المحكم وهيئة التحكيم / المحكم - هيئة التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 26 / الدفع بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم دراسة في النظام القانوني الإماراتي
تثار مشكلة عملية تهدد فاعلية التحكيم وتنذر بتخلي المستثمرين والشركات الكبرى عـن التحكيم باعتباره وسيلة هامة لفض النزاعات في دولة الإمارات، وتظهر هذه المشكلة عنـدما يجد المحتكم ضده بأن هناك شبهة عدم الدستورية بالنسبة للنص واجب التطبيق على النـزاع، فهل يجوز له أن يثير الدفع أمام هيئة التحكيم؟ بالتأكيد تكون الأجابة نعم، يجوز للمحتكم ضده أن يثير الدفع بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم، إذا وجد أن النص القانوني الواجب التطبيـق الذي يستند إليه المحتكم في طلباته مخالف لنصوص الدستور، ولكن هل يمكن للمحكم أن يقبل هذا الدفع؟ وما الذي يفعله في هذه الحالة؟ إذا وجد المحكم أن النص القانوني الواجب التطبيق به شبهة عدم الدستورية، هل يستطيع أن يصدر حكماً بوقف نظر الدعوى التحكيميـة، لحـين الفصل في دستورية النص القانوني ويحدد أجلا للطاعن لرفع دعوى الدستورية أمام المحكمـة الاتحادية العليا، كما هو متبع أمام محاكم الدولة، وفقاً للمادة 58 فقرة 22 من قانون المحكمـة الاتحادية العليا 10 لسنة 1973؟ وهل يمكن للمحكم من تلقاء نفسه أن يحيل دعوى الدستورية إلى المحكمة الاتحادية العليا إذا تبين له شبهة عدم دستورية النص القانوني المطبـق علـى النزاع، وفقاً للمادة 58 فقرة 1من قانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1973 في شـأن المحكمـة الاتحادية العليا؟
وفقاً لنص المادة 99 فقرة 3 من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة، والمادة 33 فقرة 4 من قانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1973 في شأن المحكمة الاتحادية العليا، للمحكمة الاتحاديـة العليا البحث في دستورية القوانين والتشريعات واللوائح عموما، إذا ما أحيل إليها هذا الطلب من أية محكمة من محاكم البلاد أثناء دعوى منظورة أمامها، وعلى المحكمة المذكورة أن تلتزم نص قرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر في هذا الصدد.
فصريح نصي المادة 99 فقرة 3 دستور دولة الإمارات، والمادة 33 فقرة 4 قانون المحكمة الاتحادية العليا سالفتي الذكر، أن الاحالة إلى المحكمة الاتحادية العليا للبحث في دستورية القوانين لا تجوز من قبل الأفراد مباشرة، ولكن بطريق غير مباشر عند الإلتجاء إلى القضاء، والدفع بعدم الدستورية أمامه، ففي هذه الحالة إذا وجد القاضي أن الدفع بعدم الدستورية دفع جدي، فيجب عليه أن يوقف الدعوى ويحيلها إلى المحكمة الاتحادية العليا، التي تصدر حكماً نهائياً غير قابل للطعن في مسألة دستورية النص محل الدعوى، ويجوز للقاضي من تلقاء نفسه إذا تبينت له شبهة عـدم الدستورية في النص الواجب التطبيق على النزاع، أن يحيل بقرار مسبب الدعوى إلى المحكمـة الاتحادية العليا.
وحيث لا يجوز للأفراد اللجوء مباشرة إلى المحكمة الاتحادية العليا لرفع دعوى دسـتورية، لأن الطعن أمامها غير مباشر بمناسبة دعوى متداولة أمام المحاكم ويثار الدفع من أحد المـدعى عليه أو من تلقاء القاضي نفسه.
ومن ثم وجب أن يثير المدعى عليه الدفع بعدم الدستورية أو يثار من تلقاء القاضي نفـسه، لكي يوقف القاضي الدعوى محل النص غير الدستوري، ويحيلها إلى المحكمة الاتحادية العليـا، وأمام ذلك، وصراحة نص المادة 99 فقرة 3 من دستور دولة الإمارات، لا يجوز للمحكم عنـدما أمامه الدستورية أن يحيل الدعوى- بعد أن يتأكد من جديـة الـدفع- إلـى المحكمـة يدفع بعدم الاتحادية العليا.
وتطبيقاً لذلك قضت المحكمة الاتحادية العليا في حكمها الصادر في 19 فبراير 2013 فـي الطعن رقم 4 لسنة 2012 دستوري" بأن "لما كان النص في المادة (3/99) من الدستور على أن "تختص المحكمة الاتحادية العليا بالفصل في الأمـور التاليـة: 1- ..... 2- ..... 3- بحـث دستورية القوانين والتشريعات واللوائح عموماً، إذا ما أحيل إليها هذا الطلب من أية محكمة مـن محاكم البلاد أثناء دعوى منظورة أمامها، وعلى المحكمة المذكورة أن تلتـزم قـرار المحكمـة الاتحادية العليا الصادر بهذا الصدد 4-..... 5-..... 6-...... 7-.... 8- 9-. والنص في المادة (4/33) من قانون المحكمة الاتحادية العليا على أن " تختص المحكمة العليا دون غيرهـا بالفصل في الأمور الآتية: 1-...2-....3-... 4 – بحث دستورية القوانين والتشريعات واللوائح عموما إذا ما أحيل إليها هذا الطلب من أية محكمة من محاكم الاتحاد أو الأمارات الأعضاء أثناء دعوى منظورة أمامها. والنص في المادة (1،2/58) من القانون ذاته على أن "تحال إلى المحكمة العليا طلبات البحث في الدستورية التي تثار أمام المحاكم في صدد دعوى منظورة أمامها بقـرار مسبب من المحكمة يوقعه رئيس الدائرة المختصة، ويشتمل على النصوص محل البحث، وذلـك إذا كانت الإحالة بناء على قرار من المحكمة من تلقاء نفسها. فإذا كان الطعن في الدستورية مثاراً بدفع من أحد الخصوم في الدعوى، تكون المحكمة قد قبلته، تعين عليها أن تحدد للطـاعن أجـلاً لرفع الطعن أمام المحكمة العليا، فإذا فات هذا الأجل دون أن يقدم الطاعن ما يفيد رفعه الطعـن خلاله اعتبر نازلاً عن دفعه....". تدل (النصوص) جميعها على أن مـن بـيـن طـرق اتـصـال المحكمة العليا بالدعوى الدستورية، الإحالة اليها بناء على دفع مثار من أحد الخصوم في الدعوى الموضوعية تكون قبلته محكمة الموضوع، وأذنت لمثير الدفع رفع الدعوى الدستورية أمـام المحكمة الاتحادية العليا.
واستطردت المحكمة قائلة لما كان ما تقـدم، وكانت عبـارة "أية محكمة من محـاكم...." الواردة في الدستور، وفي قانون المحكمة، وقد جاء لفظهما عاما من دون تخصيص، مطلقا دون تقييد، واضح الدلالة على مراد المشرع منهما. بما مؤداهما انصراف معناهما، على سـبيل الشمول والاستغراق، إلى كل المحاكم الرسمية في النظام القضائي الإمـاراتي، الاتحـادي منـه والمحلى. أي المحاكم التي تنشئها الدولة أو إماراتها، وتنظمها بمـا لهـا مـن سـيادة وسـلطة واختصاص. وأن لفظ "المحكمة" الوارد في سياق المادتين سالفتي البيان، لا تتسع لغيرهـا مـن الجهات التي تفصل في المنازعات، كهيئات التحكيم. وإذ كان الثابـت مـن الأوراق أن الهيئـة التحكيمية الناظرة في الدعوى الموضوعية، هي التي قررت جدية الدفع بعدم الدستورية وقبلتـه وصرحت للمحتكمات بإقامة الدعوى الماثلـة، فإن مؤدى ذلك أن المحكمة الاتحاديـة العليـا اتصلت بالدعوى الدستورية على خلاف الأوضاع المنصوص عليها في المادة (58) من قـانون المحكمة الاتحادية العليا، مما يتعين معه الحكم بعدم قبولها".
ونتيجة لعدم قبول المحكمة الاتحادية العليا لدعوى الدستورية المحالـة مـن المحكـم أو المرفوعة من المحتكم ضده بناء على تصريح هيئة التحكيم، فهنا نكون أمام حلقة مفرغة.
حيث تكمن المشكلة في وقف نظر الدعوى التحكيمية من قبل المحكم دون قدرته على احالتها إلى المحكمة أو التصريح للخصوم برفعها، وإذا لجأ أحد الاطراف إلى المحكمة يدفع المـدعى عليه بعدم قبول الدعوى لوجود شرط التحكيم، وإذا تم اللجوء إلى التحكيم يدفع بعدم الدسـتورية، وبالتالي نقع في حلقة مفرغة دون حل للنزاع.
حلول لمشكلة الدفع بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم:
نحاول في السطور الآتية أن نقدم حلولاً لمعالجة تلك المشكلة التي قد تؤثر فـي فاعليـة التحكيم كوسيلة هامة لفض المنازعات، فيمكن علاج المشكلة بالآتي:
- الاتفاق بشرط التحكيم على قبول الطرفين القانون الواجب التطبيق حتى ولوكانت به شـبهة عدم الدستورية:
من المقرر وفقا للقواعد العامة في العقود أن التحكيم باعتباره عقداً بين طرفيه، يجـوز أن يدرج فيه أي شرط يراه المتعاقدان مناسبا بما لا مخالفة فيه للنظام العام أو الآداب، وحيـث أن الدفع بعدم الدستورية غير متعلق بالنظام العام، وحيث أن التحكيم قضاء اتفاقي يعمل في إطـار روابط القانون الخاص. تلك الروابط التي يمكن لأطرافها الارتضاء والخضوع لأحكام قانون حتى ولو قامت لديهم شبهة عدم دستوريتها، باعتبار أن المصلحة الخاصة للخصوم هي المهيمنة على تلك الروابط، ومن ثم يجوز للاطراف الاتفاق مسبقا بشرط التحكيم على قبولهما القانون الواجـب التطبيق حتى ولو كان بأحد نصوصه شبهة عدم الدستورية، ومن ثم إذا اتفق الاطراف مسبقاً على ذلك لا يجوز لاحدهما الدفع بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم، وإذا أثاره أحد الخصوم رغماً عن الاتفاق المسبق بينهما، يجب على المحكم أن يقضي بعدم قبوله.
- وقف الخصومة التحكيمية ورفع الدعوى أمام المحكمة المختصة مـع إثـارة الـدفـع بعـدم الدستورية والعودة الى التحكيم مرة أخرى مع وجود خصم حسن النية:
الحل الثاني يعتمد على وجود خصم حسن النية، فيمكن للاطراف - عندما يقـرر المحكـم وقف الدعوى لشبهة عدم الدستورية – أن يعودوا الى المحكمة وإثارة الدفع بعدم الدستورية، ولا يدفع بالتحكيم أمامها – وهذا يتطلب خصماً حسن النية- وعندما تعود الـدعوى مـن المحكمـة الاتحادية العليا وتقرر دستورية النص، يطلب الخصوم من المحكمة وقف السير فـي الـدعوى للعودة مرة أخرى الى التحكيم بموجب شرط التحكيم الوارد في العقد بينهما، إذ يستطيع الاطراف إذا تنازلا ضمنياً عن اتفاق التحكيم، باللجوء إلى المحكمة، أن يعودا إليه مرة أخرى بموجب اتفاق جديد إذا كان الاتفاق السابق في صورة مشارطة وانقضت مدتها، أو بموجب الاتفاق الـسابق إذا كان في صورة شرط أو مشارطة ولم تنقض مدتها.
- الاتفاق على قانون موضوعي آخر غير القانون الذي به شبهة عدم الدستورية:
إذا طعن المحتكم ضده بعدم دستورية النص المطبق على النزاع، فيمكن للاطراف اختيـار قانون موضوعي آخر ليس به شبهة عدم الدستورية، وإن كانت هذه الحالة أيضاً مثـل سـابقتها تحتاج الى خصم حسن النية لا يتمسك بالقانون المتفق عليه مسبقا للفصل في النزاع الذي بـه شبهة عدم الدستورية.
ونحب أن نوضح أنه في حالة الدفع بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم، أن المحكم وحده هو الذي يقدر جدية الدفع بعدم الدستورية، فليس معنى أن يتاح للمحتكم ضـده إثـارة الـدفـع بعـدم الدستورية أمام هيئة التحكيم، أن يستجيب المحكم له ويقرر إيقاف الدعوى، فالمحكم وحـده هـو الذي يقرر جدية الدفع بعدم الدستورية، وتطبيقا لذلك قضت محكمة استئناف باريس في حكمهـا الصادر في 24 نوفمبر 2011 "بأن المحكم هو الذي يملك تقدير جدية الدفع بعـدم الدستورية "apprécier le sérieux du moyen d'inconstitutionnalité dont il est saisi"، ومن ثم يكون للمحكم وحده دون المحتكمين تقدير جدية الدفع بعدم الدستورية.
وأخيراً إذا لم يدفع المحتكم ضده بعدم الدستورية أمام هيئة التحكيم، لا يمكن أن يعتـرض على حكم التحكيم الصادر ضده بعد ذلك بدعوى بطلانه لمخالفته نـصوص الدسـتور، وذلـك لسببين: أولهما أن الدفع بعدم الدستورية دفع موضوعي، وإثارته هو حديث في موضوع الدعوى، وقاضي البطلان محظور عليه التطرق إلى موضوع الدعوى محل التحكيم، لأن نطـاق سـلطته قاصر على إجراءات التحكيم دون موضوعه، ومن ناحية أخرى، لا يجوز إثـارة الـدفـع بعـدم الدستورية أمام قاضي البطلان لعدم إثارته أمام هيئة التحكيم، لأن من شروط قبول دعوى بطلان حكم التحكيم، أن يثار سبب البطلان المدعى به أمام هيئة التحكيم، فإذا لم يثر أمامها، عـد ذلـك تنازلاً من الخصم عن سبب البطلان، فلا يستطيع بعد ذلك –إذا خسر دعواه التحكيمية- أن يثيـر هذا السبب أمام قاضي البطلان، تلك القاعدة الهامة التي نصت عليها جميع التشريعات وكرســتها جميع المحاكم، فقاعدة التمسك بسبب البطلان أمام هيئة التحكيم، قائمة على مبـدأ حـسن النيـة bonne foi والأمانة الإجرائية Loyaute de procédurale فالخصم عندما يباشر دفاعه يجب أن يلتزم مبدأ حسن النية، ولا يغير من موقفه ويدعي كذباً بقصد الإضرار بخـصمه، وإلا عـدّ سيء النية، فحرية الدفاع يحدها دائما مبدأ حسن النيـة فـي الإجـراءات d'un principe de bonne foi procedural، وقد أسسها بعض الفقه وأحكام القضاء مرة على أساس فكرة التنازل عن التمسك بالإجراء المخالف renonciation de la partie à se prévaloir du grief ومرة على أساس مبدأ الأمانة وحسن النية الإجرائية، وأخيراً علـى أسـاس قاعـدة منـع التنـاقض Estoppel .