يعتبر نظام التحكيم المعمول به في المملكة العربية السعودية حالياً والصادر بالمرسوم الملكي رقم م 46/ بتاريخ 1403/07/12هـ أول نظام للتحكيم يصدر في المملكة. ويتسم هذا النظام بالإقتضاب (24 مادة) كما يتسم بالدرجة الأولى بالرقابة القضائية على جميع مراحل التحكيم، فإن الجهة القضائية "المختصة أصلاً بنظر النزاع" هي التي توافق على وثيقة التحكيم وتشرف على تطبيق الإجراءات، وخاصة في ما يتعلق بمدة التحكيم، وتمديدها، وإصدار الإجراءات التحفظية بطلب من هيئة التحكيم، وهي التي توافق على قرار التحكيم أو تعدله أو تلغيه، بحيث لا يعتبر قرار التحكيم نهائياً وملزماً واجب النفاذ، إلا بعد موا افقة الجهة القضائية المختصة عليه، وعندما يلغي قرار التحكيم تتصدى الجهة المختصة للحكم في الموضوع.
وقد أخذ على نظام التحكيم الحالي إخضاع قرار التحكيم لموافقة الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع – وهي محكمة الدرجة الأولى فيجد طرفا الخصومة أنفسهم، وقد خضعوا لإجراءات التقاضي بما تتطلبه من الوقت والجهد، وكأن قرار التحكيم كانه مجرد رأي صادر من مساعدين قضائيين أو ما نسميهم "القضاة الملازمين".
كما ترك النظام الحالي أموراً كثيرة لا تزال موضع التساؤل والخلاف.
تبدأ إجراءات التحكيم في ظل النظام الحالي بأن يعد طرفا الخصومة "وثيقة تحكيم" يوقعها الطرفان، كما يوقعها المحكمون الثلاثة، ثم تقدم هذه الوثيقة لإدارة التحكيم بديوان المظالم حيث يتم تحويلها إلى إحدى الدوائر القضائية التجارية المختصة من الدرجة الأولى. تقوم الدائرة القضائية التي تحال إليها الوثيقة بمراجعتها وطلب تعديلها، إذا لزم الأمر، ثم تصدر قراراً بالموافقة عليها. ويعتبر تاريخ القرار هو التاريخ الرسمي لبدء مدة التحكيم، وهي تسعون يوماً ما لم يتفق على مدة معينة. ولا يمكن تمديد هذه المدة إلا بموافقة الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع.
ونريد التنبيه هنا إلى أن "وثيقة التحكيم" لا تشبه "وثيقة المهمة" أو ( Terms Of Reference) المنصوص عليها في المادة (1/23) من قواعد التحكيم لغرفة التجارة الدولية في باريس، إذ أنها لا تهتم بتحديد النقاط القانونية التي يتفق الطرفان على عرضها على المحكمين، بل هي مجرد عرض لوقائع الدعوى والدعوى المضادة مع طلبات الطرفين، يقوم بتحديد كل طرف ما يخصه منها، ثم التأكيد على تعيين المحكمين الثلاثة.
ويبدأ عندئذ نظر الدعوى والدعوى المضادة بتقديم المذكرات والمذكرات الجوابية من كل طرف خلال جلسات تحدد مواعيدها بالإتفاق مع هيئة التحكيم. ثم تصدر هيئة التحكيم قرارها بقفل باب المرافعة، ولها حق إعادة فتحها من جديد.
وعندما تصدر هيئة التحكيم قرارها النهائي تراجعه الجهة القضائية المختصة – كما أسلفنا وتوافق عليه، إذا لم يعترض أحد طرفي النزاع على قرار التحكيم. أما إذا قدم أحد طرفيه إعتراضاً على قرار التحكيم، فإن الموضوع عندئذ يدخل في إطار القضاء المعتاد، إذ سيكون من حق كل طرف أن يستأنف قرار المحكمة الإبتدائية وهكذا. ولا ينفذ قرار التحكيم، إلا بعد صدور حكم نهائي بالموافقة عليه أو نقضه أو تعديله إذ يصبح عندئذ حكما قضائياً.
وإذا ما قورن النظام الحالي بمشروع النظام الجديد نشعر بعد أول قراءة للمشروع – بأنه يشكل قفزة جريئة تخطت عقوداً من الزمن واجازت أموراً كان الحديث عنها في المملكة من قبيل الخيال.
سنستعرض بإختصار، فيما يلي، مستجدات المشروع التي احتوت عليها مواده التسع والخمسون، من المواد الطويلة والمفصلة.
الجديدفيالمشروع
سنورد هذه المستجدات حسب أهميتها مع الرجوع إلى المادة أو المواد ذات الصلة.
أولا- استقلال هيئة التحكيم عن الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع:
تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يتسلم فيه المدعى عليه طلب التحكيم من المدعي، ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك (المادة السابعة والعشرون).
وعندما يعين كل طرف محكمه ويختار المحكمان المحكم الثالث تستكمل هيئة التحكيم تكوينها وتكون مستقلة في إجراءاتها.
ولهيئة التحكيم بناء على (المادة الرابعة عشرة) أن تطلب من الجهة المختصة مساعدتها في إتخاذ تدابير مؤقتة أو تحفظية، أو الأمر بالإنابة القضائية أو دعوة شاهد أو خبير أو الأمر بإحضار مستند أو غير ذلك. كما يجوز لهيئة التحكيم – إذا أتفق طرفا الخصومة على ذلك إتخاذ أي تدابير مؤقتة أو تحفظية، ولهيئة التحكيم أن تطلب من أي من الطرفين تقديم ضمان مالي مناسب لتنفيذ هذا الإجراء (المادة الرابعة والعشرون).
وإذا لم يتفق طرفا التحكيم على مكان التحكيم تقرر هيئة التحكيم هذا المكان (المادة الثامنة والعشرون). ولهيئة التحكيم تعيين خبير (أو أكثر) وتحدد مهمته. وإذا نشأ بين الخبير وأحد الطرفين نزاع تصدر هيئة التحكيم قراراً بشأنه يكون غير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن (المادة السادسة والثلاثون).
وعلى هيئة التحكيم إصدار حكمها خلال إثني عشر شهراً، ويجوز تمديد هذه المدة، بحيث لا تزيد مدة التمديد على ستة أشهر إضافية. وعندما تصدر هيئة التحكيم قرارها أو حكمها النهائي طبقاً لنظام التحكيم، فإنه يحوز "حجية الأمر المقضي به"، ويكون واجب النفاذ، (المادة الثانية والخمسون). وتتولى الجهة المختصة أمر تنفيذ حكم المحكمين (المادة الثالثة والخمسون) الذي يكون قد أودع الطرف الذي صدر الحكم لصالحه أصل الحكم (المادة الرابعة والأربعون).
وهكذا فإن هيئة التحكيم تتمتع بصلاحيات غير محدودة لا يقيدها سوى اتفاق طرفي التحكيم على بعض الأمور. وأهم من ذلك كله هو أن قرار التحكيم يعتبر نهائياً وملزماً، إلا إذا تم الطعن فيه بالبطلان، وهي دعوى تحكم فيها الجهة المختصة بحكم نهائي يشبه الأحكام الصادرة عن محاكم النقض، إذ لا يتطرق نظر الطعن للوقائع، بل يكون محصوراً بالغلط في القانون فقط.
قد يكون شرط التحكيم وارداً في العقد موضوع النزاع أو بصورة مشارطة تحكيم. ولكن للطرفين حق تفويض الغير في اختيار إجراءات التحكيم "ويعد من الغير كل فرد، أو منظمة، أو مركز للتحكيم في المملكة العربية السعودية أو في خارجها (المادة الخامسة).
كما يجوز لطرفي التحكيم الاتفاق على "اخضاع العلاقة النظامية بينهما لأحكام عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية، أو أي وثيقة أخرى"، وعندئذ "يجب العمل بأحكام هذه الوثيقة بما تشمله من أحكام خاصة بالتحكيم بما لا يخالف الشريعة أو النظام العام" (المادة السادسة). وقد كررت ذلك الفقرة (3) من (المادة التاسعة).
وقد أكدت كل ذلك (المادة الخامسة والعشرون) التي نصت على أن "لطرفي التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم بما في ذلك حقها في اخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو هيئة أو مركز تحكيم في المملكة أو خارجها، بشرط موافقتها أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام بالمملكة. فإذا لم يوجد مثل هذا الإتفاق كان لهيئة التحكيم – مع مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام هذا النظام والنظام العام في المملكة أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة "(هكذا).
أما من حيث القواعد الموضوعية أو القانون واجب التطبيق على النزاع فإن (المادة السابعة والثلاثون) بدأت بالقول بأن على هيئة التحكيم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، والنظام العام في المملكة "إذا لم يعين أطراف التحكيم أي قاعدة"، ولكن الفقرة (3) من هذه المادة أوردت التفصيل التالي:
"على ألا يتعارض ذلك مع الثابت من أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام في المملكة، فان على هيئة التحكيم أثناء نظر النزاع الآتي:
أ- تطبق القواعد التي يتفق عليها الطرفان على موضوع النزاع، وإذا اتفقا على تطبيق نظام دولة معينة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، ما لم يتفق على غير ذلك.
ب- اذا لم يتفق الطرفان على القواعد النظامية واجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في النظام الذي ترى انه الأكثر اتصالاً بموضوع النزاع.
ج- يجب أن تراعي هيئة التحكيم عند الفصل في موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع، وتأخذ في الإعتبار الأعراف الجارية في نوع المعاملة، والعادات المتبعة وما جرى عليه التعامل بين الطرفين."
ثالثاً- حريةاختيارلغةالتحكيم:
لعل (المادة التاسعة والعشرون) من أشد مواد المشروع جرأة في التجديد، ولذلك نورد نصها كاملاً :
المادة التاسعة والعشرون (لغة التحكيم):
1. يجري التحكيم باللغة العربية ما لم يتفق الطرفان ]على[ لغة أو لغات أخرى، ويسري حكم الإتفاق أو القرار على لغة البيانات والمذكرات المكتوبة، وعلى المرافعات الشفهية، وكذلك على كل قرار تتخذه هذه الهيئة، أو رسالة توجهها، أو حكم تصدره، ما لم ينص اتفاق الطرفين أو قرار هيئة التحكيم على غير ذلك.
2. لهيئة التحكيم أن تقرر أن يرافق كل الوثائق المكتوبة أو بعضها التي تقدم في الدعوى ترجمة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم. وفي حالة تعدد هذه اللغات يجوز قصر الترجمة على بعضها. (انتهى).
رابعاً- "الفيصل" يحلمحل "المرجح":
يطلق النظام الحالي على المحكم الثالث اسم "المرجح"، ولكن المشروع استحدث في الفقرة (2) من (المادة الثامنة والثلاثون) محكماً رابعاً اطلقت عليه أيضاً اسم "المرجح"، إذ نصت هذه الفقرة على أنه "إذا تشعبت أراء هيئة التحكيم ولم يكن ممكناً حصول الأغلبية، عينت الجهة المختصة محكماً مرجحاً"، وهو تجديد لا نعلم له وجوداً سوى في عمليات التحكيم العمالية الجماعية التي تمارسها الهيئة الأمريكية للتحكيم (AAA)، ويطلق عليه باللغة الانجليزية اصطلاح "Umpire" ويترجم باللغة العربية بلفظ "الفيصل" أو "الوازع".
تلك هي أهم التجديدات التي أتى بها المشروع، مع جملة أخرى من التجديدات الأقل أهمية. فماذا تعني هذه التجديدات في نظر المهتمين بإجراءات التحكيم؟
المشروعفيالميزان
لعل ما يلفت في المشروع هو التطويل والإطناب في التفاصيل الدقيقة للإجراءات التي تترك عادة لقواعد الإجراءات المحلية، مثل تلك المتعلقة بمؤهلات المحكم وتعيينه ورده. وقد استغرقت تفاصيل الإجراءات أكثر من ثلثي نصوص المشروع. وقد كان مـن الممكن الإحالة فـي هـذه الأمور إلى قواعد المرافعات، بل أن غالبية الدول تكتفي بالنص على التحكـيم ضـمـن قـانون المرافعات.
مما يلفت أيضاً أن يبدأ النظام بتحديد نطاق تطبيقه ويبرز بصفة خاصة "المعاهدات الدولية"، ثم يبدأ بمواد هي في الواقع تعريف لبعض المصطلحات قبل أن تخصص (المادة الرابعة) للتعريفات. والمعمول به في هذا المجال أن تأتي التعريفات في بداية النظام، ليكون القارئ على بصيرة بمعاني المصطلحات عند قراءته.
ولكن المشروع في حد ذاته، وكوحدة كاملة، يثير أسئلة يحار المرء في الإجابة عنها.
أهوتحكيمتجاريدولي؟أمتحكيمشامل؟
كان من السهل معرفة مصدر هذا المشروع فانه يكاد أن يكون منقولاً "نقل مسطرة" من (قانون الأونسيترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي) لعام 1985م مع التعديلات التي أدخلت عليه عام 2006م. ومن المعلوم أن (لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) أعدت نصين أولهما القانون النموذجي المشار إليه، وأما النص الآخر فهو (قواعد الأونسيترال للتحكيم) الذي وضع عام 1976م ونقح عام 2010م. وكما أسلفنا فإن المشروع يكاد أن يكون صورة طبق الأصل من القانون النموذجي، غير أنه قد طعم هنا وهناك بعبارات تشير إلى مراعاة نصوص الشريعة الإسلامية والنظام العام.
إن بعض نصوص المشروع قد بدت، وكأنها أكثر خروجاً عن المألوف من النص الأصلي. ومثال ذلك ما نصت عليه (المادة الثالثة والعشرون) الخاصة بـ"اعتبار شرط التحكيم". فإن ما نصت عليه هذه المادة يعد مغالاة في اعتبار شرط التحكيم، إذ نصت على أن "يعد شرط التحكيم الوارد في أحد العقود اتفاقاً مستقلاً عن شروط العقد الأخرى. ولا يترتب على بطلان العقد الذي يتضمن شرط التحكيم – أو فسخه، أو إنهائه، بطلان شرط التحكيم الذي يتضمنه اذا كان هذا الشرط صحيحاً في ذاته" (هكذا). وهذا نص غريب، ووجه الغرابة فيه أنه يعتبر شرط التحكيم في العقد الباطل صحيحاً وملزماً. مع أن الثابت شرعاً انسحاب البطلان على جميع شروط العقد، إذا حكم ببطلانه شرعاً. وقد أكد لي ذلك أكثر من زميل من المتخصصين في فقه الشريعة الإسلامية. كل ذلك مع أن أصل هذه المادة في القانون النموذجي، وهي المادة 1/16، يكتفي بأن ".. أي قرار يصدر من هيئة التحكيم ببطلان العقد لا يترتب عليه بحكم القانون بطلان شرط التحكيم" وهو نص - على ما فيه – أخف بكثير من نص (المادة الثالثة والعشرين) من المشروع.
ومثال آخر هو استحداث "المرجح" بمعنى "الفيصل" أو "الوازع"، وهو محكم رابع يوكل اليه حسم النزاع "إذا تشعبت آراء هيئة التحكيم" (المادة الثامنة والثلاثون) مع أن (المادة 29) من القانون الموحد الخاصة بإتخاذ القرارات في هيئة التحكيم اكتفت بقرار الأغلبية دون أن تتعرض "لتشعب آراء المحكمين"!
وعندما ينتهي القارئ من قراءة المشروع يتبادر إلى ذهنه أنه مشروع نظام موجه الى الخارج. وهذا هو الواقع فإنه يتعلق أساساً بالتحكيم التجاري الدولي. لذلك فإنه من المستغرب أن ينص في مادته الأولى على شموله "على كل تحكيم بين طرفين أو أكثر، أياً كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع إذا جرى هذا التحكيم في المملكة...".
ان ذلك يعني أن طرفي النزاع السعوديين يمكنهما بناء على نصوص المشروع - إخضاع التحكيم بينهما لقواعد إجرائية أجنبية وقوانين موضوعية أجنبية وحتى اختيار لغة أجنبية، فهل هذا ما قصده المشروع؟!
وفي ما يتعلق بالطرف الأجنبي الذي يبدو أن مشروع النظام أراد طمأنته وتشجيعه على الإستثمار في المملكة أو التعاقد مع السعوديين، نعود فنحتكم إلى المنطق المجرد: فنتسائل هل يحتاج الطرف الأجنبي إلى نظام محلي، حتى ولو كان مأخوذاً من القانون النموذجي للأونسيترال، إذا كان المجال مفتوحاً له لإختيار أي قواعد تحكيم أخرى مثل قواعد غرفة التجارة الدولية أو قواعد محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي أو حتى قواعد الأونسيترال للتحكيم التجاري الدولي، ما دام أن المملكة العربية السعودية أصبحت طرفاً في ميثاق نيويورك لعام 1958م الخاص بتنفيذ الأحكام وقرارات التحكيم الأجنبية والتي تحفظت عنه المملكة بشرط عدم مخالفة الحكم أو قرار - التحكيم للنظام العام في المملكة؟ ثم ان مجرد الإشارة في المشروع إلى الشريعة الإسلامية يكفي لتنفير الأجنبي منه.
وحتى لو كان الطرف الآخر في النزاع سعودياً، فان خضوعه لقواعد تحكيم أجنبية أو قانون أجنبي لم يكن محظوراً من قبل، إذ ان أي قرار يصدر في النزاع سيدخل في مضمون ميثاق نيويورك المذكور.
أن ما نحتاج إليه في الواقع هو تنقيح وتطوير نظام التحكيم الداخلي لجعله أكثر مرونة ليخفف الضغط عن المحاكم وليتمتع بالسرعة التي يتطلع إليها طرفا التحكيم.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشراف القضائي بقدر معقول على إجراءات التحكيم، وهو ما تنص عليه قوانين الغالبية الساحقة من دول العالم، ومنها قانون التحكيم الموحد في الولايات المتحدة الأمريكية والذي تعمل به 35 ولاية من الولايات الخمسين حتى الآن، إذ ينص هذا القانون الموحد على رقابة "الجهة القضائية المختصة أصلاً بالنزاع
كما يجب من زاوية أخرى الإهتمام بإختيار قائمة المحكمين والخبراء المعتمدين من وزارة العدل. فإن القائمة الحالية تضم بين دفتيها عشرات من ذوي الخبرة المحدودة جداً والكفايات العلمية التي تتعدى الشهادة الجامعية. وأكثرهم من غير السعوديين. ان الكثير من رجال الأعمال يعتمدون على هذه القائمة فيصابون بخيبة أمل كبيرة.
هليعرضالمشروعالدولةللتحكيمالأجنبي؟
نص المشروع في أول جملة في مادته الأولى على تحفظ مفاده "مع عدم الإخلال بأحكام الاتفاقيات الدولية المعمول بها في المملكة العربية السعودية ...".
وعندما عرفت المادة الثانية "التحكيم التجاري" ذكرت ضمن الأمثلة الواردة فيها، والتي ينطبق عليها المشروع: منح التراخيص الصناعية، والسياحية وغيرها وعقود التنمية وعمليات تنقيب واستخراج الثروات الطبيعية وتوريد الطاقة ومد أنابيب الغاز أو النفط وشق الطرق والأنفاق، وكل هذه الأعمال تتعلق مباشرة بالوزارات والهيئات العامة. وهو يعني ضمناً جواز اشتمال العقود الخاصة بهذه الأعمال على التحكيم التجاري بالمعنى الذي يعنيه المشروع.
ويتناقض ذلك مع نص الفقرة (2) من (المادة الحادية عشرة) التي تنص على أنه "لا يجوز للجهات الحكومية الإتفاق على التحكيم، إلا بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء، ما لم يرد نص نظامي خاص يخالف ذلك". وقد تكررت الإشارة إلى الإتفاقيات الدولية في الفقرة (3) من (المادة العاشرة) الخاصة بأنواع الإتفاق على التحكيم.
ونخشى أن يكون في هذا الإهتمام بالمعاهدات الدولية إشارة ضمنية إلى المعاهدات الثنائية (BITs) لحماية الإستثمارات بين المملكة ودول صديقة، وقد بلغ عددها العشرين معاهدة ثنائية والمقصود بهذه المعاهدات الثنائية تكريس اختصاص المركز الدولي لفض منازعات الإستثمار والمعروف بإسمه المختصر )إكسيد ISCID( وهو مركز منبثق من مجموعة البنك الدولي. وكانت المملكة من أوائل الدول المنضمة لمعاهدة إنشائه، غير أنها لم تتورط في أي نزاع يعرضها لمخاطر التحكيم، أمام هذا المركز، إلا عام 2003م حيث أقامت شركة ألمانية ( .Ed Zublin AG) دعوى ضد المملكة انتهت بالحل الودي خارج المركز، ونحن نحذر من عواقب هذه المعاهدات الثنائية لحماية الإستثمار، التي تبدو وكأنها معاهدة للصداقة والتعاون، ولكنها في الواقع تعطي الشركات الأجنبية العاملة في المملكة إمكانية اللجوء إلى تحكيم )إكسيد( ويتحول الموقف إلى نوع من الإبتزاز والتهديد غير المباشر.
وخلاصة القول أن المشروع يحمل بين طياته تنفير الأجنبي منه لمجرد الإشارات العابرة في بعض مواده إلى وجوب الإلتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية والنظام العام في المملكة كما أسلفنا.
وهو مشروع لا نعتقد أن في تطبيقه على السعوديين مصلحة، بل تنفير من القضاء السعودي بوجه عام وشريعته وأنظمته – لا سمح الله.
وأخشى ما نخشاه هو أن يجرنا هذا المشروع إلى موقف كموقف )مركز دبي الدولي المالي( وهو مركز بريطاني يحتل مبنى يعتبر )منطقة حرة(، إذ وقعت هيئة التحكيم التابعة له مشروعاً مشتركاً مع محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي. وبمعنى آخر أوجد فرعاً لهذه المحكمة في دبي.
وإذا كان مثل هذا الأمر مستساغاً في )المدينة الذهبية( نظراً الى ظروفها التاريخية ومركزها المميز عالمياً بالنسبة الى الإستثمارات الدولية، نقول إذا كان ذلك له ما يبرره في دبي، فإن إنشاء - لا مركز تحكيم في المملكة يقوم سمح الله - بدعوة أحد مراكز التحكيم الدولية مثل غرفة التجارة الدولية في باريس (ICC) أو الهيئة الأمريكية للتحكيم (AAA) إلى مشروع مشترك، فأن هذه الخطوة ستعتبر بلا شك إفتئاتاً على سيادة الدولة وانتقاصاً من أهم وظائفها، وهو إقامة العدل على إقليمها.