التحكيم هو إحدى الوسائل البديلة لحل النزاعات المرغوبة جداً في أيامنا هذه. إضافة إلى أنه يقلص، بكل الوسائل الممكنة، عدد النزاعات المحالة إلى المحاكم الوطنية المكتظـة بالـدعاوى، يولى المفهوم الحديث للعلاقات بين الأفراد والإدارة أولوية للوسائل الرضائية لحـل النزاعـات الناشئة بينهم. وعليه، يظهر التحكيم كوسيلة يجب إيلائها الأولوية في هذا المجال.
خلافاً لما يحصل في القانون الخاص حيث قابلية النزاعات للتحكيم هي نوعاً ما القاعدة، إن المفهوم المعاكس، أي عدم قابلية النزاعات للتحكيم، هو السائد في المسائل الإدارية. فهذه الوسيلة لحل النزاعات التي هي التحكيم لا تكون مقبولة إلا بشكل إستثنائي. وعليه، إن السؤال الأساسـي المطروح يتناول قانونية خضوع النزاعات للتحكيم في المسائل الإدارية. بغية تحديد هذه القانونية، سنستخدم عبارة قابلية النزاعات للتحكيم في المسائل الإدارية، وهي عبارة معروفـة جـداً مـن القانون العام الذي يرعى التحكيم.
في محاولة للرد على هذه الإشكالية، سنحلل أهلية شخص معنوي خاضع للقانون العام لإبرام اتفاق تحكيم في القانون اللبناني، مهما كانت صفة المتعاقد الآخر الذي يمكـن أن يكـون، علـى السواء، خاضعاً للقانون العام أو للقانون الخاص. وبما أن القانون اللبناني متأثر جـداً بالقـانون الفرنسي، فإن العودة باستمرار إلى هذا القانون تفرض نفسها.
طبعاً، إن منصبنا كرئيس مجلس الدولة اللبناني يمنعنا من تفصيل بعـض أوجـه قابليـة النزاعات للتحكيم في المسائل الإدارية بسبب الإلتزامات المرتبطة بوظيفة القاضـي المفروضـة علينا. غير أن نظرة سريعة على قانون التحكيم اللبناني وعلى تطوره تقودنا إلى تاريخ رئيـسي، إلى حدث قانوني حصلت معه التساؤلات السابقة على إجابة، ولكن ظهرت معه أيضاً تساؤلات جديدة، في حين أنه لم يجدر أن يكون عليه الأمر كذلك. هذا الحـدث الرئيـسـي هـو القـانون رقم 440 تاريخ 29 يوليو 2002 الذي عدل بعض نصوص قانون أصول المرافعـات المدنيـة اللبناني المتعلقة بالتحكيم، الذي أوجد فاصلاً بين الفترة السابقة لقـانون العـام 2002 والفتـرة اللاحقة له.
القسم 1- قابلية النزاعات للتحكيم قبل قانون العام 2002:
لمدة طويلة، بقيت مسألة أهلية شخص معنوي خاضع للقانون العام لإبـرام اتفـاق تحكـيم مسألة راهنة مثيرة للاهتمام، نظراً إلى أن مسألة لجوء الدولة والكيانات المنبثقة عنها مجادل فيها بشدة.
هذا الجدال ناشيء عن الغموض في النصوص المرجعية ونما من تردد الاجتهاد وآراء الفقه المسبقة.
أ- غموض النصوص:
كان مبدأ منع التحكيم في المسائل الإدارية راسخاً بسبب النصوص غير المؤيـدة للتحكـيم الواردة في قانون أصول المرافعات المدنية القديم لعام 1933، فـي حـين أن قـانون أصـول المرافعات المدنية الجديد لعام 1983 صامت حول هذه المسألة في القانون الداخلي.
كان قانون أصول المرافعات المدنية القديم، المنشور في العام 1933 والذي دخل حيز التنفيذ منذ العام 1934، يتضمن في المواد من 821 إلى 849 الأحكام التي ترعى التحكـيم. إن منـع الاتفاق على التحكيم، الذي وضع ليطبق على أشخاص القانون العام، ناجم بشكل غير مباشر عن ضم المادتين 828 و408 (المستوحتين مباشرة من المادتين 83 و1004 مـن قـانون أصـول المرافعات المدنية الفرنسي القديم لعام 1806). كانت المادة 828 تستثني التحكيم في الحـالات الواجب إبلاغها إلى النيابة العامة، وكانت المادة 408 تعتبر أنه من الواجب إبلاغ كل نزاع يتعلق بـ "الدولة أو إدارة عامة أو مؤسسة عامة". كان هذا المنع يشمل إذا كل الأشخاص المعنـويين الخاضعين للقانون العام.
ألغى المشرع الفرنسي أحكام قانون أصول المرافعات المدنية الخاصة بـالتحكيم بالقـانون تاريخ 5 يوليو 1972، الذي أدخل في القانون المدني .
أما في ما خص المشرع اللبناني، فقد عدل قانون أصول المرافعات المدنيـة مـن خـلال المرسوم التشريعي رقم 83/90. فأصبح الباب الأول من الكتاب الثاني هو الذي يرعى التحكـيم (المواد من 762 إلى 821). هذه الأحكام مقسمة إلى قسمين: القسم الأول يتناول التحكيم الداخلي (المواد من 762 إلى 808) والقسم الثاني يتناول التحكيم الدولي (المواد من 809 إلى 821).
لم تستعد المادتان 828 و408 من قانون أصول المرافعات المدنية القديم لدى تعديل قـانون أصول المرافعات المدنية الجديد في العام 1983. ولا نجد، في الباب الأول المتعلـق بـالتحكيم الداخلي، أي نص يشير صراحة إلى أهلية الدولة والأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العـام للاتفاق على التحكيم. بالمقابل، إن المادة 762 من قانون أصـول المرافعـات المدنيـة الجديـد (المتعلقة بشرط التحكيم) والمادة 765 (المتعلقة باتفاق التحكيم)، اللتان تستعيدان، حـول هـذه النقطة، أحكام قانون أصول المرافعات المدنية القديم، تقرران بطريقة مماثلة أن النزاعات القابلـة للتحكيم هي تلك القابلة للصلح. كذلك، إن المادة 1037 من قانون الموجبات والعقود تستبعد مـن التسوية، وبالتالي من التحكيم، المسائل المتعلقة بالنظام العام.
إلا أنه في العام 1985، أضيفت فقرة ثانية بموجب المرسوم التشريعي رقـم 85/20 إلـى المادة 795 تندرج في إطار تنظيم التحكيم الداخلي. تنص هذه الفقرة على أنه "إذا كـان النـزاع موضوع التحكيم من اختصاص القضاء الإداري، تعطى الصيغة التنفيذية من قبل رئيس مجلـس شورى الدولة مجلس الدولة. وفي حال رفضها، يعترض على قراره لدى مجلس القضايا".
هذا الصمت في النصوص وهذه الفقرة الجديدة أثارا جدلاً، خاصة وأن المادة 809 المتعلقة بالتحكيم الدولي إعترفت صراحة بحق أشخاص القانون العام بالاتفاق على التحكيم.
ب- الجدال:
إن غموض النصوص سبب بالضرورة جدالا في سياق الإجتهاد والفقه في لبنان.
لم تسنح الفرصة كثيراً للاجتهاد لبت هذه المسألة بوضوح، وهو ليس غنياً ولا صريحاً فـي هذا الشأن.
فمن وقت قانون أصول المرافعات المدنية القديم، كانت القرارات القضائية المتعلقة بأهليـة أشخاص القانون العام للاتفاق على التحكيم نادرة ولا تقدم حلولاً دقيقة. وعليه، إن القرار رقم 13 الصادر بتاريخ 23 مارس 1938 عن مجلس الدولة في نزاع بين فرد وبلدية بيروت قضى بأنه عندما تتعاقد إدارة ما بالشروط نفسها التي يتعاقد فيها شخص من القانون الخاص، تكون خاضعة لأحكام القانون الخاص وبالتالي، تكون مخولة الإتفاق على التحكيم.
غير أن القرار رقم 48/75 تاریخ 7 ديسمبر 1948 الصادر عـن مجلـس الدولـة منـع الإدارات العامة من اللجوء إلى التحكيم لأن هذا الأخير كان يعتبر على أنه تنازل مسبق من جهة الإدارة عن بعض حقوقها، إضافة إلى ذلك، أكد قاضي بيروت المنفرد هذه المقاربة في القـرار رقم 203 الذي أصدره في 27 ديسمبر 1950. كان هذا المنع يطبق على العقود الإدارية وذلك بموجب المادتين 828 و408 من قانون أصول المرافعات المدنية القديم والمبادئ العامة.
هذه القرارات المبعثرة غير قادرة على المساهمة في حل متماسك في ما خص وجود هـذا المنع وطبيعته (الأساسية أو المادية) ومداه (العقود الخاصة أو الإدارية).
يضاف الى هذا أنه بعد دخول قانون أصول المرافعات المدنية الجديد حيز التنفيذ، لم يقـدم الإجتهاد أجوبة واضحة أكثر. في الدعوى بين الدولة ووزارة المالية من جهة وشركة "مـدريكو" (Medrico) من جهة أخرى، شدد مجلس الدولة في قراره رقم 25 تاريخ 1 فبراير 1988 "أنه ممنوع من حيث المبدأ على الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام أن اللجوء إلى التحكيم في غياب استثناء تشريعي"، مع أن قرار مجلس الدولة للعـام 1988 منـع لجـوء الإدارة إلـى التحكيم، إلا أنه لا يبدو أنه يستفيد من قوة مطلقة بما أن استخدام البنية اللغوية "أنـه مـن حيـث المبدأ" لا يساوي "أنه مبدأ يعمل به" أو "إنه مبدأ". وبالتالي، لا يبدو أن مبدأ عاماً ينص على المنع ينتج عن هذا القرار.
فضلاً عن ذلك، قضت محكمة التمييز في القرار الذي أصدرته في 23 فبراير 1999 بأن الشخص المعنوي الذي عهد إليه مرفق عام صناعي وتجاري ملزم باتفاق التحكيم الـذي وقعه في إطار عقد خاضع للقانون الداخلي. غير أنه يمكن لظروف الدعوى أن تبدو خاصة وبالتالي أن تحد من مدى القرار. "تلفزيون لبنان"، وهو مرفق عام تملـك الدولـة أغلبيـة الأسهم فيه، طعن بطريق النقض على أساس أن اللجوء إلى التحكيم ممنوع على أشخاص القانون العام؛ ولكن محكمة التمييز قضت بأن شركة "تلفزيون لبنان" كانـت خاضـعة ف إدارتها إلى أحكام قانون التجارة وبالتالي أن المرسوم رقم 87/412 الذي يعهد إليها تـسيير مرفق عام، لا يغير طبيعتها. هذا القرار اقتصر على المرافق العامة الـصناعية والتجاريـة وربما بنوع خاص أكثر، على هذه الحالة المحددة المتعلقة بهذه الشركة الخاضعة لأحكـام قانون التجارة.
هذه الاختلافات في الاجتهادات سببت إنقساماً عميقاً في الفقه.
على مستوى الفقه، حرك رجال قانون بارزون الجدال حول قابلية النزاعات للتحكـيم المسائل الإدارية. يمكننا تمييز تيارين فقهيين كبيرين يتجابهان: تيار "محافظ" يحرص على عـدم المساس بالاختصاص الإداري في المسائل الإدارية؛ وتيار "ليبرالي" يعظم اللجوء إلـى التحكيم لضروريات الحياة الإقتصادية والعولمة.
بالنسبة إلى المدافعين عن منع اللجوء إلى التحكيم، استمر هذا المنع حتى لو لم يستعد قانون أصول المرافعات المدنية الجديد لعام 1983 المنع الناجم عن ضم المادتين 828 و408 من قانون أصول المرافعات المدنية القديم.
باختصار، قدم هذا التيار الحجج التالية لدعم المنع:
- إن قانون أصول المرافعات المدنية الجديد قبل صراحة إمكانية لجوء الدولة وغيرها من أشخاص القانون العام إلى التحكيم في المسائل الدولية، مما يعني أن المنع يبقـى سـارياً على التحكيم في المسائل الداخلية. لو أراد المشرع بسط هذه الإمكانيـة إلـى المـسائل الداخلية، لما كان تردد في ذكر ذلك.
- إن المادة 762 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد تذكر صـراحة أنـه يجـوز للمتعاقدين أن يدرجوا في العقود التجارية والمدنية المبرمة بينهم بندا ينص على أن تحلّ بطريق التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح، إذاً، أغفلت إدراج اللجوء إلى التحكيم في العقود الإدارية الداخلية.
- إن الفقرة 2 من المادة 795 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد، التي تمنح رئيس مجلس الدولة امتياز منح الصيغة التنفيذية لنزاع يكون موضوعاً لتحكيم من إختـصاص القضاء الإداري، لم تنظم إلا مسألة إجرائية ولم تلمح البتة إلى إذن لأشخاص القـانـون العام بالاتفاق على التحكيم. فضلاً عن ذلك، حتى لو كانت المادة 795 مدرجة في القسم المتعلق بالتحكيم الداخلي، إلا أنها مخصصة لتطبق قبل كل شيء على التحكـيم الـدولي بسبب إحالات النصوص التي تحيط بها. على الأكثر، يمكن للمادة 795 أن تطبق عندما يجيز المشرع لأشخاص القانون العام، بصفة إستثنائية، أن يتفقوا على التحكيم الداخلي .
بحسب هذا التيار، كانت المؤسسات العامة ذات الطابع الصناعي والاقتصادي مخولة الاتفاق على التحكيم عند إبرام عقود وفقاً لمقتضيات القانون الخاص11. غير أنه في ما يتعلـق بالدولـة وبالهيئات الإدارية العامة وبالمؤسسات العامة ذات الطابع الإداري، كان المنع مطلقاً إذاً، لـم يكن المنع إلا منعاً يتعلق بالاختصاص الموضوعي .
فضلاً عن ذلك، يعتبر رأي رئيس هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العـدل المـؤرخ 1997/4/24 أن العقود الخاضعة للقانون الخاص التي أبرمت وفقاً للقانون الداخلي من قبل الدولة أو أحد الكيانات المنبثقة عنها، بتخليها عن امتيازاتها كسلطة عامة، تخضع لقواعد القانون الخاص وبالتالي، يكون اللجوء إلى التحكيم ممكناً.
بالنسبة إلى المدافعين عن إمكانية اللجوء إلى التحكيم، يسمح للدولة وللإدارات العامة أن تلجأ إلى التحكيم، حتى في إطار العقود الإدارية.
إن الحجج التي قدمها هذا التيار هي الآتية:
- لا يوجد أي نص يمنع صراحة أو ضمناً لجوء الدولة إلى التحكيم الداخلي. بنـاء علـى المبدأ القائل أن كل ما هو ليس ممنوعاً هو إذا مسموح، يجب توسيع مـدى النـصوص السارية بحيث تعزز موقع التحكيم. وعليه، يصبح ممكناً للدولة وللأشخاص المعنـويين الخاضعين للقانون العام أن يتفقوا على التحكيم.
- إن وجود الفقرة 2 من المادة 795 من قانون أصول المرافعات المدنيـة الجديـد يميـل لمصلحة التحكيم في المسائل الإدارية، لأنه لما كان هناك داع للمشرع أن يعـدل المـادة 795 لو لم يرد أن يجيز التحكيم الداخلي لأشخاص القـانـون العـام 15. إلا أن القـضاء الإداري يكون فقط مختصاً بالنسبة إلى عقد له طبيعة إدارية وبالتالي، هذه الفقرة تلم إلى إمكانية اللجوء إلى التحكيم في المسائل الإدارية. كما أن الفقرة 9 من المادة 22 مـن المرسوم التشريعي رقم 4517 تاريخ 1972/12/13 (المتعلق بالنظام العام للمؤسـسـات العامة) يمكن أن تكون توضيحاً في هذا المعنى، بما أنها تنص على أن القرار الذي يتخذه مجلس مؤسسة عامة باللجوء إلى التحكيم يخضع لتصديق سلطة الوصاية16. إذا، لم يكن يوجد في القانون اللبناني منع يتعلق بالاختصاص الموضـوعي أو مبـدأ مطلـق يمنـع أشخاص القانون العام من اللجوء إلى التحكيم، حتى في المسائل الإدارية.
نلاحظ أن المدافعين عن منع اللجوء إلى التحكيم والمدافعين عن إمكانية اللجوء إلى التحكيم استخدموا الحجج ذاتها (صمت النصوص ووجود الفقرة 2 من المادة 795 من قـانون أصـول المرافعات المدنية الجديد) ليتوصلوا إلى حلين متضاربين، حتى لا نقول إلى حلين متناقضين كلياً.
إن الاجتهاد الإداري والقرارين الصادرين عن مجلس الدولة اللبنـاني بتـاريخ 17 يوليـو 2001 في الدعويين المقامتين من الدولة اللبنانية ضد شركتي Cellis و 18Libancell حملـت المشرع على التدخل لإزالة الالتباسات المبينة أعلاه.
القسم 2- قابلية النزاعات للتحكيم منذ قانون العام 2002:
كان هدف التعديلات التي أدخلت على المادتين 77 و762 من قانون أصـول المرافعـات المدنية الجديد هو وضع حد للتفسيرات المتباعدة لأحكام قانون أصول المرافعات المدنية الجديـد في ما خص مدى أحقية الدولة والأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام في اللجـوء إلـى التحكيم الداخلي. وعليه، تقر" المادة 762 الجديدة من قانون أصول المرافعـات المدنيـة الجديـد الاختصاص المحلي (بسبب الشخص) لأشخاص القانون العام للجوء إلى التحكيم الـداخلي، فـي حين أن المادة 77 الجديدة من قانون أصول المرافعات المدنية الجديـد تعتـرف بالاختصاص الموضوعي لهؤلاء الأشخاص ذاتهم للجوء إلى التحكيم في عقود الامتياز.
أ- تأكيد حق الدولة والكيانات المنبثقة عنها في اللجوء إلى التحكيم:
مستوحياً من التشريع الفرنسي، إستعاد المشرع اللبناني التمييز القائم بين التحكـيم الـداخلي والتحكيم الدولي. بما أن المادة 762 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد هي مادة تتعلـق بقابلية النزاعات المدرجة في الأحكام المتعلقة بالتحكيم الداخلي للتحكيم، تطبق الأحكـام الجديـدة لهذه المادة حصرياً على قابلية النزاعات للتحكيم الداخلي.
النص القديم للمادة 762 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد كانت تـشيـر صـراحة على أنه يجوز للمتعاقدين أن يدرجوا في العقود التجارية والمدنية المبرمة بينهم بنداً ينص علـى أن تحل بطريق التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح. بعدم إدراجها صراحة ضمن هذه اللائحة الشاملة العقود الإدارية، تكون المادة 762 استبعدت ضمنا إمكانية اللجوء إلى التحكـيم الـداخلي عندما تتعلق النزاعات بمثل هذه العقود. هذه القراءة أكدها تعريف النزاعات القابلة للصلح كمـا يتضح من قانون الموجبات والعقود اللبناني .
بعزمه وضع حد لهذا المنع، أظهر المشرع اللبناني إبداعه إذ أنه عرف قابليـة النزاعـات للتحكيم هذه بالإحالة إلى عنصرين يؤلفانها، هما قابلية النزاعات للتحكيم من ناحيـة موضـوعية وقابلية النزاعات للتحكيم من ناحية غير موضوعية. أولاً، تستعيد الفقـرة 1 مـن المـادة 762 التعريف ذاته لقابلية النزاعات للتحكيم من الناحية الموضوعية، أي المسائل التي يمكن أن تكـون موضوع تحكيم. بالطبع، يتعلق الأمر بالعقود المدنية والتجارية. وبشكل عـام أكثـر أيـضاً، إن المسائل التي يمكن أن تخضع للتحكيم هي المسائل القابلة للصلح. ثم تعرف الفقرة 2 من المـادة 762 في صيغتها الجديدة قابلية النزاعات للتحكيم من ناحية غير موضوعية، أي الأشخاص الذين لديهم الأهلية للجوء إلى التحكيم. ما هو جديد هنا هو الاعتراف الصريح والذي لا لبس فيه بأهلية الدولة والأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام للجوء إلى التحكيم الداخلي "أياً كانت طبيعة العقد موضوع النزاع".
بجعل تعريفي عنصري قابلية النزاعات للتحكيم متوافقين مع بعضهما البعض، من المؤكـد من الآن فصاعداً أن قانون أصول المرافعات المدنية الجديد جعل اللجوء إلى التحكيم الداخلي في العقود الإدارية ممكناً. يبقى أن مفهوم العقد الإداري غير معرف، علـى افتـراض أنـه يمكـن تعريفه. ولكن بالأخص، هذا النص يصطدم بالاختصاص الحصري للقاضي الإداري المتعلـق بالعقد الإداري. إذن، تطرح هنا مسألة حل هذا التناقض بين نظام مجلس الدولة اللبناني – نص خاص- وقانون أصول المرافعات المدنية الجديد - نص عام لاحق.
بالإضافة إلى ذلك، تنص الفقرة 3 من المادة 762 الجديـدة علـى أنـه لا يمكـن للدولـة وللأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام أن يلجأوا إلى التحكيم في العقود الإدارية إلا بعـد الحصول على إجازة مسبقة من الحكومة، وهي إجازة تتمثل بمرسوم يتخذ في مجلس الـوزراء. يتعلق الأمر هنا بشرط جديد فرض على جدوى اللجوء إلى التحكيم.
ستكون هذه المادة مصدر مشاكل لأنها تشكل تراجعاً بالنسبة إلى الوضع السابق نظراً إلـى أنها أضافت شرط صحة جديد لإمكانية لجوء الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام إلـى التحكيم. بإعادة الأخذ، لصالحها، بأحكام قانون التحكيم المصري، تنص هـذه الفقـرة علـى موافقة مجلس الوزراء لجعل لجوء الدولة وكل الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام إلى التحكيم نافذاً، أي ممكناً، في العقود الإدارية.
في ما يتعلق أولاً بعقود الدولة الإدارية، يعود عادة إلى الوزير المختص أن يوافـق علـى اللجوء إلى التحكيم الداخلي في عقد ما وذلك عند توقيع هذا الأخير. إذا كان الوزير موافقاً، فهذا يعني أن الدولة موافقة أيضاً وتوقيع الأول يرتب مسؤولية على الثانية.
بالمقابل، في ما يتعلق بالأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام، وبالأخص بالمؤسسات عادة مستقلة العامة التي هي عن الدولة، ينطوي هذا النص على خطر حقيقي. فتـدخل مجلـس الوزراء من خلال إعطائه لموافقته سيؤدي بفعل الواقع إلى إشراك الدولة في التحكيم في حين أنه في العقود التي يبرمها هؤلاء الأشخاص المعنويين الخاضعين للقانون العام، لا تعـرف الدولـة المتعاقد الآخر ولا تعرف أيضاً العقد بطريقة عامة.
في الواقع، من خلال موافقتها، تجازف الدولة بأن تجد نفسها متورطة رغماً عنها في تحكيمـات لا تكون عادة معنية بها ولا حتى مدعوة لتكون طرفاً فيها. هناك خطر بأن تجر الدولة إلى التحكيم رغماً عنها وإذا إلى تحكيم جبري، وهو من حيث التعريف يخالف المفهوم ذاته للجوء إلى التحكيم.
فضلاً عن ذلك، هذا النص سيثير مشاكل داخلية عديـدة إذ أنـه سـيـصدق علـى تـدخل الدولة في عمل وإدارة المؤسسات العامة التي هي عادة مستقلة عـن الدولـة وخـارج نطـاق وصايتها.
أخيراً، باستبعاده اختصاص القاضي الإداري في ما خص العقود الإدارية التي تنص علـى اللجوء إلى التحكيم، يعيد المشرع إعطاء ما أخذه. في الواقع، بموجـب نظـام مجلـس الدولـة اللبناني، وحده هذا القاضي الإداري سيكون مختصاً بنظر طلبـات الطعـن بالإبطـال لتجـاوز السلطة ضد المرسوم الصادر عن مجلس الوزراء الذي يجيز اللجوء إلى التحكـيم فـي العقـد، إضافة إلى قرارات رفض منح الإذن على الأرجح. بما أن القانون لم يحـدد المعـايير التـي تسمح لمجلس الوزراء بمنح هذا الإذن أو برفضه، ستكون سلطة الحكومـة التقديريـة خاضـعة لرقابة موضوعة بالكامل بين يدي القاضي الإداري في تطبيقه لمبادىء القانون العامـة لا سيما وأن الإطار التشريعي لتدخله ليس محدداً في المادة 762 الجديدة من قانون أصـول المرافعـات المدنية الجديد.
رغم هذه الملاحظات، أصبحت المادة 762 الجديدة من قانون أصول المرافعـات المدنيـة الجديد، بالنسبة إلى التحكيم الداخلي، "نسخة" عن المادة 809 مـن قـانون أصـول المرافعـات المدنية الجديد التي تجعل اللجوء إلى التحكيم الدولي ممكناً للأشخاص المعنـويين الخاضـعين للقانون العام.
ب- تأكيد حق اللجوء إلى التحكيم في كل أنواع العقود الإدارية:
إذا كانت المادة 762 الجديدة من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد تسمح باللجوء إلـى التحكيم الداخلي في العقود الإدارية، فإن قرارات مجلس الدولة اللبناني الصادرة في العام 2001 أظهرت بوضوح ذاتية عقود الامتياز. بحكم المادة 77 القديمة من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد، استبعد القاضي الإداري اللجوء إلى التحكيم في هذا النوع من العقود، أكان الأمر يتعلـق بتحكيم داخلي أو دولي، في حين أن المادة 809 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد تسمح اللجوء إلى التحكيم عندما يتعلق الأمر بالتحكيم الدولي. نظراً إلى أن المشرع اللبناني أراد الذهاب إلى أقصى الحدود في منطقه المؤيد للجوء إلى التحكيم، قام أيضاً بتعديل المادة 77 مـن قـانـون أصول المرافعات المدنية الجديد.
هذه المادة 77 المتعلقة بالامتيازات تحدد في صيغتها القديمة إختصاص المحـاكم اللبنانيـة الإلزامي بالنظر في النزاعات الخاصة بالامتيازات. أما في صيغتها الجديدة الصادرة بموجـب القانون رقم 440، فهي تتدخل بالنسبة إلى اختصاص المحاكم اللبنانية الـداخلي وبالنسبة إلـى اختصاصها الدولي بالنظر في النزاعات الخاصة بالامتيازات.
بغية الأخذ بالاعتبار الاحكام الجديدة التي ادخلت بموجب القانون تاريخ 29 يوليو 2002، ولكن أيضاً بغية تصحيح "سهو" المشرع عام 1983 لدى إصدار قانون أصول المرافعات المدنية الجديد، عدلت هذه المادة عن الطابع الإلزامي لاختصاص المحاكم الوطنية. إذا، تسمح هذه المادة باستبعاد اختصاص المحاكم اللبنانية عندما ينص عقد الامتياز على اللجوء إلى التحكيم، أكان دولياً بموجب المادة 809 من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد أو داخليا بموجـب المـادة 762 الجديدة من قانون أصول المرافعات المدنية الجديد 26 غير أن هذه المادة تبقى غير واضحة بما أنها ما زالت لا تحدد أي من المحاكم اللبنانية هي المختصة بنظر المسائل المتعلقة بالامتياز. كما أنها لا تحدد المعايير التي تسمح بتحديد اختصاص هذه المحكمة اللبنانية أو تلك. هذه المسائل مهمة بالنسبة إلى عقود الامتياز الخاضعة للتحكيم وذلك عندما يتعلق الأمر بطرق الطعن المتاحة ضد حكم التحكيم.
هل المحاكم المختصة ستكون محاكم قضائية أو محاكم إدارية؟ إذا استندنا إلى نظام مجلـس الدولة اللبناني، وحده القاضي الإداري هو المختص بالمسائل المتعلقة بالامتياز. ولكن إذا استندنا إلى قانون أصول المرافعات المدنية الجديد، وحده القاضي القضائي هو المختص بنظر الطعـون ضد أحكام التحكيم، نظراً إلى أن القاضي الإداري مختص فقط في المسائل المتعلقـة بالـصيغة التنفيذية. يتوقع إذا تنازع الاختصاص بين جهات القضاء في ما خص الطعون المتاحـة ضـت أحكام التحكيم، والمسألة كما يبدو لن ثبت قريباً.
الخاتمة:
مع تعديل قانون التحكيم في لبنان في العام 2002، تم إقرار إمكانية لجوء أشخاص القـانـون العام إلى التحكيم في العقود الإدارية بشكل أكيد في قانون أصول المرافعات المدنية الجديد، حتى لو أن بعض المسائل الأساسية لا تزال معلقة.
من جهة، كان يجب الرد على الأسئلة المتعلقة بالموافقة على التحكيم وبتنفيذ الاتفاق الـذي ينص على التحكيم أو الذي ينظمه بحسن نية. مثلاً، هل يكون صحيحاً؟ اتفاق التحكيم الموقع تحت تهديد إيقاف استمرارية مرفق عام والإضرار بحسن سير المرفق العام، لأن الدولة أو الـشخص المعنوي الخاضع للقانون العام يطلب إبطال شرط التحكيم، وأيضاً، هل يمكن إجبار الطرف الذي ليس في موقع قوة على عدم اللجوء إلى المحاكم النظامية رغماً عنه؟ أو حتى، وفق أية شـروط وخلال أية مهلة يمكن تقديم طلب إبطال حكم التحكيم في المسائل الإدارية؟ .
من جهة أخرى، كان يجب محاولة إيجاد إجابات على الأسئلة المتعلقة بمبدأ المساواة. مثلاً، ما يمكن قوله عن اتفاق تحكيم يمنح أحد الأطراف امتيازاً فـي مـا خـص تعيين المحكـم أو المحكمين؟ وأيضاً، هل يمكن التأكيد على المساواة بين المترافعين أمام المحكم، خاصة عنـدما لا يمارس الأطراف في التحكيم المتعلق بالمسائل الإدارية النشاط نفسه؟ وأيضاً، ألا يتم مخالفة مبدأ المساواة بين الأطراف عندما يمكن إستئناف قرار رفض منح الصيغة التنفيذية لحكم تحكيمي، في حين أن طريق الطعن هذا ليس متاحاً ضد قرار يمنح الصيغة التنفيذية لحكم التحكيم؟
لا شك أن كل هذه الأسئلة ستلاقي إجابات عليها بفضل بصيرة السلطات القضائية المـدعوة إلى التدخل في ما خصتها. كما يبينه بهذا الخصوص رجال القانون المتخصصين في التحكيم، لـم يعد القاضي الوطني يعتبر اللجوء إلى التحكيم كشكل من أشكال الـرفض لاختصاصه؛ علـى العكس، إن هذا الأخير، بتدخله كقاض مساند، يشارك في حسن إدارة الدعاوى التحكيميـة. مـن خلال هذا التدخل لصالح التحكيم، الذي يسمح أيضاً للقاضي الوطني بضمان جودة التحكيم مـن خلال رقابته، يكون القاضي الوطني يعمل على جعل العدالة فعالة أكثر وبالتالي ممكـن بلوغهـا أكثر. إن القاضي الإداري يأخذ هو أيضاً مكانه ضمن هذه المقاربة الحديثة إزاء قابلية النزاعات للتحكيم في المسائل الإدارية.