صدر قانون أصول المحاكمات المدنية في سوريا بصيغة مرسوم تشريعي برقم /84/ تاريخ 1953/9/28، وتحت بند " إجراءات وخصومات متنوعة " جاء الباب الرابع من الكتاب الثالث على أحكام التحكيم في المواد (506-534) من القانون المذكور.
وبصدد تنفيذ الأحكام والقرارات والأستاد الأجنبية جاءت المـواد مـن (306-311 ) فـي الفصل الخامس من الباب الأول من الكتاب الثاني تحت عنوان (التنفيذ) .
وكان من بين هذه المواد / المادة 309/ من المرسوم التشريعي فيما يخص التحكيم التي جاء فيها:
" أحكام المحكمين الصادرة في بلد أجنبي يجوز الحكم بتنفيذها إذا كانت نهائية وقابلة للتنفيذ في البلد الذي صدرت فيه، وذلك مع مراعاة القواعد المبينة في المواد السابقة".
وهذا كل ما ورد فيما يخص مادة التحكيم.
وليس بخاف على أحد ذلك الصراع المديد بين القضاء والتحكيم المرتكز في حقيقتـه علـى ذلك العقد الاجتماعي - بحسب بعض النظريات - المبرم بين الدولة ومواطنيهـا والـذي تمثـل بموجبه مؤسسة القضاء إحدى سلطات الدولة الثلاث، وهي أحد البراهين الأساسية على سيادتها فكان من العسير فهم واستيعاب توجه الأشخاص والشركات بإرادتهم إلى جهات أخرى تشارك إلى حد ما في السلطات السيادية التي يتمتع بها القضاء.
لكن خاصية " الدولية " في التحكيم التجاري الدولي، وتلك السرية التـي أصبحت مطلبـاً ومعلماً من معالم التحكيم، وضرورة توافر الخبرة التي يجب أن يتحلى بها المحكم في بعض أمور التجارة الدولية، الأمر الذي يشق توفره بالنسبة إلى القاضي حتـى لـو كـان فقيهـاً ونـزوع المتنازعين إلى التخلي عن عدالة صماء إلى أخرى مرئة تراعي مصالحهم قبل الاعتبارات القانونية المجردة ، وذلك حرصاً على علاقات متواصلة، وهذا مفضل علـى ربـح قـائـم علـى علاقات محطمة حتى لو استدعى ذلك ، التنازل عن بعض الحقوق، بالإضافة لما هيأه التحكيم، بالقضاء على صعوبة أساسية لم يستطع القضاء الانتصار عليها تتعلق بالقانون واجب التطبيـق، والتي يتباين فيها حكم التشريعات الوطنية. إذ أرجع التحكيم ذلك كله إلى إرادة الطرفين. ويضاف إلى كل ذلك ما استقر في نفوس التجار والشركات التجارية من تفور من الاحتكام إلى القانون أو إلى قضاء أجنبي.
كل ذلك أبد ضرورة قيام منظومة التحكيم وانتشارها.
وتتوضح خصوصية التحكيم بشكل جلي في كل مرة تكون لمادة النزاع ذاتية خاصة تحتـاج إلى خبرات كما هو الأمر – مثلاً – في نزاع له علاقة بالنبيذ الفرنسي والحصان العربي والشاي السيلاني والخشب السويدي وغيرها.
وفي كل مرة يكون هناك احتكام إلى محكم أو هيئة، قد يبدو الاتفاق خروجاً علـى سـيـادة الدولة باعتبارها صاحبة الحق في احتكار العدالة، ذلك لأن العدالة أحد مظاهر السلطان، والدولة هي القادرة وحدها على حماية هذا المظهر وذلك باختيار قضاة يتمتعون بالدراية القانونية والسلوك الرفيع.
كما أن تلك السلطة المعطاة للمحكم قد تتجاهل قانون الدولة والقواعد التـي وضعتها، لأن
الأطراف قد يتفقون على إقصاء القانون الوطني وإطلاق يد المحكمين دون التقيد بأيـة قواعـد وضعية والاعتماد على قواعد أخرى صنعوها بأنفسهم واتفقوا عليها هم أو المحكمون.
كل هذه الظروف أدت إلى ولادة صيغ من الملاءمة بين استقلالية التحكيم الذي فرضته
الظروف المذكورة وبين الإبقاء على رقابة القضاء في مراحله المختلفة.
إن نمو وتطور منظومة الاقتصاد العالمية وقيام منظمة التجارة الدولية ( WTO ) مع ولادة ظاهرة العولمة وخصوصية النشاطات الاستثمارية التي أصبحت واقعاً ملموساً يفرض ذاته كمـا في عقود البترول والإنشاءات ونقل التكنولوجيا والاستثمارات المختلفة، كل ذلك أدى إلى اعتراف القضاء بالتحكيم، كما أدى إلى قيام نظم ومراكز وقوانين تحكيم بحيث أصبح التحكيم طريقـاً أساسياً في حل النزاعات.
وقد أدى من جهة ثانية إلى تسليم أنصار التحكيم بأن الحكم التحكيمي ليس منزهـاً عـن الطعون، وأن سلطة المحكمين ليست منزهة عن التجريح، وأن خط سير التحكــم منـذ الاتفـاق التحكيمي وحتى صدور الحكم لا بد أن يخضع لرقابة القضاء ومؤازرته في كل مرحلة.
تحت هذه المظلة قامت مؤسسات وأنظمة كغرفة التجارة الدولية ( ICC ) والهيئة الأمريكية للتحكيم ومحكمة لندن للتحكيم الدولي (LCIA) كما صدرت قواعد الـ (UNCITRAL ) لعام 1976 ، كذلك القانون النموذجي لعام 1985 (MODEL LAW). ولجأت معظم الدول العربية إلى تشريع قوانين تحكيم تتلاءم مع كل الظروف التي ذكرنا ، وكان من الآثار الطبيعيـة لـذلك صدور قانون التحكيم رقم 4 لعام 2008 مواكباً لمعظم قوانين التحكيم الحديثـة فـي العـالم. وسنتولى تسليط الضوء تباعاً على معالم هذا القانون متقيدين بالتبويب الذي تضمنه.
ولا بد من التنويه أنه بصدور قانون التحكيم الجديد لم يعد بمقدور أي شخص أن يكـون محكماً، لأن الأمر يتطلب الماماً خاصاً بأحكام القوانين المختلفة وخاصـة فـي حالـة التحكيم المؤسساتي. (Institutional arbitration)
فقد جاء القانون في مواده من (1-6 ) على أحكام عامة يمكن تسليط الضوء علـى بعـض
المعالم فيها كما يلي:
أولا - أحكام عامة
1- حدد القانون بشكل بين في المادة /1/ العوامل التي تجعل من التحكيم تجارياً دولياً.
2- أخضع القانون كل تحكيم يجري في سوريا لأحكامه، كما أخضع لهذه الأحكام كل تحكيم تجاري دولي يجري خارج سورية إذا اتفق طرفاه على إخضاعه للقانون، وكل ذلك دون إخـلال بالاتفاقيات الدولية المعمول بها، (م2).
3- أخرج منازعات العقود الإدارية عن إطار تطبيق أحكامه وأبقاها على ما هي خاضعةً لأحكام المادة /66/ من نظام العقود الصادر بالقانون رقم /51/ تاريخ 2004/12/9 ( 2/2 ) .
4- حدد محكمة مختصة بالنظر في مسائل التحكيم حتى انتهاء جميع إجـراءات التحكيم. وهي محكمة الاستئناف التي يجري ضمن دائرتها التحكيم ما لم يكن الأطراف قد اتفقوا علـى اختصاص محكمة استئناف أخرى. ولعله في ذلك هذا حذو قانون التحكيم المصري رقم 27 لعام 1994. وخيراً فعل في تحديد مرجع لجميع إجراءات التحكيم وهي المحكمة المختصة المنصوص عنها في المادة / 3/ من القانون، بل إنها إعتبرت مختصة حتى بعد انتهاء الإجراءات باعتبارها مرجعاً للطعن بالبطلان بالحكم التحكيمي ولإكسائه صيغة التنفيذ
5- حدد أسساً للتبليغ وتوسع في المفهوم إذ اعتبر التبليغ يمكن أن يكون برسالة أو بإشعار المرسل إليه شخصياً أو إلى مقر عمله أو محل إقامته المعتاد أو عنوانه البريدي المعـروف أو المحدد في اتفاق التحكيم أو العقد عن طريق دائرة المحضرين في المنطقة الاستئنافية المعرفة في المادة /3/.
6- كما أنه ترك في المادة / 5/ منه لطرفي النزاع الحرية في تحديد القانون واجب التطبيق على النزاع وكذلك اختيار القواعد الإجرائيـة وتفويض بعض المراكز أو المؤسسات أو المنظومات بذلك .
ثانياً – اتفاق التحكيم م7/
1- توسع القانون في مفهوم الاتفاق سواء كان شرطاً أو مشارطة بشرط أن يحدد المسائل
التي يشملها التحكيم.
ومن ضمن مظاهر التوسع اعتباره اتفاقاً تحكيمياً أية إحالة ترد في العقد على وثيقة تتضمن شرط تحكيم إذا كانت هذه الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءا من العقد .
2- اشتراط الكتابة: /8/
اشترط المشرع أن يكون الاتفاق مكتوباً تحت طائلة البطلان، لكنه توسع في مفهوم الكتابـة كما أسلفنا فاعتبر شرط الكتابة متوفراً إذا ورد في عقد أو وثيقة رسمية كانت أو عادية أو علـى متن محضر محرر مرسل بالبريد الالكتروني والفاكس والتلكس، وذلك إذا أثبت أي مـن هـذه المصادر أن إرادة الأطراف تلاقت على اختيار التحكيم وسيلة لحسم النزاع.
3- ظلت أحكام القانون كما هي في أحكام التحكيم القديمة الواردة فـي قـانـون أصـول المحاكمات على عدم جواز الاتفاق على التحكيم في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح أو المخالفة للنظام العام أو المتعلقة بالجنسية أو بالأحوال الشخصية باستثناء الآثار المالية المترتبة عليها.
4- إلزام المحاكم بعدم قبول الدعوى في حال وجود اتفاق تحكيم ( م10):
في كل مرة يتولى أحد الأطراف مباشرة دعوى أمام المحكمة، ويدفع الطرف الآخر بوجود اتفاق تحكيم يكون على المحكمة أن تحكم بعدم قبول الدعوى إلا إذا تبين لها أن الاتفاق بـاطـل أو لاغ أو عديم الأثر أو لا يمكن تنفيذه.
كما أنه أعطى هيئة التحكيم الحق في السير بالإجراءات، حتى لو باشر أحد الطرفين دعوى أمام القضاء و ذلك لا يحول دون إصدار حكم تحكيمي.
استقلال شرط التحكيم عن العقد م11/
نصت المادة /11/ من القانون على اعتبار شرط التحكيم مسألة مستقلة عـن العقـد الـذي تضمن هذا الشرط، حتى إذا بطل العقد بقي الشرط قائماً متى كان صحيحاً في ذاته، وهذا أمر لا يتعلق بالنظام العام بدليل ما ورد في ذيل المادة: " ... ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك". ولا يعطي – برأينا - هذا النص الشرط براءة كاملة وتحللاً من ارتباطه بالعقد. ذلك لأن البطلان الذي يلحق بالعقد إذا استد إلى الشرط بصلة لا يمكن تجزئتها بطل العقد و الشرط معاً وفقاً للقواعد العامة كما أن العكس يمكن أن يكون صحيحاً، كأن يبطل الشرط دون العقـد، أي يبقـى العقـد صحيحاً والشرط باطلاً، كما في حالة الاتفاق على التحكيم فيما لا يجوز فيه التحكيم.
ويستند كل ذلك إلى نص المادة 144 من القانون المدني.
ثالثاً - تشكيل هيئة التحكيم
لا بد من تقديم تشكيل الهيئة على أنه أمر جوهري بدليل أن المشرع نص في المـادة /50/ من القانون على وجوب إبطال الحكم التحكيمي إذا تم تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكمين على وجه مخالف لهذا القانون أو لاتفاق الطرفين.
1- لذلك فقد حدد المشرع في المادة /14/ السبل التي يجب إتباعها لتشكيل الهيئة كما حدد بدقة صلاحيات المحكمة المختصة المنصوص عنها في المادة /3/ من القانون في كل مرة يتم الرجوع إلى هذه المحكمة.
2- لم يعف القانون المحكم من شرط الكتابة في قبول المهمة، وترك طيفاً واسعاً لهـذا القبول سواء كان بالتوقيع:
على اتفاق التحكيم.
أو على وثيقة مستقلة تثبت قبوله المهمة.
أو على محضر جلسة التحكيم.
3- الإفصاح
استدعى القانون من المحكم أن يفصح لطرفي التحكيم وللمحكمين الآخرين عن أية ظروف من شأنها إثارة شكوك حول حيدته أو استقلاله ، وترك للطرفين، بعد الإفصاح، الخيار في قبول المحكم الاستمرار بالمهمة أو مطالبته بالتنحي إم 17/.
4- طلب الرد
حدد حالات رد المحكم قياساً على رد القاضي المنصوص عنه في المادة /174/ من قـانون أصول المحاكمات المدنية.
لكنه خالف كلاً من القانون النموذجي ( Uncitral)، وكذلك قانون التحكيم المصري علـي الوجه التالي:
فقد نص القانون النموذجي في المادة /13/ منه على تقديم طلب الرد لهيئة التحكيم فإذا لـم يتنح المحكم المطلوب رده أو لم يوافق الطرف الآخر على طلب الرد، تولت الهيئة بـت طـلـب الرد، وقرار الهيئة بعدم قبول طلب الرد خاضع للطعن وريثما يتم بت هذا الطلب أمام المحكمـة المختصة، وقرارها بهذا الشأن مبرم، فإن هيئة التحكيم بما فيها المحكم المطلوب رده يمكنهـا مواصلة إجراءات التحكيم وإصدار قرار التحكيم .
أما القانون المصري رقم /27/ لعام 1994 فقد قضى في المادة /19/ منه:
أن يقدم طلب الرد الى الهيئة، فإذا لم يتتح المحكم المطلوب رده خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تقديم الطلب، يحال الطلب إلى المحكمة المختصة لتفصل فيه بقرار مبرم. ولا يترتب على تقديم طلب الرد وقف إجراءات التحكيم، حتى إذا حكمت المحكمة برده اعتبر ما يكون قد تم مـن إجراءات التحكيم بما في ذلك حكم المحكمين كأن لم يكن.
- المشرع السوري خالف كلا القانونين السابقين وذلك بأن فرض تقديم طلب الـرد أمـام المحكمة المختصة المنصوص عنها في المادة /3/ من القانون، والمحكمة تفصل في الطلب بقرار مبرم لكنه ألزم الهيئة بوقف الإجراءات بمجرد تقديم طلب الرد وتعليق المدة إلى حين صدور القرار برفض طلب الرد أو إلى حين قبول المحكم البديل المهمة التحكيمية.
وتعقيباً على الأمر: إن المشرع بالرغم من النص على النظر في طلب الـرد فـي غرفـة المذاكرة إلا أنه لم يحدد مهلة ليت طلب الرد، وحبذا لو سلك أحد سبيلين:
- إما بتحديد مهلة لبت الطلب انسجاماً مع الأهداف الحقيقية للجوء إلى التحكيم وللحيلولة دون المماطلة والتسويف من الأطراف.
-أو سلوك الطريق الذي سلكه المشرع المصري بعدم وقف الإجراءات، حتى إذا صادف
طلب الرد قبولاً اعتبرت كل الإجراءات التي تمت لاغية.
كما أنه حال دون استثمار أي من الأطراف للموقف فيما إذا استشعر أن سير المنازعة ليس مواتياً له باللجوء إلى عزل محكمه بهدف تعطيل العملية التحكيمية فأوجب في هذه الحالة ضرورة اتفاق الخصوم على العزل.
- الاختصاص بالاختصاص
يعتبر هذا الباب فتحاً جديداً في مجال التحكيم. فبالرغم من أن أنظمـة القـضاء الفرنسي والمصري والسوري كلها قد درجت على اعتبار القضاء الوطني هو الجهة المختصة للنظر فـي أي دفع متعلق بعدم الاختصاص قد يثار أمام هيئة التحكيم ويتم اعتبار المسألة أولية أو مستأخرة إلى أن بيت القضاء مسألة الاختصاص.
إلا أنه بصدور قوانين التحكيم الجديدة، ورغبة المشرع في إعطاء الهيئة التحكيمية سلطات تبررها أسباب قيام التحكيم، وانتشار هذا الأسلوب بحكم جميع التطورات الاقتصادية والتقنية، فقد كان من الطبيعي أن تعطى الهيئة ولاية النظر في اختصاصها في نظر النزاع قبل النظـر فـي النزاع ذاته.
وهذا منسجم مع ما توجهت إليه محكمة العدل الدولية لجهة أن من يملك سلطة قضائية لـه الحق في أن يفصل بنفسه في اختصاصه كمسألة أولية.
( سلطة المحكمة الدولية في تحديد اختصاصها، د. إبراهيم شحاتة – ص 26)
كما أن المادة / 16 من قانون الـ (UNCITRAL) أعطت الهيئة سلطة بت اختصاصها، وكذلك المادة /21/ من قواعد التحكيم التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقـانون التجـاري الدولي الصادرة بالقرار 98/31 بتاريخ 1976/12/15 والتي نصت على أن هيئة التحكيم هـي صاحبة الاختصاص على الفصل في الدفوع الخاصة بعدم اختصاصها، وهي المختصة بالفصل في وجود أو صحة العقد الذي يكون شرط التحكيم جزءاً منه.
وكذلك المادة /22/ من القانون 27 لعام 1994 (المصري) التي نصت:
1- تفصل هيئة التحكيم في الدفوع المتعلقة بعدم اختصاصها بما في ذلك الدفوع المبنيـة
على عدم وجود اتفاق تحكيم أو سقوطه أو بطلانه أو عدم شموله لموضوع النزاع".
وعلى مثل هذا تماماً جاء نص المادة /21/ من قانون التحكيم السوري رقم /4/ لعام 2008. كما أن مثل هذا النص موجود في نظام التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية ( ICC ) وكذلك لدى نظام تحكيم محكمة لندن ( L.C.LA ) ومرتكز النظرية أن المحكم أو الهيئـة يـسـتمـد كـل منهما سلطته من إرادة الأطراف لذلك توسعت صلاحياته بحيث لم تعد تقتصر على النظـر فـي بطلان اتفاق التحكيم بل أصبحت تتعداه إلى ما يتعلق بوجوده وإطاره ومدى شموله للمسائل المطروحة.
وغاية المشرع من ذلك إيصاد باب القضاء في وجه الأطـراف إذا رغـب أي مـنـهم فـي
السلطنة في حسم النزاع بإثارة منازعة تتعلق بعدم الاختصاص بهدف العودة إلى القضاء وكذلك سرعة بت المسألة.
وبناء على كل ذلك يمكن لهيئة التحكيم أن تقرر رد الدفوع بعدم الاختصاص أو قبولها دون تمحيص الاتفاق بل يكفي أن تتحقق من ظاهر الحال أن هناك اتفاقاً تحكيمياً قائماً كما تتحقق مـن صحته أو بطلانه.
فإن ظهر لها عدم وجود اتفاق أو بطلانه قضت بعدم اختصاصها وأنهت الإجـراءات وإن أعلنت اختصاصها فلا يحوز حكمها الحجية بالنسبة إلى مسألة الاختصاص إلا بانقضاء المهلـة المحددة لمباشرة دعوى البطلان.
كما أن إقامة دعوى أخرى أمام المحكمة أو أمام هيئة تحكيم أخرى لا يسلب حكـم الهيئـة
الحجية.
أما في حـال صدور حكم عن الهيئـة بعدم اختصاصهـا، فإن الباب يبقى مفتوحاً لكل من له مصلحة بالتمسك بوجود مثل هذا الاتفاق وصحته أمام هيئـة أخـرى أو أمـام المحكمة.
كما أن للهيئة سلطة الفصل في الدفع بعدم اختصاصها كمسألة أولية أو أن تفصل فيه بحكم نهائي ، وقرارها مبرم في الحالتين (م4/21).
فإذا فصلت في الدفع كمسألة أولية لا يجوز رفع دعوى ببطلان الحكم المتعلق بالاختصاص إلا بصدور الحكم المنهي للخصومة، هذا في القانونين المصري والسوري.
أما بالنسبة إلى القانون النموذجي فالأمر مختلف ولا متسع لذكره في هذا المعرض.
رابعاً – إجراءات التحكيم
-الاتفاق على القواعد الإجرائية
نص القانون على حرية الطرفين في الاتفاق على الإجراءات التي يتعين على هيئة التحكيم إتباعها بما في ذلك حقهما في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو مركز دائم للتحكيم في سورية أو خارجها. /22/ من القانون.
- المساواة وحق الدفاع
أوجب المشرع على هيئة التحكيم معاملة الطرفين على قدم المساواة ، مع تهيئـة الفـرص المتكافئة لكل طرف لعرض قضيته والدفاع عن حقوقه ( م25 ) وذلك تحت طائلة تطبيق نـص المادة 50/ج من القانون بالبطلان:
"ج- إذا تعذر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم تبليغه تبليغاً صحيحاً بتعيين
محكم أو بإجراءات التحكيم أو لأي سبب آخر خارج عن إرادته.
- موعد بدء الإجراءات وسريان المهلة
حدد المشرع في المادة /26/ من القانون اليوم التالي الذي يتسلم فيه المدعى عليـه طـلـب التحكيم من المدعى موعداً لبدء الإجراءات ما لم يتفق طرفا التحكيم على غير ذلك . كمـا حـدد موعداً لسريان مهلة التحكيم، وهو اليوم الذي تنعقد فيه أول جلسة تحكيم (م1/37).
- سرية الجلسات
تكون جلسات هيئة التحكيم سرية ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك. ( 3/29) .
- الرجوع إلى المحكمة المختصة
فقد أباح المشرع لهيئة التحكيم الرجوع إلى المحكمة المختصة المنصوص عنها في المـادة /3/ من القانون، في كل مرة يستدعي فيها الأمر :
-الحكم على من يتخلف من الشهود عن الحضور أو يمتنع دون عذر قانوني عن الإدلاء بشهادته، بالغرامات المقررة قانوناً.
-اتخاذ القرار بالانابات القضائية.
-الحكم بتكليف الغير بإبراز مستند في حوزته يعتبر ضرورياً للحكم في النزاع، (م34).
خامساً – حكم التحكيم
- مدة التحكيم
حدد المشرع مدة التحكيم بـ 180 يوماً تبدأ من تاريخ انعقاد أول جلسة لهيئة التحكيم. فـإذا لم يتيسر للهيئة الفصل في النزاع خلال المهلة المذكورة، كان لها أن تمدد المهلة (90 يوماً أخرى ولمرة واحدة، فإذا لم يصدر الحكم خلال المهنة المحددة جاز لأي من الطرفين أن يطلـب مـن المحكمة المختصة خلال عشرة أيام من انتهاء الميعاد من أجل التحكيم لمدة لا تتجاوز 190 يوماً ولمرة واحدة. والمحكمة الحق في قبول الطلب أو رده بعد دعوة الأطراف، وذلك بقـرار مــرم يصدر عن غرفة المذاكرة، م1/37-2-3/. وإذا انتهت الأجـال دون صدور الحكـم عـاد الاختصاص إلى المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع ما لم يتفق على التحكيم مجدداً.
-القانون واجب التطبيق
ألزم القانون هيئة التحكيم بتطبيق القانون الموضوعي الذي اتفق الطرفان عليه تحت طائلـة خضوع الحكم لدعوى البطلان /م50/د) وأعطاهما الحرية في ذلك مع الحرية في تطبيق القوانين الموضوعية دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، وقد جنب بذلك الأطراف الدخول في متاهـة تنازع القوانين. / م38/ .
-إصدار الأحكام الوقتية
أعطى القانون الحق لهيئة التحكيم في إصدار أحكام وقتية أو جزئية وذلك قبل إصدار الحكم النهائي.
كما أعطى الحق للهيئة في حسم النزاع وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف فيمـا إذا فوضـها
الأطراف بذلك إم38/.
-إمكان إصدار الحكم من قبل رئيس هيئة التحكيم منفردا
انفرد قانون التحكيم السوري بتقرير حق رئيس الهيئة التحكيمية في إصدار الحكـم منفرداً فيما إذا تهاترت الآراء ولم تستطع الهيئة توفير الإجماع أو الأغلبية ولعله في ذلك اقتدى بنظـام التحكيم لغرفة التجارة الدولية (ICC). وقد توجه سهام الى هذا التوجه لكن له وعليه ما يستطيع الرأيان التمسك به ( م 2/41).
- وجوب تسبيب الحكم
كمعظم التشريعات التحكيمية أوجب القانون ضرورة تشبيب الأحكام إلا إذا أعلى الأطـراف الهيئة من التسبيب. (م3/42).
-موعد انتهاء الإجراءات
اعتبر القانون الإجراءات منتهية بصدور الحكم التحكيمـي المنـهـي للخصومة، أو إذا قررت هيئة التحكيم إنهاء الإجراءات في أي من الحالات المشار إليهـا فـي العـادة /45/، كإجراء تسوية للنزاع، أو إذا ترك أو سحب المدعي دعواه ما لم يعارض المدعى عليه فـي ذلك.
-صدور أحكام لاحقة
أجاز المشرع للهيئة في المادتين 46 و47 منه إصدار أحكام لاحقة على الوجه التالي :
- حكم تصحيحي: يصدر عن الهيئة من تلقاء ذاتها أو بناء على طلب أي مـن الأطـراف شريطة إخطار الطرف الآخر وذلك خلال 30 يوماً من تاريخ صدور الحكـم أو إيداع طلـب التصحيح حسب الحال. وعلى الهيئة إصدار الحكم خلال 15 يوماً وذلك بقرار يصدر في غرفة المذاكرة دون دعوة الخصوم.
- حكم تفسيري : كما يجوز للهيئة بناء على طلب أحد الأطراف خلال 30 يوماً من تاريخ تبلغه حكم التحكيم تفسير ما وقع في حكمها من غموض.
- حكم تكميلي: كما يمكن لها إصدار حكم تحكيم إضـافـي فـي طلبـات قـدمـت خــلال الإجراءات وأغفلها حكم التحكيم.
وجدير بالذكر أنه محظور على الهيئة في كل هذه الحالات تجاوز ما طلب منهـا وذلـك بإجراء أي تعديل - مهما كان طفيفاً – في الحكم الأصلي تحت طائلة التمسك بدعوى البطلان وفقاً لأحكام المادتين 51 و52 من القانون.
وإذا تعذر على الهيئة لأي سبب، الاجتماع لإصدار أي من هذه الأحكام عـاد الاختصاص الى المحكمة المختصة المنصوص عليها في المادة /3/ من القانون لإجراء المتوجب.
سادساً – الطعن في أحكام التحكيم
- توصيف الحكم التحكيمي
تتمتع أحكام المحكمين الصادرة وفقاً لهذا القانون بحجية الأمر المقضي به، وهـي مبرمـة وغير خاضعة لأي من طرق الطعن ( م49 ، 53) من القانون.
ومع ذلك يجوز الطعن بها بالبطلان، والبطلان الذي شرعه القانون محصور بحالات محددة، لم يتدخل فيها بقناعات الهيئة، ولم يبح لأية جهة التدخل في العوامل التي شكلت عقيـدة الهيئـة لإصدار قرارها . ويعتبر اقتصار المشرع على حالات ثمان حددها في المادة /50/ من القانون نوعاً من أنواع تحصين القرار التحكيمي. ويمكن تعداد هذه الحالات على الوجه التالي:
أ - إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أو كان هذا الاتفاق باطلاً أو سقط بانتهاء مدته.
ب – إذا كان أحد طرفي اتفاق التحكيم وقت إبرامه فاقداً الأهلية أو ناقصها وفقاً للقـانون الذي يحكم أهليته.
ج - إذا تعذر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم تبليغه تبليغاً صحيحاً بتعيين
محكم أو بإجراءات التحكيم أو لأي سبب آخر خارج عن إرادته.
د - إذا تم تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكمين على وجه مخالف لهذا القانون أو لاتفاق
الطرفين.
و - إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفـاق ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائـه الخاصـة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها.
ز - إذا وقع بطلان في حكم التحكيم، أو إذا كانت إجراءات التحكيم باطلة بطلاناً أثـر فـي الحكم.
ح - وأضيفت حالة متروكة لاستنساب المحكمة ، تحكم فيها من تلقاء نفسها ببطلان حكـم التحكيم فيما إذا وجدت أنه تضمن ما يخالف النظام العام في الجمهورية العربية السورية.
وقد يمكن اعتبار معظم هذه الحالات مشتركة مع القانون المصري، والقانون النموذج (Uncitral) ونظام غرفة التجارة الدولية (ICC).
ونظمت المادة /51/ من القانون أصولاً لمباشرة دعوى البطلان والميل القانونية.
- المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان
هي المحكمة المنصوص عنها في المادة /3/ من القانون وذلك خلال الـ 30 يوماً التاليـة لتاريخ تبليغ الحكم للمحكوم عليه. كما حدد القانون مدة قصوى للمحكمة المختصة للفـصـل فـي الحكم (90 يوماً) من تاريخ اكتمال الخصومة ،فإذا ردت المحكمة الدعوى عـة حكمهـا بمثابـة إكساء للحكم صيغة التنفيذ، وإن هي قبلت دعوى البطلان كان قرارها خاضعاً للطعن أمام محكمة النقض خلال الـ 30 يوماً التالية لتبليغ الحكم، كما ألزم المشرع محكمة النقض بت الطعن خلال 90 يوماً من تاريخ وصول ملف الدعوى إليها.
الـرأي
صادف إخضاع حكم المحكمة المختصة بإبطال الحكم التحكيمي، للطعن بالنقض بعض النقد باعتبار أن فيه إطالة لأمد النزاع لا داعي لها.
والحقيقة - في رأينا - عكس ذلك تماماً.
لأن في ذلك تحصيناً إضافياً للحكم التحكيمي، لأن المشرع لم يخضع الحكم الصادر باكساء الحكم التحكيمي صيغة التنفيذ للنقض، بل هو يصدر مبرماً. لكنه أخضع للنقض الحكـم الـذي يصدر بإبطاله، وذلك كي لا يترك باب نقض وإبطال الحكم ميسراً، فلا بد من تعريض الإيطـال للتدقيق والتمحيص لدى أعلى مرجع قضائي، وخيراً فعل.
سابعاً - حجية أحكام المحكمين وتنفيذها
- وفي التنفيذ
نص المشرع في المادة /53/ على إسباغ حجية الأمر المقضي به على أحكام التحكيم التـي تغدو بصدورها ملزمة للتنفيذ طوعاً أو جبراً، وذلك بعد إكساتها الصيغة.
وحكم الإكساء يصدر عن المحكمة المعرفة في السادة /3/ من القانون وذلك بقرار يصدر في غرفة المذاكرة.
يقدم طلب الإكساء إلى رئاسة التنفيذ وفق إجراءات معينة حددتها المادة /54/ من القانون.
ولا يجوز تنفيذ الحكم قبل انقضاء ميعاد رفع دعوى البطلان.
وبطبيعة الحال فإن دعوى البطلان لا توقف التنفيذ إلا إذا صدر قرار بذلك، إلا أن المشرع نص في المادة /55/ من القانون على إجازة المحكمة المختصة إعطاء قرار بوقف التنفيذ لمـدة أقصاها 60 يوما إذا طلب المدعي ذلك في صحيفة الدعوى.
ومن غير الواضح مرتكز تحديد هذه المدة، ذلك لأن المفترض أن دعوى البطلان تستغرق في مرحلتي المحكمة المختصة ومحكمة النقض 180 يوماً عدا عن المهل الضائعة للتبليغ، ولا سيما أن هناك 30 يوماً ممنوحة للتبليغ في كل مرحلة من مرحلتي الطعن، إذن! لم تعد هنالك حكمة في تحديد مدة وقف التنفيذ بـ60 يوماً وحبذا لو فعل المشرع كما في القانون المصري /إم 57/ منه، والتي ورد فيها ما يلي:
(م 57- لا يترتب على رفع دعوى البطلان وقف تنفيذ حكم التحكيم، ومع ذلـك يـجـوز للمحكمة أن تأمر بوقف التنفيذ إذا طلب المدعي ذلك في صحيفة الدعوى وكان الطلب مبنياً على أسباب جدية. وعلى المحكمة الفصل في طلب وقف التنفيذ خلال ستين يوماً مـن تـاريخ أول جلسة محددة لنظره، وإذا أمرت يوقف التنفيذ جاز لها أن تأمر بتقديم كفالة أو ضـمـان مـالي.
وعليها إذا أمرت بوقف التنفيذ الفصل في دعوى البطلان خلال ستة أشهر من تاريخ صدور هذا الأمر).
هذه مادة أعطت المحكمة الحق في إصدار قرار بوقف التنفيذ لكنها ربطت ذلك بمهلة معينة لابد أن يصدر الحكم خلالها كي لا يكون القرار وسيلة لتعطيل حسم القضية.
سلطات إضافية معطاة لرئيس التنفيذ
يظهر جلياً أن المشرع أريد التحوط في إكساء الحكم صيغة التنفيذ وذلك بضرورة التحقـق مما يلي:
- أن الحكم الصادر لا يتعارض مع حكم سبق صدوره عن المحاكم السورية في موضوع
النزاع.
- وأنه لا يتضمن ما يخالف النظام العام في الجمهورية العربية السورية.
- وأنه قد تم تبليغه للمحكوم عليه تبليغاً صحيحاً.
/م 56 / من القانون.
ولا ريب في أن تثبت رئاسة التنفيذ من هذه العناصر الثلاثة يحـصـن القـرار التحكيمـي ويقترب اقتراباً حثيثاً من العدالة المتوجب سيادتها بين الأطراف وإيصال كل ذي حق إلى حقه.
تلك هى المعالم الأساسية التي رأينا إلقاء الضوء عليها في القانون رقم 4 لعام 2008 الـذي يعتبر إنجازا في اللحاق بركب التشريعات الحديثة وبوابة واسعة للاستثمار في بلادنـا فيمـا إذا أحسن تطبيق القانون.