المحكم: استقلاله وحياده - البروفسور فايز الحاج شاهين
إن الطريقة التي سأعتمدتها في هذا البحث هي أسلوب إعطاء سلسلة إيضاحات من شأنها أن تلقي الضوء على موضوع البحث من جوانبه المتعددة.
إن النزاهة الفكرية تقضي بأن أذكر أنني استوحيت هذه الطريقة من العلامة فرنسيكاكيس Francescaskis الذي نشر عام 1966 مقالة شهيرة في مادة القانون الدولي الخـاص بعنـوان "ايضاحات حول القواعد ذات التطبيق المباشر" " Précisions sur les règles d'application . "immédiate
الايضاح الأول له طابع لغوي:
1- إن موضوع البحث يحمل عنوان "المحكم: استقلاله وحياده".
إن كلمة محكم تعني الشخص الثالث بالنسبة للفرقاء المتنازعين المكلف بمهمة الفصل فـي النزاع القائم بينهم. إن هذه المهمة هي المعيار الاساسي الذي يعطي الشخص الثالث دور المحكم وتميزه عن سائر الأدوار، ولا سيما دور الوكيل أو دور الوسيط.
إن المحكم هو قاض خاص Juge privé يستمد سلطته من اتفاق الفريقين المتنازعين ضمن سقف القانون وضمن حدود المهمة المعينة له من قبلهما.
إن دوره كقاض يشرح الأحكام التي تقربه من القاضي الرسمي، وكون سلطته مستمدة مـن اتفاق الفريقين، وليس مباشرة من القانون، يشرح الأحكام التي تميزه عن هذا الأخير.
إن عبارة "استقلال أو حياد المحكم" تعني حصانة هذا الأخير الذاتية ضد تأثير أي علاقة أو مصلحة أو صلة من شأنها أن تؤثر سلباً في القرار التحكيمي من حيث مطابقته للعدالة والحق.
2- إن "الاستقلال والحياد" ليسا مطلوبين بحد ذاتهما، بل هما مطلوبان كضمانة للتوصـل الـى الحل العادل والمحق. إن ما هو مطلوب ليس الاستقلال من أجل الاستقلال ولا الحياد مـن أجل الحياد، بل التوصل الى إحقاق الحق بالعدل.
3- في كثير من الأحيـان تـستعمل كلمـة "استقلال" وكلمـة "حيـاد" كأنهمـا مترادفتـان . Synonymes
على الرغم من وحدة الهدف الذي يسعى إليه كل من مفهومي الاستقلال والحيـاد، وعلـى الرغم من وحدة النظام القانوني الذي يخضعان له، فإنهما يبقيان مختلفين من حيث دقـة المعنـى .Nuance
في مفهوم الاستقلال، يتغلب الطابع الموضوعي على الطابع الذاتي، أما في مفهوم الحيـاد فالعكس صحيح، إذ يتغلب الطابع الذاتي على الطابع الموضوعي.
إن شرط الاستقلالية لا يكون متوافراً، مثلاً، في الحالة التي يكون فيها المحكم مرتبطاً بعقـد أحد المحتكمين. في هذه الحالة يكون عقد العمل ظرفـاً موضـوعياً يتناقض وصـفة عمل مع الاستقلالية.
إن شرط الحيادية لا يكون متوافراً، مثلاً، إذا كان المحكم تربطه علاقة مودة بأحد المحتكمين إذا سبق له وأصدر في قضية تحكيمية سابقة قراراً من شأنه أن يؤثر سلباً في القرار المزمـع إصداره في القضية موضوع النزاع. في المثل الأول تكون المودة حالة نفسية، وفي المثل الثاني يكون القرار المسبق حالة ذهنية لا تأتلفان صفة الحيادية،
إن هذا الاختلاف، من حيث دقة المعنى، Nuance، ينعكس على اثبات الاستقلالية والحيادية وعلى طريقة التحقق من توافرهما.
إن إثبات عدم الاستقلالية أسهل من إثبات عدم الحيادية لأن الأول يظهر من خلال مؤشرات موضوعية (مثل عقد العمل). أما تقدير الحيادية أو عدمها فهي عملية أدق مـن عمليـة تقـدير الاستقلالية أو عدمها نظراً للمعطيات النفسية والذهنية التي لا تظهر لأول وهلة، بل تأتي نتيجـة للامعان والتمحيص.
الايضاح الثاني: يتعلق بأهمية واجب المحكم التقيد بالاستقلال أو الحياد:
4- إن ضرورة أن يتمتع المحكم بالاستقلال أو بالحياد موجودة في وجدان الشعوب منذ القـدم. كرستها الشرائع السماوية، كما كرستها شريعة حمورابي وشرائع أثينا وروما، وهي مكرسة في كل القوانين الوضعية الغربية والعربية وفي المواثيق والمعاهدات الدولية.
إن الاستقلال أو الحياد هما صفة ملازمة لكل شخص تناط به مهمة الفصل في النزاعـات القائمة بين الناس سواء أكان قاضياً رسمياً أم محكماً.
إن هذه الصفة هي صلب هذه المهمة وجوهرها. بحيث يصح القول إن القاضي أو المحكـم إما أن يكون مستقلاً وحيادياً أو لا يكون.
إن المتقاضي أو المحتكم الذي يخسر قضيته قد يغفر للقاضي أو للمحكـم إذا أخطـأ تفسير النصوص أو في تطبيقها، لكنه لا يغفر له إذا كان منحـازا، لأن فـي الانحيـاز ظلمـاً. إن القرار المخالف للقانون يرفضه المنطق، أما القرار المبني على المحاباة فترفـضـه الـضمائر الحية.
إن مخالفة مبدأ الاستقلال والحياد ذات وقع أكبر في مادة التحكيم، لأن المتقاضي الذي اختار طريق التحكيم بدلا من اللجوء الى القضاء، إنما يكون قد وضع ثقتـه فـي المحكـم، والقـرار التحكيمي المشوب بعيب عدم الاستقلال أو عدم الحياد يكون أشد إيلاماً، ويكون مصدر ندم، وقد يكون سببا يشجع على الرجوع الى القضاء الرسمي.
الايضاح الثالث: يتعلق بمصدر واجب التقيد بالاستقلالية والحياد:
5- قد يبدو بديهيا القول إن مصدر هذا الواجب في القانون اللبناني هو نص المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية التي تنص على ما يأتي:
"إذا قام في شخص المحكم سبب للرد فعليه إعلام الخصوم به، وفي هذه الحالة لا يجوز له قبول المهمة الا بموافقة هؤلاء الخصوم".
إن هذا النص يضع علـى عـاتق المحكـم موجـب أو التـزام هـو موجـب الإعـلام Obligation de révelation، إن عبارة "عليه إعلام الخصوم" واضحة وتعني أن الإعلام ملزم للمحكم، وليس متروكاً لخياره.
6- إن هذا الموجب، الذي سنعود اليه في ما بعد، هو تطبيق للقاعدة الكلية التي تقضي بـالتزام الاستقلالية والحياد، لكنه لا يعبر عن البعد الحقيقي لهذين المفهومين. بعبارة أخرى، لا يمكن اختزال هذه القاعدة الكلية بموجب الإعلام. إنها أوسع وأعلى.
سبق وذكرنا أن الاستقلالية والحياد ليسا مطلوبين بحد ذاتهما، بل هما مفروضان كـضمانة للوصول الى المحاكمة العادلة proces équitable.
يعود لكل متقاض الحق في المطالبة بمحاكمة عادلة proces équitable وهذا الحـق هـو حـق أساسـي droit fondamental منصوص عليه في المادة 10 من الاعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 1948/12/10، وفي المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الاول 1966.
نصت المادة 10 المذكورة أعلاه على ما يأتي:
"لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمـام محكمـة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه اليه".
كما نصت المادة 14 المذكورة على ما يأتي:
"الكل أمام القضاء سواء. ويكون لكل إنسان حق في أن تنظر قضيته محكمة مختصة مستقلة نزيهة".
يستفاد مما تقدم أن المطالبة بمحاكمة نزيهة وعادلة هي حق من حقوق الإنسان.
7- إن المصدر الدولي أو الأممي للمادتين 10 و 14 المذكورتين يجعل منهما نصين متقـدمين في مجال التطبيق على المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية عملا بأحكام المادة 2 مـن قـانـون أصول المحاكمات المدنية التي تكرس مبدأ تسلسل القواعد.
على هذه الارجحية في مجال التطبيق تترتب ثلاث نتائج عملية هي الآتية:
1- إن التعداد الوارد في المادة 120 أ.م.م. المتعلق برد القاضي، والذي يطبـق علـى ردّ المحكم يجب أن لا يكون تعداداً حصرياً، بحيث يجوز التوسع في الحالات المذكورة في هذا النص شرط أن تكون الحالة المشكو منها تثير الارتياب المشروع أو المعقول فـى استقلال القاضي أو حياده، كما هو مطبق في إطار المحاكمة العادلة، بمعنى المواد 10 و14 المشار اليهما أعلاه.
2- إن هذا الواجب مفروض في التحكيم الداخلي وفي التحكيم الدولي.
3- إن هذا الواجب متعلق بالنظام العام.
4- إن هذا الواجب يطبق في مادة التحكيم الدولي بموجب قاعدة مادية Règle matérielle ذات تطبيق مباشر Règle d'application immédiate دون المرور بقاعدة النزاع.
الإيضاح الرابع: يتعلق بعلاقة موجب الإعلام المنصوص عليه فـي المـادة 769 فقرة 2 أصول مدنية بالقاعدة الكلية التي تفرض على المحكـم التقيـد بواجـب الاستقلال أو الحياد:
8- نصت المادة 769 فقرة 2 على ما يأتي:
"إذا قام في شخص المحكم سبب للرد فعليه إعلام الخصوم به، وفي هذه الحالة لا يجوز لـه قبول المهمة الا بموافقة هؤلاء الخصوم"
إن موجب الإعلام المشار اليه أعلاه هو موجب متفرع من القاعدة الكلية التي تفرض علـى المحكم التقيد بواجب الاستقلال والحياد، وهو من هذه الزاوية يشبه موجب الإعلام في مادة العقود بشكل عام. إن موجب الإعلام في هذه الحالة الأخيرة متفرع من القاعدة الكلية التي تنص علـى وجوب التقيد بحسن النية في تنفيذ العقود (المادة 221 فقرة 2 م.ع.).
كما أن موجب الإعلام في مادة العقود لا يختزل مبدأ حسن النية، كذلك إن موجب الإعـلام في مادة التحكيم مبدأ التقيد بمقتضيات الاستقلال أو الحياد.
إن موجب الإعلام في مادة التحكيم يستدعى إبداء الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: متعلقة بطبيعة موجب الإعلام المنصوص عليه في المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية:
9- إن هذا الواجب ينتمي، من الناحية التقنية، الى فئة الموجبات أو الالتزامات، كما يقال في القـوانين العربية، لأنه مطابق للتعريف Définition الذي يعطيه قانون الموجبات والعقود للموجب.
نصت المادة الأولى من هذا القانون على ما يأتي:
الموجب هو رابطة قانونية تجعل لشخص أو لعدة أشخاص حقيقيين أو معنـويين صـفة المديون تجاه شخص أو عدة أشخاص يوصفون بالدائنين.
إن أركان الموجب أو الالتزام متوافرة، وهي الآتية: -
- أن هناك شخصاً دائناً اسمه المحتكم، وهذا هو الركن الأول،
- أن هناك شخصاً مديوناً اسمه المحكم، وهذا هو الركن الثاني،
- أن لهـذه الرابطـة القانونيـة موضـوعاً أو محـلاً، وهـو الـركن الثالـث objet de la prestation، وهذا الموضوع أو المحل هو إعلام المحتكم بكل واقعة مـن شأنها أن تثير لدى المحتكم شكوكاً مشروعة باستقلال المحكـم أو بحيـاده أي مخـاوف معقولة بصدور قرار تحكيمي لا يراعي الحق والعدالة.
أن موضوع هذا الموجب هو إتمام فعل obligation de faire بمعنى المادة 50 موجبـات وعقود وهذا الفعل هو اعلام المحتكم Revelation.
أن هذا الموجب هو موجب مدني obligation civile وليس موجباً طبيعياً obligation naturelle على الرغم من جذوره المناقبية والأخلاقية، وذلك لأنه ينطبق عليه تعريف المـادة 2 موجبات وعقود التي تنص على ما يأتي:
المادة 2: "الموجب المدني هو الذي يستطيع الدائن أن يوجب تنفيذه على المديون.
والموجب الطبيعي هو واجب قانوني لا يمكن طلب تنفيذه. على أن تنفيذه الاختياري يكـون له من الشأن والمفاعيل ما يكون لتنفيذ الموجب المدني".
بما أنه يحق للمحتكم أن يفرض على المحكم بأن يتقيد بهذا الموجب، فإنه موجب مـدني. إن تنفيذ هذا الموجب ليس متروكاً لمشيئة المحكم الاستنسابية، كما هو الحال بالنسبة للموجب الطبيعي، لأن القانون يلحظ جزاءات مترتبة على عدم تنفيذه Sanctions التي سنصل اليها في ما بعد.
10- أن هذا الموجب (أو الالتزام) هو موجب نتيجة obligation de résultat وليس موجـب وسيلة obligation de moyen بمعنى أن المحكم يكون مسؤولاً بمجرد أن يتخلف عـن تنفيذه. أي بمجرد التخلف عن الإعلام. ولا مجال للزعم بأن المحكم ملزم فقـط بالـسـعي لإعلام المحتكم أو بأنه ملزم أن يقوم بكل ما في وسعه لإعلام هذا الأخير.
الملاحظة الثانية: متعلقة بمضمون موجب الإعلام:
11- ما هي الوقائع التي يجب الإعلام بها؟
الجواب هو الآتي: هذه الوقائع هي تلك التي من شأنها أن تثيـر الـشكوك المشروعة أو المعقولة لدى المحتكم. ولكن هل يطبق هذا التعريف على كل الوقائع أم أنه ينبغي التفريق، لهـذه الجهة، بين الوقائع التي يعتبرها المحكم هامة، وتلك التي يعتبرها ثانوية؟
اختلفت قرارات المحاكم وآراء العلماء في هذه المسألة،
اعتبر البعض أنه ينبغي حصر موجب الإعلام بالوقائع الهامـة دون الوقائع الثانويـة لأن اخضـاع هذه الأخيرة لموجب الإعلام من شأنه أن يعيق مسيرة التحكيم، لأنه قـد يعطـي فرصة للمحتكم السيء النية بأن يتستر وراء هذه الوقائع الثانويـة لـرفض متابعـة المحاكمـة التحكيمية.
أما البعض الآخر فقد اعتبر أنه ينبغي الإعلام بكل الوقائع مهما كانـت أهميتهـا ودرجـة مساهمتها في إثارة الشك المشروع أو المعقول المشار إليه أعلاه، وذلك للأسباب الآتية:
- لأن الإعلام "بكل شيء" متوافق مع مبدأ الشفافية الذي يجب أن يكون مطلقاً obligation لعديد tat .de tout révéler
- لأن الإعلام الشامل أفضل بالنسبة للقاضي المدعو لتقدير مضمون موجب الإعلام، بحيث يوفر عليه الدخول في متاهات التفريق بين ما يعتقد المحكم أنه مهم وبين ما يعتقـد أنـه ثانوي.
- لأنه أفضل أيضاً بالنسبة للمحكم الذي يتحرر، في هذه الحالة، من موجب الإعلام بصورة كاملة دون بقاء بؤر تسكن فيها بعض الوقائع المخفية. إنها أفضل أيـضاً بالنسبة لهـذا الأخير، لأنها تعطي الدليل الكافي على شفافيته، وعلى مناقبيته، ولأنهـا تـساعد علـى التداول بصيته الحسن، وعلى اعطائه المزيد من الفرص كي يصار الى تعيينه في قضايا أخرى.
إننا نفصل وجهة النظر الثانية التي تقول بوجوب الإعلام عن كـل شـيء دون حـصر أو تقييد .
الملاحظة الثالثة متعلقة بمدة موجب الإعلام:
12- إن هذا الموجب هو موجب مستمر obligation continue وهو يـدوم طالمـا تـستمر المحاكمة التحكيمية أمام المحكم، وحتى صدور القرار التحكيمي أي حتى خروج القـضية عن يده.
في هذه الحالة الاخيرة تراعي أحكام المادة 792 فقرة 2 أصول مدنية.
نصت المادة 792 على ما يأتي:
"بصدور القرار التحكيمي تخرج القضية عن يد المحكم.
ومع ذلك تبقى للمحكم صلاحية تفسير القرار وتصحيح ما يقع فيه مـن سـهو أو أغـلاط وإكماله في حال إغفاله الفصل في أحد الطلبات".
إذا افترضنا أنه بعد صدور القرار التحكيمي طرأ ظرف يشكل سبباً للرد بمعنى المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية، وإذا افترضنا أن أحد الخصوم طلب بعد صدور القرار التحيكمي تفسيره أو تصحيحه أو إكماله، فهل يبقى موجب الإعلام قائماً؟
الجواب هو حتماً بالإيجاب، وعلى المحكم في هذه الحالة أن يعلم الخصوم به، ولا يجوز له القيام بما هو مطلوب منه إلا بموافقة هؤلاء الخصوم.
والسؤال المطروح هو الآتي: من يقوم بتفسير القرار التحكيمي أو اكماله في حـال رفـض الخصوم أن يتابع المحكم مهمته؟
يمكن إعطاء هذا الدور "المحكمة التي يعود لها الاختصاص لولا وجود التحكيم، وذلك قياساً على الحالة الملحوظة في المادة 792 فقرة 3 أصول مدنية التي تنص على أنه بعد انقضاء مهلة التحكيم يتم النظر في طلب تفسير أو الإكمال من قبل المحكمة التي يعود لها الاختصاص لـولا وجود التحكيم.
الملاحظة الرابعة متعلقة باثبات موجب الإعلام:
13- إن هذا الاثبات خاضع في القانون اللبناني لأحكام المادة 362 موجبات وعقود التي تـنص على ما يأتي:
من يدعي أنه دائن تلزمه إقامة البينة على وجود حقه. وبعد إقامة البينة، يجب علـى مـن يدعي سقوط الموجب أن يثبت صحة قوله.
إن هذا النص يميز بين اثبات وجود الموجب وبين اثبات سقوط الموجب أي تنفيذه.
إن عبء اثبات وجود موجب الإعلام يقع على عاتق المحتكم.
على هذا الأخير أن يثبت الأمور الآتية:
1- وجود اتفاقية التحكيم. وهذا الاثبات يتم وفقا للقواعد المعمول بها لإثبات البند التحكيمي أو العقد التحكيمي.
2- عند الاقتضاء اثبات وجود قرار رئيس الغرفة الابتدائية الذي عين المحكم عملاً بأحكام المادة 764 أصول مدنية، وهذا الاثبات يتم بابراز صورة عن هذا القرار.
3- قبول المحكم مهمته وهذا الاثبات يتم إما بواسطة الكتاب الخطي، وإما بمحضر قبـول المهمة وإما بتوقيع عقد المهمة Acte de mission، وإما بتوقيع العمل القانوني الـذي تعتمده مراكز التحكيم من أجل التحقق من قبول المحكم للمهمة.
4- السبب الذي يبرر طلب الرد. وهذا الاثبات يتم بجميع وسائل الاثبات، لأن الواقعة التي من شأنها أن تثير الشكوك المشروعة أو المعقولة لدى المحتكم تشكل عملاً مادياً بمعنى المادة 257 فقرة 2 أصول مدنية.
على المحتكم أن يعطي الدليل على عدم الاستقلالية، مثل وجود عقد العمل القائم بين المحكم وأحد الخصوم، أو على عدم الحياد مثل وجود الحكم المسبق الذي أصدره المحكم فـي قضية سابقة؟.
أما عبء إثبات قيام المحكم بتنفيذ هذ الموجب فيقع على عاتق هذا الأخير الـذي عليـه أن يثبت أنه أعلم المحتكم بوجود سبب للرد بمعنى المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية. وهذا الاثبـات يتم عادة بموجب كتاب يرسله المحكم الى الخصوم أو بموجب محضر قبول المهمـة، أ أمـا فـي التحكيم المؤسساتي فإن هذا الاثبات يتم بواسطة النموذج الخطي الذي يوقعه المحكم ويودعه فـي قلم المؤسسة التحكيمية.
الايضاح الخامس: متعلق بالحالات التي يكون فيها المحكم غير متمتع بالاستقلالية المطلوبة:
14- إن مسألة استقلال المحكم أو حياده لا تطرح إذا كان المحكم غريباً عن الفرقـاء أو عـن موضوع النزاع. إنها لا تطرح في الحالة التي لا يكون فيها في موقع الغربة المشار إليها. إنها تطرح في الحالة التي يكون فيها المحكم قريباً من المحتكمين أو من وكلائهم أو مـن باقي المحكمين أو من موضوع النزاع من خلال علاقة أو مصلحة أو صلة مادية أو عائلية أو فكرية.
15- قضت المحاكم بأن الاستقلالية تكون غير متوافرة في الحالات الآتية:
إذا كان يوجد بين المحكم وأحد الأطراف علاقة تبعية مثل عقـد العمـل أو علاقـة تعاقديـة أخرى، كأن يكون المحكم مستشاراً مالياً لأحد الفرقاء أو محاسباً في شركته أو وكيلاً له أو إذا كان المحكم ومحامي أحد الأطراف شريكين في مكتب واحد أو إذا كانت توجد مـصلحة ماليـة بـين المحكم وأحد الأطراف أو إذا كان المحكم ومحامي أحد الأطراف قد اشتركا في المدافعة والمرافعة في دعاوى كانت باستلامهما أو إذا اشتركا في اعطاء الاستشارات القانونية في قضايا معينة أو إذا كانت توجد علاقة قرابة أو مصاهرة من شأنها أن تثير الشكوك المشروعة في ذهن المحتكم.
16- قضت المحاكم بأن الحياد لا يكون متوافراً في الحالات الآتية:
الحالة الأولى:
إذا كانت توجد مودة بين المحكم أو بين أحد الأطراف أو وكيلـه. أثيـرت أمـام المـحـاكم الفرنسية مسألة ما إذا كانت واقعة قيام المحكم بمخاطبة وكيل أحد الأطراف خارج مكان وزمـان المحاكمة بدون تكليف Il l'a tutoyé. تشكل مخالفة لقاعدة الاستقلال أو الحيـاد، كمـا أثيـرت مسألة ما إذا كان تناول العشاء مع محامي أحد الأطراف في الفندق الذي كانت تعقد فيه جلـسات التحكيم. يشكل مثل هذه المخالفة.
الحالة الثانية:
إذا كانت توجد عداوة بين المحكم وأحد الأطراف. أثيرت أمام المحاكم الفرنسية ما إذا كانت واقعة وجود عداوة بسبب إنهاء علاقة عاطفية قديمة استمرت سنوات بين المحكم وبين سيدة كانت مديرة للشركة المحتكمة، وذلك عندما كان هذا المحكم مستشاراً لهذه الشركة.
الحالة الثالثة:
إذا سبق للمحكم أن أصدر في قضية تحكيمية سابقة قراراً مخالفاً للأسباب والمطالب التـ يدلي بها أحد المحتكمين في القضية التحكيمية موضوع النزاع. كأن يحكم في القضية الاولى بأن أحد المحتكمين مسؤول في مسألة معينة بينما يدلي هذا المحتكم في القضية موضوع النزاع بأنـه ليس مسؤولاً في هذه المسألة.
الايضاح السادس: متعلق بطريقة تقدير الوقائع التي من شأنها أن تثيـر الـشك المشروع أو المعقول في استقلال أو حياد المحكم:
17- يجب التفريق هنا بين سلطة التقدير العائدة الى محكمة الأساس وبين الرقابة التي تجريهـا محكمة التمييز على سلطة التقدير هذه.
إن محكمة الأساس التي يعود لها تقدير هذه الوقائع، ولا سيما المحكمة الناظرة في طلب رد المحكم أو محكمة الاستئناف الناظرة في بطلان القرار التحكيمـي أو محكمـة الدرجـة الأولى الناظرة في دعوى المسؤولية المقامة ضد المحكم، تتمتع بسلطان تقـدير واسـع ولكن ليس بسلطان تقدير مطلق، وهناك توافق على أن تتقيد محكمة الأساس بشرطين همـا الأتيان:
الشرط الأول: أن تكون الوقائع التي يكون قد تم اخفاؤها ذات تأثير بحيث يكون من شـأنها أن تثير الشكوك المشروعة أو المعقولة لدى المحتكم.
أن هذا الشرط يشبه ما هو معمول به في مادة عيوب الرضى. ومن المعروف أن ليس كـل عيب يشوب الرضى يؤدي الى بطلان العقد، بل فقط العيب الذي يؤثر في الرضى أي الذي لولاه لما وافق المتعاقد الذي يدعي وجود العيب من التعاقد.
الشرط الثاني: ألا تكون هذه الوقائع مشهودة أو شائعة أو معروفة لدى الجميـع Notoire فإذا كان الأمر كذلك فلا يعود المحكم ملزماً بالإعلام، والبعض يعتبر هنا أن المحتكم كـان مـن يفترض فيه، في هذه الحالة، أن يعلم بهذه الواقعة على اعتبار أنه كان عليـه أن يستعلم عمـلاً بموجب الاستعلام الذي يقع على عاتقه.
أما محكمة التمييز فتمارس رقابتها على الوجه الآتي:
* يمكن نقض قرار محكمة الأساس لعلة مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقـه أو تفـسيره (المادة 708 فقرة أولى أصول مدنية) إذا تبين أن محكمة الأساس لم تتقيـد بـالـشرطين المشار اليهما أعلاه.
* يمكن نقضه أيضاً لعلة فقدان الأساس القانوني (807 فقرة 6 أصول مدنيـة) إذا كانـت محكمة الأساس لم تبين بشكل كاف أو واضح الأسباب الواقعية التي تبرر الحل القانوني الذي اعتمدته. أي إذا لم تبين الأسباب الواقعية التي تبرر وصف الفعل الذي تم اخفـاؤه بأنه مؤثر أو غير مؤثر أو بأنه مشهور أو غير مشهور.
الايضاح السابع: متعلق بالوسائل القانونية الممنوحة للمحتكم من أجـل ضـمـان تحقيق التزام المحكم الاستقلال أو الحياد:
18- إن هذه الوسائل تنقسم الى قسمين:
الوسائل التي لها الطابع الوقائي préventif.
الوسائل التي لها الطابع التصحيحي correctif.
(أ)- في الوسائل الوقائية:
19- إن فئة الوسائل الأولى هي تلك التي يستطيع المحتكم أن يمارسها قبـل صـدور القـرار التحكيمي الذي كان يخشى صدوره، وهي على نوعين:
الأول هو منع تعيين المحكم المشكو منه.
الثاني رد المحكم المشكو منه.
1- في منع تعيين المحكم:
20- إن وسيلة منع تعيين المحكم يمكن ممارستها في الحالة التي يكون فيها قاضـي المـؤازرة ناظرا في طلب تعيين المحكم، عملاً بأحكام المادة 764 أصول مدنية أي في الحالة التـي تكون قد قامت فيها عقبة بعد نشوء النزاع في سبيل تعيين المحكم.
بإمكاننا أن نعطي المثل الآتي: إذا كان البند التحكيمي يسمح لكل فريق بأن يعين محكماً من قبله، وإذا كان المحكمان المعينان قد اختارا شخصاً ثالثاً ليقوم بدور المحكم الثالث، وإذا اكتـشف أحد الخصوم أن هذا المحكم الثالث مرتبط بصلة أو بعلاقة أو بمصلحة من شأنها أن تؤثر فـي استقلاله أو حياده. فإذا رفض هذا الاختيار ففي إمكانه أن يطلب من رئيس الغرفة الابتدائيـة أن يعين محكماً ثالثاً بدلاً من المحكم الثالث الذي اختاره المحكمان، وذلك عملاً بأحكام المـادة 764 أصول مدنية.
2- في رد المحكم Récusation:
21- نصت المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية على ما يأتي:
"إذا قام في شخص المحكم سبب للرد فعليه إعلام الخصوم به، وفي هذه الحالة لا يجوز له قبول المهمة الا بموافقة هؤلاء الخصوم".
إن هذا النص يستوجب إبداء الملاحظتين الآتيتين:
الملاحظة الأولى: أن أسباب الرد المعددة في المادة 120 والمتعلقة بالقاضي تطبق على رد المحكم، عملاً بأحكام المادة 128 فقرة أولى والمادة 770 فقرة 2 أصول مدنية.
الملاحظة الثانية: أن التعداد الوارد في المادة 120 أصول مدنية لا نعتبره وارداً على سبيل الحصر، وفي حال افترضنا أنه يتمتع بالطابع الحصري، فإنه يبقى ممكناً استبعاده عملاً بالمادة 2 أصول مدنية التي تنص على مبدأ تسلسل القواعد.
لقد ذكرنا أن قاعدة وجوب تمتع المحكم بالاستقلال والحياد مكرسة بالمادة 10 من شـرعة حقوق الانسان والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
بما أن هاتين المادتين تلحظان حالات لرد المحكم أوسع من الحالات المنصوص عليها فـي المادة 120 المذكورة.
وبما أن المادة 2 أصول مدنية تسمح بترجيح تطبيقهما على تطبيق المادة 120 المـذكورة، لأنها نص داخلي، فإنه بالامكان الأخذ بعين الاعتبار حالات لرد المحكم غير تلك الـواردة فـي المادة 120 أعلاه.
(ب) في الوسائل التصحيحية Moyens correctifs:
22- إن هذه الوسائل هي تلك التي يحق للمحتكم أن يمارسها بعد صدور القرار التحكيمي، وهي تقسم الى فئتين:
- فئة الوسائل التي تطال القرار التحكيمي.
- فئة الوسائل التي تطال المحكم بالذات.
ب-1- في الوسائل التي تطال القرار التحكيمي:
يحق للمحتكم اعتماد إحدى الوسيلتين الآتيتين:
الأولى- طلب إبطال القرار التحكيمي.
الثانية- رفض الاعتراف بالقرار التحكيمي الصادر في الخارج أو في تحكيم دولي ورفض اعطائه الصيغة التنفيذية.
1-1- الوسيلة الأولى: ابطال القرار التحكيمي:
23- إن مخالفة التزام الاستقلالية أو الحيادية يؤدي الى إبطال القرار التحكيمي فـي الحـالات الأربع الآتية:
الحالة الاولى:
هي البطلان استناداً إلى أحكام الفقرة الأولى من المادة 800 أصول مدنية التي تنص علـى بطلان القرار التحكيمي إذا كان صادراً بدون اتفاق تحكيمي أو بناء على اتفاق تحكيمي باطل أو ساقط بانقضاء المهلة.
ما يهمنا في هذه الفقرة هو إبطال القرار التحكيمي لعلة صدوره عن اتفاق تحكيمي باطل.
يمكن المطالبة بإعلان بطلان الاتفاق التحكيمي في الحالة التي يتوافر فيها عيب الغلط الواقع على استقلالية أو حيادية المحكم. يمكن للمحتكم أن يطالب بإبطال اتفاقية التحكـيم لعلـة الغلـط المعيب للرضي، وذلك لأن الغلط الواقع على استقلالية أو حياد المحكـم يعتبـر غلطـا واقع ا واقعـاً على صفات الشخص الجوهريـة Erreur sur la personne. بمعنـى المـادة 204 فقـرة 2، وذلك لأن العقد الموقع بين المحتكم والمحكم هو عقد منظور في انـشـائه الـى شـخص العاقـد Intuitus personae على اعتبار أنه عقد بني على الثقة.
قضت محكمة التمييز الفرنسية بإبطال اتفاقية التحكيم لعلة الغلط المعيب للرضـى إذا كـان واقعاً على حيادية المحكم واستقلاله.
الحالة الثانية:
هي إبطال القرار التحكيمي استناداً الى أحكام الفقرة الثانية من المادة 800 أصول مدنية التي تنص على هذا الإبطال "إذا كان صادراً عن محكمين لم يعينوا طبقاً للقانون" .
إن المحكم الذي يخالف التزام الاستقلالية والحياد أو الذي يخالف موجب الإعلام المنصوص عليه في المادة 769 فقرة 2 أصول مدنية، يعتبر محكماً غير معين طبقـاً للقـانون أو بـصورة مخالفة للقانون.
تعتبر الهيئة التحكيمية غير معيّنة طبقا للقانون ليس فقط في الحالة التي تكون فيهـا الهيئـة التحكيمية مؤلفة من محكم واحد، بل أيضاً في الحالة التي تكون فيها هذه الهيئة مؤلفة من 3 أو 5 محكمين.
بعبارة أخرى، إن القرار التحكيمي يكون باطلاً لهذا السبب، حتى ولـو كـان المحكمـون الآخرون لم يخالفوا موجب الاستقلالية أو الحياد، وبالتالي موجب الإعلام.
الحالة الثالثة:
هي إبطال القرار التحكيمي لعلة صدوره بدون مراعاة حق الدفاع للخـصوم (المـادة 800 فقرة 4 أصول مدنية).
يعتبر بعض المحاكم والعلماء أن المحكم عندما يخالف موجب الإعلام، إنما يكون قد حـرم المحتكم ممارسة حقه في طلب الرد، مما يشكل حرماناً من حق الدفاع.
الحالة الرابعة:
هي إبطال القرار التحكيمي استناداً الى أحكام المادة 800 فقرة 6 أ.م.م. التي تنص على هذا الإبطال إذا كان القرار التحكيمي "مخالفا للنظام العام".
إن النظام العام المقصود في هذه الحالـة هـو النظـام العـام الاجرائي ordre public .procédural
تجدر الاشارة الى أنه لا يوجد أي تناقض عندما يتذرع طالب الإبطال فـي الوقـت نـفـسه بالفقرة 2 من المادة 800 المتعلقة بالإبطال لعلة عدم تعيين المحكم بـصورة مطابقـة للقـانون، وبالفقرة 4 المتعلقة بمبدأ الوجاهية، وبالفقرة 6 من المادة نفسها المتعلقة بالنظام العام. وذلك لأن التذرع بالنظام العام يعزز سببي الإبطال المسندين الى الفقرة 2 و4 من المادة 800 أصول مدنية ويتكامل معهما.
تجدر الاشارة الى أن ما قلناه أعلاه في شـأن التحكـيم الـداخلي يطبـق علـى القـرار التحكيمي الصادر خارج لبنان أو في تحكيم دولي، عملاً بأحكـام المـادة 819 معطوفـة علـى المادة 817 أصول مدنية التي تعدد ذات حالات الـبطلان الـواردة فـي المـادة 800 أصـول مدنية.
الوسيلة الثانية: رفض الاعتراف بالقرار التحكيمي الصادر في الخارج أو فـي تحكـيم دول ورفض إعطائه الصيغة التنفيذية:
24- نصت المادة 814 أصول مدنية على ما يأتي:
يعترف بالقرارات التحكيمية وتعطى الصيغة التنفيذية إذا أثبت الشخص الذي يتذرع بهـا وجودها ولم تكن مخالفة بصورة واضحة للنظام العام الدولي.
يستفاد من هذا النص أن القرار التحكيمي الصادر في الخارج أو في تحكيم دولي لا يعترف به ولا تعطى له الصيغة التنفيذية إذا كان مخالفا بصورة واضحة للنظام العام الدولي.
بما أن مخالفة موجب الاستقلالية والحيادية متعلقة بالنظام العام الدولي الاجرائي، كما رأينا، فإنها تشكل سبباً لرفض الاعتراف بالقرار التحكيمي الصادر في الخارج أو في تحكيم دولي، كما تشكل سبباً لرفض اعطائه الصيغة التنفيذية.
وفي حال اعطي هذا القرار الصيغة التنفيذية، فإن الطعن في القـرار التحكيمـي بطريـق الإبطال، استناداً الى أحكام المادة 817 أ.م.م.، يعتبر بصورة حكمية طعناً فـي قـرار الـصيغة التنفيذية، وذلك لأن مخالفة المحكم قاعدة الاستقلالية أو الحيادية تشكل، كما رأينا، سبباً لإبطـال القرار التحكيمي.
إن هاتين الوسيلتين تطالان القرار التحكيمي. أما الوسيلة التي تطال المحكـم نفـسـه فهـى الادعاء عليه بالمسؤولية.
ب-2- في الوسيلة التي تطال المحكم وهي إقامة دعوى المسؤولية ضد هذا الأخير:
25- إن مخالفة التزام التقيد بمقتضيات الاستقلالية والحيادية، ومخالفة موجب الإعلام المـشـار إليه أعلاه، تشكل مخالفة لموجب تعاقدي نــاتج مـن العقـد مـع المحكـم Le contrat d'arbitre وهذه المخالفة تؤدي الى تطبيق أحكام المسؤولية التعاقدية Responsabilité contractuelle بحق المحكم.
وفي شأن هذه المسؤولية نبدي الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: إن هذه المسؤولية مختلفة عن مسؤولية المحكم بسبب الخطأ الجسيم فـ إصدار القرار التحكيمي، لأنها مبنية على خطأ آخر وهو مخالفة موجب الالتزام بالاستقلالية أو بالحياد أو على مخالفة موجب الإعلام. إن المسؤولية الناشـئـة عـن سـوء إصـدار الحكـم Responsabilité pour mal juge مختلفة عن المسؤولية الناشئة عن الإخفاء المخالف للمـادة 769 فقرة 2 المذكورة.
الملاحظة الثانية: إن المسؤولية التعاقدية الناشئة عن مخالفة موجـب الإعـلام والتقيـد بالاستقلالية وبالحيادية ليست بديلا من دعوى إبطال القرار التحكيمي. وهي عادة تكـون لاحقـة لهذه الدعوى الأخيرة. بعد إعلان بطلان القرار التحكيمي لعلة مخالفة مقتضيات الاستقلالية والحيـاد وموجـب الإعلام، يصبح من السهل إقامة دعوى المسؤولية ضد المحكم الذي ارتكب فعل الإخفاء.
الملاحظة الثالثة: إن المسؤولية التعاقدية للمحكم في هذه الحالة تخضع في لبنـان لأحكـام المواد 253 وما يليها من قانون الموجبات والعقود، من حيث شروطها، مما يعني أنه يتعين على المحتكم في هذه الحالة أن يثبت:
- الخطأ أي مخالفة موجب الاستقلالية أو الحياد، وبنوع خاص موجب الإعلام المنصوص عليه في المادة 769 أصول مدنية.
- الضرر اللاحق به والناشىء عن خسارة القرار التحكيمي.
- العلاقة السببية بين هذا الضرر والخطأ المنسوب الى المحكم.
- أنه أرسل إنذاراً الى المحكم للمطالبة بالعطل والضرر.
إن هذه الدعوى تخضع من زاوية التعويض المطالب به لأحكام المواد 260 وما يليها مـن قانون الموجبات والعقود، بحيث يحق للمدعي المطالبة بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية، ولا سيما الحق في استرجاع الأتعاب التي يكون قد سددها الى المحكم.
الملاحظة الرابعة: إذا افترضنا أن محكمة الاستئناف الناظرة في إبطال القـرار التحكيمـي ردت طلب الإبطال المبني على السبب المستمد من مخالفة مقتضيات الاستقلالية والحيـاد أو مخالفة موجب الإعلام، فهل يجوز للمحتكم الذي خسر هذا الطعن أن يقيم دعوى المسؤولية لهـذا السبب؟ أم أنه يصطدم بقوة القضية المحكمة؟
لا مجال للتذرع هنا بقوة القضية المحكمة بسبب عدم توافر شرط وحدة الخـصوم. دعوى الطعن في قرار التحكيم، الخصوم هم: المحتكم طالب الإبطال والمحتكم المطلوب الإبطال بوجههه دون المحكم.
أما في دعوى المسؤولية فالمحكم هو المدعى عليه الذي لم يكن فريقاً في دعوى الإبطال.
ولكن من الناحية العملية قد يكون من الصعب ربح الدعوى في هذه الحالة، بعد أن تكـون محكمة الاستئناف قد تحققت من عدم مخالفة هذا الموجب. إلا أن الأمر يكون على خلاف ذلك إذا أدلى المحتكم المدعي بوسائل اثبات جديدة وحاسمة غير تلك التي أدلى بها أمام محكمة الاستئناف الناظرة في دعوى إبطال القرار التحكيمي.
خاتمة:
أنهي بحثي من حيث بدأت، أي من فكرة أن المحتكم يتمتع بحق أساســـي droit fondamental وهو الحق في المحاكمة النزيهة والعادلة proces équitable وهو حق من حقوق الانسان.
إن تاريخ الشرائع والقوانين يدلنا على أن علماء القانون الوضعي وعلماء القانون الكن وفقهاء الشريعة أجمعوا على ضرورة التحلي بالاستقلالية والحياد والمناقبيـة، وعلـى ضـرورة إحقاق الحق واحترام مقتضيات العدالة، بل إن هاتين المسألتين تغنى بهمـا الـشعراء والأدبـاء بأساليب راقية ومتنوعة.
من المناسب أن نذكر بيتين لشاعرين عربيين كبيرين من العصر العباسي.
نبدأ بالبحتري الذي قال في مطلع قصيدته الشهيرة المعروفة "بالسينية":