متفرقات / قوانين التحكيم في الدول العربية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 30 / الرقابة القضائية السابقة على حكم التحكيم في القانون الليبي
في هذه العجالة يتساءل الباحث عن دور السلطة القضائية ومدى أهميتها في الرقابـة علـى سير العملية التحكيمية، فهل للقضاء أن ينأى بنفسه بعيداً عـن ممارسـة مـسؤولياته طالمـا أن الخصوم أختاروا وسيلة أخرى في حل منازعاتهم؟ أم أن القانون ما زال يلزمـه بمتابعـة هـذه المهمات باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل؟
إن الذي يتراءى للباحث أن هذا التساؤل يتطلب عنـاء يـضيق بـذكره المقـام، وحتـى لا يثقل على القراء الكرام – يرى حصر البحث في الرقابة علـى سـير العمليـة التحكيميـة، أي المرحلة السابقة على صدور الحكم التحكيم عل أن يتـرك الجزئيـة الأخـرى لـعـدد مقبل .
لذلك يتطلب الأمر تحديد نطاق هذه الرقابة ودورها فـي متابعـة صـحـة تـشكيل الهيئـة التحكيمية، ومن هذه الرؤية، فإن هذه الرقابة تتناول في مطلبين:
المطلب الأول: نطاق الرقابة القضائية السابقة على حكم التحكيم.
المطلب الثاني: الرقابة القضائية على صحة تشكيل هيئة التحكيم.
المطلب الأول:
نطاق الرقابة القضائية السابقة على حكم التحكيم:
تتمثل هذه الرقابة في صورتين: الأولى تتعلق بالرقابة على اتفاق التحكيم في ذاته، والثانيـة في إجراءات سير الدعوى أمام هيئة التحكيم.
الفرع الأول: رقابة القضاء على اتفاق التحكيم:
ترجع أهمية الرقابة القضائية على: (اتفاق التحكيم) لما يترتب عليه من مـصير موضـوع التحكيم، فقد تنتهي إلى نتيجة مؤداها بطلان اتفاق التحكيم لمخالفته النظام العام، الأمر الذي دفـع بالمشرع في أغلب التشريعات الوطنية إلى معالجة ذلك بتدخل القضاء بالرقابة على هذا الاتفاق، من حيث وجوده، ومن حيث صحته.
وتناول المشرع الليبي في قانون المرافعات المدنية رقابة القضاء على وجود اتفاق التحكـيم وصحته صراحة، فقد تناولت المادة 740 الأحوال التي لا يجوز فيها التحكيم، كمـا اشـترطت المادة (741) الكتابة في إثبات مشارطة التحكيم، ونص في المادة 743 على أنه: "يجب أن يحدد موضوع النزاع في مشارطة التحكيم أو أثناء المرافعة، ولو كان المحكمون مفوضين بالـصلح، وإلا كان التحكيم بأطلا"، وكذلك ما نصت عليه المادة 135 من القانون المدني الليبي، بأنـه: "إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلاً " أي أنه يشترط ألا يكون اتفـاق الأطراف مخالفاً للنظام العام.
وبما أن الحكم ببطلان التحكيم من اختصاص القضاء الوطني على ما سيأتي بيانه – فـإن هذا الاختصاص لا يتصور بدون هذه الرقابة، وبالتالي فإن المشرع الليبي يكون قد أشار إلى ذلك ضمناً دون أن ينص على ذلك صراحة، كما في التشريع المقارن، فقد نص المشرع الفرنسي في المادة 1448 على أنه: "إذا غرض نزاع خاضع لاتفاق تحكيم على محكمة نظامية، تعلـن هـذه الأخيرة عدم اختصاصها، إلا إذا كان النزاع لم يعرض بعد على الهيئة التحكيمية، وكـان اتفـاق التحكيم باطلاً أو غير قابل للتطبيق بشكل واضح".
كما نصت المادة 1/22 من القانون المدني المصري على أن: "تفصل هيئـة التحكـيم فـ الدفوع المتعلقة باختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنية على عدم وجود اتفاق التحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله موضوع النزاع"، وهو يتوافق في ذلك شبه حرفي مع نص المادة 1/21 من مشروع قانون التحكيم الليبي .
كما أكد ذلك القانون النموذجي الصادر عن الأمم المتحدة في (21 يونيه 1985)، الذي نص في المادة 1/16، على أنه: "يجوز لهيئة التحكيم البحث فـي اخـتـصاصها، بمـا فـي ذلـك أي اعتراضات تتعلق بوجود اتفاق التحكيم أو بصحته".
وأن الذي يبدو ظاهراً من أحكام هذه النصوص، وهي بصدد منح هيئة التحكـيـم صـلاحية الفصل في الدفع بعدم اختصاصها بالفصل في النزاع لعدم وجود اتفاق التحكـيم أو لغيـره مـن الأسباب الأخرى، أن ذلك يكون وفقاً لمبدأ الفصل في الاختصاص بالاختصاص، وهو أن هيئـة التحكيم هي التي تنظر في الدفع بعدم اختصاصها بالفصل في موضوع النزاع لعدم وجود اتفـاق التحكيم أو لبطلانه أو لغيره من الأسباب الواردة في النصوص المتعلقة بذلك، إلا أن ذلـك يثيـر تساؤلا، وهو هل أن لقضاء الدولة الاختصاص بنظر هذه المسألة إلى جانب الاختصاص الممنوح لهيئة التحكيم؟
إن القاعدة العامة في أصول المحاكمات تمنع تنازع الاختصاص في نظر الدعاوى، وبتطبيق فحوى هذه القاعدة على مسألة الحال، تجدر التفرقـة بـيـن أمـرين: المرحلـة الـسابقة لبـدء إجراءات التحكيم والمرحلة التي تليها.
ففي المرحلة الأولى: يكون الاختصاص بنظر الدعوى لقضاء الدولة محل العقد أو مكانـه باعتباره صاحب الاختصاص الأصيل، وبالتالي يجوز لصاحب الشأن أن يرفع دعـوى بطـلان اتفاق التحكيم أو التمسك بهذا الدفع أمام قضاء الدولة، والصورة المتخيلة في ذلك، لـو أنـه تـم التمسك باتفاق التحكيم أمام القضاء الوطني طلباً للحكم بعدم قبول الدعوى لوجود هذا الاتفاق، فإنّ للطرف الآخر الدفع ببطلانه أو بعدم وجوده أصلاً، وعلى المحكمة أن تبسط رقابتها على ذلـك، وإذا ثبت في قناعتها سلامة هذا الطلب.
أما المرحلة الثانية: وهي رقابة القضاء على التحكيم أثناء سير الدعوى التحكيمية، فإن هيئة التحكيم هي التي تكون صاحبة الاختصاص بالفصل في مدى اختصاصها من عدمه في النـزاع المعروض أمامها تأسيساً على عدم وجود اتفاق التحكيم أو عدم صحته، وقد اتجه الفقه في ذلـك إلى رأيين:
الرأي الأول: يذهب إلى أن اختصاص هيئة التحكيم بالفـصـل فـي أي طعـن يثـار أمـام هيئة التحكيم، ابتداء من تمام تشكيل هيئة التحكيم إلى صدور الحكم، بحيث تقتصر الرقابـة علـى صورة الطعن في حكم التحكيم بالبطلان أمام قضاء الدولة الذي تمتد رقابته لتشمل مـدى وجـود اتفاق التحكيم وصحته، وبهذه الكيفية تكون قد تحققت الرقابة القضائية على اتفاق التحكـيم، إلا أن ما يؤخذ على هذا الرأي هو تأخير فاعلية الرقابة إلى ما بعد صدور حكم التحكيم .
والرأي الآخر يرى التفرقة بين أمرين: الأمر الأول- مسألة الاختصاص، حيث يكون لهيئة التحكيم الفصل في ذلك، وفقاً لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، أما الأمر الثاني: وهو بطلان اتفاق التحكيم، فإن التحكيم في هذه الحالة لا يسلب قضاء الدولة من اختصاصه بالنظر في دعوى مبتدأة لبطلان اتفاق التحكيم .
إلا أن القانون النموذجي للتحكيم الصادر عـن الأمـم المتحـدة فـي 21 يونيو 1985م، فنص في المادة 3/16 على: "... وإذا قررت هيئة التحكيم في قرار تمهيـدي أنهـا مختـصة، فلأي الطرفين خلال ثلاثين يوماً من تاريخ إعلانـه بـذلك القـرار أن يطلـب مـن المحكمـة المحددة في المادة (6) أن تفصل في الأمر، ولا يكون قرارهـا هـذا قـابلاً للطعـن، وإلـى أن يبت هذا الطلب لهيئة التحكـيم أن تمـضـي فـي إجـراءات التحكيم، وأن تـصـدر قـرار تحكيم".
إن الرقابة القضائية التي تكرسها هذه النصوص تعطـي القـضاء فاعليتـه فـي الرقابـة على التحكيم، لأنه بطبيعة الأمر، تتم من خلالها الرقابة على اتفاق التحكيم الذي هو مصدر سلطة الهيئة وسند اختصاصها، فإذا تبين للقضاء أن هيئة التحكيم قضت بأختـصاصها بالفـصـل فـي موضوع النزاع، بالرغم من عدم وجود اتفاق التحكيم أو شابه عيب مـن عيـوب الـبطلان أو السقوط، فإن المحكمة تقضي ببطلان اتفاق التحكيم، وبذلك تكون الهيئة غير ذات اختصاص، وأنّ هذا الحكم يلزمها بوقف السير في الدعوى، فضلاً عن أنه غير قابل للطعن.
وبالرغم من فاعلية هذه الرقابة، إلا أنها تظل محصورة في مسألة الاختصاص، فإنه بإمكان هيئة التحكيم إرجاء بت الدفع بعدم اختصاصها، وبحث وجود اتفاق التحكيم إلى حين الفصل فـي الموضوع، فقد ورد في الفقرة السابقة من القانون النموذجي المذكور أعلاه، ما نصه: "يجـوز لهيئة التحكيم أن تفصل في أي دفع من الدفوع المشار إليها في الفقرة الثانية من هذه المادة، إمـا كمسألة أولية، وإما في قرار تحكيم موضوعي"، وفي ذلك ينص مشروع قانون التحكيم الليبي في المادة 3/21 على أن: "تفصل هيئة التحكيم في هذه الدفوع قبل أو مع الحكم في الموضوع".
فإذا كان الأمر كذلك، فما هو مصير اتفاق التحكيم الباطل أو الذي يتعارض والنظام العـام؟ فهل يظل قائماً إلى أن تفصل فيه هيئة التحكيم مع الموضوع؟
إن الرأي الذي نرجحه في ذلك، هو التفرقة بين الفصل في مسائل الاختصاص، وهو مـن اختصاص هيئة التحكيم، وبين دعوى بطلان اتفاق التحكيم، وبما أن الأمر واضح من أنه يتعلـق بدعوى بطلان اتفاق التحكيم، فإنه يكون من اختصاص قضاء الدولة الذي لا يحجب عنه النظـر فيها، ولا يحرم ذو المصلحة من إقامة الدعوى بشأنها أمام القضاء، سواء قبل تشكيل هيئة التحكيم أم بعده، لأن القول بخلاف ذلك، من شأنه أن يؤدي إلى إطالة أمد النزاع أمام جهة التحكيم بكل ما يترتب على ذلك من تكاليف وأضرار دون جدوى، وهذا يتعارض والغرض من نظام التحكيم.
وبالرجوع إلى نص المادة (83) من لائحة العقود الإدارية رقم 563 لسنة 2007، والتي نـصت على أن: " أ- يراعي النص في العقود الإدارية – بصفة أساسية – على اختصاص القضاء الليبى بالنظر في المنازعات التي تنشأ عن هذه العقود. ب- على أنه يجوز إذا اقتضت الضرورة - في حالات التعاقد مع جهات غير وطنية وبموافقة اللجنة الشعبية العامة "مجلس الوزراء"- أن ينص فـي العقد على الالتجاء للتحكيم بمشارطة تحكيم خاصة، ويجب في هـذه الحـالات أن تحــد مـشارطة التحكيم أوجه النزاع التي يلجأ فيها إلى التحكيم وإجراءاته وقواعد اختيار المحكمين، بما يكفل للجانب الليبي فرصة متكافئة في اختيارهم وتحديد مدى ما للمحكمين مـن سـلطة واختـصاص والجوانـب الأخرى المتطلبة لهذا الغرض، ويراعي في كل ذلك عدم الاتفاق على التحكيم بواسطة محكم منفرد". إن الذي يتضح من الشروط الواردة في هذا النص أن رقابة القضاء علـى اتفـاق التحكـيم تتجلـى في صورتين: في رقابة القضاء على جنسية المتعاقد، وفي رقابته على صدور الإذن في التحكيم.
الصورة الأولى: رقابة القضاء على جنسية المتعاقد مع الدولة:
من المتصور أن تقام دعوى بطلان اتفاق التحكيم أمام القضاء الـوطنـي علـى أسـاس أن المتعاقد لم يكن جهة أجنبية، وفي هذا الصدد تتركز رقابة القضاء على جنسية المتعاقد ، وأن من المسلم به أن مسألة الجنسية من الأمور المتعلقة بالنظام العام التي تلزم القاضي أن يتعرض لها، ولو من تلقاء نفسه، ويزداد الأمر تعقيداً في العقود التي يكون أحـد أطرافهـا شـركة متعـددة الجنسيات، التي لا تكون فيها جنسية الشركة الأم ظاهرة، وبالرغم من أن البحث لم يكن بـصدد هذه المسألة، إلا أنه علينا أن نشير بذلك إلى أهمية الرقابة القضائية في هذه الجزئية، والجـدير بالذكر أن هذه الإشكالية غير متصورة في النظم المقارنة التي لا تمنع الأشخاص الوطنيـة مـن اللجوء إلى التحكيم.
الصورة الثانية: الرقابة على الحصول على إذن اللجوء إلى التحكيم:
إن الأصل في القانون الليبي جواز اللجوء إلى التحكيم بين الأطراف، وخاصـة إذا كـان التحكيم في الداخل، إلا أن لائحة العقود الإدارية في المادة سالفة الذكر وقفت دون ذلك، ولم تسمح بالتحكيم إلا إذا كان المتعاقد مع الإدارة شخصاً أجنبياً، ومن ثم فإن الإذن لا يكون إلا في عقـود الأشغال الدولية، كما أنه لا يصدر إلا من رأس السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء)، وبالتالي فـإن هذه الرقابة تتمركز في حالتين:
الحالة الأولى: صدور موافقة السلطة التنفيذية إذا لـم يكـن المتعاقـد مـع جه جهـة الإدارة شخصاً أجنبياً، وبالرغم من صدوره من الجهة المختصة قانوناً، إلا أنه لا يكون لهيئة التحكيم أن تمضي بذلك، ويكون لقضاء الدولة الرقابة على هذا التحكيم، إلا أن التساؤل الذي يثار حول ذلك، هو : أي جهة قضائية مختصة بالرقابة؟ القضاء الإداري؟ أم القضاء المدني؟
اعتبار أن عقد الأشغال العامة من العقود الإدارية بحكم القانون، فإن المتفق عليه في القانون المقارن الفرنسي والمصري على أنه يتعين الاختصاص في الرقابـة علـى التحكيم للمحكمـة المختصة أصلاً بنظر النزاع، ومن ثم يكون الاختصاص في منازعـات هـذه العقـود للقـضاء الإدارية، وبما أن الاختصاص في منازعات العقود الإدارية في القانون الليبـي مـشترك بـين القضاءين الإداري والمدني".
وترتيباً على ذلك، فإننا نرى أنه يتطلب التفرقة بين المرحلة التي تسبق تشكيل هيئة التحكيم، والمرحلة التالية لها، ذلك أن الموافقة على اللجوء إلى التحكيم من السلطة التنفيذيـة هـو قـرار إداري يكون الطعن فيه أمام دائرة القضاء الإداري دون غيره، أما إذا تم بموجبه تشكيل الهيئـة، فإن الاختصاص في نظر قرار الهيئة يكون للقضائيين في القانون الليبي، لأنه دخل حيز العقد.
الحالة الثانية: وهي اتفاق الأطراف على التحكيم دون أخذ الإذن، وفي هذه الحالـة يكـون الاتفاق باطلاً لعدم توافر الإذن المطلوب لصحة الاتفاق، ويكون لقضاء الدولة الرقابة على صحة اتفاق التحكيم السابقة على صدور حكم التحكيم أثناء سير إجراءات الدعوى التحكيميـة أو قبـل تشكيل الهيئة، وللقضاء الإداري المصري حكم يلزم هيئة التحكيم بوقف السير فـي الخـصومة التحكيمية 10.
يفهم مما تقدم أن للرقابة القضائية على اتفاق التحكيم أهميتها البالغة للوقاية من نهاية تهـدر المال والوقت، بما يتعارض والغرض من التحكيم.
الفرع الثاني: رقابة القضاء أثناء سير الدعوى التحكيمية:
تبدأ إجراءات نظر الدعوى التحكيمية بافتتاح هيئة التحكيم في أول جلسة لنظر الدعوى إلى أن تنتهي بصدور الحكم التحكيمي الفاصل في النزاع أو المنهي للخصومة، ويتم تحديـد هذه الإجراءات، وفقاً لما يتفق عليه الأطراف، إلا أنه لا يستغني عن القضاء في هذه المرحلة للتدخل في بعض الإجـراءات، سـواء بالرقابـة أو بالمـساندة فيمـا تتطلبـه إجـراءات التحكيم ويتحقق هذا الاختصاص في عديد المسائل التي نص عليها التشريع الليبي والمقارن، يتمثل أهمها في: ميعاد التحكيم، المسائل الأولية، الإجراءات التحفظية، ما يتعلـق بتخلـف الشهود عن الحضور، الأمر بالإنابة القضائية، ويتناول بعض منها بشيء من التوضيح في ما يأتي:
1- ميعاد التحكيم:
نصت المادة 753 مرافعات على أنه: "إذا لم يحكم المحكمون في الأجل المذكور في المـادة السابقة جاز لمن يطلب التعجيل أن يرفع النزاع إلى المحكمة، أو أن يطلب منها تعيين محكمـين آخرين للحكم فيه، إذا كان الخصوم متفقين على فضه بطريق التحكيم".
وأن المادة سالفة الذكر في هذا النص حددت ميعاد التحكيم بثلاثة أشهر مع بعض التفاصيل الأخرى، فإذا لم يتم التحكيم خلال هذه المدة، فإنه يجوز لذي الشأن أن يرفع الأمر إلى المحكمـة بطلب تعيين محكمين آخرين، وأن ما يترتب على هذا الإجراء هو مد أجل إضـافي للمحكمـين الجدد .
وقد تناول المشرع المصري ذلك بنص أوضح في المادة 2/45 من قانون التحكـيم، جـاء فيها: "إذا لم يصدر حكم التحكيم خلال الميعاد المشار إليه في الفقرة السابقة، جاز لأي من طرفي التحكيم أن يطلب من رئيس المحكمة المشار إليها في المادة 9 من هذا القانون أن يـصدر أمـراً بتحديد ميعاد إضافي أو بإنهاء التحكيم...".
وما يبدو ظاهراً من هذه النصوص أن للمحكمة بسط رقابتها على سير الدعوى التحكيميـة بخصوص تقدير سرعة اتخاذ الإجراءات اللازمة في الفصل في النزاع، ولها السلطة التقديرية في منح المدة الإضافية اللازمة لذلك، دون معقب عليها من النقض ما لم يكن هناك تقتير أو إفـراط، والمرجع في ذلك هو طبيعة محـل النـزاع، مـن ذلـك عقـود الأشغال العامـة المعروفـة بتشابك علاقاتها وتعقيد إجراءاتها وتعدد أطرافها تحتاج إلى مدة أبعد من يتطلبهـا نـزاع بسيط.
2- استدعاء الشهود والأمر بالإنابة القضائية:
لهيئة التحكيم استدعاء من ترى ضرورة لسماع شهادته دون حلف يمين، إلا أنها تفتقر سلطة الإلزام التي تمكنها من إجبار الشاهد الممتنع عن الحضور إلى مكان التحكيم، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالإنابة القضائية، لذلك عالج المشرع هذه الإشكاليات بالرجوع إلى القضاء، فقـد نـصت المادة 759 من قانون المرافعات الليبي على أن:
"يرجع المحكمون إلى رئيس المحكمة المشار إليها في المادة 762 لإجراء ما يأتي:
1- الحكم على من يتخلف من الشهود عن الحضور بالجزاء المنصوص عليه فـي المـادة 181 واتخاذ الإجراء المنصوص عليه في المادة 182 بشأن من يمتنع عن الإجابة.
2- الأمر بالإنابات القضائية.
وهذا الإجراء القضائي يكون بعد عجز هيئة التحكيم عن مباشرة الـدعوى بـسبب الشهود عن الحضور أو في حالة الامتناع عن أداء الشهادة، وهو إجراء مساند لهيئـة التحكـيم. وحكمت عليه بغرامة قدرها مائة قرش، فضلاً عن مصاريف تخلفه عن الحـضور، وذلـك دون إخلال بأحكام قانون العقوبات".
- كما نصت المادة 182 مرافعات على أنه: "إذا امتنع من حضر مـن الـشهود عـن أداء الشهادة أو حلف اليمين دون عذر مقبول أو شكت المحكمة في صـحة شـهادته أو فـي إدلائه بكل ما يعلم، حررت بذلك محضراً وأحالته إلى النيابة. وللمحكمة أن تأمر بالقبض على الشاهد إذا رأت ما يدعو إلى ذلك".
وتأتي هذه المساندة بناء على طلب هيئة التحكيم دون غيرها، ومن ثم لا يكـون للأطـراف المحتكمين أن يتقدموا بطلب ذلك من المحكمة مباشرة، إلا عن طريق هيئة التحكيم، ويكون لهـم في حالة عدم استجابتها هذا الطلب أن يحتفظوا به إلى ما بعد صدور الحكم التحكيمي، ليطعن فيه من صدر لغير صالحه هذا الحكم أمام المحكمة المختصة للإخلال بحق الدفاع.
ومن ثم تنحصر الرقابة القضائية السابقة على صدور الحكم التحكيمي في طلب المساندة، وبالتالي ينفتح للمحكمة باب الرقابة على مدى سـلامة الإجـراءات التحكيميـة التـي اتخـذت بالخصوص، مثل صحة الإعلانات، وإعادة الإعلان للمرة الثانية، وإمكانية الحضور، وغيرها من الإجراءات التي على المحكمة أن تتأكد من سلامتها قبل أن تصدر الأمر بالتنفيذ.
وقد تناول المشرع الفرنسي ذلك في المادة 1467 من قانون المرافعات في آخر تعديل لـه والتي نصت على أن: "تجري الهيئة التحكيمية التدابير التحفظية اللازمة ما لم يجز لها الأطراف تفويض أحد أعضائها لهذه الغاية.
يجوز للهيئة التحكيمية أن تستمع إلـى أي شـخـص كـان يحـصـل هـذا الاستماع دون حلف اليمين".
وبالرغم من أن المشرع لم ينص على تدخل القضاء بالمساعدة لهيئة التحكيم بإجبار الشهود على الحضور، إلا أن هذا الأمر لا يخرج عن الاختصاص القـضائي، وفقاً للقواعـد العامـة للتقاضي، خصوصاً أن هيئة التحكيم تستمد صلاحياتها من اتفاق التحكيم الـذي لا يمتـد لغيـر أطرافه.
أما الإنابة القضائية، والتي يقصد بها تفويض المحكمة المختصة بنظر النزاع محكمة أخرى في القيام نيابة عنها بإجراء من إجراءات التحقيق أو التقاضي، لتعذر اتخاذ الإجـراء مـن قبـل المحكمة المختصة، وقد عالج المشرع الليبي في المادة (759 و 762) من قـانون المرافعـات، وكذا المشرع المصري في المادة 37 من قانون التحكيم، وذلك بطلب هيئـة التحكـيم المحكمـة المختصة أصلاً بنظر النزاع لتقوم بإجراء هذه الإنابة، إلا أن الأمر يبدو معقداً في القضايا ذات الطابع الدولي أو المنظورة أمام محاكم التحكيم الخارجية، فهل يكون لمحكمة باريس أن تصدر إنابة لمحكمة ليبية في منازعة بخصوص مشروع أشغال عامة بحكم تواجد العقـار فـي نطـاق دائرتها؟
إن هذه الإشكالية لم يعالجها قانون المرافعات الليبي، كما لم يتناولها القانون المقارن، ونرى أن المسار الطبيعي لهذا الإجراء أن يكون عبر القنوات القضائية الرئيسة المعهود إليها إجراءات التحكيم الدولي، بأن تصدر الإنابة بناء على طلب هيئة التحكيم من محكمـة استئناف عاصـمة الدولة مقر التحكيم (باريس) لمحكمة استئناف عاصمة الدولة محل التحكيم (طرابلس)، التي تقوم بدورها في إنابة المحكمة الواقع في نطاقها موضوع النزاع.
3- الإجراءات الوقتية والتحفظية:
لا يوجد معيار ثابت لوصف الوقائع التي يتخذ بشأنها الإجراء الوقتي أو التحفظي، وأرى أن جوهر هذا الوصف يكمن في توافر حالة الاستعجال، والتي فحواها أن يحـدث ضـرراً يتعـذر تداركه، فيما لو لم يتخذ بشأنها إجراء سريع مؤداه حفظ الحقوق والمراكز القانونية من الضياع.
وهذا الإجراء يمثل الحماية القضائية الموضوعية التي أساسها توافر حالة الاستعجال التـي يستخلصها القضاء من الواقعة القانونية والظروف المحيطة بها، ومن ثم فهي تتغير بتغير الوقائع، فقد تتوافر حالة الاستعجال في واقعة ولا تتوافر في واقعة مماثلة، لأن هذا التكييف بموجب سلطة القاضي التقديرية دون معقب عليه من النقض .
وبالتالي، فإن الإجراء التحفظي ما هو إلا تدبير وقائي مؤقت لا يمس أصـل النـزاع، ولا يجوز للقاضي أن يتعرض لهذا الأصل، وقد عالج المشرع الليبي ذلك في ما يخص التحكيم بنص المادة 758 مرافعات التي نصت على أنه: "ليس للمحكمين أن يأذنوا بالحجز ولا بأية إجـراءات تحفظية. وإذا أذن أي قاض مختص بالحجز في قضية منظورة بطريق التحكيم فعليـه أن يقـرر صحة الحجز دون المساس بموضوع القضية. وعلى هذا القاضي أن يصدر قراراً بإلغاء الحجـز حينما يقرر المحكمون ذلك".
والذي يبين من هذا النص أنه يمتنع على المحكمين القيام بهذا النوع من الإجراءات، كما أن النص لم يسمح بذلك لإرادة الأطراف، في حين ترك ذلك لاختصاص السلطة القضائية دون غيرها، وبالتالي فهي حماية قضائية للحقوق التي تعجز هيئة التحكيم عن تحقيقها، الأمـر الـذي يبرز فيه دور مساندة القضاء للتحكيم، كما يقول Mendez بأنها: "جانباً من جوانب التعاون بـين قضاء الدولة وهيئات التحكيم .
إلا أن المشرع الفرنسي يختلف في معالجته في ذلك عن المشرع الليبي، فقد نص في المادة 1468 على أنه: " : "يجوز للهيئة التحكيمية أن تأمر الأطراف، وفقاً للشروط التي تحددها، وتحـت طائلة دفع غرامة إكراهية عند الاقتضاء باتخاذ أي تدبير تحفظـي أو وقتـي تعتبـره منـاسـباً. إلا أن المحكمة النظامية وحدها صاحبة الاختصاص بالأمر بالحجوزات الاحتياطيـة والتأمينـات القضائية.
يجوز للهيئة التحكيمية أن تعدل أو أن تكمل التدبير التحفظي أو الوقتي الذي أمرت به".
وبهذا يكون المشرع الفرنسي أحدث تطوراً في مـنح هيئـة التحكـيم سـلطة اتخـاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية على أن يكون نطاقها لا يتجـاوز أطـراف اتفـاق التحكـيم الـذي تستمد منه سلطة الفصل في النزاع باعتبار أن سلطتها بمناسبة هذه الإجراءات فرع من سلطة الفصل في الموضوع، وبالرغم من كل ذلك لا يمكن لها أن تـستغني عـن سلطة القضاء الوطني كلية، بل تحتاج إليها عند الأمر بالحجوزات الاحتياطيـة والتأمينـات القضائية.
أما المشرع المصري فقد سلك في ذلك مسلكاً مغايراً بنصه في المادة 24 من قانون التحكيم على أنه: "يجوز لطرفي التحكيم الاتفاق على أن يكون لهيئة التحكيم، بناء على طلب أحدهما، أن تأمر أياً منهما باتخاذ ما تراه من تدابير مؤقتة أو تحفظية تقتضيها طبيعة النزاع، وأن تطلب تقديم ضمان كاف لتغطية نفقات التدبير الذي تأمر به.
إذا تخلف من صدر إليه الأمر عن تنفيذه، جاز لهيئة التحكيم بناء على طلب الطرف الآخر، أن تأذن لهذا الطرف في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذه، وذلك دون الإخلال بحق هذا الطـرف أن يطلب من رئيس المحكمة المشار إليها في المادة 9 من هذا القانون الأمر بالتنفيذ"، و المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع.
وفي هذا النص توافق مع لائحة غرفة التجارة الدولية الصادرة عام 1998، إذ نصت المادة 23 منها، بما مفاده: أنه يجوز للأطراف، حالة الحاجة إلى اتخاذ تدابير وقتية أو تحفظية باللجوء إلى قضاء الدولة، أو إلى هيئة التحكيم ذاتها .
وهذا المسلك التشريعي يكون قد زاوج بين إرادة الأطراف في اللجوء إلى هيئـة التحكـيم، وبين اللجوء إلى القضاء الوطني في الأمر بأتخاذ التدابير الوقتيـة والتحفظيـة، وبـذلك يكـون الاختصاص مشتركاً بين التحكيم والقضاء، في أنه ينعقد الاختصاص لهيئـة التحكـيم إذا اتفـق الأطراف على أن يكون لها ذلك، بناء على طلب أي منهم أن تأمر الطرف الآخر باتخاذ التدبير المطلوب، وفقا لما تقتضيه طبيعة النزاع.
كما أن هذا الاختصاص لا يحول دون حق الأطراف في اللجوء في ذلك مباشرة إلى القضاء صاحب الاختصاص الأصيل، سواء كانت محكمة مكان التحكيم أو المحكمة التي يقع في دائرتها محل إقامة المدعى عليه أو محكمة مكان تنفيذ العقد موضوع النزاع، والخيار في ذلـك مـتـروك لمن يطلب من الأطراف المحتكمين اتخاذ هذه الإجراءات.
وأن ما يترتب على اختيار أحد الطريقين هو انغلاق الطريق الآخر، فمن يختار اتخاذ التدبير التحفظي المؤقت عن طريق التحكيم ليس له اللجوء إلى القضاء والعكس صحيح، وفقاً لما تقتضيه القواعد العامة للتقاضي، وذلك تفادياً لتناقض الأحكام.
وقد تشعبت اتجاهات الفقه في ذلك، بعضهم اتجه إلى أن الاختصاص الأصيل في ذلك هـو القاضي المستعجل فهو الذي يختص بنظر المسائل الوقتية لو كان النزاع معروضاً أمام محكمـة الموضوع، فمن باب أولى أن يكون له ذات الاختصاص إذا كان منظوراً لدى التحكيم، ولو اتفق الأطراف على اختصاص هيئة التحكيم، ما لم يتفق الأطراف على أن هذا الاختصاص يكون لهيئة التحكيم وحدها دون القضاء، عندها يقتضي الأمر التقيد بما هو منصوص عليـه فـي اتفـاق التحكيم .
ومنهم من يرى أن الاختصاص ينعقد لهيئة التحكيم دون غيرهـا ولا يؤيـد الاختـصاص المشترك إلا في الأحوال التي تتطلب وجود هذا الاختصاص، ويعلل أصحاب هذا الاتجاه رأيهـم بحالة الاستعجال التي تتعارض والتأخير الذي يسببه اللجوء إلى القضاء، بحيـث يكـون لهيئـة التحكيم التي تنظر الموضوع أن تنظر طلب الإجراء مباشرة.
كما انقسم الفقه أيضاً عند غياب النص المنظم لهذا الأمر، حيث اتجه البعض إلى اختصاص هيئة التحكيم دون غيرها متفقاً في ذلك مع الوجهة السابقة باعتبار أن الأمر لا يتطلب استعمال القوة الجبرية، أما إذا تعلقـت الإجـراءات المطلـوب اتخاذهـا بـالغير أو تتطلـب اسـتعمال القوة الجبرية، فإنه يكون من اختصاص القضاء الوطني من أجل ضـمان فعاليـة الإجـراءات التحكيمية.
إلا أن المادة 17 من القانون النموذجي الصادر عن الأمم المتحدة فـي 21 يونيـو 1985م، نصت على أنه: "يجوز لهيئة التحكيم أن تأمر أياً من الطرفين بناء على طلب أحدهما باتخـاذ تدبير وقائي أو مؤقت تراه ضرورياً بالنسبة إلى موضوع النزاع ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك، ولهيئة التحكيم أن تطلب من أي من الطرفين تقديم ضمان مناسب فـي مـا يتـصل بهـذا التدبير".
وبالرغم من ذلك كله يظل القضاء الوطني هو الداعم للتحكيم، ولا يمكن لهذا الأخير الوقوف دون المساندة القضائية، لأن حكم التحكيم ينفذ جبراً في الغالب الأعم، وهذا الإلزام لا يتحقق، إلا بتوافر السلطة العامة.
كما هو الحال في الأوامر الوقتية والتحفظية التي تصدر عن هيئة تحكيم في موضوع نزاع تتعلق بعقود الأشغال العامة، التي هي عقارية بطبيعتها، فإنه لا يمكن الاستغناء عن قضاء الدولة محل العقار بحكم اختصاصه المكاني، وذلك لتيسير إجراءات هيئة التحكيم .
وفي ما يخص اتخاذ الإجراءات التحفظية، نرى أن الأنسب في ذلك هو اتخاذ الإجراء المتبع في منازعات هذه العقود، وهو تضمين الإجراءات التي يتم الاتفاق عليها، في هذا الخصوص، في ما يعرف بوثيقة مهمة المحكمين، فهي تبين نقاط الخلاف المطلوب حسمها، وكذلك الإجـراءات التي من الممكن أن يكون من بينها الإجراءات التحفظية.
واستقر قانون المرافعات الليبي بخصوص الإجراءات التحفظية المتعلقة بالتحكيم على موقفه، بخلاف التشريع المصري الذي تابع هذه التطورات بما أضافته المادة 24 مـن قـانون التحكـيم سالفة البيان، التي نصت على جواز اتخاذ هذه الإجراءات بواسطة المحكمـين أو عـن طـريـق القضاء.
وأكدت المحكمة العليا الليبية على موقف المشرع بقولهـا: "أن المـادة 758 مـن قـانون المرافعات، إذ نصت على أنه إذا أذن القاضي في قضية منظورة بطريق التحكيم، فعليه أن يقـر صحة الحجز دون المساس بموضوع القضية، وعلى هذا القاضي أن يصدر قراراً بإلغاء الحجـز حينما يقرر المحكمون ذلك، فإن مفهوم هذا النص أن إلغاء الحجز لا يكون بقرار من المحكمين، إلا إذا كان القاضي المختص أذن بالحجز في قضية بدأت إجراءات التحكيم فيها فعلاً.
إلا أن محكمة استئناف طرابلس قضت بعدم اختصاص القضاء الوطني ولائياً بنظر النـزاع المتعلق بالإجراءات الوقتية والتحفظية، وكان قضاؤها هذا، وهي بصدد دعوى تحكيمية ملخـص وقائعها: في أن شركة وطنية ليبية تعاقدت مع شركة سويسرية، على أن تنفذ الأخيرة عقد تـسليم مفتاح، (مصنع تعليب أسماك)، وقد احتوى هذا العقد (شرط التحكيم) في أحد بنوده، والذي مفاده إحالة أي نزاع أو خلاف ينشأ بشأن تنفيذ هذا العقد أو تفسيره ولم يتم التمكن من حلـه بـالطرق الودية – إلى التحكيم، وذلك عن طريق غرفة التجارة الدولية بباريس.
أقامت الشركة السويسرية دعواها التحكيمية أمام غرفة التجارة الدولية ضد الدولـة الليبيـة والشركة الوطنية، حيث تقدمت الأخيرة بدعوى مقابلة، ثم أقامت دعوى (إثبات حالة) لإثبات حالة المصنع موضوع العقد محل النزاع، وذلك أمام محكمة الزاوية الابتدائيـة الكـائـن فـي دائـرة اختصاصها المكاني في ليبيا، وذلك في شكل عريضة قدمت إلى رئيس المحكمة بطلب ندب خبير قضائي للاطلاع على حالة المصنع وإعداد تقرير بذلك وعن مدى قيام الشركة المنفذة بالتزاماتها المنصوص عليها في العقد محل النزاع من عدمه.
وقد أصدرت المحكمة المذكورة أمراً على عريضة بندب خبيـر قـضائي ليقـوم بالمهمـة المذكورة، وباشر مأموريته، وأخطر أطراف الخصومة بميعـاد الخـروج للمعاينـة وضـرورة حضورهم لذلك، فطعنت الشركة السويسرية على هذا الأمر القضائي أمـام محكمـة اسـتئناف طرابلس استناداً إلى المادة 297 مرافعات24، مؤسسة طعنها على أن دعوى إثبات الحالة فرع من النزاع المنظور أمام محكمة التحكيم بغرفة التجارة الدولية باريس، فهي المختصة بنظـر طلـب إثبات الحالة ولا يكون للقضاء الليبي ولاية في نظر هذا الطلب، كما لا يكون له اتخاذ أي إجراء يتعلق بهذه المنازعة.
وقد أصدرت محكمة الاستئناف حكمهـا القاضـي بإلغـاء الأمـر المـتظلم منـه وبعـدم اختصاص القضاء الليبي ولائياً بنظر النـزاع، مؤسـسـة قـضاءها علـى أن شـرط التحكـيم يسلب اختصاص القضاء الوطني بنظر المنازعة وبكل ما يتعلق بها مـن إجـراءات وقتيـة أو تحفظية.
وبما أنه يتعذر قانوناً الطعن بالنقض في مثل هذه الأحكام، فإن هذا الحكم صار باتاً، الأمر الذي ترتب عليه ضياع حقوق الشركة الليبية التي يحميها القانون بدعوى إثبات الحالة بموجـب أحكام قانون المرافعات الليبي، وهو القانون الواجب التطبيق الذي لا يقر اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية لغير القضاء، وعلى الرأي القائل بجواز اتفاق الأطراف على اتخاذ هذه الإجراءات من قبل هيئة التحكيم، فإن هذا الاتفاق لا يحجب هذا الاختصاص عن القضاء، وفي جميع الأحـوال يشترط أن ينص في اتفاق التحكيم صراحة على اتخاذ هذه الإجراءات من قبل هيئة التحكيم، لأن مجرد الاتفاق على التحكيم لا يمتد إلى هذه الإجراءات، وأن الحكم المذكور لم يتعرض لشيء من ذلك، وكان على المحكمة مصدرته بحث محتويات شرط التحكيم، ووثيقة المهمة التحكيمية في ما يخص عقود الأشغال العامة. .
وبالرجوع إلى نص المادة 758 من قانون المرافعات التي هي سند قضاء المحكمـة العليـا فيما انتهت إليه – يتبين أن المشرع وضع قيوداً على اختصاص المحكمين، في حين أن الحجـز والإجراءات التحفظية الأخرى شأنها شأن دعوى إثبات الحالة التي لم يعتبرها المشرع ولا قضاء المحكمة العليا فرع من دعوى التحكيم رغم أنها أكثر التصاقاً بها من دعوى إثبات الحالة اعتبرت فرعاً من الدعوى التحكيمية.
ونرى أنه من الممكن تقديم كل من الأمر الصادر عن محكمة البداية وتقرير الخبرة إلى هيئة التحكيم المنظور أمامها أصل النزاع، التي يكون لها الاعتماد على هذا التقرير إذا رأت كفايته أو إعادة المأمورية عن طريق محكمة استئناف باريس - لاختصاصها بمقر هيئة التحكيم – لتصدر بدورها إنابة إلى المحكمة التي يقع في دائرتها العقار.
ويكون التظلم بتكليف الخصم بالحضور أمام قاضي الطعن الذي يحكم فيه على وجه السرعة بتأييد الأمر أو بإلغائه ويكون أمره نهائياً.
فإذا تم اتخاذ هذا الإجراء، فإن على هيئة التحكيم أن تبرر قناعتها في أسباب حكمهـا بمـا انتهت إليه، أما إذا أصدرت حكمها دون أن تلتفت إلى ما قدم إليها، فإنها تكون قد أخلـت بحـق الدفاع، وهو من الأسس التي يجب على هيئة التحكيم مراعاتها، فإذا هي خالفت ذلك، فإن حكمها يشوبه البطلان، ولذي الشأن أن يطعن على ذلك بالبطلان، وعدم التنفيذ لمخالفته النظام العام.
وخلاصة ما تقدم: يتبين مما تقدم دور القضاء البارز والهام في مساندة التحكيم في الوصول إلى هدفه، وهو الفصل في النزاع بكل امتيازاته، وأن التحكيم لا يمكنه الوصول إلـى ذلـك، إلا بمساندة ومساعدة القضاء، وهذه تحمل في داخلها رقابته في ما يتعلق بمـا يقدمـه الـى هيئـة التحكيم من مساندة.