الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • المحكم وهيئة التحكيم / المحكم - هيئة التحكيم / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن / المحكم، تعيينه وحياده واستقلاله

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - ملحق العدد الثامن
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    673

التفاصيل طباعة نسخ

    التحكيم فضاء واسع لمجموع من الحريات، ويعد خير مثال وأحسن صورة لمبـدأ سـلطان الإرادة، الذي يرخي بظلاله على عملية التحكيم بداية ونهاية، وقبل البداية وبعد النهاية.

    وإذا كان المتقاضون لا يختارون قضاتهم ولا يتحكمون في تشكيل المحكمة التي يتقاضـون أمامها، فإن الأطراف في قضاء التحكيم، يختارون قضاتهم ويشكلون محكمتهم، أو علـى الأقـل يساهمون في تشكيلها، وهو ما يعتبر خاصية وميزة لا يحظى بها إلا التحكيم، ولا ينفرد بهـا إلا من فضل اللجوء إليه كطريق مواز للقضاء الرسمي للفصل في المنازعات.

     والمحكم هو ذلك المحرك الذي تدور به عجلة التحكيم، أو ذلك السائق الماهر الذي يحـسن التبصر، ويملك سرعة البديهة، أو الربان الذي يجب أن يكون دائماً يقظـاً متحليـاً بكثيـر مـن السلوكيات والأخلاقيات، التي لا تكون مطلوبة في عموم الناس، فالمحكم عنصر بشري يجب ان يختار بعناية فائقة وأن يتحلى بكثير من القواعد والضوابط، كالحياد والاستقلال والشرف والنزاهة والأمانة والصدق، وصدق من قال "بقدر كمال المحكم تكون سلامة التحكيم".

    ولهذه الاعتبارات وغيرها، فإن قانون اليونسترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الـذي وضع كنموذج يحتذي من المشرعين الوطنيين قد اهتم بموضوع تشكيل هيئة التحكيم في الفصل الثالث، ووضع قواعد تجسد مبدأ سلطان الإرادة إلى أقصى مدى ممكن، إذ يجيز للأطراف تعيين محكميهم وفقاً لمرئياتهم وبقدر كبير من الحرية في التعيين دون وضع حدود أو عوائـق تتعلـق بجنسية المحكمين اللهم إلا في شأن تفضيل ان يكون رئيس هيئة التحكيم من جنسية مختلفة عـن جنسيات الأطراف.   

    وانطلاقاً من كل هذا، والنظرة المستقبلية التي يستشرف منها المهتمون بمرفق التحكيم إلـى المستقبل، ليزدهر التحكيم بعد أن أصبح -بدون جدال- القـضاء الأصـيل للتجـارة الدوليـة، وللمنازعات التي تهم الاستثمار الذي أصبح يغـزو الـدول العربيـة، بحيـث ارتفعـت نـسب الاستثمارات الأجنبية في هذه الدول والدول السائرة في طريق النمو، الشيء الذي دفـع اغلب المشرعين لوضع تشريعات حديثة للتحكيم عموماً ولقوانين الاستثمار خصوصاً.

    ولما كان دور المحكم بالغ الأهمية فإن المشرعين، وان كانوا تركوا لمبـدأ سـلطان الإرادة دور السيادة، فإنهم، من جهة أخرى، واقتناعهم بنجاعة التحكيم ولتخطي، بنجـاح، المنعرجـات التي قد تعترض طريق التحكيم، فإنهم قد وضعوا لقواعد اختيـار المحكمـين وتـشكيل الهيئـة التحكيمية أسواراً صلبة لا يمكن تخطيها أو القفز عليها تحت طائلة بطـلان الحكـم التحكيم وانهيار بنيان التحكيم ودمار عملية التحكيم عن آخرها.

    لذلك من الجـدوى والفائـدة الإشـارة إلى أن قواعد تعيين المحكمـيـن وتـشكيل الهيئة التحكيمية تعتبر من النظام العام، ويدور الحكم التحكيمي معهـا وجـوداً وعـدماً، صـحة وبطلاناً.

    لذلك سنتناول في هذه الورقة هذه الجوانب بشيء مـن الاختـصار دون أن يكـون هـذا الاختصار مخلاً أو شحيحاً، وذلك في فقرتين:

    الفقرة الأولى: تعيين المحكم وتشكيل الهيئة التحكيمية

    الفقرة الثانية: حياد المحكم واستقلاله

الفقرة الأولى: تعيين المحكم وتشكيل الهيئة التحكيمية:

     قبل الحديث عن كيفية تعيين المحكم من الجهة الموكول إليهـا ذلـك، أو تـشكيل الهيئـة التحكيمية، فإنه من المفيد الكلام عن الشروط القانونية والموضوعية (الذاتية) للمحكـم (أولاً) ثـم كيفية تعيينه وكيف تشكل الهيئة التحكيمية (ثانياً).

أولا: الشروط القانونية والموضوعية (الذاتية) للمحكم:

1- نؤكد في البداية ان الشخص الذاتي وحده، دون الشخص الاعتباري، هـو المؤهـل ليقـوم بعملية التحكيم، وهو ما أقرته جل التشريعات الوطنية في نصوصها وموادها ومـدوناتها، وبالنسبة للتشريعات التي لم تنص على هذا الشرط، فإنها تعتبر ذلك مـن قبيـل تحـصيل الحاصل ومن باب السماء فوقنا، وأن الأمر لا يحتاج إلى نص.

ويطرح هذا الشرط تساؤلاً عريضاً حول ما إذا كان الأطراف قد قبلوا اللجوء إلى التحكـيم بالإحالة على التحكيم المؤسساتي، يجري بناء على لوائح إحدى المؤسسات أو المراكـز أو الغرف أو هيئات التحكيم، فهل التحكيم يتم أيضاً بواسطة شخص طبيعي؟

والجواب هو أنه في التحكيم المؤسساتي، فإن المؤسسة أو محكمة التحكيم أو هيئة التحكـيم، تقوم بدورين اثنين احدهما إداري يتعلق بتسيير عملية التحكيم وإدارتها وتنظيمها، وثانيهمـا بعد استجماعها العناصر الأساسية تحيل الأطراف على هيئة التحكيم التي يصدر عنها الحكم التحكيمي” وهو ما أكده المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 326 الذي جاء: "إذا عين في الاتفاق شخص معنوي، فإن هذا الشخص لا يتمتع سـوى بصلاحية تنظيم وضمان حـسن سیره"، بمعنى أن المؤسسة التحكيمية تتولى تنظيمه وضمان حسن سيره طبقاً لنظامها.

ويستوي بعد ذلك أن يكون المحكم محدداً بالإسم في اتفاق التحكيم أو يتفق عليـه الطرفـان مستقبلاً عند قيام النزاع أو تعينه المحكمة عند اختلافهما، ولا يمكن بحال من الأحـوال ان يكون شخصية معنوية، كشركة، أو جمعية، أو هيئة عامة، أو مؤسسة عامة، ودليل ذلك هو ان المحكم لا يكون قاصراً أو محجوراً أو ناقص أهلية، وهي صـفات لا تـرد إلا علـى الشخص الطبيعي، أما إذا عين الشخص المعنوي محكماً، فلا يمكن لهذا الأخير إلا ان ينظم التحكيم من حيث التسيير الإداري والإجرائي كما هو الحال فـي المنظمـات التـى تعنى بالتحكيم.

2- ومن خصوصيـات المحكم ان اختياره أو تعيينه ينبني على الاعتبار الشخصي، تمامـاً كما هو الشـأن بالنسبـة لرجـال المهن الحرة أو المهنيـين الفنيين"، فهـو لـيس كالقاضى الرسمي، إذ لا يجوز للمحكم ان ينيب عنه شخـصاً آخـر لـم يـرتـضيه الاطراف .

3- وبإستقراء النصوص التشريعية، فإن الجنسية في جل التشريعات ليست شرطاً في المحكـم فيمكن تعيين الوطني أو الأجنبي أو منعدم الجنسية محكماً، إلا أن بعض التشريعات تجعـل الجنسية شرطاً في المحكم"، بحيث لا تقبل ان يكون الأجنبي محكماً في بعض النزاعات. ومع ذلك، كما قال الأستاذ عبد الحميد الأحدب، فإن الجنسية على صعيد الواقع العملي تعتبر مقياساً للحياد فكل أنظمة المراكز التحكيمية الدولية تقضي بأن تكون جنسية المحكم الثالـث من غير جنسية الطرفين، الأمر الذي سمي "جنسية حيادية".

4- أما بالنسبة للجنس، فالأمر سيان بين الذكر وبين الأنثى، إذ يجوز للمرأة، كصنوها الرجل، ان تكون محكماً إلا في بعض التشريعات التي تمنع ذلك صراحة.

5- أما عن الأهلية المتطلبة في المحكم، فنكتفي بالقول بأن هناك اتجاهات كثيرة حـول الأهليـة اللازمة، إلا أن الاتجاه الغالب هو أن المحكم يتطلب أهلية خاصة تختلف عن أهلية الوكيل العادي.

6- وعليه، فإن المحكم في التشريع المغربي لا يجوز أن يكون قاصرا" – ولو إذن له وإلا كان القرار الصادر عنه باطلاً بطلاناً مطلقاً يثيره الطرفان، ولو كانا عالمين بقـصـره أثناء اتفاق التحكيم. ولا يجوز ان يكون محجوراً لسفه أو خلل عقلي أو لأي سـبب آخـر، كإرتكابه بعض المسائل المشينة تخل بالشرف أو صفات الاستقامة أو الآداب العامـة، ولا مجنوناً – حتى ولو لم يكن محجوراً عليه وكذا الحال بالنسبة للمحكوم عليه بالتجريد من الحقوق المدنية أو سقوط أهليته التجارية، أو أشهر إفلاسه أو حكم عليه مـن اجـل جريمة.

7- واختلفت التشريعات فيما بينها حول الشخص الذي حكم عليه ثم رد له اعتباره، فالبعض من التشريعات المقارنة تجيز له أن يكون محكماً ما دام قد رد إليه اعتباره بينما البعض الآخر من هذه التشريعات فإنها لا تجيز ان يكون محكماً حتى ولو بعد أن رد إليه الاعتبار.

8- والتشريع المغربي فسح المجال واسعاً أمام الأشخاص المؤهلين لممارسة مهام التحكيم، إذ لم يقيد ذلك بأي شرط، فيجوز في القانون المغربي أن تكون المرأة أو الأجنبي أو المحـامي محكمين، أو حتى أي شخص غير مختص، أو جاهلاً بموضوع النزاع، أو جاهلاً للقانون - حتى ولو كان موضوع النزاع يتطلب معرفة بالقانون أو جاهلاً للغة الخصوم أو علـى غير ديانتهم أو ذا عاهة كأن يكون أصم أو أبكم أو أعمى، أو جاهلا للقـراءة أو الكتابـة (شرط ان لا يكون محكماً منفرداً) لأن القانون لا يشترط إلا توقيع الحكم من طرف المحكم ويمكن تعيين مساعد له في تحرير الحكم. كما يمكن ان يكون المحكم موظفاً لعـدم وجـود التنافي بين الوظيفة العمومية والتحكيم، كرئيس الجامعة أو عميد الكليـة أو رئيس غرفـة التجارة والصناعة أو أية مؤسسة أخرى، وهو ما نص عليه المشرع التونسي صراحة فـي المادة 10 من مجلة التحكيم. -

9- وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن الاتفاق على ان يكون المحكم صاحب وظيفة عامة معينة أو قد يختار أحدهما موظفاً عاماً كمحكم ولو كان قانون الوظيفية التي يشغلها المحكـم المـذكور يوجب عليه الحصول على إذن لمباشرة مهمة التحكيم، والرأي الراجح ان عدم الحصول على هذا الإذن لا ينال من الحكم التحكيمي ولا يكون سبباً للبطلان، إذ ان ذلك لـيـس ســبباً لعدم صلاحية المحكم لمباشرة إجراءات التحكيم، وليس من البيانات الإلزامية التـي يتعـين الإشارة إليها في حكم التحكيم ويبقى الأثر القانوني الذي قد يترتب على عدم حصول المحكم على الإذن مقصوراً على العلاقة بينه وبين هذه الجهة.

والعلة في قبول هؤلاء كمحكمين هو توفرهم على الأهلية الكاملـة، التـي تتطلبهـا مهمـة التحكيم، وعدم وجود نص لحظر ذلك، فالأصل هو الإباحة والحظر هو الاستثناء.

10- وبالنسبة للقضاة في المغرب، فإن الفصل 15 من ظهير 11 نوفمبر 1974 بمثابـة قـانون للنظام الأساسي لرجال القضاء، يمنع على القضاة أن يباشروا خارج مهامهم، ولـو بـصفة عرضية، نشاطاً أياً كان نوعه باجر أو بدونه،، غير أنه يمكن مخالفة هذه القاعدة بقـرارات فردية لوزير العدل لصالح التعليم أو الدراسات القانونية.

والمنع المتقدم يتعلق بالقضاة مهما كانت حالتهم في سلك القضاء، فسواء كانوا مـن قـضـاة الأحكام، أو من قضاة النيابة العامة، أو القضاة الذين يمارسون مهامهم بالإدارة المركزيـة بوزارة العدل، لأن الفصل 15 أعلاه لم يفرق بين هذه الفئات من القضاة.

وفي رأينا ان يترفع القاضي عن قبول مهمة التحكيم في جميع الحالات حتى ولو كـان الأمر يتعلق بنزاع يدور بين أصدقائه وأقربائه، ومهما كانت الأسباب شريفة والـدوافع نبيلة، لأنه من الصعب على القاضي كمحكم ان يرضي الطرفين، فيكون بـذلك محـط شكوك ومجافاة، وهي صفـات لا تتلاءم ورسالة القضاء. أو علـى الأقـل ان يجيـز المشرع للقاضي ان يكون محكماً لكن بقيود كأن يحصل على إذن من المجلس الأعلـى القضاء.

11- كما انه لا يجوز ان يعين كمحكم احد طرفي النزاع، انطلاقاً من القاعدة التي لا تبـيح أن يكون الشخص خصماً وحكماً في آن واحد، ولهذه القاعدة اتصال بالنظام العام، فـإذا كـان للخصم ان يفوض أمره لخصمه فليس له ان يعينه محكماً، إذ في التفويض يتنازل عن حق يملكه الخصم، أما في التحكيم فليس فيه أي تنازل، فهو ليس في ملك الخصم، بل فـي يـد المشرع الذي نص على إجراءاته ووضع قيوداً عليه رعاية لمصلحة الطرفين .

12- كما لا يجوز للدائن، أو للكفيل، أو للضامن، أو للمدين أن يكون محكماً لان في ذلك خلـق للمحاباة وخروج عن قاعدة الحياد مما يؤدي بالتالي إلى نزاع حول عزل الحكم أو تجريحه.

ثانياً : كيفية تعيين المحكم وكيفية تشكيل الهيئة التحكيمية:

1- ان اللبنة الأولى لعملية تعيين المحكم هي ان المشرع في الفصل 317 من قانون المسطرة المدنية يوجب، تحت طائلة البطلان، ان ينص في شرط التحكيم إما على تعيين المحكـم أو المحكمين وإما على طريقة تعيينهم، وان هذا التعيين يستلزم تسمية المحك أو المحكمـين بذكر أسمائهم، إلا أن التعيين يمكن أن يكون كذلك دلالـة، فيـتم التعبيـر ببيـان صـفات المحكمين، أو مراكزهم الاجتماعية، أو بأي مدلول آخر يكـون كافيـاً لإثبـات شـخـصية المحكم، مع الرجوع إلى نية الطرفين لمعرفة الشخص المقصود في شرط التحكيم، هل هو الذي كان يستغل ذلك المركز أو المنصب في الوقت الذي وضع فيه شرط التحكيم، أو هـو من يشغله وقت عرض النزاع على التحكيم؟

إلا ان الراجح أن المحكم الذي يشغل المركز أو المنصب وقت النزاع هو الذي تنصرف إليه إرادة الأطراف، وليس الذي كان قائما وقت إبرام العقد، وبذلك يمكن القول أنه تبـدد ذلـك الاضطراب الذي كان سائدا حول المقصود بالمحكم المعين بالصفة، كما وان زوال الـصفة يؤدي حتما إلى زوال المهمة وتنتقل هذه المهمة إلى الشخص الذي اكتسب من جديـد هـذه الصفة.

2- يجيز المشرع نظام المحكم المنفرد أو عدة محكمين، وإذا تعدد المحكمون وجب أن يكـون عددهم وتراً تحت طائلة بطلان تعيين المحكمين أو تشكيل الهيئة التحكيمية.

وقد انقسم الفقه في التفضيل بين النظامين، فقيل أن نظام المحكم المنفرد أقل نفقـة وأكثر سرعة في البت، وقيل في نظام تعدد المحكمين انه يحقق ضمانات أكثر للنظر في النزاع لما يتوفر عليه من حياد ويبذل عناية بالغة في فحص النزاع.

والملاحظ أن الأطراف غالباً ما يلجأون إلى نظام التعدد إذا كان النزاع على قدر كبير مـن الأهمية أو يتسم بنوع من الخطورة، أو على درجة عليا من التعقيد التقني، أو تعلق النـزاع بالتجارة الخارجية، إذ يحتاج الأمر إلى جهد كبير، والى خبرات متعددة، ووجهـات نظـر مختلفة.

إلا أنه من جهة أخرى فقد انتقد نظام تعدد المحكمين، وفي مقدمة هذه الانتقادات، صعوبة التنئـام المحكمين لحضور انعقاد جلسات التحكيم، إذ كثيرا ما ينتمي المحكمون إلـى أقطـار مختلفـة ومتباعدة فتكون الحاجة إلى ربط اتصالات كثيرة، والملاءمة بين رغباتهم المختلفة، إلا أن هـذا الانتقاد في رأينا قد خفت حدته بفضل وسائل الاتصال عن بعد، كما وان نظام تعدد المحكمـين يكلف نفقات ضخمة بسبب المغالاة في أتعاب المحكمين ومصروفات تنقلاتهم وإقامتهم.

3- وعند تعدد المحكمين فان اغلب التشريعات تستوجب أن يكون عددهم وتراً.

والحكمة من استلزام العدد الوتري هي إمكانية الحصول على الأغلبية القانونيـة إذا انقـسم المحكمون واختلفت آراؤهم.

وفي حالة تعدد المحكمين، فإن المشرع المغربي لم يضع سقفاً أعلى لعددهم، إلا أن القاعـدة عند التعدد، وفي غياب اتفاق الأطراف، هي أن يكون العدد ثلاثة وهي القاعدة السائدة فـي جل التشريعات وفي أنظمة التحكيم المؤسساتي.

4- أما المحكم الثالث، فله دوران – حسب اختلاف التشريعات- فقد يكون دوره دور المرجح، إذ يقوم بالتحكيم المحكمان الأول والثاني ويضع كل واحد منهما نظريته وتحال النظريتان على المحكم الثالث الذي يصدر مقرراً بترجيح هذه النظرية عن الأخرى ويكون مقرره هذا هـو الحكم التحكيمي الواجب النفاذ، بينما الدور الثاني للمحكم الثالث، وهو الذي مالت إليه أغلب التشريعات، ومنها التشريع المغربي، فإنه يرأس الهيئة التحكيمية.

والتمييز بين الدورين أن المحكم المرجح لا يشارك المحكمين الآخرين في المناقشات وفـي المداولات وفي إجراءات عملية التحكيم، بينما المحكم الثالث، بصفته رئيساً لهيئة التحكـيم، فإنه يشارك المحكمين الآخرين في كل عملية التحكيم والمناقشات والمداولات ويكون عضواً في هيئة التحكيم.

5- وهكذا فإن مبدأ سلطان الإرادة هو الذي يهيمن على تعيين المحكمين وتشكيل الهيئة التحكيمية إذ للأطراف حرية تحديد إجراءات تعيين المحكمين وعددهم، وذلك إما في اتفاق التحكيم وإما بالاستناد إلى نظام التحكيم الموضوع للمؤسسة المختارة عن طريق الاتفاق على التحكيم بالإحالة، وهذا يعني ان كيفية تعيين المحكم من الضروري أن تسند إلى نظام موجود وقـائم أثناء الاتفاق على التحكيم وبمفهوم المخالفة فإن إسناد تعيين المحكمـين إلـى نظـام غيـر موجود، يجعل مثل هذا الاتفاق باطلاً، وقد جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بتـونس "ان التنصيص في صلب العقد انه سيقع اللجوء إلى محكمة تحكيمية يتم تسميتها طبق نظام تحكيم غير موجود عند إبرام العقد لا يمكن الأطراف من الضمانات اللازمة التي تتمثل في معرفة القواعد التي سيطبق عليها في خصوص طريقة تسمية المحكمين في حالـة نـشـوب نـزاع بينهما".

6- وأما عن الزمان الذي يمكن فيه اختيار المحكم فإننا نفضل أن يتم ذلك بعد نشوب النـزاع ومعرفة طبيعته وتعقيداته وتقنياته حتى يمكن اختيار الرجل المناسب في المكان المناسـب كما وانه قد تحدت مفاجآت قد تعيق احد المحكمين أو أكثر من القيام بالمهمة كـالمرض، أو الوفاة، أو عذر قاهر، مما يتعين معه الاتفاق على محكم بديل أو محكم احتياطي.

7- وطرق تعيين المحكمين هي عديدة ومختلفة باختلاف التشريعات، إلا أنه غالباً ما يتم الاتفـاق عن طريق التفاوض بين الطرفين أو محاميهما أو عن طريق تبــادل القـوائم وان كـان الطريق الأخير بطيئاً فإن له عدة مزايا.

وفي التشريع المغربي فإن الأصل هو تعيين المحكمين بإتفاق الأطراف وإلا عين كل طرف من جانبه محكماً، وفي هذه الحالة فإن العدد يكون مزدوجاً مما وجب معه تكميـل تـشكيل الهيئة التحكيمية بمحكم ثالث يتم اختياره إما طبقاً لما اتفق عليه الأطراف وإما مـن لـدن المحكمين المعينين في حالة عدم حصول هذا الاتفاق، وإما من لدن رئيس المحكمة المختصة إذا لم يحصل اتفاق بين المحكمين الاثنين.

إلا أن طريقة تعيين المحكمين بإتفاق الأطراف غالباً ما تعترضها صـعوبات، ولا يتحقـق الوصول إلى اتفاق موحد مما يجعل القضاء هو الملاذ للطرف الذي عين محكمه إذ بإمكانه ان يطلب من رئيس المحكمة المختصة تعيين محكم ثالث بناء على أمر غير قابل للطعن.

والهدف من هذا الإجراء هو الحد من بعض الصعوبات الغير مرغوب فيها التي تنتج عـن امتناع أحد الطرفين من اختيار المحكم الخاص به، أو عدم تلبيـة دعـوة الخـصم الآخـر للإشتراك في اختيار المحكم الثالث، وبفضل هذا المقتضى يوضع حـد لمعـضلة استحالة انطلاق إجراءات التحكيم.

ونجد ان بعض التشريعات الأخرى لا تعطي الصلاحية للمحكمة لحل هذه المسألة، بل جعلت ذلك في يد الخصم، إذ ان القانون الانجليزي مثلاً، يجيز للخصم الراغب في بدء إجـراءات التحكيم ان يعلن الطرف الآخر ليخرج من سلبيته ويقوم بما يفرضه عليه الواجب، فإذا يعلن عن رغبته في السير في الإجراءات، وانقضى الميعاد المعين له جاز لخصمه أن يعين محكما بدلا عنه، أو الاكتفاء بالمحكم الذي اختاره هو.

وهذا الاتجاه لا يخلو من فعالية وفائدة، ولكن تبقى مشروعيته محل تردد خصوصاً إذا لم يقع التنصيص على ذلك في التشريعات الوطنية، كما هو الحال في أغلب التشريعات، ومنهـا التشريع المغربي، لان جواز ذلك فيه خرق لمبدأ المساواة بين الأطراف.

8- كما تجيز بعض التشريعات تعيين محكم احتياطي - كالتشريع البرازيلي والنرويجي- ليحـل محل المحكم الأصلي الذي يعوقه عائق للقيام بمهمة التحكيم، وفائدة هذا المحكم انه لا تتوقف إجراءات التحكيم بسبب وفاة المحكم، أو استحالة قيامه بالتحكيم مادياً أو قانونياً. –

9- كما أن بعض التشريعات قد تتطلب إلى جانب هيئة التحكيم قيـام هيئـة إداريـة تنحـصر صلاحيتها في المسائل الإدارية للإجراءات كتلقي طلبات التحكيم وتسجيلها وتبليغها للخصوم أو للمحكمين.

10- ونستخلص مما سبق أن تشكيل هيئة التحكيم يقوم على مبدأ سلطان الإرادة للخصوم، وعلى مبدأ المساواة بين طرفي النزاع في اختيار المحكمين، إذ لا يجوز أن يستبد أحـد الطـرفين باختيار جميع المحكمين أو حتى باختيار الأغلبية.

وقد أكدت محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 13 ابريل 1972 ان تعيين كل محكم ليس عملاً انفرادياً، ولو تم ذلك بناء على مبادرة طرف واحد، وفي عقد واحد، بل العكس فـإن هـذا التعيين الذي هو عنصر أساسي في الاتفاق يتم عن إرادة مشتركة للطرفين.

والقضاء الفرنسي لم يعد متردداً في ذلك خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بموضوع التحكـيم التجاري الدولي، على أساس أنه ليس في ذلك ما يمس النظام العام. ولكن بشرط أن يكون جائزا في منظور القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم، وأن يثبت أن المدعى قـد قام بكل ما يتطلبه هذا القانون من إجراءات لإعلان الخصم ليقوم بما عليـه أن يقـوم بـه بخصوص تعيين محكمه الخاص أو بالمشاركة في تعيين المحكم الثالث.

11- ويجدر التنويه أن المحكم لا يؤدي القسم أمام أي جهة ليقوم بمهمته، على خلاف القاضي أو المحامي أو الخبير أو أصحاب المهن القانونية المنظمة عموماً، وان كان يرى البعض ضرورة أداء هذا القسم لكونه يشكل هالة تضفي ثقة إضافية بالمحكم، وان اعتماده يشجع على التوجه نحو التحكيم الداخلي بخطى أسرع مما عليه الحال الآن لاسيما بالنسبة للمهن قطاعات مهنية لا يفرض على المنتسبين إليها حلف أي يمين عنـد مباشـرة العمـل فيها  .

12- كما وان اختيار المحكم نيابة عن أحد الأطراف يحتاج إلى وكالة خاصة حتى ولـو تعلـق الأمر بالمحامي، إذ على هذا الأخير موافقة موكله لاختيار أحد الأشخاص محكماً، وأن هذه الوكالة لا يمكن التوسع فيها، إذ لا تمتد إلى الإجراءات المسطرية الأخرى، فتبقى محصورة فيما أعدت له.

13- ويلاحظ أن المشرع المغربي قد وضع إجراءات مفصلة لتعيين المحكمين وتشكيل الهيئـة التحكيمية، وهو ما لم يكن مفصلاً في القانون الملغىي، والهدف من هذه التفاصيل والجزئيات عدم تعطيل عملية التحكيم، بحيث أن هذه المقتضيات تضمن انطلاق التحكيم وبدء سـريان إجراءاته في وقت يتلاءم وسرعة التحكيم وخصوصياته.

وهكذا فإذا كانت الهيئة التحكيمية تتكون من محكم واحد يتولى رئيس المحكمة المختـصة تعيين المحكم بناء على طلب احد الطرفين، ويكون طبعاً هو صاحب المبادرة للجوء إلـى التحكيم، ونرى أنه ليس من مانع ان يقدم مثل هذا الطلب من الطرفين معا وبمقتضى مقـال موحد إذا ارتضيا ذلك.

أما في حالة تعدد المحكمين، وكان العدد ثلاثة، يعين كل طرف محكماً من جهتـه ويجتمـع المحكمان الاثنان المعينان من الطرفين للاتفاق على محكم ثالث، وعند الإخفاق، عينه رئيس المحكمة المختصة خلال 15 يوماً التالية لتاريخ تعيين آخر المحكمين بناء على طلب من أي أحد من الطرفين.  

وتقتضي الإجراءات المسطرية لتقديم الطلب إلى الرئيس أن يحـرر المحكمـان محـضراً مشتركا بينهما على عدم حصول الاتفاق على تعيين المحكم الثالث ويكون هـذا المحـضر ضمن مرفقات الطلب المرفوع إلى الرئيس.

هذا فإنه بعد تقديم هذا الطلب، فإن البت من طرف رئيس المحكمة المختصة يكون بمسطرة تواجهية، بحيث يستدعي الرئيس الأطراف ويدرس الطلب، مع مراعاتـه، وجوبـاً، فـي المحكم المعين الشروط التي يتطلبها القانون (5) وتلك التي اتفق عليها الطرفان ويـصدر قراره بالتعيين.

14- ولا يكون قرار الرئيس بتعيين المحكم قابلاً للطعن بأي طريـق مـن طـرق الطعـن والاجتهاد الحديث في فرنسا ولبنان استقر على تكريس مبدأ قبول الطعن في القرارات رغم وجود نص يمنع ذلك في الحالات التي لا تحترم فيها قواعد جوهرية أساسية وهو ما يطلـق عليه "استئناف للإبطال".

ونرى أنه عند رفض طلب التعيين، أن يكون هذا القرار قابلاً للطعن بالاستئناف، لكـون المشرع قد تحدث عن القرار الايجابي القاضي بالتعيين دون الحديث عن القـرار الـسلبي برفض الطلب.

وأسباب جواز الطعن بالاستئناف في القرار القاضي برفض طلب التعيين يجد سنده القانوني في القواعد العامة ، إذ ان كل الأحكام القضائية والأوامر والقرارات الصادرة عن القـضاء تبقى قابلة للطعن إلا ما استثناه المشرع بنص صريح ،وقد أحسنت بعض التشريعات صـنعاً حينما نصت على أن مثل هذه القرارات ليست قطعية، وأنها تقبل الطعن .

إلا انـه تجـدر الملاحظـة ان القرار القاضي بتعيين المحكم وان كان لا يقبل أي طعـن، فإنه يمكن أن يكون سبباً لبطـلان الحكم التحكيمي إذا جاء مخالفـاً للـشروط القانونيـة أو الاتفاقية في المحكم المعين كنقصان في الأهلية أو اعترى شخص المحكم المعين مانع مـن الموانع.

كما ان الطعن ليس مقصوراً على حالة رفض طلب التعيين، بل يمتد أيضاً إلى الحالة التـي يخالف فيها رئيس المحكمة طريقة تعيين المحكمين أو عددهم أو صفاتهم حسب ما تم الاتفاق عليه مع الأطراف فمثل هذه القرارات هي أيضا قابلة للطعن

ويجدر التنويه انه ليكون قرار تعيين المحكم الصادر عن الرئيس في منأى عـن الطعـن، يتعين أن تكون محكمة الرئيس ذات الاختصاص للنظر في الدعوى وإلا كان هـذا القـرار قابلاً للطعن بالاستئناف لخرق قاعدة الاختصاص .

15- ولا تفوتنا الفرصة، ونحن نتحدث عن تعيين المحكم من القضاء الرسمي، أن نشير إلـى أن ، المشرع المغربي أتى بمقتضى نعتبره نشازاً في مجال التحكيم، إذ أوجب على الأشخاص الطبيعيين الذين يقومون اعتيادياً أو في إطار المهنة بمهام المحكم إما بصورة منفردة أو في حظيرة شخص معنوي يعتبر التحكيم احد أغراضه الاجتماعية ان يستصدروا ترخيصاً من الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بتقييد أسمائهم في قائمة المحكمــن لـدى هـذه المحكمة.

وهكذا لقي هذا المقتضى انتقاداً شديداً، وكنا ضمن المنتقدين، لان مجـال التحكـيم مجـال للحريات وهو بطبيعته يأبي مثل هذه القيود.

وإدراكاً من الوزارة الوصية (وزارة العدل) للآثار السلبية لهذا المقتضى عمدت إلى إصدار دورية لتأويل وتفسير هذا الفصل بطريقة تتلاءم وطبيعة التحكيم.

16- إلا أن الجدير بالملاحظة أن إجراءات التعيين لا تتوقف عن هذا الحد بتعيين المحكم الثالث اتفاقاً أو قضاء، بل قيد المشرع ذلك بقبول المهمة من هذا المحكم الثالـث قبـولاً صـريحاً وبمقتضى وثيقة مكتوبة" يصرح فيها بقبوله للمهمة، ويعلن من خلالها، عن أي ظـرف أو ظروف من شأنها إثارة شكوك حول حياده واستقلاله أو قيام أي سبب من أسباب تجريحه فإذا علم بوجود احد أسباب التجريح في نفسه وجب عليه أن يشعر الأطراف بذلك، وفي هذه ، الحالة لا يجوز له قبول المهمة إلا بعد موافقة الأطراف، مما يعني أن الأطراف قد تنـازلوا عن التمسك بدعوى التجريح.

ونرى بأن يأتي هذا القبول على أي شكل من أشكال الكتابة في عقد عرفـي أو رسـمي أو مراسلات أو برقيات أو تيلكس أو فاكس غير منازع فيه، أو عن طريق البريد الالكتروني أو أي وسيلة أخرى من وسائل الاتصال أو أي إجراء آخر يقوم بـه المحكـم ولا يكتنفـه غموض أو لبس بأنه قبل المهمة، كتوجيه استدعاء مكتوب إلى الأطـراف وحـضور أول جلسة للتحكيم وتحرير محضر لهذه الجلسة، فكل هذه الوسائل يمكن أن تنزل منزلة قبـول المهمة بالكتابة، وحسنا فعلت بعض التشريعات حينما تعاملت مع هذا القبـول بـشـيء مـن التوسع، كما فعل المشرع التونسي في الفصل 11 من مجلة التحكيم حينما أضاف عبارة "أو بقيامه بعمل يدل على شروعه في المهمة".

17- وقبول المهمة من طرف المحكم على هذا النحو هو التزام من المحكم بالإفصاح، وهو مـا يعني أن المحكم يتخذ مبادرة بإحاطة الأطراف علماً بعلاقته السابقة والحاليـة بموضـوع النزاع وأطرافه وممثليهم وذويهم وهو التزام لصيق بجوهر مهمة المحكم وتفرضه الطبيعـة الخاصة للتحكيم .

الفقرة الثانية: حياد المحكم واستقلاله:

    يعتبر حياد المحكم واستقلاله من المبادئ الراسخة في علم التحكيم، وهما مبدءان يتقاسمهما القاضي والمحكم، مع بعض الفوارق، ويرتكزان على قواعد دينيـة وأخلاقيـة قوامهمـا بعـث الاطمئنان في نفوس الخصوم إلى من يفصل فيما شجر بينهم من نزاع بحكم قابل للنفـاذ، وهمـا مجموعة من القواعد والسلوكيات والأخلاقيات، تكمن أهميتهما في أنهما أسـاس وعمـاد الحكـم التحكيمي وحجر زاويته وركنه الركين، وعند غيابهما تغيب العدالة وتتسرب إلى الحكم التحكيمي نقط ليست بالمضيئة، إلا إذا كانت هناك أسباب اقتضاها التوازن بين المصالح، إذ يمكن الخروج عن هذين المبدأين بشروط، وهو ما جعل قانون اليونسترال النموذجي يهتم بهما ويجعلهما سـبا من أسباب تجريح المحكم .

    وان كان هذان المبدءان يختلطان في بعض الأذهان، فإنهما مختلفان، فالحيـاد لـيـس هـو الاستقلال والعكس أيضاً صحيح، فهما أمران متباينان ولكنهما أيضاً متقاربان تجمع بينهما أواصر قوية ووشائج صداقة، إذ يصعب فك الارتباط بينهما، خاصة فيما يتعلق بالآثار القانونيـة التـ تترتب عن عدم تحققهما، فانتفاؤهما في المحكم يجعل مصداقية عملية التحكيم موضع شك، ويضع الحكم التحكيمي في مهب الريح، ويفقد المحكم النزاهة التي هي حق من حقوق الإنسان، هذا الحق المقرر لمصلحة الأطراف لا لفائدة المحكم.

    وسنتناول في هذه الفقرة:

    أولاً: ملامح حياد واستقلال المحكم

    ثانياً : بعض الصور والتطبيقات للحياد والاستقلال

أولاً: بعض الملامح لحياد واستقلال المحكم:

1- الحياد مسألة شخصية داخلية يسكن دواخل المحكم، وهو حالة نفسية وذهنية ومجموعة مـن المشاعر والعواطف تجاه هذا الطرف دون الطرف الآخر، يؤثر على سير عملية التحكيم وعلى نتيجة الحكم، وهو يعني عدم التحيز لأي من الخصوم، أو الميل إلى نظرة هـذا دون ذاك، أو التعاطف معه، ويستقى هذا الشرط من المبادئ القانونية العامة، ومن المثل العليـا، وأساسه المنطق، يلتزم به المحكم بدون إلزام ويتحلى به دون إجبار.

2- أما استقلال المحكم فهو مسألة موضوعية محسوسة وملموسة فهو عنصر خارجي.

ويقوم هذا الشرط الأخير قرينة قوية على توفر الشرط الذاتي غير المحسوس، وهو شـرط الحياد، وكأمثلة على شرط الاستقلال، قيام روابط الأسرة، أو علاقة التبعيـة، أو اشـتراك المصالح، أو اقتسام المنافع، إلى غيرها من الأمور التي تؤثر على حياد المحكم.

3- والحياد المشروط في المحكم ليس هو نفسه بالتمام والكمال الحياد المشروط فـي القاض فغالباً ما يكون أساس التحكيم إسناد فض النزاع برغبة الطرفين إلى شخص أمين، حـريص على الحفاظ على العلاقة بين الطرفين، كما يفعل رب الأسرة، أو صديق مخلص، أو محـام لأحد الطرفين، يحظى بالإحترام لدى الطرف الآخر.

4- وهذه الروابط أو العلائق بين المحكم وبين أحد الأطراف قد لا تؤثر على تعيين المحكم طالما أنها لم تكن مجهولة لدى الطرف الآخر، بخلاف العلاقة التي تربط بين القاضي وبين احـد الأطراف التي تؤدي إلى عدم صلاحية القاضي للبت، فمبـدأ الاستقلال، إذن، دعامـة ورافعة قوية تؤديان عند تحقق هذا المبدأ إلى الحياد المنشود الذي به تكون سلامة التحكيم.

5- واستقلال المحكم ليس لازماً دائماً في كل أعضاء هيئة التحكيم، فإذا كانت الهيئة مكونة مـن ثلاثة محكمين، الأول والثاني مختاران من الأطراف، والثالث مختـار بإتفـاق المحكمـين المختارين أو من لدن الجهة القضائية المختصة، فمن الطبيعي أن المحكمين المختارين مـن الأطراف قد لا يكونان محايدين لأنه في غالب الأحوال يكونان مرتبطين بـالأطراف، ممـا يجعل الانحياز مفترضاً فيهما، بينما المحكم الثالث فلزوما يجب ان يكـون محايـداً حيـاداً مطلقاً، ويقال الشيء نفسه بالنسبة للمحكم الوحيد أو المرجح الذي يجب ان يتحقق فيه الحياد الكامل.

6- وإذا كانت هذه هي النظرة الغالبة في شرط حياد القاضي والمحكم، فإن الحياد بالنسبة للمحكم التزام ملح، لأن طريقة تعيينه تختلف عن طريقة تسمية القضاة، كما وأن الحكم التحكيمي لا يطعن فيه بطرق الطعن إلا بصفة استثنائية، بينما الأحكام القضائية قابلة للطعـن، كقاعـدة عامة، إلا ما استثناه المشرع، مما يتطلب أن يستقر الحياد في وجدان المحكمـين، وبـصفة خاصة، المحكم المنفرد والمحكم الثالث أو المرجح، حسب اختلاف التشريعات.

7- وتختلف النظرة إلى حياد المحكم بحسب الاختلاف الذي عرفته الطبيعة القانونية للتحكيم مـن تعاقدية إلى قضائية، إذ الطبيعة التعاقدية تجعل المحكم المختار من احد الأطراف غير محايد عن الطرف الذي اختاره، بينما إذا كانت طبيعة التحكيم قضائية، فإن المحكم كالقاضي يجب ان يكون محايداً حتى بالنسبة للطرف الذي اختاره .

8- وإذا كان شرط الاستقلال مظهراً من المظاهر الخارجية يسهل إثباته بجميع وسائل الإثبـات القانونية، فإن شرط الحياد الذي هو حالة ذهنية أو عاطفية، فمن الصعب إثباته، لأن الحيـاد ليس مظهراً خارجياً، فهو أمر نفسي ذاتي داخلي، لذلك فإنه يصعب كشفه ولا يثبت إلا فـي حالات استثنائية صارخة.

9- إلا أن القضاء الانجليزي أمام صعوبة إثبات الانحياز فضل ان يأخذ بالمعيار الموضـوعي، وهو الانحياز الحكمي الذي ليس من الضروري إثباته بالوسائل المألوفة في القانون، بـل يكفي أن يستخلص من ظروف وملابسات القضية طبقاً لتقدير الرجل المتبصر، كأن يحمـل الحكم التحكيمي بعض المؤشرات التي من شأنها ان تخلق احتمالاً قوياً بأن المحكم قد خرج عن الحياد، وضرب في الصميم مبدأ المساواة، بغض النظر عن النتيجة التي انتهـى إليهـا الحكم التحكيمي.

وبعض القضاء، كالايرلندي اخذ بمعيار أكثر قساوة، فيكفي، في نظـره، أن يكـون الحكـم التحكيمي غير عادل ولا أهمية للنتيجة التي خلص إليها الحكم التحكيمي فقد تكـون سـليمة ولكن الحكم التحكيمي لم يكن عادلاً.

10- ويجدر التنويه بإهتمام المشرعين والقانون النموذجي اليونسترال وأنظمة التحكيم المؤسساتي بشرط الحياد، إما تصريحاً، وإما تلميحاً بوضع بعض المؤشرات كمؤشر الجنسية إذ وحدة الجنسية بين الأطراف والمحكمين قد تقوم قرينة على الانحياز، إلا أنه حسب رأينـا، فهـى قرينة بسيطة وضعيفة لأنه ليس بالضرورة أن يكون المحكم الذي يحمل جنسية تختلف عـن جنسية الطرف الذي عينه محايداً والعكس أيضاً صحيح، فقد يكون المحكم وأحد الأطـراف لهما جنسية واحدة ويكون المحكم محايداً.

11- إلا أنه في مجال التحكيم التجاري الدولي ، فإن قواعد التحكيم تميل إلى أنه من الأفضل أن يكون المحكمون من جنسية ليست هي جنسية الأطراف بقدر الإمكان، وإذا لـم يكـن مـن الممكن بالنسبة لكل المحكمين، فمن المستحسن أن يكون المحكم الثالث من جنسية ليست هي جنسية الطرفين لأن في ذلك تبديد للشك ودرء للشبهة ولأن من شـأن اخـتلاف جنـسية المحكم وجنسيات الأطراف تجسيد للطبيعة الذاتية في شرط استقلال المحكم تفادياً للانحيـاز القومي .

ورغم كون الجنسية ليست عنصراً حاسماً في الحياد فإنها تثير عدة نقاشات علـى صـعيد التجارة الخارجية، وقطاع الاستثمارات الأجنبية، فمثلا بالنسبة للشركات، فلا يلتفـت إلـى جنسية الشركة كشخصية اعتبارية، بل يمتد ذلك إلى المصالح التي تكمـن وراء تأسيسها، وأيضا إلى جنسيات أصحابها وممثليها القانونيين.

وتطرح الجنسية بحدة أكثر في الأنظمة الاقتصادية والإقليمية المرتبطة اقتـصادياً كالـسـوق الأوروبية المشتركة وغيرها من التجمعات والتكتلات الاقتصادية، حيـث يهــمن الـولاء الاقتصادي للتجمع وليس للدولة المنضوية تحت هذا التجمع، ففي هذه الحالة يصبح شـرط الجنسية موضع شك كبير مما أحدث اضطراباً في آراء الفقهاء بين مؤيد للتضييق من هـذا الشرط ومؤيد للتوسع فيه.

إلا أن الرأي الذي يساير التطور الاقتصادي العالمي وطبيعة التحكيم يميل إلـى ان يكـون المحكم الرئيس أو المحكم المنفرد أو المحكم المرجح من جنسية دولة ليست منخرطـة فـي التجمع الاقتصادي الكبير.

والرأي المقابل يرى عدم الاكتراث بالجنسية كمعيار لضعف هذا الشرط والاهتمـام بالمواصفات والاعتبارات الشخصية للمحكم كشهرته بإتساع أفق علمه، وغـزارة مداركـه العلمية، وقوة قدراته الفكرية، والأمانة، والنزاهة والشرف، وهذا الاتجاه يحظى الآن بإهتمام كبير رغم التنصيص في كثير من المدونات وقواعد السلوك، وأنظمة التحكيم علـى شـرط الجنسية.

والبعض من الفقه يرى انه من المفيد أن يكون المحكم حاملاً لجنسية احد الأطراف الـذي يكون قانون بلد هذا الأخير هو القانون الواجب التطبيق، لكونه من المفترض فيه أن يكـون ملما بقانون بلده، مما ييسر عملية التحكيم، وحسن تطبيق القانون.

12- ولضمان فعالية الحياد اهتم المشرعون وقواعد اليونسترال وأغلب أنظمة الغرف والهيئـات والمؤسسـات التحكيميـة بمبـدأ "الالتزام بالإفصاح  وهـو ان يقبـل المحكـم مهمـة التحكيم ويعلن عن كل الظروف والملابسات التي من شأنها ان تكون محط شكوك حـول حياده واستقلاله، أو أنه لا تتوافر منه المواصفات التي اتفق عليها الأطراف، أو ليست لديه المؤهلات للبت في القضية، كجهله للغة التحكيم، أو عدم تمكنه من تقنيات النزاع، أو عـدم معرفته للقانون الواجب التطبيق، والالتزام بالإفصاح، خصوصاً فيمـا يتعلـق بالحيــاد والاستقلال، هو التزام قانوني وأدبي في نفس الوقت.

13- وتتسع دائرة "الإفصاح" ليشمل علاقات التحكيم السابقة والآنية بالأطراف وبممثليهم، كمـا يمتد الإفصاح إلى علاقة المحكم بمحامي الأطراف ومـساعديهم ومستشاريهم وأقـاربهم ومعاونيهم، كيفما كانت هذه الصلات عائلية أو مهنية أو مالية.

وينصرف الإفصاح إلى كل المحكمين سواء المعينين من الأطراف حسب الاتفاق أو بتعيين من احد الأطراف بإرادة منفردة أو من القضاء، متعددين كانوا أم محكماً وحيداً، وهذا يعني ان اختيار المحكم من أحد الأطراف لا يغني هذا المحكم من التعبير عـن إفصاحه حتـى بالنسبة للشخص الذي اختاره.

14- ويلاحظ ان الصيغة التي استعملها المشرع المغربي بخصوص هذا المبدأ صيغة عامة، مما يجعلها تستغرق كل ما من شأنه أن يثير الشكوك، مما يعني أن المحكم ليست له الـصلاحية لإعمال سلطته التقديرية في اختيار بعض الوقائع، دون البعض الآخر، للإفصاح عنهـا، أو أن يدعي ان هذه الوقائع تعتبر ذات أهمية في التأثير على الحياد دون غيرها مـن الوقـائع الأخرى.

15- أما عن الفترة الزمنية التي يتعين الإعلان فيها عن الإفصاح، فتبتدئ بمجرد الترشيح إلـى مهمة التحكيم، أو عند قبول المهمة، أو في كل مرحلة من مراحل عملية التحكيم، والى حين صدور الحكم التحكيمي، إذ قد تحدث وقائع جديدة لم تكن قائمة إلى أن حدثت أثنـاء سـير عملية التحكيم.

16- ان الصيغة التي استعملها المشرع المغربي وأيضاً قانون اليونسترال حين تم التعرض إلـى الالتزام بالإفصاح، هي صيغة الوجوب، مما يعني ان هذا الالتزام يدخل في إطار القواعـد الآمرة، ولا يمكن مخالفته، مما ينتج عنه أن هذا المبدأ ليس ملكاً للمحكم، بل هو ملك لكل الأطراف ولعملية التحكيم ولحسن سيرها مما يقتضي معه القول أن سكوت الأطراف علـى المطالبة بالإفصاح لا يشكل تنازلاً عن هذا المبدأ، ويرى بعض الفقه أن المشرعين لـم يتعرضوا إلى هذه المسألة بشيء من التفصيل حتى يرتفع الغموض الذي يكتنف النصوص.

17- أما الجزاء عن الإخلال بالالتزام بالإفصاح، فإنه يمكن أن يؤدي إلى تجريح المحكم طبقـاً لمقتضيات الفصل 323 من ق م م إذا ظهرت للأطراف وقائع أو أسباب أو علامات ، تثير شكوكاً حول حياد المحكم واستقلاله وتم السكوت عنها من جانب المحكم، كما وأنه يمكن أن يكون الجزاء على الإخلال بالإفصاح هو بطلان الحكم التحكيمي إذا استمر الـسكوت عـن الظروف والوقائع الموجبة للإفصاح إلى ما بعد صـدور الحكـم التحكيم تم اكتشافها.

والى جانب هذين الجزاءين، فإنه يمكن أن يكون المحكم محط مساءلة في إطـار القواعـد العامة للمسؤولية حينما يكون الإخلال بالالتزام بالإفصاح سبباً لبطلان الحكم التحكيمـي، لأن البطلان في هذه الحالة يكون مؤسساً على إخفاء وقائع مؤثرة من طرف المحكـم وأدى البطلان إلى إلحاق ضرر بأحد الأطراف مما وجب معه جبر هذا الضرر  .

18- والحديث عن حياد المحكم واستقلاله يجرنا إلى الكلام عن سلوك المحكم قبل التعيين وبعده، لأن أهم مصدر لقواعد هذا السلوك هو حياد المحكم واستقلاله ومـن بـيـن صـور هـذا السلوك، النزاهة، والالتزام بكتمان الأسرار وغيرهما من الأدبيات والأخلاقيات التي ما فتئت مراكز ومؤسسات التحكيم تضعها وتصوغها على شكل مواثيق يلتزم بها المحكمون، ومـن ضمن هذه المواثيق نذكر - على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر- "ميثاق السلوك في التحكيم التجاري الذي يتضمن قواعد إرشادية للمحكمين ولرؤساء الهيئات التحكيمية في إدارة عملية التحكيم .

كما وأن نقابة المحامين الدوليين قد وضعت من جانبها "قواعد سلوك المحكمين الدوليين" تتميز هذه القواعد بأنها وضعت ثلاث قوائم”، حمراء وبرتقالية وخـضراء: الأولـى (الحمـراء)، تتضمن عقبات في وجه مواصلة التحكيم حتى ولو تم الإفصاح عنها كمن سبق له ان أعطـى رأيه في النزاع المعروض عليه، والثانية (البرتقالية) تندرج ضمنها الحالات والظروف الأقل خطورة من تلك الواردة في القائمة الأولى، بحيث يجب على المحكم الإفصاح عنها، إلا أنـه بعد الإفصاح وعدم الاعتراض عليها من الأطراف أو أحدهم لا يشكل ذلك عائقاً أساسياً لعملية التحكيم، أما القائمة الأخيرة (الخضراء) فيدل عليها رمز اللون الأخضر، بحيث تحتوي علـى مسائل لا تستوجب الإفصاح عنها، وان تم ذلك فلا يعدو أن يكون إلا من قبيل الاحتياط، كان يكون المحكم يمارس مهنة المحاماة في مكتب سبق له ان رفع دعوى ضد احد أطراف التحكيم في مسألة ليست لها أي علاقة بالنزاع المعروض على التحكيم.

وعلى مستوى المراكز العربية للتحكيم، فإن مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي قد وضع ميثاقا لسلوك المحكمين باللغتين العربية والانجليزية تحت عنوان "سلوكيات المحكم" Code Of Ethics

 ويلاحظ ان قواعد السلوك لمركز القاهرة الإقليمي تقترب كثيراً من قواعد السلوك المتحدث عنها في الفقرة أعلاه المشار إليها في الفقرة رقم 18 أعلاه.

ثانياً: بعض الصور وبعض التطبيقات لحياد المحكم واستقلاله:

    رأينا في الفقرة السابقة أن مسألة الحياد والاستقلالية مفهومان غامضان وهما في نفس الوقت متباعدان ومتقاربان، إلا أن إعطاء بعض الأمثلة ورصد بعض الحالات التـي عرضـت علـى القضاء يمكن ان تقدم لنا إسعافاً لبلورة حياد المحكم واستقلاله.

1- فتعيين المحكم من أحد الأطراف وهو ما يطلق عليه "المحكم المحامي" لا يخلو من الانحياز لهذا الطرف إذ في كثير من الحالات يتحول هذا المحكم إلى محامي هـذا الطـرف يتبنـى أطروحته ووجهة نظره ويدافع عن مصالحه أمام المحكم الثالث، فلا ضير، إذن، من وجود علاقة بين الطرف وهذا المحكم.

والسائد في الحياة العملية وفي تطبيقات قضاء التحكيم ان لا ضير إذا دافع هذا المحكم عـن مصالح الطرف الذي عينه أمام المحكم الثالث، أو المرجح خصوصاً في المراحـل الأولـى لعملية التحكيم وفي المناقشات التمهيدية للتعرف على تفاصيل النزاع.

إلا أن النزاهة الفكرية التي يجب أن تتوفر في المحكم فإن الدفاع عن مصلحة الطرف الذي عينه يجب ان لا يكون صارخاً أو فاضحاً لا يستسيغه المنطق، أو ليس لـه نـصيب مـن الحقيقة لتبقى لهذا المحكم مصداقيته، وبالتبعية مصداقية مناقشات ومداولات هيئة التحكيم.

وليس عيباً ان يميل المحكم إلى جانب الطرف الذي عينه وبذلك تتعدد وجهات النظر أمـام رئيس هيئة التحكيم أو المحكم المرجح تؤدي إلى تكوين القناعة الوجدانية للمحكم الرئيس في الاتجاه الذي يدير فيه عملية التحكيم بطريقة ناجعة وسليمة، مما يؤدي فـي الأ. الأخيـر إلـى إصدار حكم عادل منصف للأطراف.

إلا ان جمهور الفقه وخصوصاً في الدول العربية يرفض هذا السلوك ويمجه لكونـه يـخـل بتوقعات الأطراف عن حياد المحكم ويحدث اهتزازا في ثقة الأطراف تجاه هيئـة التحكـيم ويفقد الإجراءات التحكيمية التوازن الذي يجب ان يكون حاضراً في سائر عمليـة التحكيم وبين مصالح الأطراف.

ونرى من جهتنا انه يجب التعامل بمرونة كبيرة مع هذه الحالة، لأن المحكم المعين مـن احـد الطرفين يشعر أمام هيئة التحكيم أنه يمثل الطرف الذي عينه وانه غـين لاعتبـارات خاصـة يعلمها هذا الطرف، مما يبدو معه انه من الصعب جدا أن يكون هذا المحكم محايداً غير منحاز.

ومن التشريعات الأجنبية التي لم تشترط في "المحكم المحامي" الحياد المطلق قانون التحكيم بولاية نيويورك الذي واجه هذه الصعوبة بحيث لم يعتبر الحياد سبباً لبطلان الحكم التحكيمي إلا إذا تعلق الأمر بالمحكم الثالث.

إلا أن هذا الاتجاه الذي أقره قانون التحكيم لولاية نيويورك، ومن سار على نهجه، مقيد بأن لا يعصف "المحكم المحامي" بعملية التحكيم ويفرغها من مضمونها ويضع عراقيـل أمـام الهيئة التحكيمية، كتخلفه عن حضور الجلسات أو المشاركة في المناقشات أو رفضه توقيـع الحكم التحكيمي أو كل ما من شأنه أن يعبث بمهمة التحكيم التي تعد أمانة في أعناق أعضاء هيئة التحكيم، الشيء نفسه بالنسبة للمحكم المختار فقواعد السلوك وقواعد الأخلاق وضوابط النزاهة كلها أمور تفرض على المحكم المختار ان لا يتخذ موقفا" مفضوحا" يـدل علـى الاستهتار بالمهمة المنوطة به.

2- وإذا كان من القواعد العامة ان القاضي محايد عن الأطـراف لا يـصنع لهـم الحجـة ولا يشاركهم في تهييء وسائل الدفاع، إلا انه في بعض الحالات يخرج عن هذا الحياد في تسيير الإجراءات ويقدم توجيها لأحد الأطراف لإصلاح المسطرة، مراعاة لما يفرضـه احـتـرام حقوق الدفاع، كما وان القاضي لا يحكم بعلمه والشيء نفسه بالنسبة للمحكـم مـع بعـض الفوارق، فالقاضي لا يحكم بعلمه، إلا أن هذا المحكم قد يكون ذا خبرة في النزاع المعروض على التحكيم، ويكون ذلك سبباً لوقوع الاختيار عليه، فمن الطبيعي أن يستعمل خبرته الفنية ويعتمدها في تأسيس نظريته، لكن دون أن يتجاوز ذلك بالبحث لفائدة الطرف الـذي عينـه على معلومات بطرق خفية، وفي غفلة من الطرف الآخر ودون علمه، كالبحث في مسائل لم تثر أمام هيئة التحكيم، كما وانه لا غضاضة من أن يستعمل المحكم معلوماته المكتسبة من خبرته في مجال من المجالات، كما هو الشأن بالنسبة للمحكم المشهور بأحكامه في نزاعات الاستثمارات أو النزاعات البحرية التي لها عادات وأعراف يكون هذا المحكم ملماً ومحيطاً بها.

3- ولا يعتبر المحكم منحازاً إذا تبنى موقفاً كان قد اتخذه في نزاع سابق أو رأياً قانونياً سابقاً ثم اعتمد ذلك في النزاع المعروض عليه فلا ينال ذلك من حياده، وهو مـا تبنتـه المحكمـة الفيدرالية السويسرية التي قالت في حكم لها: "ان الرأي الذي بين يدي محكم محتمل حـول مسألة قانونية أو تعبير عن هذا الرأي في منشور لا يشكل بحد ذاته عدم حياديـة ظـاهرة، بمعنى ان هذا الأخير لا يحكم مسبقاً على نزاع حاصل، وأن الرأي المهم وحده غير القابـل للرجوع أو للعودة عنه يشكل حالة. ويبرر بالتالي درء المحكم المحتمل حتى لو كان الغيـر الفاصل في النزاع قد حصل في وقت لم يكن فيه المحكم عالماً أو بإمكانه أن يعلم انه سوف تتم تسميته محكماً في الإجراء التحكيمي ".

4- ومن الصور الشائعة على عدم الانحياز أن المحكم المرشح لرئاسة هيئة التحكيم من الطبيعي ان تكون له مراسلات أو اتصالات عبر مختلف الوسائل مع الأطراف أو محاميهم أو مـع المحكمين الآخرين الذين قد يشاركهم في تشكيل الهيئة، إذ لا يعد ذلك انحيازاً أو افتئاتاً على شرط الحياد، شريطة ان لا يبدي رأيه المسبق في النزاع المعروض على التحكيم، والعلة في ذلك ان الرابطة التي تربط كل الشركاء في عملية التحكيم مع المحكم المرشح هي رابطة ثقة تقتضيها سلوكيات التحكيم، مما وجب معه على المحكم الذي قام بهذه الاتصالات أو بـأمور أخرى أن يخبر بها من يعنيه الأمر خصوصاً إذا كانت مؤثرة على نتيجة التحكيم .

5- ويتمثل الخروج عن الحياد في الحالة التي يقوم فيها المحكم بإبلاغ الطرف الـذي عينـه باتجاه المحكمين أثناء النقاش في فض النزاع وكان الطرف الذي عينه خاسراً في مشروع الحكم، فأسرع هذا الأخير ليبرم صلحاً مع الطرف الآخر، ويجعله يدفع نـصف المبـالغ موضوع النزاع، في حين ان الهيئة كانت سترد الطلب ويعفى هذا الطرف من دفـع أي مبلغ .

6- ويعتبر أيضاً تشغيل المحكم لدى أحد أطراف التحكيم مباشرة بعد صدور الحكـم التحكيم مساساً بالحياد أو بالاستقلالية، مما يشكل سبباً من أسباب بطلان الحكم التحكيمي وهـو مـ أقرته محكمة النقض الفرنسية .

7- والبحث عن صور الحياد من عدمه، فإن محكمة النقض الفرنسية قد اعتبرت عـدم إبـلاغ المحكم الطرف الآخر بالرابط المهني الوثيق بين ابنة أحد المحكمين ومستشار الطرف فـي الدعوى مخالفاً لمبدأ حياد المحكم واستقلاله، مما يجعل الحكم التحكيمي باطلاً.

8- وعندنا في المغرب اقر المجلس الأعلى ان المحكم المرجح الذي يرجح رأي أو نظرية احـد المحكمين، ويعلل ذلك بما ورد في مذكرات المحكم الذي تم ترجيح رأيه، فإن ذلك لا يخرجه عن قاعدة الحياد ما دام المطلوب منه هو ترجيح احد الآراء المعروضة عليه .

أما بعض القضاء التونسي، فقد أقر أن المحكم الذي يحدد نسبة الربح بثلاثين بالمائة من قيمة الأشغال دون اعتماد أي قرينة ودون تعليل قد تجاوز سـلطته ويكـون بـذلك قـد خـرق مبدأ الحياد.

9- كما وان نفس القضاء قد اعتبر ان اختيار مكتب المحكم المجرح فيه مقراً لهيئة التحكـيم لا يفقد المحكم استقلاليته وحياده خاصة ان اختيار مثل هذا المقر صادق ووافق عليـه طـالـب التجريح.

الخلاصة التي نرى أن نختم بها هذه الورقة هي عبارة عن بعض المقترحات:

* بخصوص تعيين وتسمية المحكمين يقتضي الأمر إدخال تعديل أساسي في نظام سلطة التعيين، وخاصة تلك التي تعين المحكم الثالث أو المرجح أو المنفرد، بحيث يعهد ذلك إلى جهة ملمـة بالقانون الواجب التطبيق على النزاع لتسمى المحكم الذي يسير الإجراءات والذي غالبـاً مـا يهيئ مشروع الحكم التحكيمي الذي يعرض على الأعضاء للمداولة بشأنه.

* وأن تنص التشريعات على إمكانية الطعن في القرار القضائي القاضي برفض طلب التسمية، وكذا في القرار القاضي بتعيين المحكم إذا تم خرق أسس وقواعد التعيين سواء تعلقت بالشروط الذاتية للمحكم أو بعدد المحكمين أو مسطرة وإجراءات التعيين.

* أن تجعل التشريعات وكل الأنظمة الالتزام بالإفصاح أمراً ضرورياً وإلزامياً، بحيث يفصح المحكم كتابة عن حياده واستقلاله عن الأطراف، ويعلن عما إذا كانت هناك شكوك تحوم حول حياده لأن في ذلك ضمانة كبرى لنجاح عملية التحكيم وصدور حكم تحكيمي يكون في منـأى من كل بطلان، وأن هذا الإفصاح هو الوسيلة الكبرى للرقابة الذاتية، أو كما قال الأستاذ عبـد الحميد الأحدب بأن هذا التصريح يجعل حياد المحكم واستقلاله موضوعياً وليس ذاتياً مـرتبط بقبول الأطراف وتسامحهم ويدعم الطبيعة القضائية للتحكيم والثقة فيه .

* عدم الإكتراث بالجنسية كمؤشر كبير عن الإنحياز، اللهم ما تعلق بالمحكم الثالث أو المرجح أو المنفرد، فيستحسن أن يكون من جنسية مختلفة عن جنسيات الأطراف، مع مراعاة معرفة هذا المحكم للقانون الواجب التطبيق، وأن يكون من رجال القانون حتى ولو تعلق الأمر بمسألة فنية لأنه غالباً ما سيحرر الحكم التحكيمي الذي يتطلب معرفة تقنيات تحرير الأحكـام وصـناعة الصياغة.

* الاهتمام أكثر عند تعيين المحكم المنفرد أو الثالث أو المرجح بمواصفاته الخلقية مـن أمانـة وصدق وشفافية ومسكه بناصية القانون ومعرفته بالقواعد المتأصلة في التحكيم خصوصاً فـي التحكيم الدولي.

* وضع مواثيق سلوك وأخلاقيات المحكم من المنظمات المعنية وإشاعة ثقافة هذه الأخلاقيات بين أوساط المحكمين ليلتزموا بها بإلزام من الضمير وإجبار من ثوابت الدين ومقومـات الـسلوك القويم .