الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • متفرقات / قوانين التحكيم في الدول العربية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 6 / الرقابة القضائية على إجراءات التحكيم في القانون الجزائري الجديد 

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 6
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    169

التفاصيل طباعة نسخ

 

  Summary 

     The new Algerian law opted for a system in which the arbitral award is normally susceptible of appeal, and so, made on a first level. In this respect, the control made by the state court of second level is general and tends to correct the breaches that are imputable to the arbitrators. On the contrary, concerning the breaches that are imputes to the parties, there be a control stricto sensu, aiming at deciding the adequate consequence of the irregularity, including the setting aside of the award.

 In the field of international arbitration, the special provisions condition too articles (1056 and 1058) relating to the cases in which the enforcement order is retracted or the award set aside. These cases have to be assessed as limitative and exclusive. The judge may not add to them 'non-statutory' grounds. The two unique grounds for annulment related to the proceedings are: the breach to the right of defence and the lack or the contradiction of the reasons for the award. The first one shall include any attempt to the public order principles, notably the equality of the parties and the honesty. The second shall not be hiding a control on the merits. The judge has to restrict himself to the case of manifest contradictory grounds, which make the award manifestly lacking any reason. He is barred from assessing the pertinence or the [exactness] of the reasons for award. The violation of the other procedure rules, including those relating to the stay to rule in case of challenge of arbitrator or criminal objection/incident, are not valid grounds for annulment. Those are the warranties of a minimum control which preserves the flexibility of the conduct of the arbitral procedure. 

مقدمة:

   يقوم التحكيم على سند تعاقدي يتمثل في اتفاقية تبرم قبل نشوب كل نزاع أو حتى بعد نشوبه. ومتى نشأ النزاع، تنطلق الخصومة التحكيمية بتشكيل هيئة تحكيم تتولى تسيير الإجراءات وفق جملة من المبادئ الأساسية والقواعد التفصيلية، متمتعة في ذلك بهامش واسع من الحرية. وتنتهي هذه الإجراءات –إن سلمت من البطلان- بإصدار حكم تحكيمي يفصل في أصل النزاع وفق قواعد، يفترض أن تكون قانوناً محضاً، وقد تكون غير وطنية، عرفية أو غير قانونية أصلاً، حين يكلف المحكم بفض النزاع طبق قواعد العدل والإنصاف. ويصاغ قرار المحكمين في شكل كتابي ويتضمن جملة من البيانات، فيسمى حكماً تحكيمياً. وحتى يندمج هذا الحكم في النظام القانوني الوطني، ينبغي أن يسلم من الطعن بالإبطال. لكن غالباً ما يتطلب الأمر عرضه على قاضي الإكساء بالصيغة التنفيذية لينظر في مدى تناغمه والخيارات الأساسية للنظام القانوني الوطني، وذلك إن لم ينصع له المحكوم ضده طوعاً. وتنتهي رحلة الحكم التحكيمي الذي ينجو من الإبطال ومن حاجز الإكساء، بمرحلة التنفيذ، التي تتمثل في تجسيم ما قضى به المحكم، ما لم تعترضه عوائق لا تتعلق بصحته، وإنما تتمثل في تمتع المحكوم عليه بوضع قانوني يحصنه من التنفيذ الجبري ضده أو وجوده في وضع صعب يتعذر معه التنفيذ. 

التحكيم بين التبسيط والشكلانية:

 ويتأكد من كل هذه العناصر أن التحكيم، رغم أنه يراد له أن يكون عدالة مبسطة وميسرة، لم ينج مما أصاب الواقع القانوني من التعقيد وهيمنة الإجراءات processualisation، وهو واقع لم يستطع واجب التعاون عن حسن نية بين أطراف المعاملات التجارية الدولية أن يمنع وجوده، لأن الخصومات أصبحت بدورها مكوناً طبيعياً من مكونات الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمؤسسة. ويتحدث الفقه الحديث عن ظاهرة مزدوجة تتمثل في غزو القوانين للتحكيم وغرقه في الإجراءات juridiciarisation. 

* خضوع التحكيم لقانون مقره:

    لم يتعرض المشرع الجزائري بوجه صريح إلى مجال تطبيق القانون الجزائري المتعلق بالتحكيم في المكان. غير أن ذلك لا ينفي أنه يكون منطبقاً على كل تحكيم يجري على إقليم الدولة الجزائرية. ويمكن الإستئناس في ذلك بأحكام المادة الأولى من القانون النموذجي لليونسترال كما تم تعديلها سنة 2006 والتي تنص على ما يلي:  (2) The provisions of this Law, except articles 8, 9, 17 H, 17 I, 17 J, 35 and 36, apply only if the place of arbitration is in the territory of this State

- أساس تطبيق قانون المقر على التحكيم: 

   إلا أن رسوخ الحل في ذاته لا يخفي تطور أساسي في نظر الفقه والقضاء. ففي مرحلة أولى، اعتبر الفقيه "نيبواييه" NIBOYET أن التحكيم ليس سوى امتداد للعدالة الرسمية، ومن ثمة فهو يخضع إلى نفس المبادئ الأساسية التي تسود عمل القضاء العدلي، ومنها المبدأ القائل إن القضاء الوطني لا يمكن بحال أن يطبق قانونا غير قانونه الوطني lex fori، على الأقل في ما يتعلق بالإجراءات والشكليات. ويستند هذا الرأي إلى فكرة مقتضاها أن المحكم إنما هو "مفوض" من السلطة العامة لإقامة العدل في بعض النزاعات التي تسند إليه، وذلك باعتبار التحكيم استثناء من الولاية العامة للقضاء الرسمي، وأن الدولة الديموقراطية تقوم على تقاسم المهمات بين سلطات ثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، فلا مكان فيها للتحكيم إلا بقدر ما تبيحه القوانين. غير أن هذا التحليل لم يتمكن من الصمود، بالنظر إلى هشاشة فكرة اعتبار أن المحكم منوب من السلطة العمومية لإقامة العدل نيابة عنها، وأنه لا يكون له أن يقضي بين الناس لولا وجود قوانين تخوله ذلك. فقد برهن الفقه على أن التحكيم ربما كان أقدم من القضاء الرسمي ومن مؤسسة الدولة نفسها، وبالتالي فإنه لا يدين لهما بوجوده ، بل ربما كان العكس هو الصحيح. وهذه الأسبقية التاريخية يدعمها التطبيق الواقعي حتى في العصور الحديثة. فالتحكيم هو الأصل، ولا تتدخل السلطة العامة إلا لتنظيمه أو حتى للحد من مجاله. ففي نزاع الدولة التونسية ضد الجنرال محمود بن عياد2، لم يكن الباي وبن عياد بحاجة إلى نص تشريعي يجيز لهما التحكيم، بل وقع هذا التحكيم دون الرجوع إلى أي مرجعية تشريعية. كما أن التحكيم في عديد من الحالات الأخرى، ى، وخاصة في النزاعات بين الدول في شأن المسائل السيادية، لا يخضع لإطار تشريعي معين، بل هو تكريس لأعراف جرى العمل بها منذ غابر الأزمان، ولم ينقطع العمل بها في أي عصر. فالتحكيم لا يحتاج إلى أن يصدع به تشريعياً حتى يوجد أو يقوم، بل أوجدته الحاجة الإنسانية خارج كل إرادة تشريعية – سياسية. 

   ومن هذا المنطلق، بحث الفقيه السويسري M.G. SAUSER HALL عن سند آخر لهذه القاعدة، فانتهى إلى أن خضوع التحكيم لقانون مقره، إنما يتأسس على فكرة التوطين الموضوعي localisation objective، وذلك باعتبار أن التحكيم تكون له أوثق الصلات والروابط بمقره أي بالمكان الذي يجري عليه، ولا يتصور أن تكون له صلة أكثر متانة بمكان أو قانون آخر. 

   وقد استقر العمل على اعتبار التحكيم خاضعاً لقوانين المكان الذي يوجد فيه مقره، وجرت على ذلك التشريعات في مختلف أصقاع الدنيا، فاعتمد القانون التونسي معيار مقر التحكيم معياراً أساسياً، إذ ذكره قبل معيار إختيار الأطراف. وبموجب هذا الخيار، يكون الباب الثالث من مجلة التحكيم هو المنطبق على كل ما يتعلق بصلاحيات القضاء التونسي في مجال التحكيم، فهو الذي يحدد ما إذا كان القضاء التونسي هو المختص بالنظر في تعيين المحكمين وعزلهم والتجريح فيهم وإعطاء المساعدة على تنفيذ الإجراءات الوقتية والتحفظية التي يتخذها المحكمون وما لهؤلاء من سلطة في اتخاذها، كما ينطبق على اختصاص القضاء التونسي في ما يتعلق بالطعن في قرارات التحكيم، بحيث يكون القضاء التونسي هو المختص بالنظر في إبطال أحكام التحكيم الصادرة بالبلاد التونسية أياً كان موضوعها أو أطرافها، مع مراعاة الاستثناء الوارد في الفقرة 6 من الفصل 78 من مجلة التحكيم، والمتعلق بالتحكيم الذي لا يربطه بالبلاد التونسية رابط عدا المقر arbitrage off shore، والذي لا نجد له نظيرا في القانون الجزائري الجديد. كما ينطبق الباب الثالث المذكور أيضاً على الإجراءات التي يتخذها المحكمون. فهو الذي ينظم كيفية السير بإجراءات التحكيم في صورة عدم اختيار قانون إجرائي من قبل الأطراف، كما ينظم صلاحيات المحكمين في اتخاذ الإجراءات الوقتية والتحفظية في ما يتعلق بالمسائل المستعجلة، وكيفية إصدار حكم التحكيم وشكله وآجال النطق به وكيفية إصلاحه أو شرحه أو إتمامه وما يتضمنه من البيانات الوجوبية أو الاختيارية وكيفية تحديد القانون المنطبق... 

- أبعاد قاعدة خضوع التحكيم لقانون مقره: 

   يترتب على إقرار خضوع التحكيم لقانون مقره سريانه بصفة آلية على جميع جوانب المسار التحكيمي. فلمقر التحكيم أهمية كبيرة، خصوصاً في النظم التقليدية التي تجعل للقضاء المحلي رقابة واسعة على التحكيم، حيث إن القضاء المختص بذلك هو قضاء البلاد التي يوجد فيها مقر التحكيم، وهو ما يجعل لتحديد مقر التحكيم تأثيراً مباشراً على تحديد القاضي المختص لمنح المساعدة للتحكيم والمحكمين عند وجود عراقيل وتحديد القاضي المختص أيضاً بإبطال القرار التحكيمي أو النظر في الطعون الأخرى الممكن توجيهها ضده. 

   كما أن بعض التشريعات القديمة نسبيا (الصادرة قبل الربع الأخير من القرن العشرين) كان يشترط إكساء حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية في البلد الذي صدر فيه، وذلك حتى يجوز إكساؤه بالصيغة التنفيذية في بلاد أخرى، وهو ما يسم شـــرط الإكساء المضاعف Double exequatur .

   وفي صورة تحديد مقر التحكيم بإرادة الأطراف، فإنهم يتحملون نتائج ذلك، أما إذا تم تحديده بقرار المحكمين، فإنه لا تترتب عليه آثار مهمة. وتبرز أهمية مقر التحكيم في كل المراحل بما فيها المرحلة الختامية، أي مرحلة التنفيذ. ذلك أن بعض التشريعات الصادرة قبل الربع الأخير من القرن العشرين كان يشترط إكساء حكم التحكيم بالصيغة التنفيذية في البلد الذي صدر فيه، وذلك حتى يجوز إكساؤه بالصيغة التنفيذية في بلاد أخرى. كما أن مقر التحكيم هو الذي يحدد كيفية تطبيق قواعد المعاملة بالمثل، فيمكن أن يؤدي إلى رفض تنفيذ حكم التحكيم في بلاد معينة عقاباً للبلاد التي صدر الحكم على إقليمها على "سوء" معاملتها للأحكام التحكيمية الصادرة على إقليم الدولة الأولى في الذكر. 

  وقد أوضحت محكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 82 بتاريخ 24 أفريل 2001 أنه لا يجوز أن يقع تقديم الأعراف الدولية على القوانين الوطنية المنطبقة بوصفها قانون مقر التحكيم، وذلك في ما يتعلق بتحديد دور مقر التحكيم في سير الإجراءات التحكيمية، إذ جاء فيه "ادعاء طالب التجريح [بـ] وجود قاعدة عرفية في التحكيم الدولي تقتضي تعيين مكتب رئيس هيئة التحكيم مقراً للهيئة المذكورة يبقى إدعاء مجرداً لا شيء في الملف يؤكده ويعززه فضلاً عن أن مثل هذه القاعدة العرفية على فرض صحتها، فإنها مخالفة لأحكام الفصلين 65 و66 من مجلة التحكيم، وعليه فإنه لا عمل بالقاعدة العرفية المخالفة للنص القانوني". 

   وقد جاء القرار المذكور على درجة كبيرة من التشدد، إذ أقصى إمكانية تقديم العرف الدولي على القانون الوطني (الفصلان 65 و66 من مجلة التحكيم)، حال أن الفصلين المذكورين قد وردا إثر الفصل 64 الذي ينص على أن أحكام مجلة التحكيم تكون منطبقة في غياب اتفاق مخالف بين الأطراف، كما أن الفصلين 65 و66 جاءا بصيغة الجواز مع ترك الحرية للأطراف، وإن ما جاء في الفصل 543 من مجلة الالتزامات والعقود من أن "العادة والعرف لا يخالفان النص الصريح" وقع تأويله من الفقه على أن المقصود به أن العرف لا يخالف النص الآمر، فيمكن أن يقدم على النصوص غير الآمرة أي التكميلية Règles supplétives، وهو ما يتماشى مع منطق التحكيم الدولي. أما مسألة أولوية العرف الدولي على النص التشريعي غير الآمر، فقد كان يمكن التعامل معها بمرونة أكبر، كالرجوع إلى المبدأ الفقهي القائل إن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. 

التحكيم، عدالة مختلفة: 

   يختلف التحكيم عن قضاء الدولة من حيث أن قضاء الدولة تتولاه جهة عمومية، أي أن إقامة العدل بين المتخاصمين ينهض به "أعوان" تابعون للسلطة العامة من حيث تعيينهم وترقيتهم وتدرجهم المهني وتقسيم المهمات بينهم، ويصدر القضاء العمومي أحكامه باسم الدولة أي باسم السلطة العامة، بينما يقوم بمهمة التحكيم أشخاص مستقلون عن السلطة العامة ويصدرون أحكامهم باسم العدالة المحصنة لا باسم الدولة، ولو كانت لهم في الأصل – وخارج إطار ذلك التحكيم – صفة الأعوان العموميين أو القضاة، وذلك باعتبار أنه يجوز قانونا أن يكون المحكم عوناً عمومياً (موظفاً عمومياً أو غيره) أو قاضياً عملاً بالمادتين 1014 و 1016 من القانون الجزائري الجديد'، وهو مغزى وصف التحكيم في الفصل الأول من مجلة التحكيم بأنه "طريقة خاصة" لفض بعض النزاعات. وقد اعتبر فقه القضاء الأردني أن الاختلاف بين القضاء والتحكيم لا يتعدى هذا الجانب، إذ جاء بقرار صادر عن محكمة التمييز الأردنية سنة 1968 أنه "إذا لم يكن المحكمون محكمين بالصلح فإن قراراتهم لا تختلف عن قرارات المحاكم، إلا من حيث المرجع الذي أصدرها وضرورة تصديقها قبل تنفيذها ولم تمنح المحكمين حصانة أكثر من الحصانة الممنوحة لقرارات المحاكم". غير أن هذا الرأي منازع فيه ولا يمكن التسليم به في ظل القانون التونسي على الأقل، لأن الفقه يكاد يجمع على أن العدالة التي يقدمها المحكم هي "عدالة مختلفة" ( une justice différente) عن العدالة التي يقدمها القضاء الرسمي. ويبرز هذا الإختلاف في أن المحكم ليس ملزما بأن يطبق القانون بنفس الكيفية التي يطبقه بها القاضي، بل إن مجاله أرح للإجتهاد، خاصة أن القضاء تقتصر رقابته على مدى احترام المحكم لقواعد النظام العام، بحيث لا تمتد الرقابة إلى كيفية تطبيق القواعد التي لا تهم النظام العام ووجه تأويلها. كما أن المحكم غير مقيد بالقواعد الإجرائية التفصيلية، بل هو ملزم باحترام المبادئ الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية فحسب (المادتان 1056 و 1058 من القانون الجزائري الجديد). فالفرق بين التحكيم والقضاء يتجاوز الجانب الهيكلي الصرف، ويهم بالأساس كيفية السير بالإجراءات وكيفية استنباط القاعدة القانونية وتطبيقها، خاصة أنه من المنتظر من المحكم حسب رأي الشراح أن يحرص على استمرارية العلاقة التجارية وروابط الأعمال القائمة بين أطراف الخلاف أكثر من بحثه عن النطق بكلمة القانون بشكل جامد، بخلاف القاضي الذي يحـرص في الدرجة الأولى على مطابقة حكمه للقاعدة القانونية الموضوعية، العامة والمجردة والفاقدة عامة للبعد الفردي الخصوصي.

* التشريع الجزائري على درب التوجهات الكونية: 

   برزت الجزائر في فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين كأحدى أبرز الدول المعادية للتحكيم باعتباره عائقاً أمام بسط الشعوب سيادتها على ثرواتها الطبيعية. غير أن هذا الموقف تحول منذ بداية التسعينات حيث تخلت الجزائر عن هذه العدائية وتجسم ذلك من خلال المصادقة على اتفاقية نيويورك المتعلقة بالإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها المؤرخة في 10 جوان 1958. 

    بعد أن صدر المرسوم التشريعي المؤرخ في 25 أفريل 1993 الذي استلهم جل أحكامه من القانون الفرنسية، والذي لم يسهم بشكل واضح في تطوير التحكيم في التطبيق الجزائري التفتت السلطة العمومية في الجزائر مجدداً إلى هذا المجال بعد أن لاحظت أن جميع الدول المجاورة مرت إلى مرحلة جديدة تميزت بإصدار تشريعات مستمدة من القانون النموذجي لليونسترال. فتونس أصدرت قانون التحكيم في 26 أفريل 1993 وتلتها مصر(1994) وموريتانيا والمغرب (ديسمبر 2007)... فكان صدور القانون رقم 08-09 المؤرخ في 18 صفر عام 1429 الموافق لـ 25 فبراير سنة 2008 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية، والذي نص بمادته 1062 على أن يسري مفعوله بعد سنة (1) من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية . 

   ومن أبرز ما يلاحظ في شأن هذا القانون أنه استلهم أحكامه في الأساس من الأنموذج الفرنسي ولم يأخذ من القانون النموذجي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي Commission des Nations Unies pour le Droit Commercial International -) CNUDCI / United Nations' Commission for International Trade Law - UNCITRAL) الصادر في 21 جوان 1985 بصفة مباشرة إلا بعض المبادئ والقواعد التي كملت بعض ما نقص من التشريع الفرنسي المكتوب. ومعلوم أن القانون الفرنسي يرتكز على الإجتهاد القضائي الذي كان في مجمل الأحيان خلاقاً وبناء وأسس لمجمل المبادئ التي كرستها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في غياب نصوص تشريعية صريحة. ويستنتج من ذلك أن مراد المشرع الجزائري هو أن يقتدي القضاء الجزائري بالقضاء الفرنسي في توجهاته الإيجابية المساندة للتحكيم والتي أرست دعائم نظام يقوم على تدخل القضاء لرفع العراقيل التي تعطل الإجراءات التحكيمية وممارسة رقابة مخففة ومحدودة على اجتهاد المحكم.

    ولم يرد في القانون الجزائري الجديد توضيح لكيفية تحديد مجال تطبيقه في المكان، وإنما يمكن أن يستنتج من بعض أحكامه أنه اقتدى بالتوجهات العالمية، وخاصة منها تلك المعبر عنها بالقانون النموذجي. ففي إطار التوجه القائل بخضوع إجراءات التحكيم لقانون مقر التحكيم، اقتضت المادة 1019 من القانون الجزائري الجديد أن "تطبق على الخصومة التحكيمية الأجال والأوضاع المقررة أمام الجهات القضائية ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك". 

   وقد اختار هذا النص الذي ورد في الفصل الثاني (في الخصومة التحكيمية) من الباب الثاني (التحكيم)- تيسير الإجراءات بأن أوجب تطبيق القواعد الإجرائية المطبقة من قبل المحاكم العدلية والإدارية طالما لم يتفق الأطراف على خلافها. وما تجدر ملاحظته بوجه خاص هو أن المادة 1043 وما يليها هي التي ميزت التحكيم الدولي بأحكام إجرائية تختلف عما هو مقرر بالنسبة الى التحكيم الداخلي. ولم تميز المادة 1019 بين التحكيم الحر (تحكيم الحالات الخاصة arbitrage ad hoc) والتحكيم المؤسسي أو المؤسساتي arbitrage institutionnel، بما يستنتج منه أن المشرع الجزائري يعتبر أن أحكام الإجراءات الجزائرية تنطبق على التحكيم الداخلي وحده، خلافاً للتحكيم الدولي الذي يتميز بقواعد أكثر مرونة. واتبع المشرع الجزائري بالنسبة الى التحكيم الدولي نهج القانون النموذجي لليونسترال وبعض القوانين المجاورة كالقانون التونسي والقانون الموريتاني، للذين وضعا قواعد خاصة بسير الإجراءات في التحكيم الدولي، تقوم بالأساس على أمرين: 

-  وجوب احترام المحكم للقواعد الإجرائية الأساسية التي لا نزول عنها مهما كان نوع التحكيم. 

-  تخيير المحكم في تطبيق القواعد الإجرائية التفصيلية المنصوص عليها بقانون دولة مقر التحكيم المتعلق بالإجراءات المدنية، مع تخويله أيضا تسيير الإجراءات وفق نظام تحكيم règlement d'arbitrage تضعه هيئة التحكيم حتى ولو تعلق الأمر بتحكيم حر أو يكون سابق الوضع مثل نظام تحكيم اليونسترال لسنة 1976، أو حتى تسيير الإجراءات دون تطبيق قانون محدد، بحيث توجد حلولا عملية وبراغماتية للإشكالات الإجرائية التي تطرح عليها زمن ظهورها، لا تستند بالضرورة إلى قواعد إجرائية سابقة الوضع أو مكرسة بقانون دولة ما، بل تستند إلى المنطق.

-  وفي ما يتعلق بالتحكيم المؤسساتي، فمن المعلوم أن جل مؤسسات التحكيم في العالم تضع قواعد إجرائية خاصة بها تسمى "نظام التحكيم" règlement d'arbitrage / Arbitration) (rules أو نحو ذلك، وهو ما يعني أن الأصل هو أن اختيار التحكيم المؤسساتي يعني أيضا اختیار قواعد تحكيم المؤسسة المعنية. ويمكن القول إن عدم تطرق القانون الجزائري صراحة إلى هذه الفرضية بالمادة 1019 لا ينفي تطبيق هذا الحل، إذ أن اللجوء اختيارياً إلى مؤسسة تحكيم ما يستدل منه على اختيار نظامها الإجرائي، فيعتبر نظام التحكيم مندمجاً في اتفاق الأطراف incorporé وجزءا منه، وهو ما أدى بجانب كبير من الفقه ومن فقه القضاء الفرنسي إلى الجزم بأن نظام التحكيم المنطبق هو النظام الجاري به العمل ما لم ينص اتفاق الأطراف على تطبيق تعديلاته اللاحقة. 

   ويتم الطعن في كل الأحكام التحكيمية الصادرة في المادة الإدارية بالكيفية نفسها التي يطعن بها في أحكام القضاء الرسمي. فقد نصت المادة 977 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجزائري الجديد على أن "تطبق المقتضيات الواردة في هذا القانون المتعلقة بتنفيذ أحكام التحكيم وطرق الطعن فيها على أحكام التحكيم الصادرة في المادة الإدارية". 

   وبالنسبة إلى الأحكام التحكيمية الصادرة في المادة التجارية، يتضح بالرجوع إلى أحكام المواد 1032 و1033 و1034 أن أحكام التحكيم الداخلي لا تقبل المعارضة من الغيرة وأنها تقبل الإستئناف ما لم يتنازل الأطراف عن حق الطعن في هذه الطريقة ، وتكون الأحكام الصادرة في إطار الإستئناف وحدها قابلة للطعن بالنقض. أما أحكام التحكيم الدولي فاقتضت المادة 1058 أنه يجوز الطعن فيها بالبطلان في الصور المنصوص عليها بالمادة 1056 المتعلقة بصور رفض طلب منح الصيغة التنفيذية، وهي ستة، منها:

 "2. إذا كان تشكيل محكمة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون. 

 3. إذا فصلت محكمة التحكيم بما يخالف المهمة المسندة إليها. 

 4. إذا لم يراع مبدأ الوجاهية. 

 5. إذا لم تسبب محكمة التحكيم حكمها أو إذا وجد تناقض في الأسباب. 

 6. إذا كان حكم التحكيم مخالفاــا للنظام العام الدولي". 

    ويستنتج من ذلك أن لقاضي الإستئناف رقابة شاملة على حكم التحكيم، تشمل الأصل والإجراءات، وتغطي مسائل الإجراءات جميعا دون استثناء، وتبيح لمحكمة الدرجة الثانية تصحيح جميع الإخلالات الإجرائية في إطار المفعول الناقل للإستئناف effet dévolutif (الجزء الأول)، في حين أن قاضي الإبطال شأنه شأن قاضي التنفيذ في إطار التحكيم الدولي المجرى بالجزائر لا يمارس سوى رقابة محدودة تستهدف التحقق من توفير الضمانات الأساسية للمتقاضين وتوفر المقومات الجوهرية التي لا نزول عنها لعدالة المحاكمة التحكيمية (الجزء الثاني). 

الجزء الأول: رقابة التصحيح (الإستئناف): 

   يقتضي المفعول الناقل أو النقلي أو الإنتقالي الذي يترتب على الطعن بالإستئناف أن تؤول إلى محكمة الدرجة الثانية جميع صلاحيات محكمة الدرجة الأولى وخصائصها، فهي تعيد النظر في النزاع بجميع مناحيه وأوجهه، ولا تهدف رقابتها إلى التصريح بإلغاء حكم البداية أو إقراره على حاله، بل يجوز لها أن تصححه مهما كان وجه الخلل الذي يشوبه. وبالنسبة إلى الإجراءات، يقتضي ذلك أن محكمة الدرجة الثانية لا تقتصر على مراقبة توفر المقومات الأساسية للمحاكمة العادلة، بل يمكنها أن ترتب البطلان على كل خلل إجرائي. وتميز في ذلك بين الإخلالات الصادرة عن أحد الخصوم وخاصة المدعي، إذ لا تقضي بالبطلان إلا إذا تم خرق قاعدة أساسية أو تسبب الخلل الإجرائي بضرر للطرف الآخر (المبحث الأول). لكن إذا كان الخلل صادراً عن المحكمة فدور محكمة الدرجة الثانية هو تصحيحه ولا يمكن أن يترتب عليه بطلان الحكم ومحو الإجراءات فقط (لمبحث الثاني). 

المبحث الأول: شمولية رقابة قاضي الدرجة الثانية على الإجراءات: 

   اختار المشرع الجزائري نظاماً يجعل الإستئناف هو الأصل مع جواز الإتفاق على استبعاده بإرادة الأطراف، وهو عكس خيار القانون التونسي الذي جعل التحكيم يجرى مبدئياً على درجة واحدة وأجاز للأطراف في التحكيم الداخلي أن يتفقوا على أن يجرى على درجتين كما هو شأن المحاكمات المدنية العادية، وذلك في ما يخص التحكيم الداخلي فحسب، وبشرط أن لا يكون تحكيماً طبق قواعد العدل والإنصاف (تحكيماً مطلقاً حسب المصطلح اللبناني). 

   أما في مجال التحكيم الدولي فلم يجعل المشرع الجزائري الطعن بالبطلان طعناً وحيداً وإقصائياً على غرار ما قرره المشرع الدولي والقوانين المتأثرة به، بل جعل منه إمكانية، إذ وردت المادة 1058 (التي نصت على أنه "يمكن أن يكون حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر موضوع طعن بالبطلان...") في الفصل السادس المتعلق بـ"الأحكام الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي". وليس في خصوصية هذه الأحكام ما يدل على استبعاد الطعن بالإستئناف من ميدان التحكيم الدولي بل يستنتج من هيكلة النص أن الطعن بالإبطال طعن إضافي يضاف إلى طعن الشريعة العامة le recours de droit commun أي الإستئناف. وفي رأينا فإن هيكلة القانون تحدث البلبلة في الأذهان إذ لا يفهم منها ما إذا كان بالإمكان ممارسة الطعنين معاً، مع ما في ذلك من تضارب واختلاف في الإجراءات وصور "النقض"... 

   وبعيدا عن هذا النقاش حول الإطار العام للطعن في حكم التحكيم بحسب نوعه (داخلي / دولي)، لم يكن المشرع الجزائري في حاجة إلى بيان نطاق رقابة محكمة الإستئناف على حكم التحكيم، إذ أن المسألة تخضع للقواعد العامة للإستئناف، والتي تجعل لمحكمة الدرجة الثانية رقابة كلية على كافة عناصر النزاع، الذي ينتقل إليها برمته فتعيد النظر فيه كما لو لم يقض فيه أبداً. وهي لا تتقيد إلا بنطاق الطعن، حيث يمكن للطاعن أن يقصر طعنه على بعض فروع الحكم دون البعض الآخر، فيقتصر المفعول الناقل على ما تسلط عليه الطعن فحسب. 

    وتشمل رقابة القاضي الإستئنافي الإجراءات بجميع أحكامها وفروعها، فلا يقتصر على التحقق من احترام القواعد الإجرائية فحسب، بل يمكنه أن يدقق في مدى احترام القواعد الإجرائية التفصيلية وغير الأساسية. وقد يقع أن يقتصر الطعن على جانب إجرائي معين فلا تجد المحكمة بدأ من مراجعة الإجراءات بكاملها لما فيها من ترابط وتكامل. وفي الواقع يصعب حصر الرقابة على الإجراءات في جانب معين، إذ أن الأمر لا يتعلق بمواضع نزاع مستقلة بل بأرضية لبت النزاع كاملاً، لأن الإجراء الواحد يهدف إلى بت كل فروع النزاع مجتمعة. 

المبحث الثاني: صلاحية قاضي الإستئناف لتصحيح الإجراءات: 

   يكمن موطن الإختلاف الثاني بين رقابة قاضي الإبطال ورقابة قاضي الإستئناف في أن قاضي الدرجة الثانية لا يستهدف من وراء الرقابة التي يجريها تسليط جزاء على الإخلالات الإجرائية، بل غايته تصحيح ما اختل منها. فبقدر ما تكون رقابة قاضي الدرجة الثانية على الإجراءات واسعة فإنها أقل خطورة من رقابة قاضي الإبطال رغم تضييقها، إذ أن قاضي الإستئناف يمكنه تلافي الخلل الذي يعتري أي إجراء اتخذه المحكم. فالمفعول الإنتقالي يجيز له أن يقوم بالإجراء من جديد طبق الأصول القانونية دون أن يرتب على ذلك البطلان. 

   لكن يتجه هنا التمييز بين نوعين من الإجراءات: فالإجراءات التي يقوم بها الأطراف، وخاصة المدعي، لا يمكن تصحيحها من قبل المحكمة إلا إذا كان القانون يجيز تصحيحها، وهو أمر مستبعد، إذ أن الأصل أن تدارك البطلان وتسويته régularisation ينبغي أن يقع أمام محكمة الدرجة الأولى (هيئة التحكيم). أما الإجراءات التي تقوم بها هيئة التحكيم أو مساعدوها بموجب إذن منها (كالخبراء والمترجمين) فهي التي يمكن تدارك إخلالاتها، لأن محكمة الدرجة الثانية تحل محل محكمة الدرجة الأولى وتقوم بوظائفها نفسها في حدود الصلاحيات نفسها. 

الجزء الثاني: الرقابة الدنيا (رقابة قضاء الإبطال والتنفيذ): 

   على الرغم من أن المادة 1060 من القانون الجزائري الجديد تنص على أن "يوقف تقديم الطعون وأجل ممارستها المنصوص عليها في المواد 1055 و1056 و1058 تنفيذ أحكام التحكيم"، بما يجعل للطعن بالإبطال أثراً مشتركاً مع الإستئناف وهو الأثر التعليقي أو الوقفي effet suspensif فإن ذلك لا ينفي اختلاف جوهر كل واحد منهما وكنهه. فرقابة قاضي الإبطال محددة بما ورد في المادة 1056 التي بينت الصور التي يمكن الطعن فيها بالإبطال، وهي صور محددة لا يمكن الخروج عنها ولا الزيادة فيها. وتشترك الرقابة المجراة عند الطعن بالإبطال مع تلك التي تجرى بمناسبة النظر في منح الصيغة التنفيذية في مضمونها ونطاقها، خاصة أن المادة 1058 المتعلقة بالإبطال اقتصرت على الإحالة على الحالات التي يجوز فيها الطعن في الأمر بالتنفيذ أو قرار رفض منح صيغة التنفيذ. فالرقابة المجراة على حكم التحكيم هي رقابة بعدية بالأساس، احتراماً لاستقلالية اجراءات التحكيم (المبحث الأول). وهي رقابة ينبغي أن لا تتجاوز التحقق من احترام مبادئ الإجراءات الأساسية (المبحث الثاني). 

المبحث الأول: رقابة بعدية بالأساس: 

   من المبادئ التي أصبحت راسخة في التشريعات الحديثة وخاصة منها المتأثرة بالقانون النموذجي لليونسترال قاعدة استقلالية الإجراءات التحكيمية، التي عبر عنها القانون النموذجي لليونسترال لسنة 1985 في أحكام المادة 5 التي مقتضاها أنه لا يجوز للمحاكم أن تتدخل في أي مسألة من المسائل المشمولة بالقانون النموذجي المذكور إلا في الأحوال والصور المنصوص عليها بأحكامه:

 Article 5. Extent of court intervention

 In matters governed by this Law, no court shall intervene except where so provided in this Law. 

   ويستمد من هذا النص أن الأصل هو عدم تدخل القضاء في سير إجراءات التحكيم إطلاقاً وأن التدخل، بأي صيغة كانت، يحتاج الى نص صريح يخوله، وفي حدود ما يقتضيه النص. ويتضح من مراجعة أحكام القانون الجزائري الجديد أنه يقر قاعدة مقتضاها أن القاضي لا يتدخل في إجراءات التحكيم طالما كانت جارية، بل يقتصر على رقابة بعدية ex post في إطار إجرائي محدد، وهو طلب الإبطال أو طلب الإكساء بالصيغة التنفيذية. 

القسم الأول: مبدأ عدم جواز تدخل القضاء خلال الإجراءات التحكيمية: 

   لا يحق للقضاء الرسمي أن يتدخل لتوجيه إجراءات التحكيم في اتجاه أو آخر، لأن مراد الأطراف إنما هو اللجوء إلى "عدالة مختلفة أو مغايرة"، فلا يجوز للقاضي أن يخضع المحكم لسيطرته ليصدر الأحكام بطريقة غير مباشرة. ولذلك فالقاعدة أن تدخل القاضي لإجراء الرقابة لا يقع إلا بعد صدور حكم التحكيم. غير أن الظروف قد تقتضي منه التدخل خلال سير التحكيم، فينبغي أن يكون تدخله استثنائياً ومحدوداً ومقتصراً على رقابة دنيا. 

1. مبدأ عدم جواز التدخل لتوجيه إجراءات التحكيم: 

   أصبح عالم التحكيم الحديث يشهد تطبيقات وظواهر قانونية معقدة. ويرجع ذلك إلى أسباب متشعبة ومتعددة، منها على وجه الخصوص مجابهة الأنظمة القانونية بعضها لبعض، حيث ظهرت الإختلافات والتباينات، إذ أن أطراف المنازعات التحكيمية أصبحوا ينتمون إلى آفاق حضارية وقانونية مختلفة، شأنهم في ذلك شأن المحكمين والمحامين والمستشارين. ومن الظواهر الحديثة، ظاهرة وافدة من انكلترا تتمثل في اللجوء إلى المحاكم للحصول على أمر بمنع مواصلة إجراءات قضائية لدى محكمة أو هيئة أخرى أو لمنع تواصلها. 

   ففي قضية تتعلق بالأضرار البحرية الناجمة عن اصطدام سفينة بجسم بحري آخر، بين شركة Allianz Sp4 ضد شركة .West Tankers Inc، أصدرت محكمة انكليزية أمراً بمنع أحد الأطراف من رفع النزاع إلى المحاكم الإيطالية بناء على أنه توجد اتفاقية تحكيم وأن رفع الأمر إلى القضاء الإيطالي يعد خرقاً لمبدأ اختصاص هيئة التحكيم في وجود اتفاقية تحكيم لم يتبين بطلانها. 

   وقد رفعت شركة Allianz Sp4 الأمر إلى محكمة العدل الأوروبية Cour de Justice des Communautés Européennes التي بينت في قرارها الصادر بتاريخ 10 فيفري (فبراير) 2009 أن "الأمر الهادف إلى منع شخص من القيام بإجراءات أو بمواصلتها أمام محاكم دولة أخرى عضو في الإتحاد الأوروبي، بدعوى أن تلك الإجراءات مناقضة لاتفاقية تحكيم، يعدّ مخالفاً لترتيب بروكسيل Règlement de Bruxelles عدد 41/2001"1. 

   ذلك أن الترتيب المشار إليه، والذي عرض اتفاقية بروكسيل المتعلقة بإكساء الأحكام الصادرة على إقليم دولة عضو بالصيغة التنفيذية، يقوم على مبدأ الثقة المتبادلة بين محاكم البلدان الأعضاء، وهو ما أدى إلى التخلي عن المنطق التقليدي للإكساء بالصيغة التنفيذية exequatur وحذف الرقابة التي تجريها محاكم بلد ما على ما تقرره محاكم البلد الآخر. ومن هذا المنطلق فإن إصدار أمر بمنع شخص من القيام لدى محاكم دولة أخرى يعد مخالفاً لمبدأ الثقة المتبادلة، إذ أنه يقوم ضمنياً على أمر موجه لمحاكم الدولة الأخرى لرفض التعهد بتلك الدعوى، بدعوى وجود اتفاقية تحكيم صحيحة قانوناً، حال أن الثقة تقتضي ترك الكلمة للمحكمة المعنية عندما ترفع إليها الدعوى، حيث يفترض فيها أن ترفض الدعوى كلما تبين لها أن إتفاقية التحكيم المزعومة موجودة وصحيحة قانونا ووقع التمسك بها طبق القانون. 

2. مدى جواز التدخل لتوجيه أوامر لتعطيل الإجراءات التحكيمية: 

   يقصد باستقلالية الإجراءات التحكيمية autonomie de la procédure arbitrale عدم امتزاجها بالإجراءات القضائية مع ما يقتضيه ذلك من نأي بالإجراءات التحكيمية عن رقابة المحاكم أو إمكانية تدخلها لتوجيه تعليمات أو أوامر إلى المحكمين. فالأمر يقتصر على مراقبة لاحقة يمكن أن تمارسها المحكمة المختصة على حكم التحكيم لا غير. وفي ما عدا ذلك، لا تكون للمحكمة علاقة مع هيئة التحكيم عدا ما يستوجبه الأمر من نظر على وجه الإستثناء في النزاعات المتعلقة بتشكيل هيئة التحكيم (تعيين - عزل - تجريح). ولا يمكن اعتبار أن هذا التدخل في تشكيل هيئة التحكيم يمكن أن يكون مدخلا في ما بعد للتعامل مع المحكم على أنه مساعد للقضاء. فالتحكيم "عدالة أخرى" أو "عدالة مختلفة" أو "عدالة موازية" justice parallele لها كيانها الخاص شأنها شأن القضاء الرسمي. فلا سلطة لأحدهما على الآخر خارج ما قرره القانون من أوجه التعاون بينهما (في مادة الإجراءات الوقتية والتحفظية وفي ما يتعلق بقرارات المساعدة التي تمنحها المحاكم للتحكيم للحصول على الأدلة وتحقيق الدعوى). فلا يحق للمحكمة أن تتخذ أي نوع من الإجراءات التي من شأنها أن توحي بنوع من التبعية التي تريد فرضها على المحكم. من ذلك أنه لا يجوز للمحكمة أن تحرر على المحكمين أو أن تستجوبهم". 

   على أنه يلاحظ أن تشبع القضاء التونسي بمجمل هذه المبادئ لم يمنع وجود توجه نخشى أن يكون قاراً نحو الحد من استقلالية إجراءات التحكيم وتحويل المحاكم التدخل في سير الإجراءات قبل ختمها حال أن بإمكان المحكمين ماديا وقانونيا أن يواصلوا السير في الإجراءات على النحو الذي يقدرون أنه الأنسب والأكثر ملاءمة لمقتضيات القانون الإجرائي المنطبق. من ذلك أن محكمة الإستئناف بتونس قد قضت في مناسبتين على الأقل بإلزام هيئة التحكيم بتعليق إجراءات النظر في القضية إلى حين البت قضائيا في مطلب تجريح / قدح قدمه أحد الخصوم ضد أحد المحكمين أو جميعهم، مع أن الفصل 51 من مجلة التحكيم يعلن بوضوح مبدأ استقلالية إجراءات التحكيم (autonomie de la procédure arbitrale) إذ ينص على أنه "لا يجوز لأي محكمة أن تتدخل في المسائل التي هي موضوع اتفاقية تحكيم دولي إلا عملا بأحكام هذه المجلة"، وهو ما يعني بجلاء أنه في غياب نص صريح يخول للمحكمة أن تتدخل في سير التحكيم في مرحلة معينة، لا يجوز لتلك المحكمة أن تتدخل في مسألة تحكيم أصلا. أما إذا وجد النص الخاص، فإن التدخل يكون محدوداً وخاصا بذلك الإطار، وهو الأمر المفقود في ما يتعلق بتعليق الإجراءات لوجود دعوى في التجريح، حيث يفترض أن توقف الهيئة التحكيمية الإجراءات من تلقاء نفسها، ولا يمكن غصبها على ذلك، فإن امتنعت عن ذلك جاز طلب إبطال حكمها إثر صدوره إن ثبت أن خرق القاعدة الإجرائية القاضية بوجوب تعليق النظر أذى في الوقت نفسه إلى خرق قاعدة إجرائية أساسية، كوجوب احترام حق الدفاع، وذلك إذا عمد طالب التجريح إلى التخلف عن الجلسات التي تعقدها هيئة التحكيم في الفترة الفاصلة بين رفع طلب التجريح وبته، حيث يعتبر القيام بأعمال إجرائية في تلك الفترة في غيابه هضما لحقه في الدفاع عن نفسه وخرقاً لمبدأ المساواة بينه وبين خصمه، طالما أن تخلفه عن الحضور مبرر قانوناً ولا يمكن أن يؤاخذ عليه. 

3. الرقابة الإستثنائية بمناسبة منح المساعدة للتحكيم: 

   يمكن أن يتقدم الأطراف أو المحكمون بطلب إلى القضاء الرسمي خلال سير إجراءات التحكيم للمساعدة على حسن سير الإجراءات. فالأطراف يمكنهم أن يطلبوا من المحكمة مساعدتهم على إتمام تشكيل هيئة التحكيم أو تصحيحه أو على تنفيذ أحد القرارات الوقتية أو التحفظية التي اتخذتها هيئة التحكيم. كما يمكن للمحكمين طلب المساعدة على إنقاذ قرار تمهيدي اتخذوه يتعلق خصوصا بالإثبات وجمع الأدلة.وفي هاتين الصورتين يمكن للمحكمة أن تجري رقابتها على صحة تشكيل هيئة التحكيم وعلى اختصاص المحكم. 

1.3. الرقابة على صحة إجراءات تشكيل هيئة التحكيم: 

   يخول القانون الجديد للأطراف الرجوع إلى القضاء لطلب المساعدة على فض الإشكالات وتذليل الصعوبات المتعلقة بتعيين المحكمين وعزلهم واستبدالهم . 

   وتنص المادة 1048 على أنه "إذا اقتضت الضرورة مساعدة السلطة القضائية في تقديم الأدلة أو تمديد مهمة المحكمين أو تثبيت الإجراءات أو في حالات أخرى، جاز لمحكمة التحكيم أو للأطراف بالإتفاق مع هذه الأخيرة، أو للطرف الذي يهمه التعجيل بعد الترخيص له من طرف محكمة التحكيم، أن يطلبوا بموجب عريضة تدخل القاضي المختص، ويطبق في هذا الشأن قانون بلد القاضي". 

   ومن الواضح أن القاضي الذي يتقدم إليه أحد الخصوم أو هيئة التحكيم بطلب من أحد الأنواع المبينة بالأحكام المذكورة أعلاه (والتي سهت عن صورة طلب التجريح / القدح في محكم recusation / challenge) يجري نوعاً من الرقابة على الإجراءات التحكيمية. لكن أين تقف حدود هذه الرقابة؟ 

   لا شك في أن غياب نص واضح في هذا الشأن في القانون الجزائري وغيره من القوانين كالقانون التونسي يجعل مهمة القاضي محفوفة بالمخاطر. فالإفراط في الرقابة يهدد تواصل التحكيم نفسه، إذ قد يطلق القاضي يده لمراقبة جميع جوانب العملية التحكيمية فيستند إلى أي خلل يبدو له (وقد لا يصيب في تقدير وجود الخلل) للقضاء برفض منح المساعدة للمحكمين أو للأطراف فيتوقف التحكيم فعليا ولا يجد الأطراف طريقة لتجاوز ذلك العائق، إذ أن لجوءهم إلى القاضي إنما كان لطلب المساعدة على تجاوزه. 

2.3. الرقابة على اختصاص المحكم: 

   تشمل الرقابة على اختصاص المحكم خصوصا التحقق من صحة اتفاقية التحكيم. وقد ذهب القضاء التونسي في ذلك مذهباً بعيداً وخطيراً ينبغي التنبه إلى خطورته والإبتعاد عن مساره، إذ رفض الرئيس الأول لمحكمة الإستئناف بتونس في عدد من القضايا طلب تعيين محكم بسبب وجود منازعة في صحة اتفاقية التحكيم أو حتى في صحة العقد الذي يتضمن اتفاقية التحكيم. فقد اعتبر الرئيس الأول في بعض الأحكام أنه يتدخل كقاض استعجالي، وبالتالي ينبغي عليه أن يتقيد بضوابط الفصل 201 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية الذي يوجب أن لا يتدخل القاضي الإستعجالي إلا إذا توفر عنصرا: التأكد (الخطر الملم أو الداهم) وعدم المساس بأصل الحقوق. واستند إلى المعيار الثاني ليقضي برفض مطالب التعيين كلما وقعت منازعة في صحة اتفاقية التحكيم على أساس أن مسائل البطلان إنما تعد من المسائل الأصلية بطبيعتها. 

وتتمثل خطورة هذا الحل في أنه يضع حداً لإجراءات التحكيم قبل انطلاقها أنه لا يقع بت مسألة صحة اتفاقية التحكيم، وبالتالي لا يحق للأطراف الرجوع إلى القضاء الرسمي لعرض النزاع عليه. فينتهي الأمر عملياً إلى نوع من إنكار العدالة déni de justice. 

3.3. الرقابة بمناسبة تمديد أجل التحكيم: 

   تقتضي المادة 1018 من القانون الجديد أن "يكون اتفاق التحكيم صحيحاً ولو لم يحدد أجلا لإنهائه، وفي هذه الحالة يلزم المحكمون بإتمام مهمتهم في ظرف أربعة (4) أشهر تبدأ من تاريخ تعيينهم أو من تاريخ إخطار محكمة التحكيم. 

   غير أنه يمكن تمديد هذا الأجل بموافقة الأطراف، وفي حالة عدم الموافقة عليه، يتم التمديد وفقاً لنظام التحكيم، وفي غياب ذلك، يتم من طرف رئيس المحكمة المختصة". 

    وجدير بالملاحظة أن خيار القانون الجزائري يتمثل في منح صلاحية التمديد للقاضي الرسمي ، بخلاف القانون النموذجي لليونسترال والقوانين المأخوذة عنه كالقانون التونسي التي منحت المحكمين ثقتها لإتخاذ قرار التمديد في إطار صلاحياتهم العامة لتسيير الإجراءات علاوة على إقرار فقه القضاء بأن سكوت الأطراف عن إثارة مسألة انتهاء الآجال واستمرارهم على تبادل التقارير أو طلب تأخير القضية لما بعد انتهاء الأجل القانوني يعدذ موافقة منهم على التمديد فلا يجوز لمن صدر منه ذلك الموقف أن يتمسك في ما بعد ببطلان حكم التحكيم لصدوره خلال الأجل عملاً بمبدأ عدم جواز التناقض للإضرار بالخصم .

   أما في القانون الجزائري فالتمديد يرجع فيه إلى القضاء إن كان التحكيم حراً، ولم يتطرق النص إلى إمكانية التمديد الضمني. غير أن ذلك لا يمنع من تطبيق قاعدة عدم جواز التناقض المشار إليها إن توفرت شروطها. وفي صورة اللجوء إلى القاضي فهو يراقب أسباب عدم إتمام المحكمين أعمالهم خلال الأجل القانوني. فإن كانت الأسباب وجيهة أصدر قراراً بالتمديد وإن بدا له أن السبب يرجع إلى تراخي المحكمين في القيام بالمهمة فله أن يقرر الرفض وبذلك ينهي إجراءات التحكيم دون إصدار حكم تحكيمي، وهو ما يفضي بحسب الحالة إلى وجوب القيام بدعوى تحكيمية جديدة أو الرجوع إلى المحاكم الرسمية إن نص اتفاق الأطراف على ذلك. 

القسم الثاني : رقابة بعدية مركزة على القواعد الإجرائية الأساسية: 

   من القواعد البديهية في مجال التحكيم أن الرقابة التي يجريها قاضي الإبطال هي ذاتها التي يمارسها القاضي بمناسبة النظر في مطالب منح الصيغة التنفيذية. فما يبطل به حكم التحكيم يرفض به طلب الإكساء بالصيغة التنفيذية، والقول بخلاف ذلك يؤدي إلى تناقض الأحكام، حيث يقع إبطال حكم يمنح صيغة التنفيذ، أو يرفض منح الصيغة التنفيذية لحكم رفض طلب في التصريح ببطلانه. وقد أدى ذلك بالمشرع التونسي إلى إقرار قاعدة مقتضاها أن الحكم برفض الإبطال يعادل الحكم بالإكساء بالصيغة التنفيذية ويغني عنه .

   ويمارس القاضي رقابة محدودة جداً على منهجية تحديد القانون المنطبق على الإجراءات، كما هو الشأن بالنسبة الى القانون المنطبق على أصل النزاع. وفي ما يتعلق بكيفية تطبيق هذا القانون الإجرائي، يكرس القانون الجزائري على غرار القانون التونسي التفرقة بين القواعد الإجرائية الأساسية والقواعد الإجرائية غير الأساسية، بحيث لا تطال رقابة قاضي الإبطال وقاضي الإكساء كيفية تطبيق القواعد الإجرائية غير الأساسية. 

1. حدود الرقابة على منهج تحديد القانون المنطبق على الإجراءات: 

   من المبادئ البديهية في مجال التحكيم أن القضاء ببطلان حكم المحكمين لا يقع إلا في الصور المنصوص عليها حصراً بالقانون. وطالما لم ينص القانون بوجه صريح على إبطال حكم المحكم بسبب الخطأ في تطبيق منهج تحديد القانون المنطبق على الإجراءات التحكيمية في التحكيم الدولي فلا يمكن أن يتقرر البطلان إلا في صورة مخالفة لإرادة الأطراف مخالفة صريحة وواضحة، وذلك إذا اتفق الأطراف على تطبيق قانون إجرائي معين بينما طبق المحكمون قانوناً آخر. ذلك أن احترام إرادة المحتكمين تعد من قواعد النظام العام الدولي. 

   وجدير بالملاحظة أن المادة 1043 من القانون الجزائري الجديد المتعلقة بالتحكيم الدولي تجيز للأطراف الإتفاق على تطبيق قانون إجرائي أجنبي أو نظام تحكيم، لكنها لم تنص على حرية المحكمين أيضا في اختيار تطبيق قانون إجرائي أو السير بالإجراءات دون الرجوع إلى قانون أو نظام محدد. غير أن ذلك لا يمكن أن يفهم منه أن قواعد الإجراءات الواردة بالمادة 1019 وما يليها آمرة أو تهم النظام العام، بدليل جواز اتفاق الأطراف على خلافها. 

2. عدم إمتداد الرقابة إلى كيفية تطبيق القواعد الإجرائية غير الأساسية: 

   اقتضت المادة 1056 من القانون الجزائري الجديد أن منح الصيغة التنفيذية يمكن رفضه في صورتي عدم احترام حق الدفاع وفي صورة تناقض تعليل حكم التحكيم. ويستدل من ذلك على أن خرق القواعد الإجرائية الأخرى لا يترتب عليه البطلان ولا يحق للمحكمة أن تستنبط صوراً أخرى بدعوى الإجتهاد، لأن الإجتهاد ينبغي أن يكون إيجابيا أي لفائدة المرونة لا التشدد، لأنه لا يجوز أن يكون التأويل مدعاة لمزيد من التضييق أبداً. 

المبحث الثاني: رقابة لا تطال سوى المبادئ الإجرائية الأساسية: 

   تتميز القواعد الإجرائية الأساسية بأنها أحكام ذات تطبيق كوني. فالمشرع الوطني (مستلهما أحكامه من القانون النموذجي لليونسترال) يجيز للقاضي الوطني إجراء رقابة على احترام هذه المبادئ ولا ينزل عن تلك الرقابة حتى إذا أجري التحكيم وفق قانون إجرائي أجنبي. فتتحول هذه و الرقابة بطريقة غير مباشرة إلى وسيلة لمراقبة القانون الأجنبي أو نظام الإجراءات التحكيمية المطبق للتحقق من مدى احترامه للضمانات الأساسية لعدالة المحاكمة التحكيمية (القسم الأول). ويهدف استبعاد الرقابة على قواعد الإجراءات غير الأساسية إلى تحقيق مرونة الإجراءات التحكيمية (القسم الثاني).

 

القسم الأول: القواعد الإجرائية الأساسية، أحكام ذات تطبيق كوني: 

   تنص المادة 2 من القانون النموذجي لليونسترال على أنه "باستثناء أحكام المواد 8 و9 و17 (هـ) و17 (...) و17 (....) و35 و36 من ذات القانون، لا تنطبق أحكام القانون النموذجي إلا إذا كان مكان التحكيم واقعاً في تراب الدولة المعنية، أو إذا وقع إختيار هذه الأحكام من قبل الأطراف أو من قبل هيئة التحكيم. 

   ومدلول ذلك أن المواد المشار إليها تنطبق بصرف النظر عن توفر معياري مقر التحكيم وإرادة الأطراف من عدم ذلك. ونضيف إلى ذلك أن المادة 1019 من القانون الجزائري الجديد لم يربط تطبيق أحكامها بأي شرط جغرافي بدليل أن المواد الموالية جاءت جميعها بالتنصيص على جواز اتفاق الأطراف على خلافها، بخلاف المادة 1056 التي تنص على أنه يقع رفض منح الصيغة التنفيذية إذا خرق الحكم التحكيمي مبدأ الوجاهية. 

   ويتبين من ذلك أن الأحكام ذات التطبيق الكوني، أي التي لا تتقيد بمجال تطبيق محدود في المكان، تتعلق بتوزيع الإختصاص بين القضاء الوطني والتحكيم وبالمبادئ الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية وبالإكساء بالصيغة التنفيذية .

   وتخص المادة 1056 من القانون الجزائري الجديد بعض القواعد الإجرائية بنظـام خـاص يسمو بها عن درجة القواعد الإجرائية العادية ويربو بها عن كل إمكانيـة لخرقهـا دون تـدخل القضاء لمجازاة ذلك الخرق بوأد حكم التحكيم وإنهاء وجوده أو مفعوله قانوناً. وقد سـميت هـذه اعد الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية وبوأها القضاء التونسي المكانة التي هـي القواعد بها جديرة، فأكد أنه لا يجوز خرقها في أي ظرف بأي تعلة كانت، لأنها تمثل القواعـد التـ لا يمكن دون احترامها تحقيق العدالة أو تصورها. أما فقه القضاء الأوروبي فاعتبر أنها تهم النظام العام الإجرائي الدولي بينما اعتبرهـا الفقـه مبـادئ كونيـة أو عبـر – دوليـة principes transnationaux لا تحتاج إلى أن يقع تكريسها بنص تشريعي'. - 

  ولما كانت هذه القواعد ضرورية لإقامة العدل ولا يمكن تصور قيامه دون احترامها فإن میدان تطبيقها غير محدد بمكان، بل هي تنطبق أينما وجد مقر التحكيم ومهما كان القانون المنطبق على الإجراءات. وينتج من ذلك أن القاضي الوطني "يعاقب" (مدنيا) على مخالفتها في حضور معياري الفقرة 2 من المادة 2(أ) من القانون النموذجي لليونسترال أو في غيابهما، وخصوصا في إطار إجراءات الإكساء بالصيغة التنفيذية، فلا يمكن للمحكوم له أن يدافع عن حكم تحكيمي لا يحترم هذه المبادئ أو بعضها بدعوى أنه صدر وفق قانون بلاد أخرى أو نظام تحكيم مؤسسة ما، بل إن القاضي يقضي برفض الإكساء بالصيغة التنفيذية كلما تبين له خرق أحد تلك المبادئ أيا كان مكان التحكيم أو القانون المختار، وهو ما يتأكد من الإطلاع على أسباب رفض الإكساء المنصوص عليها بالمادة 1056 من القانون الجزائري، والتي تتجاهل في هذا الباب محتوى القانون المنطبق على الإجراءات حتى ولو كان قانونا أجنبيا كما يأتي بيانه. 

   وقد تبنى فقه القضاء في تونس موقفاً مرناً وواضحاً إزاء ما يسميه المشرع "المبادئ الأساسية للإجراءات" في التحكيم (الفصلان 13 و42 من مجلة التحكيم). فقد اعتبرت محكمة الإستئناف بتونس في أكثر من قرار أن المبادئ الأساسية للإجراءات هي تلك التي لا يمكن تصور محاكمة عادلة إن لم يقع احترامها، وهي مبادئ احترام حقوق الدفاع والمساواة بين الخصوم والمواجهة بينهم، ومبدأ حياد هيئة الحكم بالمعنى الأخلاقي للحياد (impartialité). أما القواعد الإجرائية الأخرى، فلا تعد من قبيل القواعد الأساسية للإجراءات ولا يترتب على خرقها البطلان، وقررت المحكمة مثلا أنه لا موجب للنظر في ما إذا كانت هيئة التحكيم قد سوغت لنفسها فعلاً الحكم لصالح دعوى معارضة قام بها المطلوب وتجاوزت من حيث مرماها نطاق الدعوى الأصلية، باعتبار أن قاعدة ارتباط نطاق الدعوى المعارضة بنطاق الطلبات الأصلية ليست من القواعد الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية . أما خرق مبدأ عدم جواز الحكم بأكثر من طلبات الخصوم (ultra ou extra-petita فهو من الإخلالات التي تبرر الإبطال الجزئي annulation partielle باعتبار أن الحكم بما لم يطلب يشكل حتماً خرقاً لحق الدفاع والوجاهية. 

   ومن ناحية أخرى، فقد كرس فقه القضاء الصبغة الأخلاقية للإجراءات التحكيمية، وذلك من خلال توسيع نطاق العمل بمبدأ عدم جواز التناقض للإضرار بالغير ( principe de l'estoppel) الذي أدرجه المشرع في الباب المخصص للتحكيم الدولي، ومع ذلك فقد اعتبرت محكمة التعقيب أنه يجب العمل به أيضا في مادة التحكيم الداخلي كما طبقته محكمة الإستئناف بتونس ضمنيا في قرار قضية "هادية" ضد شركة "جات". 

1. مرونة الإجراءات التحكيمية:

   تتجلى المرونة من خلال أحكام المواد من 1019 إلى 1024 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية. فالمادة 1019 تقر مبدأ حرية اختيار طريقة السير بالإجراءات وتجيز للأطراف الإتفاق على تسييرها بطريقة مغايرة لما هو وارد في المواد الموالية لها، بينما تبين المواد من 1020 إلى 1024 القواعد الإجرائية التي يقع اتباعها إذا لم يختر الأطراف أو المحكمون قواعد إجرائية أخرى. كما تجيز المادة 1043 ضبط الإجراءات بالإستناد إلى قانون يتم اختياره من الأطراف أو نظام تحكيم، دون ربط ذلك بطبيعة التحكيم من كونه حراً أو مؤسساتياً، بما يفيد أنه يمكن تطبيق نظام تحكيم مؤسسة قائمة حتى في صورة التحكيم الحر. 

   أما في القانون المقارن فإن الفصل 13 من مجلة التحكيم التونسية ينص على أنه "في صورة التحكيم الحر تتولى هيئة التحكيم تنظيمه بتحديد الإجراءات الواجب إتباعها ما لم يتفق أطراف النزاع على خلاف ذلك أو يفضلون إتباع نظام تحكيم معين. 

   وفي صورة التحكيم لدى مؤسسة تحكيم فإن هذه المؤسسة تتولى تنظيمه طبق نظامها. 

   وفي جميع الصور تراعي المبادئ الأساسية للمرافعات المدنية والتجارية، خاصة منها المتعلقة بحق الدفاع". 

   وينص الفصل 64 من المجلة نفسها على أن المبدأ في التحكيم الدولي هو أن ينظم المحكمون الإجراءات على النحو الذي يرونه ملائماً مع احترام اتفاق الأطراف. هو عين ما نصت عليه المادة 1036 من قانون الإجراءات المدنية الهولندي: Sous réserve des » dispositions du présent Titre, la procédure arbitrale est conduite de la manière convenue par les parties ou, dans la mesure où les parties n'en sont « pas convenues, telle que le tribunal arbitral l'a déterminé غير أن هذه الحرية تبقى رهينة احترام المبادئ الأساسيـة للإجـراءات، وخاصـة منها مبـدأي المساواة بين الخصوم والمواجهة بينهم ومبدأ الحياد الأخلاقي (impartialité) لهيئة التحكيم وحسن النية. 

   ويتجلى من ذلك أن المحكم ملزم فقط باحترام "القواعد الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية". أما سائر القواعد، ومنها ما يتعلق مثلا بمكان إجتماع المحكمين، فهي اختيارية وجوازية، فيتصرف المحكم في شأنها على النحو الذي يراه ملائما ولا تثريب عليه إن خرقها أو حرفها. 

1.1. مفهوم قواعد الإجراءات الأساسية : البحث عن وليد مسعود:

    كتب الأديب جبرا إبراهيم جبرا قصة سماها "البحث عن وليد مسعود". وتدور أحداث القصة حول اختفاء شخص اسمه وليد مسعود، سعى الراوي إلى البحث عنه من خلال الإستماع إلى وايات عديد الأشخاص الذين عايشوه ردحا من الزمن، نساء ورجالا. ويتلقى الراوي من كل واحد من هؤلاء الأشخاص رواية مختلفة عن نفس الشخص، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن بعضهم لم يقل الحقيقة أو حرفها على هواه. وإنما تلك هي طبيعة الدنيا: أن الحقائق نسبية، وكل يراها من موقعه وبعينه هو.  

    لكن القانون لا يمكن أن يأنس إلى هذا المنطق "النسبوي" الذي يتنافى مع طبيعة القانون كعلم ومع طبيعة القاعدة القانونية كقاعدة عامة ومجردة وموضوعية. فالمفاهيم القانونية ينبغي أن لا تبقى "سرية" أو هلامية، بل ينبغي أن تكون واضحة وموحدة، وهو ما لا يتحقق إلا إذا تم اعتماد معايير دقيقة لتعريف كل مفهوم. وهذا هو شأن المبادئ الإجرائية الأساسية التي ظلت كالروح الهائمة، تحسها أحيانا قريبة منك حتى إنك تتوهم أنه يمكنك أن تمسكها بقبضة اليد، لكنها ما تفتأ أن تهرب منك مع تفاصيل الدنيا وخصوصيات كل قضية، حتى تنسى وحدة المفهوم وتنساب في مسيرة البحث عن الحلول البراغماتية، حالة بحالة. 

2.1. المرونة المحاطة بالضمانات : 

   تقتضي المرونة عدم تكبيل المحكم بالشكليات. فالغاية هي إصدار حكم في أسرع وقت وبأقل تكاليف ممكنة وفي ظروف معقولة تسمح لكل طرف بالدفاع عن نفسه. فالمبادئ الإجرائية الأساسية هي التي تضمن ممارسة حق الدفاع في ظروف مقبولة، أما ما عداها فللمحكم حرية الإجتهاد فيه. وقد جاء بقرار محكمة الإستئناف بتونس الصادر تحت عدد 51 بتاريخ 15 فيفري 2000 أن "القواعد الأساسية للإجراءات هي صفوة القواعد الإجرائية وهي القواعد التي لا يمكن دون إحترامها إصدار قرار عادل أو ضامن لحد أدنى من العدالة، وأهمها احترام حق الدفاع، وإنه بربط النص المذكور بأحكام الفصل 63 من مجلة التحكيم، يتضح أن من القواعد الأساسية للإجراءات احترام مبدأ المساواة بين الخصوم". وبذلك اعتبرت أن القواعد المتعلقة بكيفية سماع الشهود ليست في ذاتها من القواعد الأساسية لكنها محاطة بالمبادئ الأساسية المبينة أعلاه. 

   وقد ساهم هذا القرار في تعريف مفهوم القواعد الأساسية للإجراءات، وذلك عبر وضع معيار عام لها، يمكن من خلاله إيجاد الحلول للمسائل الخصوصية، ويقوم هذا التعريف على العنصر الغائي، أي أنه ينطلق من الغاية من الاعتراف بوجود مؤسسة التحكيم، وهي غاية إقامة العدل، على أن تكون هذه العدالة متحررة من بعض التعقيدات الخاصة بالمحاكم العدلية والقضائية - ولو أن الفقه الحديث يلاحظ نزوعاً متواصلاً في مجال التحكيم إلى التماهي بمحاكم القضاء، وخصوصاً من حيث كيفية السير بالإجراءات، حيث طغى منطق الإجراءات القضائية على منطق التحكيم (judiciarisation de l'arbitrage) وبالتالي تأثر التحكيم بمنطق القانون العادي وابتعاده عن منطقه الخاص به، والذي كان طابعاً مميزاً له judiciarisation de) .l'arbitrage 

وبالنظر إلى هذه الغايات، فإنه يفترض في الإجراءات التحكيمية أن تكون:

  • ضامنة لعدالة المحاكمة، أي ما يسميه الأمريكيون: due process. 

  • مرنة وبعيدة عن التعقيد.

   وبالنظر إلى هذه المعطيات، فإن المنطق يقتضي أن تحدد المبادئ الأساسية للإجراءات، وهو ما فعلته محكمة الاستئناف بتونس في قرارها عدد 51 المذكور، وكذلك في قرارات أخرى تتعلق بالتحكيم الداخلي، من أهمها على الإطلاق القرار عدد 61133-61134 الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 19 أكتوبر 11999 الذي بينت فيه المحكمة أن المشرع "أعطى كمثال من القواعد الأساسية للإجراءات قاعدة وجوب احترام حق الدفاع، وعليه فإن سائر القواعد الأساسية للإجراءات تنتمي بالضرورة إلى نفس الصنف ويمس جميعها بالمبادئ الأساسية للإجراءات كمبدأ الحياد (بمعناه الأخلاقي Impartialité) ومبدأ المساواة بين الخصوم (الذي يشير إليه الفصل 63 من مجلة التحكيم ويضعه بمعية مبدأ احترام حق الدفاع كمبدأين إجرائيين أساسيين في ميدان التحكيم الدولي ومن الحتمي أن يكونا كذلك في ميدان التحكيم الداخلي) ...وإن قاعدة  وجوب تقديم عريضة الدعوى وبيان الطلبات منذ الجلسة الأولى لهيئة القضاء هي قاعدة إجرائية لا محالة، إلا أنه لا يصح وصفها بالأساسية طالما أن لا علاقة لها بمبدأ احترام حق الدفاع والمواجهة بين الخصوم والمساواة بينهم وحياد هيئة التحكيم. و...إنه وطالما أن القاعدة المذكورة ليست أساسية فإن خرقها لا يترتب عليه بطلان القرار التحكيمي .

   ويلتقي هذا التوجه القضائي مع اتجاه عام في قانون التحكيم في العالم. ففي انكلترا، كتب أحد الفقهاء معلقاً على أحد الأحكام القضائية، مؤكدا أن المحكم مطالب باحترام "مبادئ العدالة التي يستحيل خرقها" مع الاجتهاد في ما عداها، مبررا ذلك بأن المحكم ليس بالضرورة من أهل القانون، فقال:

"We must not insist upon a too minute observance of the regularity of forms among persons who naturally by their education or by their opportunities cannot be supposed to be familiar with legal procedure, and may accordingly make slips in what is a mere matter of form without any interference with the substance of their decisions. I should be anxious myself, as I have no doubt all your Lordships would, to give every effect to their decisions; on the other hand, there is some principles of justice which it is impossible to disregard, and giving every credit to the desire on the part of the court to do justice, I think it is manifest that they proceeded far too hastily in this case, and apart from imputing to them any prejudice or any desire to do wrong, I think that the mode in which the whole thing arose and was disposed of was so slipshod and irregular that it might lead to injustice". 

2. وجوب التشدد: 

   يلاحظ الدارس أنه ظهر في زمن ما تحول إلى التشدد في فقه قضاء محكمة الإستئناف بتونس، تجلى من خلال تبني مفهوم موسع و"هلامي" المعالم (nébuleux) للقواعد الأساسية للإجراءات، حيث اعتبرت في قرار حديث، صدر عنها في مادة التحكيم الداخلي -أيضاً- بتاريخ 27 مارس 2001، عدد 265 أن "هيئة التحكيم لم تحدد موعد جلسة المفاوضة، بل أكثر من ذلك فإنها صرفت القضية للمفاوضة وفتحت الباب أمام طرفي النزاع لتبادل التقارير والملحوظات إلى حدود ثلاث مرات لكل طرف، ومثل هذا الإجراء يشكل خرقاً صارخاً لمبادئ القواعد الإجرائية ولما جاءت به أحكام الفصل 119 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية، إذ تقتضي أحكام هذا الفصل تعيين موعد جلسة المفاوضة وتمنع على الهيئة القضائية قبول ملاحظات أو حجج من الخصوم إلا في بعض الحالات الاستثنائية. و...إن ما قامت به هيئة التحكيم لا يدخل في إطار الحالات الاستثنائية بل يعد تجاوزاً للمبادئ الأساسية الإجرائية، إذ ثبت من خلال محضر الجلسة المذكور أن طرفي النزاع لم يستوفيا ملاحظاتهما وتقاريرهما وكان من المفروض أن تمدد على الأقل في جلسة المرافعة حتى يستكملا ما لديهما من ملحوظات ثم يقع تأخير القضية للمفاوضة بجلسة معينة ومحددة. وبناء عليه فإنه يتجه قبول هذا المطعن والاعتماد عليه".

   وبذلك فقد اتسع مفهوم القواعد الأساسية للإجراءات المدنية والتجارية حسب هذا القرار ليشمل حتى قاعدة عدم قبول المؤيدات والتقارير أثناء فترة المفاوضة، والتي وضعت لها مجلة المرافعات المدنية والتجارية نفسها استثناءات آلت إلى تليينها، علماً أنه لا يوجد في قوانين التحكيم ما يوجب على هيئة التحكيم أن تتبع المسار الذي تتبعه المحاكم العدلية، وذلك بمرور القضية بطور تحضيري ثم بطور مرافعة ثم بطور مفاوضة (مداولة)، بل إن بعض القوانين المقارنة قد استغنت عن بعض هذه الأطوار وأدمجت بعضها في بعضها الآخر، كما أنه من المستقر أن هيئة التحكيم بإمكانها أن لا تجري أي جلسة مطلقا وأن تسمح للأطراف بتبادل التقارير والملحوظات والمؤيدات وتقديم الملف إليها كاملا عند الإنتهاء من ذلك لتقضي فيه دون سماع أي مرافعة. 

   ويخالف هذا الرأي توجه القانون الجزائري الجديد، حيث تقتضي المادة 1019 أن هيئة التحكيم تطبق قواعد القانون ما لم يتفق الأطراف على خلافها. أما القانون النموذجي فينص على أنه حتى في غياب اتفاق الأطراف، يجوز للأطراف -ما لم يتفقوا على خلاف ذلك- أن يحوروا أو يتمموا طلبهم أو دفاعهم خلال سير الإجراءات إلا إذا رأت هيئة التحكيم أنه لا شيء يحملها على السماح بمثل هذا التحوير لتأخر وقت تقديمه، وأنه ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك، فإن هيئة التحكيم تقرر ما إذا كانت ستعقد جلسة أو جلسات تستمع فيها إلى الأطراف أو ستقتصر على النظر في الموضوع استنادا إلى ما يقدم لها من وثائق وأوراق. كما أن القاعدة العامة تقتضي أنه يجوز لهيئة التحكيم أن "تسير في التحكيم حسب الطريقة التي تراها مناسبة. 

  وتواصل نفس المنهاج المتشدد في تونس عبر إصدار قرار جديد في مجال التحكيم الدولي، وهو القرار عدد 101 الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 23 أكتوبر 2001 الذي اعتبرت فيه المحكمة أن مخالفة هيئة التحكيم لقاعدة وجوب تعليق نظرها في صورة التجريح في بعض أعضائها أو في الأعضاء جميعا إلى حين البت نهائيا في الأعضاء جميعا إلى حين البت نهائيا في طلب التجريح وعدم انصياعها لقرار قضائي ألزمها بتعليق النظر يعد خرقاً لقاعدة إجرائية أساسية. ولا يمكن في اعتقادنا القول إن مجرد خرق قاعدة وجوب تعليق النظر لوقوع طلب التجريح هو خرق لقاعدة إجرائية أساسية، وذلك باعتبار أن هذه القاعدة في ذاتها لا مساس لها بالضمانات الأساسية للمتقاضي التي تكفل له محاكمة عادلة، خصوصاً أن عددا من القوانين المقارنة لا يعتمدها أصلا، ويبيح لهيئة التحكيم التمادي في نظرها في النزاع بينما تنظر المحاكم العدلية في دعاوى التجريح . 

   فمقصد المشرع هو إلزام المحكم باحترام مجموعة من المبادئ أي القواعد التوجيهية العامة principes directeurs، لا القواعد الإجرائية التفصيلية. فالقواعد الأساسية للإجراءات مبادئ عامة وليست قواعد فنية محددة. فرغم أن المشرع يستعمل مصطلح "قواعد" الإجراءات فإن الأصح هو أنها مبادئ عامة. فهي أطر توجيهية لسلوك القاضي وتعامله مع الأطراف ومعطيات القضية أطوارها، ولكيفية السير بالإجراءات التحكيمية. فالمساواة، مثلا، ليست قاعدة إجرائية، بل هي منهج في تطبيق الإجراءات، وهي قاعدة عامة تسري على جميع مراحل الإجراءات (تبليغ عريضة الدعوى إلى الخصم والرد عليها وجواب المدعي الأصلي وتلقي حجج الأطراف وسماع الشهود والتداخل والإدخال والترافع وتقديم الطلبات وتحويرها وتأخير الجلسات...). ففي مجال التحكيم، لا يوجد إجراء وجوبي بذاته، بل يمكن السير بالإجراءات على النحو الذي يقرره الأطراف والمحكمون، مع وجوب احترام المبادئ الأساسية في جميع الحالات ومهما كانت الصيغة الإجرائية المختارة أو المقررة . 

   فالمقصود في نهاية الأمر هو ضمان محاكمة تحكيمية عادلة ومنصفة وعدم إرهاق الأطراف بإجراءات أو تكاليف لا طائل من ورائها. فيكون ذلك عنوان حرية المحكم، لكنها حرية مسؤولة، إذ أنه مطالب بتحقيق نتيجة واحدة، وهي المحاكمة العادلة، مع احترام إرادة الأطراف. وعلى محكمة الإبطال أن تتجنب خصوصاً إبطال أحكام التحكيم بسبب إخلالات لا يترتب عليها نقض الأحكام القضائية المطعون فيه ، لأن منطق قانون التحكيم يقتضي أن تكون الرقابة على أحكام التحكيم أقل شدة من الرقابة على أحكام المحاكم الرسمية، لا العكس. 

   ومن جهة أخرى، إذا تعارضت إرادة الأطراف مع ضمانات عدالة المحاكمة التحكيمية، فإن المحكم ملزم بتقديم المبادئ الإجرائية الأساسية على إرادة الأطراف، لا العكس. فله أن يستبعد كل بند بالشرط التحكيمي يؤدي إلى المساس بحق الدفاع أو المواجهة أو المساواة بين الخصوم، بخلاف التنازل اللاحق عن حق الدفاع أو حق الإطلاع. أما القواعد الجزئية والتفصيلية، فالمحكم حر في تطبيقها أو استبعادها، مع التقيد بإرادة الأطراف في شأنها. 

القسم الثاني: استبعاد الرقابة على قواعد الإجراءات غير الأساسية: 

   يتميز النظام العام الإجرائي بأنه يهدف بالأساس إلى ضمان احترام الحقوق الفردية للخصوم مصلحة المجتمع إلا بصفة ثانوية، بعكس النظام العام الموضوعي. وبموجب ذلك، ولا يمارس القاضي رقابة دنيا على شكليات حكم التحكيم. 

1. خصوصية النظام العام الإجرائي: 

على خلاف قواعد النظام العام الأصلي أو الموضوعي ordre public de fond تتميز قواعد النظام العام الإجرائي ordre public procédural بأنه لا يمكن أن يثيرها القاضي من تلقاء نفسه ولا يجوز أن تثار أمام محكمة القانون لأول مرة. ذلك أنه يجوز للأطراف التنازل عن التمسك بخرقها صراحة أو ضمنا. ويعتبر مبدأ حسن النية في سير الإجراءات المبدأ الأساسي الذي بإمكانه أن يبرر "محو" formatage كل الإخلالات الإجرائية بمجرد السكوت عن إثارتها في الإبان، مهما كان نوع القاعدة المتعرضة للخرق. وهذا ما يعبر عنه بالـ estoppel .principle

1.1. تجليات الخصوصية: عدم جواز إثارة خرق النظام العام الإجرائي دون طلب من الأطراف: 

   لا يهم النظام العام الإجرائي سوى مصالح الخصوم الفردية، خلافاً للنظام العام الموضوعي الذي يهم مصالح تتجاوز مصالح الخصوم. فالخصم الذي يسكت عن هضم حقه في الدفاع أو عن طريقة غير معقولة في معاملته بما يشكل انتهاكاً لمبدأ المساواة، كأن يقع تمكينه من آجال قصيرة للدفاع عن نفسه مقابل تمكين خصمه من آجال متسعة، أو الخصم الذي يتنازل عن حقه في الإطلاع على وثائق يقدمها الخصم لا يمكنه أن يأمل في أن تتصدى المحكمة من تلقاء نفسها لتقرر بطلان حكم التحكيم أو عدم منحه صيغة التنفيذ بسبب خرق قاعدة إجرائية أساسية. 

  ولا يستوي في ذلك أن يكون التنازل عن حق التمسك بمبادئ الإجراءات الأساسية سابقاً للإجراء المختل أو لاحقاً له. ذلك أنه يمكن مثلا أن يوافق أحد الأطراف مسبقاً، قبل بدء الإجراءات أصلاً أو خلال سير الخصومة التحكيمية ولكن قبل وقوع الإجراء محل الإعتلال، على التنازل عن حقه في الإطلاع على ما سيقدمه خصمه من وثائق. وربما كان مراده من ذلك هو الإسراع في بت النزاع، ولثقته في أن حججه دامغة لا يمكن للخصم أن يدحضها بأي حجة. فهذا التنازل المسبق جائز، ويختلف حكمه بحسب الحالة: 

 - فإذا كان التنازل سابقاً لبدء التحكيم أصلاً، فالأصل أنه باطل، لأن فيه جهالة كلية بما يجعل منه شرطاً من شروط الغرر التي لا عمل عليها. فالتنازل عن حق قبل نشوئه يعتبر باطلاً ولا عمل عليه، لأنه لا يجوز التنازل عن حق غير معلوم المضمون والملامح. فإن وقع التحكيم وسكت الطرف المعني عن التمسك ببطلان الشرط ولم يطلب من هيئة التحكيم تمكينه من الإطلاع على الوثائق أو التقارير والرد عليها فهو يعتبر متنازلاً عن حقه، ويعد التنازل لاحقاً للإجراءات، لأنه لا يجوز للشخص التمسك بأنه كان يجهل القاعدة القانونية القائلة ببطلان الإلتزام المبني على الجهالة الفاحشة، لأن جهل القانون لا يعتد به وهو حجة على صاحبه، لا حجة له. 

- وإذا حصل التنازل خلال إجراءات التحكيم، فإنه ينبغي النظر حالة بحالة. فالخصم الذي يحضر جلسة معينة (شخصياً أو بواسطة محاميه) له أن يعاين تقديم حجج أو مؤيدات أو تقرير من قبل خصمه ويتنازل عن حقه في الإطلاع والتعليق عليها يعد مستغنياً عن الحق في ذلك ومكتفياً بما سبق له تقديمه. ومعلوم أن الجهالة في هذه الصورة تكون نسبية ومحدودة، غير أن ذلك لا يمنع المحكمين من تقدير الأمور حالة بحالة، إذ يجب عليهم أن يتفطنوا إلى ألاعيب بعض الخصوم وخصوصاً المدعى عليهم، الذين قد يخفون بعض الوثائق الحاسمة إلى أطوار متقدمة جداً من النزاع، وبعد أن يعال صبر الطالب الذي يدهمه الوقت فيسعى إلى وضع حد لطول النزاع بالتخلي عن حق الدفاع أو يصبح المحكمون مهددين بانتهاء آجال التحكيم. فإذا بدا للمحكم أن الوثائق المقدمة جديدة تماماً ولم يسبق للمدعى عليه أن أشار إليها سابقاً، تصريحاً أو تلميحاً، فعليه أن يتخذ الوسائل اللازمة لمنع امرار هذه الألاعيب، بأن يمكن الطالب من حق الدفاع رغم تنازله عنه. وقد تبلغ الأمور حداً من الخطورة يجعل المحكم يشك في أن الوثائق التي قدمت في تلك الظروف مفتعلة أو مدلسة، فعليه أن يعيد فتح المرافعات les débats لتمكين الطرف الآخر من اكتشاف حقيقة تلك الوثائق. فلا يكفي أن يكون طرف ما قد تنازل عن حقه في التعليق على حجج سيقدمها خصمه حتى يعتمدها المحكم دون تمحيص. ويجوز لقاضي الإبطال أو الإكساء أن يعتبر الإجراءات مختلة إذا كان من الواضح أن الخصم الذي قدم تلك الوثيقة تعمد الخديعة والمكر، وذلك بناء على أن الخديعة تعد مناقضة لمبدأ حسن النية. 

2.1. هل يعد خرق قواعد تعليق النظر من أسباب إبطال حكم التحكيم؟ 

   نص القانون الجزائري صراحة على تعليق إجراءات التحكيم في صورة وجود عارض جزائي. أما أحكام المادة 1016 من القانون الجزائري الجديد فنصت على صور القدح في المحكم ونظامه الإجرائي دون التنصيص بوجه واضح على تعليق إجراءات التحكيم في الأثناء ولا على ما يترتب على مواصلة النظر. 

1.2.1. تعليق النظر في صورة رد المحكم: 

   نصت المادة 1016 من القانون الجزائري الجديد على صور القدح في المحكم ونظامه الإجرائي دون التنصيص بوجه واضح على تعليق إجراءات التحكيم في الأثناء ولا على ما يترتب عن مواصلة النظر حال تعهد القاضي المختص بطلب الرد.  

   أما في تونس فقد جاء بالقرار عدد 101 الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 23 أكتوبر 2001، سابق الذكر أنه: "لا جدال [و] أنه إذا كان التحكيم دولياً فإن التجريح يتم مبدئياً وفقاً للإجراءات المتفق عليها بين الأطراف، وإذا لم يوجد مثل ذلك الاتفاق فإن الطرف الذي يعتزم التجريح في محكم ما ينبغي عليه أن يعرض أسباب التجريح كتابة على هيئة التحكيم خلال خمسة عشر يوما من تاريخ علمه بتأليفها أو من تاريخ علمه بالقوادح. وإذا لم يتخل المحكم المجرح فيه أو لم يوافق الطرف الآخر على طلب التجريح، فللقائم بالتجريح عندئذ أن يلتجئ الى القضاء في أجل خمسة وأربعين يوماً من العرض المذكور سلفاً ويطلب من محكمة الاستئناف النظر في التجريح. وقد اقتضى الفصل 58 من مجلة التحكيم أن حكمها الصادر في الموضوع يكون غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن. وفي انتظار الحكم المذكور تتوقف إجراءات التحكيم. 

  و...إن هذا الفصل قد أقر أمرين، أولهما القيام بطلب التجريح لدى المحكمة المختصة، وثانيهما وقف إجراءات التحكيم من قبل الهيئة المتعهدة من تاريخ الإدلاء بما يفيد القيام بدعوى التجريح في أحد أعضاء الهيئة، وعليه، فأن هيئة التحكيم ملزمة بموجب القانون بوقف إجراءات التحكيم من تاريخ إعلامها بنشر الدعوى في التجريح ولا يمكنها متابعة الإجراءات إلا من تاريخ صدور الحكم. و...يتضح حينئذ أن إلزام المحكمين بإيقاف إجراءات التحكيم عند نشر قضية في التجريح هو التزام قانوني يهم الإجراءات الأساسية التي لا يمكن مخالفتها، وعلاوة على ذلك فقد صدر القرار الاستعجالي عدد 8648 في 21 ديسمبر 2000 والقاضي بإيقاف إجراءات التحكيم إلى حين بت دعوى التجريح... وطالما كان الأمر بمثل ما تقدم فان مواصلة الهيئة لإجراءات التحكيم رغماً عن نشر قضية في التجريح ورغما عن صدور قرار في إيقاف إجراءات التحكيم إلى أن يتم النظر في دعوى التجريح وتعمدها إصدار قرارها التحكيمي في 13 جانفي 2001 يعد مخالفة واضحة للفصل 58 من مجلة التحكيم وسبباً موجباً لإبطال قرارها عملاً بالفصل 78 من مجلة التحكيم، خاصة وقد صدرت الأحكام اللاحقة لقرار هيئة التحكيم، والتي قضت بصحة التجريح وإلزام المحكمين بالتخلي عن مهمة التحكيم وهو ما يوجب قبول هذا المطعن". 

   وبقدر ما كان هذا القرار صائباً في النتيجة التي انتهى إليها، فإن التحليل الذي اعتمده لتأسيسها كان غير واضح ومثيراً للجدال. ذلك أن المحكمة تعتمد مفهوم "الإجراءات الأساسية التي لا يمكن خرقها" دون تعريفها ودون أن يوجد في قرارها ما من شأنه أن يدل على التعريف الضمني الذي انطلقت منه المحكمة للقول بانتماء قاعدة الفصل 58 من مجلة التحكيم إلى هذا الصنف من القواعد الإجرائية، علاوة على أن رقابة المحكمة على إجراءات التحكيم ليست مقيدة في المجال الدولي بالصبغة الأساسية لهذه القواعد، خلافا لما يقتضيه الفصل 42 من مجلة التحكيم المتعلق بالتحكيم الداخلي –كما سيأتي بيانه-، بل تشمل هذه الرقابة جميع القواعد الإجرائية المنطبقة عملاً بأحكام الفصل 78 من مجلة التحكيم الذي يجيز إبطال القرار التحكيمي "..إذا قدم طالب الإبطال دليلا يثبت...

  د-أن تشكيل هيئة التحكيم أو ما وقع إتباعه في إجراءات التحكيم كان مخالفاً لمقتضيات اتفاقية تحكيم بصفة عامة أو لنظام تحكيم مختار أو لقانون دولة وقع اعتماده أو لقواعد أحكام هذا الباب المتعلقة بتشكيل هيئة التحكيم". 

   وفي مطلق الأحوال، فإن القرار عدد 101 المذكور لا يعتمد المعيار المنصوص عليه في القرار عدد 51 سالف الذكر، وإنما يكرس مفهوماً ضبابياً للقواعد الإجرائية الأساسية، يبدو أن المحكمة قصدت أن لا تعتمد فيه أي تعريف وأن تقتصر على الجزم بأن قاعدة ما هي قاعدة أساسية، وذلك بحسب الحالات أو بمناسبة طرح كل إشكالية على حدة، بما يترك المجال فسيحاً للاجتهاد حول هذا المفهوم، توسيعاً أو تضييقاً، وبما لا يسمح باستقرار فقه القضاء في هذا المجال، ويشكل مساساً بحق المتقاضي في الأمان القانوني، الذي يستمده من وجود مبادئ واضحة وراسخة، لا من وجود حلول "براغماتية" (solutions pragmatiques) لكل حالة على حدة، لا يمكن للمتقاضي أن يتنبأ بها بقدر كاف من الدقة، مما قد يجعله يقدم على "المغامرة" برفع الطعون أملاً منه في أن تقتنع الجهة القضائية بوجاهة موقفه من خلال عناصر الملف ومعطيات القضية، على غرار ما وقع في القضية الحالية، حيث يرجح أن ما جعل المحكمة تحس بفداحة خرق قاعدة وجوب تعليق النظر عند وجود طلب في التجريح هو تجرؤ هيئة التحكيم -عناداً وتعنتاً منها- على تجاهل قرار قضائي قضى بإلزامها بتعليق النظر. 

2.2.1. هل تهم قاعدة تعليق الإجراءات لوجود نزاع جزائي النظام العام الإجرائي؟ 

   لا توجد تشريعات كثيرة تطرقت بوجه خاص إلى مسألة تأثير النزاعات الجزائية على سير الخصومة التحكيمية. وقد تركت أغلبية التشريعات هذه المسألة إما للقوانين الإجرائية العامة (التي كثيراً ما تستبعد بعض المحاكم جانباً من أحكامها بدعوى عدم تلاؤمها مع خصوصية التحكيم) وإما لحكمة هيئة التحكيم". أما القانون الجزائري الجديد فاختار حل الإشكال بنص تشريعي صريح. فقد اقتضت المادة 1021 في فقرتها الثانية أنه "إذا طعن بالتزوير مدنياً في ورقة، أو إذا حصل عارض جنائي، يحيل المحكمون الأطراف على الجهة القضائية المختصة، ويستأنف سريان أجل التحكيم من تاريخ الحكم في المسألة العارضة". 

    وتجدر الإشارة إلى أن فقه القضاء في بعض البلدان كفرنسا وسويسرا اعتبر بوجه عام أن وجود عارض جزائي لا يؤدي بصفة آلية إلى وجوب تعليق إجراءات التحكيم، واختلف الرأي بين قائل بعدم تعليق الإجراءات أصلاً وقائل بتخيير هيئة التحكيم بين التعليق وعدمه بحسب ظروف الحال وبحسب ما يبدو للمحكمين من تأثير العارض على الخصومة التحكيمية وعلى وجه الفصل فيها". ونتيجة لذلك، يمكن الجزم بوجود تيار عالمي يعتبر أن حكم التحكيم لا يمكن إبطاله بسبب عدم تعليق الإجراءات في وجود دفع جزائي . 

2. الرقابة على حكم التحكيم: 

   تراقب المحكمة ظروف شكليات إصدار حكم التحكيم وكيفية تحرير حكم التحكيم. غير أن هذه الرقابة تظل في حدودها الدنيا وينبغي أن لا تمس باستقلال المحكم. 

1.2. الرقابة على ظروف إصدار حكم التحكيم: 

   تجري مداولات المحكمين سراً وبصفة غير علنية، ويصدر حكم التحكيم بأغلبية آراء المحكمين. وينبغي أن يورد حكم التحكيم ملخص مقالات الخصوم وأسباب الحكم. 

1.1.2. سرية المداولة (المفاوضة): 

   تقتضي سرية". المادة 1025 من القانون الإجرائي الجزائري الجديد أن "تكون مداولات المحكمين وتطرح هذه العبارة المقتضبة التساؤل عن القيمة القانونية لهذه القاعدة وما إذا كانت تعتبر من القواعد الأساسية التي لا يجوز خرقها وتعتبر من النظام العام الإجرائي أم هي قاعدة توجيهية لا يترتب على خرقها أثر. ولئن كان من الثابت في كل تشريعات العالم أن المداولة / المفاوضة délibéré ينبغي أن تكون سرية ومغلقة ولا يحضرها من غير المحكمين أحد فإن الإشكال يتعلق بما بعد المداولة، وخصوصاً بمدى جواز تحرير الرأي المخالف / opinion dissidente dissenting opinion من قبل المحكم الذي لم يوافق الأغلبية الرأي. فمن المعلوم أن المحكمين اعتادوا حتى في ظل التشريعات القديمة التي لم تكن صريحة في هذا الشأن أن يحرروا آراءهم المخالفة لاجتهاد الأغلبية في شكل مماثل لشكل حكم التحكيم لبيان ما يعتقدون كان ينبغي أن يكون عليه حكم التحكيم. كما أن أنظمة التحكيم Arbitration Rules لدى عدة مؤسسات تحكيمية تنص على ذلك صراحة. فإن تم اعتبار قاعدة المادة 1025 تهم النظام العام فإن المحكم الذي يصرح برأيه المخالف يكون قد خرق قاعدة تهم النظام العام ولن يكون بإمكانه أن يختفي وراء قاعدة مدرجة في اتفاقية التحكيم أو حتى في نظام تحكيم مؤسساتي لخرق هذه القاعدة، وسيعد مسؤولاً مدنياً أمام الأطراف عن ذلك الخرق، بل ربما أمكن أيضاً أن يقع تتبعه جزائياً من أجل خرق سرية المفاوضة أو بوجه عام من أجل إفشاء السر المهني. 

   والرأي لدينا أن قاعدة الفصل 1025 إنما هي قاعدة ملزمة وتنطبق على كل تحكيم يجري على إقليم الدولة الجزائرية أو طبق قانونها، لكنها لا يمكن أن تكون من قواعد النظام العام، وبالتالي فلا مانع من الإتفاق على مخالفتها، كما لا يوجد ما يحول دون إصدار حكم مخالف إذا كان التحكيم مؤسساتياً ونص نظام التحكيم على إصدار رأي مخالف. 

   وعلى كل حال فإن قاعدة المادة 1025 تهم بالخصوص مرحلة المفاوضة ولا تتعلق بما بعدها. وفي جميع الأحوال فإن خرقها لا يؤثر على صحة حكم التحكيم ولا يمكن إبطاله بسبب هذا الخرق. 

2.1.2. صدور حكم التحكيم بأغلبية الأصوات: 

   نصت المادة 1026 من القانون الجزائري على أنه "تصدر أحكام التحكيم بأغلبية الأصوات". وواضح أن هذه القاعدة نقلت عن المبادئ العامة المتعلقة بإصدار الأحكام القضائية. ويخضع تطبيق هذه القاعدة لرقابة قاضي الإبطال والإكساء، فلا يكون لحكم صادر برأي أقلية المحكمين أي أثر قانوني. لكن الإشكال الذي لم يتطرق إليه هذا النص هو المتعلق بصورة عدم تحقق أي أغلبية. فيمكن أن يكون المحكمون في وضعية شقاق كلي بأن يكون لكل واحد منهم رأي مخالف لآراء الباقين حول وجه القضاء. ويؤدي هذا الوضع إلى استحالة فض النزاع. وإذا لم يكن التحكيم مقيداً بأجل فإن ذلك يؤدي إلى بقاء النزاع مفتوحاً إلى أجل غير مسمى. وقد اختارت عدة تشريعات مقارنة السكوت عن هذه المسألة لحمل المحكمين على التخلي عن تصلبهم في الرأي والسعي إلى التوصل إلى صيغة وسطى، بخلاف المشرع التونسي وبعض القوانين الأخرى التي اختارت وضع حل خاص بالتحكيم يتمثل في تحويل رئيس هيئة التحكيم إصدار حكم التحكيم طبق رأيه. ومعلوم أنه في ما يتعلق بالقاضي الرسمي، توجد قواعد توجب على القاضي الأقل سناً أو أقدمية أن ينضم إلى رأي أحد القاضيين الأكبر سناً أو الأكثر أقدمية، وهو ما يؤدي في كل الأحوال إلى توفر أغلبية، وهي قاعدة لا يمكن بحال من الأحوال تطبيقها على المحكمين إذ لا يمكن حمل محكم على الإنضمام إلى رأي محكم آخر لمجرد أنه أكبر سناً، كما لا يمكن أصلا تطبيق قاعدة الأقدمية على المحكمين، إذ لا وجود لعلاقة رئاسية من أي نوع بين المحكمين. وحتى رئيس هيئة التحكيم فإن رئاسته للهيئة غايتها تيسير الإجراءات لا غير. 

   ومهما يكن من أمر فإن الحكم التحكيمي الصادر في ظل القانون الجزائري دون توفر الأغلبية يعد باطلاً ويقضى ببطلانه. لكن إذا رفض المحكم الذي لا ينتمي إلى الأغلبية توقيعه فلا يعد من المبطلات، بل يمكن لرئيس هيئة التحكيم أن يقتصر على الإشارة في آخر الحكم إلى سبب عدم توقيعه أو رفضه توقيع الحكم. 

2.2. التحقق من توافر البيانات الأساسية بحكم التحكيم: 

  تطرق القانون الجزائري الجديد بوجه خاص إلى البيانات التي يجب أن يتضمنها حكم التحكيم ومدى الرقابة القضائية عليها بالفصل الثالث من الباب الثاني من الكتاب الخامس من قانون الإجراءات المدنية والإدارية، وهو الفصل الذي عنوانه "في أحكام التحكيم". وتنص المادة 1027 على أنه "يجب أن تتضمن أحكام التحكيم عرضاً موجزاً لإدعاءات الأطراف وأوجه دفاعهم.

 ويجب أن تكون أحكام التحكيم مسببة".

1.2.2. ذكر مقالات الخصوم: 

   أوجب المشرع الجزائري على المحكمين أن يضمنوا أحكامهم "عرضاً موجزاً لإدعاءات الأطراف وأوجه دفاعهم". وهذا البيان هو المدخل إلى التعليل (أدناه) باعتبار أن دور المحكم يمكن تلخيصه في استعراض مقالات الخصوم وما قدموه من وسائل لإثباتها وبيان رأيه في شأنها. ويطرح في هذا الإطار إشكالان: 

- هل يجب على المحكم أن يورد مقالات الخصوم بحذافيرها أم يمكنه أن يكتفي بتلخيصها؟ 

   بين المشرع الجزائري بوضوح أن المحكم مطالب بأن يورد ملخصاً موجزاً لمقالات الخصوم. ويفهم من ذلك أنه يقتضي على المحكم أن يجتهد ليستخرج من مجمل أقوال الخصوم أهم الأسانيد والدفوع التي يتمسك بها كل منهم". على أنه لا يمكن أن يفهم من ذلك أن التلخيص وجوبي وحتمي. فالمحكم يمكنه لتجنب احتمالات التشدد القضائي في التحقق من احترام حق الدفاع أن يذكر مقالات الخصوم على حالتها دون أي اجتهاد. وقد أصبحت التكنولوجيات الحديثة تشجع المحكمين على انتهاج هذه الطريقة، إذ أصبح المحكمون يطالبون الخصوم بمدهم بمذكراتهم على حامل إلكتروني (قرص ممنغط أو بواسطة البريد الإلكتروني أو نحوه) ويقتصرون على مجرد نقرتين على فأرة الكمبيوتر لنقلها كاملة دون تغيير. وعلاوة على ما تسببت به هذه الطريقة من طول في أحكام التحكيم التي أصبحت تمتد على عشرات الصفحات (خاصة أن المحامين أصبحوا بدورهم يعتمدون الطرق الإلكترونية في عملهم فيقوم بعضهم بنقل حيثية طويلة جدا من أحكام قضائية أو تحكيمية أو مقالات فقهية للإستشهاد بها)، فإنها (أي الطريقة) ربما أدت بالمحكمين إلى التعامل مع مقالات الأطراف بسطحية، إذ أن عملية التلخيص عملية ذهنية تتطلب في مرحلة أولى قراءة مقالات الخصوم بكثير من التركيز والتدقيق حتى يتمكن المحكم من فهمها واستيعاب ما تتضمنه وتميز الأساسي منها من الثانوي أو ما هو مكرر بصيغ مختلفة دون إضافة حقيقية. 

  غير أن كل ذلك لا يمكن أن يستنتج منه أن اقتصار المحكم على نقل مقالات الخصوم بحذافيرها يعد دليلاً على تهاونه في دراسة مقالات الخصوم أو خطأ مهنياً أو فنياً يتجه مجازاته من أجله. 

- هل يمكن إبطال حكم تحكيم أو رفض منحه صيغة التنفيذ بسبب السهو عن ذكر بعض مقالات الخصوم؟ 

   نتيجة لما سبق بيانه من أن المحكم ملزم بذكر ملخص مقالات الخصوم، يتجه التعرض إلى أمرين. فمن جهة أولى لا يصح القول إن الإقتصار على ذكر مقالات الخصوم على حالتها وبحذافيرها يمكن أن يكون من أسباب بطلان حكم التحكيم. فلا شيء يمكن أن يحمل المحكم على أن يعتبر أنه يوجد في مقالات الخصوم شيء من الثرثرة يمكن التخلص منه دون مساس بشفافية الإجراءات transparence de la procédure أو بقاعدة الجدية في التعامل مقالات مع الخصوم. 

   ومن جهة ثانية، يعد التلخيص الذي يلغي بعض الحجج والدفوع المهمة أو الجوهرية التي يتمسك بها الخصوم إخلالاً هاماً يستوجب الإبطال. غير أنه يتجه التنبيه إلى أن المحكم ليس مطالباً بذكر مقالات الخصوم بطريقة محددة أو في موضع معين. فالمرونة التي يتسم بها قانون التحكيم تبيح للمحكم أن يورد مقالات الخصوم في باب معين من حكمه، أو أن يوزعها على مواضع متفرقة. كما أن المحكم غير مطالب بأن يحافظ على تبويب الأطراف لدفوعهم، إذ يمكنه تغييرها على النحو الذي يرتئيه. فيجوز للمحكم أن يجمع دفوعات فصلها الأطراف تحت أبواب أو عناوين مفصلة، كما له أن يفصل دفوعات وردت مجملة أو متكتلة. ويلاحظ أن المحكمين في القضايا الكبرى كثيرا ما يعتمدون طريقة تعتمد على تفصيل المسائل المطروحة والتعرض لرأي كل طرف في شأن كل نقطة ثم بيان موقف هيئة التحكيم من تلك النقطة قبل المرور إلى النقطة الموالية. 

   كما لا يمكن لمحكمة أن تتحول إلى "مرشد بيداغوجي" للمحكمين وذلك بأن تبطل حكمهم إذا كان تبويب مقالات الأطراف أو المسائل بوجه عام سيئاً أو غير سليم. فالمعتبر هو إدراج أسانيد الخصوم ودفوعهم الجوهرية وعدم إهمالها. ولا يمكن إبطال حكم التحكيم، إلا إذا وقع إغفال أحد الدفوع الجوهرية إغفالا كلياً. ويمكن حتى أن يتدارك المحكمون السهو عن ذكر حجج جوهرية في باب ذكر مقالات الخصوم وذلك بأن يعود إليها في باب الأسانيد القانونية. أما سوء التبويب فلا جزاء عليه، كما لا جزاء على سوء التعليل. فالمحكمة ليس لها تقييم évaluation مستوى المحكمين العلمي أو المنهجي. 

2.2.2. معضلة الرقابة على تسبيب / تعليل motivation حكم التحكيم: 

   "عندما تدخل ميدان تعليل حكم التحكيم فأعلم أنك تطأ أرضاً ينبغي أن تكون للمحكم عليها السيادة المطلقة". 

  يمكن أن تكون هذه العبارة المدخل الأساسي والحكمة الأولى التي يجب أن يتسلح بها القاضي لدى ولوجه باب الرقابة على تعليل حكم التحكيم (تسبيبه motivation). 

   ويشار بصفة أولية إلى أن القانون الجزائري الجديد تميز بأنه لا يشير إطلاقاً إلى إمكانية اتفاق الأطراف على أن يتم التحكيم طبق قواعد العدل والإنصاف (amiable composition) كما لم يشر إلى إمكانية اتفاق الأطراف على إعفاء المحكمين من تسبيب حكمهم. ويخلص من ذلك إلى أن المحكم مطالب في كل الأحوال بأن يقضي طبق القانون (بما في ذلك الأعراف) وأن يشرح في حكمه كيف توصل إلى النتيجة التي انتهى إليها وأن يبرز مطابقة ذلك الحل للقانون المنطبق. وقد جارى المشرع الجزائري التوجه العالمي نحو تكريس وجوب التعليل واعتباره من النظام العام الدولي لارتباطه بحق الدفاع ومبدأ المواجهة الذي يمتد إلى المواجهة بين المحكم والخصوم، خاصة بعد أن تخلى القانون الإنكليزي عن موقفه التقليدي الذي كان مكرساً في قانوني التحكيم لسنة 1951 و1979 اللذين أعفيا المحكم من تعليل حكمه. فقد نص قانون التحكيم الإنكليزي لسنة 1996 (المادة 30) ومثله القانون الهندي الصادر في نفسها السنة على مبدأ وجوب التعليل ما لم يتفق الأطراف على الإعفاء منه حيث يقدم اتفاق الأطراف على المبدأ القانوني غير الآمر. 

   وسواء سكت المشرع عن مسألة التعليل أو تناولها بوجه صريح فهي تظل من المعظلات التي يعسر التعامل معها في مجال التحكيم. فمن جهة أولى، لا شك في أن استقلالية المحكم (التي تتجلى من خلال عدم خضوع حكمه لرقابة تتسلط على اجتهاده في استنباط الحل الذي يعتقد أنه مطابق للقانون أو للإنصاف بحسب الحالة) تقتضي أن لا يخضع هذا الإجتهاد لرقابة القضاء الرسمي حتى لا تتمتع المحاكم بسلطة إعادة النظر في حكم التحكيم وبالتالي إلى مسح اجتهاد المحكم formatage. ومن ناحية أخرى، فإن مراقبة التعليل يمكن أن تقع ممارستها في حدود مفهوم الرقابة الشكلية متى تعامل القاضي مع هذه الرقابة بحذر شديد وبأيد مرتعشة. 

   فالرقابة التي لا تمس باستقلالية التحكيم هي التي تقتصر على التحقق من وجود التعليل، أي التثبت من أن المحكم فحص حجج الخصوم ومقالاتهم وناقشها وأبرز ذلك في حكمه. فالغاية من رقابة التعليل لا تتمثل بوجه من الأوجه في تقييم مدى فلاح المحكم في التوصل إلى الحل الصحيح أي المطابق للقانون أو للإنصاف بحسب الحالة، بل تهدف إلى ضمان جدية المحكم في عمله وهو ما يبرز من خلال تعمقه في دراسة المسائل المطروحة في النزاع واحدة بواحدة وتمحيص مقال كل خصم وحججه في شأنها وإبداء الرأي في شأنها بشكل يدل على أنه وقعت دراستها بجدية وبما تستحق من العناية والتركيز. 

   فالرقابة على التعليل تهدف إلى توسيع العمل بمبدأ المواجهة extension du principe du contradictoire بحيث لا يقتصر على المواجهة بين الخصوم بل يشمل أيضا المواجهة بين الخصوم والمحكم، وهو عنوان احترام حقوق الدفاع. ذلك أنه من البين أن تمكين الخصوم من ممارسة حق الدفاع بعضهم في مواجهة البعض الآخر دون إلزام المحكم بدراسة جميع ما عرضه الأطراف بكل جدية وتعمق يجعل المحاكمة – ولو احتـرم فيها حق الدفاع – مجرد مسرحية جوفاء باهتة يؤدي فيها الأطراف دور الشخص الأبله الذي يلقي الكلام إلى من لا يصغي ولا يستكنه.

  لكن الإشكال يبقى متعلقا بنطاق واجب التعليل وكيفية مراقبته. 

   اقتصر جواب المشرع الجزائري على التنصيص بالمادة 1056 من القانون الجديد على أن الأمر بالتنفيذ يقع نقضه إذا تبين أن حكم التحكيم يعتريه تناقض في التعليل contradiction des motifs. وتنطبق القاعدة نفسها على قاضي الإبطال بموجب الإحالة الـواردة بالمـادة 1058. ويختلـف التشريع الجزائري في ذلك عن القوانيـن التونسية والموريطانية والمغربية وغيرها من التشريعـات الأوروبيـة التي لا تذكر تناقض التعليل كصورة من صور الإبطال. لكن الإشكال يتعلق بتحديد مجال التعليل وميدان الرقابة. 

  ففي خصوص ميدان واجب التعليل، يطرح إشكالان: 

 - هل ينبغي على المحكم أن يعلل قضاءه في خصوص جميع المسائل والحجج والدفوع المعروضة عليه حتى ولو كان من الواضح أنها تفتقر إلى الجدية والحد الأدنى من الوجاهة، أم يجوز له أن يتغاضي عن الدفوع التي من الجلي evident أنها غير جدية وغير جديرة بالإلتفات أصلاً؟ 

- هل يجب تعليل حكم التحكيم طبق قواعد العدل والإنصاف؟ وهل يمكن إبطال حكم تحكيم من هذا النوع من أجل تناقض التعليل؟ 

   وفي خصوص ميدان الرقابة على التعليل، من الواضح أن المشرع الجزائري يتبنى المبدأ القائل "تناقض تهادم"، أي أن الأسانيد المتناقضة المتعارضة يهدم بعضها بعضا فيزيل الواحد وجود الآخر وبالتالي يعد حكم التحكيم فاقداً التعليل ويتجه لذلك إبطاله لعدم احترام حق الدفاع. وفي هذا الإطار تطرح التساؤلات التالية: 

- هل يأخذ قاضي الإبطال بالأسانيد الضمنية التي يفترض أن حكم التحكيم قائم عليها للقضاء بالبطلان؟ 

-هل ينبغي على القاضي أن يدقق في تحليل أسانيد حكم التحكيم للبحث في مسألة تناقض التعليل أم يقتصر على صورة التناقض الصارخ الذي يصدم القارئ qui saute aux yeux 

  جميع هذه المسائل لم يتعرض لها المشرع الجزائري، وربما كان ذلك اختياراً منه. لكن غموض النص وتركه فراغات في مسألة التعليل والرقابة عليه ينبغي تأويله في إطار الرؤية العامة للمسألة، إنطلاقاً من الرجوع إلى المصادر المادية للقانون الجديد وخصوصاً أحكامه المتعلقة بالتحكيم الدولي والتذكير بما جاء في المادة 2(أ) من القانون النموذجي لليونسترال التي تنص على أنه عند التأويل ينبغي أن يراعي المصدر الدولي للقانون. كما لا بأس من الرجوع إلى أنجح التجارب العالمية في الميدان. 

   ونشير على وجه الخصوص إلى قرار حديث صدر عن المحكمة الفيدرالية السويسرية في 9 فيفري 2009 جاء فيه أنه ينبغي إبطال حكم التحكيم إذا تبين أن المحكمين أثاروا من تلقاء أنفسهم حجة قانونية لم يتناولها ولم يثرها أي طرف وكانت تلك الحجة "مباغتة" وغير قابلة للتوقع imprévisible وخصوصاً إذا تبين في ما بعد أن الأمر يتعلق بتطبيق نص لا علاقة له بالوقائع المتنازع فيها. 

   كما نشير إلى أن التعليل المقبول قانوناً هو التعليل الجدي أي الذي يتناول المسألة المتنازع فيها بتعمق كاف. فالتعليل الأجوف أو "التعليل-الواجهة" motivation de façade أي الفاقد لكل جدية (من نوع: "حيث كانت الدعوى وجيهة واتجه الحكم لصالحها" أو "حيث كانت الدعوى غير مؤسسة قانونا واتجه الحكم برفضها") لا عبرة به، ويعد بمثابة العدم تماماً. 

خاتمـة 

   تهدف رقابة القاضي على إجراءات التحكيم إلى التحقق من مدى احترام المقومات والضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة. فالغاية لا تتمثل في إعطاء المحكم إحساساً بأنه مجرد مساعد للقضاء، بل منح الأطراف إحساساً بالأمان والإطمئنان ضد خطر العشوائية والحيف مع احترام استقلالية إجراءات التحكيم وحرية المحكم في الإجتهاد وفي تسيير الخصومة التحكيمية.