذاته، بل المهم هو فعالية هـذا الحكـم عـن طـريـق الاعتراف به أو منحه الصيغة التنفيذية، ولهذا ينبغي على المحكم أن يبقى آخذاً هذا الأمر بعـين الاعتبار طيلة مهلة العملية التحكيمية حؤولا دون إبطال حكمه.

أنواع النظام العام الموضوعي في التحكيم الدولي:

    في التحكيم الدولي، فإننا نقابل بصفة عامة نوعين رئيسين من النظـام العـام الموضـوعي يشكلان قيداً على حرية الإرادة، وبالتالي قيداً على حرية المحكم: النـوع الأول يتعلـق بتنـازع القوانين في القانون الدولي الخاص، ويطلق عليه النظام العام الحمائي أو الوقائي أو الاستبعادي، وتقوم فكرته على أن هناك قواعد وطنية ضرورية التطبيق، هذه القواعد يطلـق عليهـا الفقـه مصطلح "قواعد البوليس" بموجبها يتعين على المحكم استبعاد الشروط العقدية، أو قواعد القانون المختار، أو القانون الذي أشارت بتطبيقه قواعد الإسناد المعمول بها، أي القانون الواجب التطبيق حسب الأحوال، مع تطبيق القاعدة الحمائية الوطنية بحسبانها تعد من القواعـد الجوهريـة فـي القانون المتصل بالنزاع بصورة واضحة وتكون مؤثرة في العلاقة التعاقدية الدولية بشكل كبيـر. هنا تحكم القاعدة الحمائية الوطنية - المتصلة بأسس المجتمع العليل – تلك العلاقة مباشـرة دون وساطة قواعد الإسناد المعمول بها في منهج تنازع القوانين، فهي لذلك ذات تطبيـق ضـروري، ومن أمثلتها القوانين الوطنية الخاصة بالجمارك أو القواعد التي تحارب الاحتكار أو تلك الخاصة بالضرائب أو التأمينات الاجتماعية، أو أحكام الملكية العقارية. وعلى كـل حـال، فـإن قواعـد البوليس هذه تتصل إلى حد كبير بموضوع مشروعية الاتفاق على التحكيم، وربما تتصل بفكـرة النظام العام العادي (غير الحمائي) أو بفكرة الغش.

    ولا يتردد الاجتهاد التحكيمي في إعمال قواعد البوليس المنتمية إلى قـانون مكـان التنفيـذ المحتمل للقرار التحكيمي، فالقرار التحكيمي الصادر سنة 1984 أشار إلى واجب المحكم باحترام قواعد النظام العام المنتمية إلى قانون بلد التنفيذ، وقواعد البوليس لا تشذ عن هذه القاعدة وقواعد البوليس لا تشذ عن هذه القاعدة.

    وفي قرار آخر، صدر سنة 1990، كان المحكمون أكثر وضوحاً وحزماً عندما أكدوا على موجب المحكم باحترام قواعد النظام العام الدولي، ومنها قواعد البوليس في قانون مكان التنفيـذ. وذلك عندما قضوا بوجوب ألا يصدر المحكمون قراراً يتعارض مـع النظـام العـام الـدولي، وخصوصاً قوانين البوليس.

   فبالرغم من عدم تعلق المسألة المطروحة مباشرة بالقابلية للتحكيم، فإن القرار يظهر مـدى حرص المحكمين على احترام قواعد النظام العام، ومن بينها قواعد البـوليس فـي بلـد التنفيـذ المحتمل للقرار التحكيمي، التزاما منهم بموجبهم بإصدار قرار يتمتع بالفعالية .

أما النوع الثاني من قواعد النظام العام الموضوعي الدولي:.

   ففي مجال العقود بشكل عام تتحدد في التحكيم الدولي معايير النظام العام الدولي على نحـو خاص ومختلف – ولو قليلاً - عن النظام العام الوطني، فعلى المحكم فـي منازعـات التجـارة الدولية أن ينظر دائما إلى الغاية التي يستهدفها مجتمع التجارة الدولي وجوهر المصالح التـ يحميها هذا المجتمع من القاعدة المثارة. ذلك لأن المصالح التي يحميها النظام العام الموضـوعي في التحكيم الدولي (الذي يقابل النظام العام الموضوعي في القوانين الوطنية) هي مصالح مجتمع التجارة الدولية، التي تهيمن عليها وعليه – إلى حد ملحوظ إلى حد ملحوظ - المؤسسات الماليـة والتجاريـة صاحبة القوة الاقتصادية الكبرى. في حين أن قواعد النظام العام الداخلي ترتبط بالمصالح الداخلية لمجتمع الدولة، بوصف هذه المصالح – ولو كانت عقدية تجارية – هي واجبة الحماية في نظـ مشرع ذلك المجتمع أو صاحب السلطة فيه.

   والجدير بالذكر أن مجموعة القواعد التي تنظم التحكيم في مجتمع التجارة الدولي لا بد مـن أن تتأثر بدورها بطبيعة ذلك المجتمع، وعليها أن تسايره وتستجيب لواقعـه وحقـائق طبيعـة علاقاته، وذلك بعد أن صار أساس قوة الدولة – كل دولة – هو قوتها الاقتصادية التنافسية. وبينما يتم تكوين قواعد القانون الداخلي بحسب الأصل عن طريق السلطة التشريعية في الدولة، فإن مثل هذه السلطة مفتقد وجودها في المجتمع التجاري الدولي، ومع ذلك فلم يعد الفكر القانوني يـستلزم وجود الدولة كشرط لنشأة القانون، ما دمنا في نطاق مجتمع منظم كمجتمع التجارة الدولية، حيث يشعر أفراده بضرورة الالتزام بالقواعد التي تعارفوا عليها، والتي تشكلت عملياً فـي الأوسـاط التجارية أو المهنية الدولية التي تنظم معاملاتهم، بوصفها قانوناً ملزماً لهم.

   وصفوة القول أنه ينبغي التفرقة ما بين النظام العام الدولي والنظام العام الداخلي. ويهـدف هذا الاتجاه، إلى التقليل ما أمكن من حالات بطلان أحكام التحكيم الدولية أو الأجنبية، بحيث مـا يجوز إبطاله أو عدم تنفيذه من أحكام تحكيم وطنية لمخالفته النظام العام الداخلي، ليس بالضرورة أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها في التحكيم الأجنبي أو الدولي، ما دام حكم التحكيم في الحالة الأخيرة لا يخالف النظام العام الدولي. وبمعنى أصح، فإنه لا يجوز للقاضي الوطني في دولة من الدول. يقضي ببطلان حكم التحكيم الدولي أو الأجنبي، أو بعدم تنفيذه لمجرد مخالفته للنظام العام في دولته، بل يجب أيضاً أن يكون مخالفاً للنظام العام الدولي. ومن الأمثلة التقليدية علـى مخالفـة النظام العام الدولي، العقود المتعلقة بالفساد والاحتيال والرشوة والتمييز العنصري وغسيل الأموال والاتجار بالمخدرات والرقيق والأطفال والاتجار الدولي غير المشروع بالأسلحة، وخاصة أسلحة الدمار الشامل، وانتهاك حقوق الإنسان، فكل ذلك، غير مقبول عالمياً أو دوليـاً، وهـو بالتـالي مخالف للنظام العام الدولي.

    ويترتب على هذا الرأي أن المحكمة المرفوع أمامها النزاع عليها أن تقضي بـصحة حكـم التحكيم ونفاذه على أراضيه، ما دام أنه ليس مخالفاً للنظام العام الدولي، حتى لـو كـان مخالفـاً للنظام العام الداخلي في دولة تلك المحكمة.

   وعلى العكس من ذلك، يمكن لتلك المحكمة، في ظروف معينة، أن تقضي ببطلان الحكم أو عدم تنفيذه حتى لو لم يكن مخالفا للنظام العام الداخلي، ما دام أنه مخالف للنظام العام الدولي، كما هو الحال في الأمثلة المذكورة.

   وسنداً لهذا الاتجاه الذي أصبح مقبولاً لدرجة كبيرة، يمكن القول إنه ليس من المنطـق فـي شيء، تطبيق القواعد الوطنية الخاصة بالنظام العام، بحرفيتها على التحكيمات الدولية والأجنبية. فمفهوم الفكرة ونطاق تطبيقها، كما تقدم، يختلف باختلاف النظم القانونية، أو حتى باختلاف الدول المنتمية لنظام قانوني واحد. ومثال ذلك، أن قطر والسعودية دولتان إسلاميتان وتطبقان الـشريعة الإسلامية، مع اختلاف درجة ذلك. ولكن الفوائد جائزة في القانون القطري، في حين ليست كذلك عموماً في السعودية، ولكل وجهة نظره في هذه الشأن. لذلك، من غير المقبول أن السعودية تبطل أو لا تنفذ حكم تحكيم جرى في قطر، بين بنكين قطريين مركز أعمالهما قطر، وتمت المـصادقة عليه في قطر، لمجرد كونه يتضمن إعطاء فائدة لأحد البنكين على المبلغ الواجب دفعه لـه مـن البنك الآخر. فإذا كان ذلك مخالفاً للنظام العام في السعودية، فإنه ليس كذلك في قطـر، ولا فـي غالبية الدول العربية.

   ومن هذا المنطلق، من غير المعقول ولا المنطقي أن يطلب مـن أطـراف التحكــم ومـن المحكمين، الإلمام بمختلف القوانين الوطنية، لمعرفة ما هو مخالف للنظام العام وما هو ليس كذلك في كل منها، والسير في التحكيم بما يتلاءم مع هذه القوانين. فهذا أمر يكاد يكـون ضـرباً مـن المستحيل، بل هو كذلك فعلاً. ويكفي أن لا يكون الحكم مخالفاً للنظام العام الدولي، وكذلك علـى أبعد تقدير، النظام العام في القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع، وربما أيضاً القـانون المطبق على الإجراءات، حتى لو كان الحكم مخالفا للنظام العام في دولة التنفيذ، بل يذهب هـذا الاتجاه، إلى حد إعطاء هيئة التحكيم صلاحية عدم تطبيق أي حكم في القانون المطبـق علـى موضوع النزاع وعلى إجراءات التحكيم، إذا كان ذلك الحكم مخالفا للنظام العام الدولي.

   وبالرغم من هذا التوجه، إلا أن المشكلة الأساسية التي واجهت وما زالت تواجه فكرة التمييـز بين النظام العام الداخلي والنظام العام الدولي، تكمن في بيان مفهوم النظام العام الدولي، وبيان مـا يعتبر أو لا يعتبر كذلك أو، بمعنى أصح، تعريف النظام العام الدولي، بما يؤدي إلى تمييـزه عـن النظام العام الداخلي، وهذا أيضاً ضرب من المستحيل، لذلك تمت محاولة تحديد مفهوم النظام العام الدولي بعبارات عامة ومطاطة، وتم عمليا ترك مجال تفسير مصطلح النظام العام الدولي، للمحكمة المرفوع أمامها النزاع لتقضي به في كل قضية على حدة، حسب معطيات وظروف القضية.

    ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أنه قد حدثت سوابق تحكيمية من بعض هيئات التحكيم الدولية، حيث قامت تلك الهيئات باستبعاد متعمد للقانون الواجب التطبيق تحت مسميات مختلفـة كان يغلب عليها الافتعال واختلاق المبررات بقصد تدويل عقود الاستثمار والهروب من إخضاعها للقوانين الوطنية المختصة أصلاً بحكم هذه العقود. فمن المسلم به أن المحكم يلتزم تطبيق القانون الذي اختاره الأطراف كقاعدة عامة ما دام هذا القانون لا يصطدم بالقواعد الأمـرة فـي الـنظم القانونية ذات الشأن، ولا يجوز التحايل على هذا الاختيار بدعوى تخلف القانون الواجب التطبيق، أو عدم احتوائه على قواعد قانونية كافية لحكم النزاع محل التحكيم، أو تعارضـه مـع مبـادئ القانون الدولي، مثلما حدث في قضايا شيخ أبو ظبي وقطر، حيث انتهى المحكمان إلى استبعاد القانون الوطني، والذي تعبر عنه الشريعة الإسلامية بحجة أنها غير مؤهلة لحكـم الامتيازات البترولية الحديثة، ومن ثم يتعين استبعادها باسم المبادئ العامة للأمم المتمدنة.

    ولعل أقل ما يقال بشأن هذه الأحكام أنها اتصفت بالتعسفية، وذلك لأن الجـزم بـأن أحـد القوانين الوطنية غير ملائم لحاجة المعاملات الدولية، لا بد من أن يكون عن دراية كاملة بأحكام هذا القانون، وهو ما لم يفعله المحكمان في قضيتي أبو ظبي وقطر. لأنهما لو فعلا ذلك لتبين لهما أن الشريعة الإسلامية نظام شامل يتناول العلاقة بين الفرد والدولة، كما يتناول قدسـية العقـود. فالشريعة الإسلامية بمدارسها الفقهية كافة تقدم حلولا واضحة لعدد من المشكلات المتعلقة بعلاقة الفرد بالدولة، وهي مشكلات أضحت موضعاً للاهتمام الكبير في الفكر القانوني الغربي، فالحلول التي تقدمها الشريعة الإسلامية تتجه بشكل متقاطع ومتسق نحو الفرد وقدسية العقـود والملكيـة الخاصة، كما تقيد عمل الدولة في هذه الأمور تقييداً شديداً.

   وفي ضوء ذلك، لا يمكن تفسير موقف المحكمين إلا بأن هدفهم الوحيد كان التهـرب مـن تطبيق القوانين الوطنية بهدف تطبيق القانون الانكليزي تحت ستار إعمال المبادئ العامة للقانون المعترف بها في العالم المتمدين، بوصف هذا القانون، كما ادعى المحكم "تجسيد حي لتلك المبادئ العالمية" .

   كذلك لجأت بعض أحكام التحكيم إلى استبعاد تطبيق قواعد القانون الوطني للدولة المـضيفة بدعوى تعارضها مع النظام العام الدولي، مثلما حدث في قضية Aminoil حيث أنتهـت هيئـة التحكيم إلى أن القانون الكويتي هو قانون العقد، ولكن لا يؤخذ به إلا بقدر اتساقه مع النظام العام الدولي الذي تجسده مبادئ القانون الدولي. وبالنتيجة فقد انتهى الأمر بعدم تطبيق القانون الكويتي وحده بحيث نالت شركة Aminoil مرادها بتطبيق المبادئ العامة للقانون انطلاقاً من أن القانون الدولي يشكل جزءاً من قانون الدولة المضيفة.

الخاتمة:

   يختلف التحكيم عن القضاء بأصله الاتفـاقي. وانطلاقاً من هذا الأصل يؤكد الفقه والقـضاء على حرية طرفي التحكيم في اختيار القواعد الموضوعية التي يطبقها المحكم على النزاع المحكم فيه. وهي حرية تتسع للاتفاق المباشر على القواعد الموضوعية التي تطبق على النـزاع، كمـا تتسع للاتفاق على تطبيق قواعد قانون دولة معينة أو أخرى على هذا النزاع.

   وتعتبر مسألة تطبيق القواعد الموضوعية التي اختارها الخـصوم لحـل النـزاع المـشكلة الأبرز، إن لم تكن الأهم التي تواجه المحكم.

   ولقد طال السجال الفقهي الدائر حول طبيعة مهمة المحكم عما إذا كانت تعاقدية أم قضائية، إلى أن استقر الأمر على الطبيعة القضائية للمهمة.

    ومن المعروف أن الأطراف قد يعتمدون عند اختيار المحكم على الخبرة في ذات المهنة التي لها علاقة بالنزاع، ولكن هذا لا يعني تجاهل المحكم للقواعد والقوانين والأسس الناظمة للمهمـة التحكيمية في القضايا ودراستها وتكييفها التكييف القانوني الصحيح وإتباع الإجـراءات القانونيـة اللازمة وما إلى ذلك من ضوابط. وقد أجمع الدارسون على أن التحكيم يعتمد بشكل أساسي على صفات المحكم، ولهذا يتوجب على المحكم أن يبذل العناية العلميـة و المهنيـة التـي تفرضـها ضرورة تحقيق العدالة، وعليه في سبيل ذلك أن يبذل الجهد المناسب في جميع مراحـل العمليـة التحكيمية.

    لأن الجزاء المترتب على عدم قيام المحكم بتطبيق القواعـد الموضـوعية التـي اختارهـا الخصوم لحل النزاع سواء لجهة تفسير هذا القانون أو الإساءة في وصف قواعده القانونية يتمثـل في نهاية المطاف بإبطال القرار التحكيمي، وانهيار البنيان الكلي للعملية التحكيمية.

   هذه أهم النقاط والمسائل القانونية التي رأيت رصدها وحسبت أنها تتصل بموضوع البحث.