الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / وقف تنفيذ الحكم في دعوى بطلانه / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 4 / القانون التونسي وتنفيذ أحكام التحكيم الواقع إبطالها في بلد المنشأ: أي منطق؟

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 4
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    121

التفاصيل طباعة نسخ

 إن مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية الواقع إبطالها في بلد المنشأ تعد من أدق المسائل في قانون التحكيم الدولي وأشدها صعوبة... وذلك لأن هذه المسألة التي تبدو ظاهريا تقنية تحيل إلى فلسفة التحكيم التجاري الدولي"، وتجبر رجل القانون على استقراء كنه التحكيم الدولي ودوره ومكانته بالنسبة للأنظمة القانونية: الدول والنظام القانوني الدولي أو عبر الوطني.

   وفي هذا الخصوص نجد تضارباً جذرياً بين نظريتين أو تصورين للتحكيم التجاري الدولي:

   أول التصورين كلاسيكي وإقليمي: التحكيم التجاري الدولي يعتبر مدمجاً تماماً حسب هذه النظرية في النظام القانوني للدولة التي صدر فيها الحكم التحكيمي. فالمحكم الدولي، كقاضي بلد المنشأ، له قانون يحكم التحكيم من نشأته بواسطة اتفاقية التحكيم مرورا بصدور حكم التحكيم وانتهاء بالطعن في هذا الحكم وإن إرادة الطرفين لا تتدخل حسب النظرية المذكورة إلا لتحديد مكان التحكيم: أو بعد تحديد هذا المكان، ضمن الحدود التي يسمح بها قانون التحكيم الناتج من تحديد مكان التحكيم. وإن آثار تحديد قانون التحكيم جذرية: فالمحكم الدولي يحدد اختصاصه حسب هذا القانون. وإن هذا القانون أيضا يمكنه من تحديد قواعد التنازع، كما أن هذا القانون هو الذي سيحدد الإجراءات الواجبة التطبيق من قبل المحكم، إذا لم يتول الأطراف تحديد قانون آخر. وإن هذه النظرة، بما فيها من إدماج كامل لحكم التحكيم الدولي في نظام الدولة التي صدر فيها، تجعل من الحتمي اعتبار حكم التحكيم الواقع إبطاله حكما غير موجود، بل هو في حكم العدم... والعدم لا يمكن منطقاً ولا قانوناً أن يكون موضوعاً لتنفيذ ولو خارج البلد الذي صدر فيه. 

   وتقابل هذه النظرة المدمجة للتحكيم في نظام الدولة الصادر فيها التحكيم نظرة أخرى شعارها استقلالية التحكيم عن جميع النظم القانونية الدولية بما فيها نظام الدولة التي صدر فوق أراضيها. فالمحكم الدولي حسب هذه النظرة قاض خاص، لا ينطق باسم أي دولة، مهما كانت، ومن ثم فليس له قانون تحكيم صادر عن دولة معينة يحكمه: وإن استقلالية التحكيم ينتج منها رفض إدماج حكم التحكيم في نظام الدولة التي صدر فيها، ومن هنا يسمح هذا التصور بفك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ: أي يسمح ببقاء حكم التحكيم الدولي، ووجوده، وإن وقع إبطاله في بلد المنشأ، ومن ثم يمكن تصور الإذن بتنفيذه في بلد التنفيذ.. 

   وإن القانون المقارن في خصوص مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية الواقع إبطالها في بلد المنشأ، يتأرجح بين هذين التصورين للتحكيم التجاري الدولي. 

   فهذه اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية لسنة 1958، الجامعة اليوم لمائة وثلاثة وأربعين دولة طرف، والتي تبقى إلى اليوم بعد خمسين سنة من صدورها "الآلية الأساسية التي تسمح بتنفيذ أحكام التحكيم في العالم" تتبنى النظرية الأولى، وإن كان ذلك بصفة مخففة... 

    وإن الطابع المخفف لتبني النظرية الأولى يتجلى من خلال تخفيف هيمنة النظام القانوني لبلد المنشأ على التحكيم بالنسبة لما سبقها من اتفاقات دولية وخاصة اتفاقية جنيف لسنة 1927 التي كانت تلزم المتمسك بتنفيذ حكم تحكيم خارج بلد المنشأ بإثبات أنه أصبح "نهائياً في البلاد التي صدر فيها"، مما فهم أنه يقتضي للحصول على إذن بالتنفيذ في بلد التنفيذ الحصول مسبقاً على إذن بالتنفيذ في بلد المنشأة. مما كان من شأنه أن يفرض نظام "ثنائية الإذن بالتنفيذ" وأن يجعل الحكم التحكيمي توأماً حقيقياً لحكم قاضي المنشأ، وإن كان أضعف نفوذاً إذ لا يتمتع، من ذاته، بسلطة الفرض والإجبار(L'imperium) إلا متى تدخلت هياكل دولة المنشأ ومنحت الإذن بالتنفيذ. وإن الفضل الأساسي لاتفاقية نيويورك يتمثل في كونها تجاوزت نظام ثنائية الإذن بالتنفيذ. وهذا بعد تخليها عن شرط أن يكون حكم التحكيم نهائيا في بلد المنشأ، واكتفائها في الفصل 5 بالتطرق إلى إمكانية رفض الاعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه إذا أثبت الطرف الواقع التمسك ضده بحكم تحكيم بأن "القرار التحكيمي لم يحن بعد الوقت الذي يعتبر فيه إجباريا بالنسبة للأطراف ....5 وإن إحالة اتفاقية نيويورك إلى إجبارية حكم التحكيم حتى يقبل التنفيذ لا تعني حسب السواد الأعظم لجمهور الفقهاء الحصول المسبق على إذن بالتنفيذ في بلد المنشأ، وإنما يصبح حكم التحكيم إجبارياً بمجرد أن يكون له نفوذ الأمر المقضي به ، وهو ما يتمتع به مبدئياً حكم التحكيم منذ صدوره. 

   وإنه رغم تجاوز اتفاقية نيويورك لنظام ثنائية التنفيذ، فإنها لم تفك تماماً الإرتباط بين بلدي المنشأ والتنفيذ. فإضافة إلى أنها تولي مكانة هامة عند الرقابة بغاية التنفيذ لقانون بلد المنشأ في عديد المواد، إذ تحيل إليه ولو بصفة احتياطية لتقدير صحة اتفاقية التحكيم (الفصل 1-V - أ) أو صحة إجراءات التحكيم (الفصل 1-v- ث). فإنها تنص في الفقرة ج من الفصل v أنه يمكن رفض الاعتراف بالأحكام التحكيمية وتنفيذها إذا تبين أن "القرار التحكيمي لم يحن بعد الوقت الذي يصير فيه إجبارياً بالنسبة للأطراف أو أنه قد وقع إبطاله من طرف السلطة المختصة بالبلاد التي صدر فيها القرار التحكيمي أو بمقتضى قانونها." 

   وإن قراءة أولى لاتفاقية نيويورك يمكن أن تؤدي على أساس هذه الفقرة إلى اعتبار أن اتفاقية نيويورك تنظم تنسيقاً للرقابة على مستوى العالم وذلك بإعطاء دور المراقبة الأساسية والأولى إلى بلد المنشأ الذي بإبطاله الحكم التحكيمي ينفي عنه كل وجود ويمنع تنفيذه خارج البلاد التي صدر فيها، ومن ناحية أخرى فإنه لا يترك إلا رقابة ثانوية أو ثانية إلى بلد التنفيذ الذي لا يمكن لسلطاته إلا الإذن بتنفيذ الأحكام التي لم يقع إبطالها ببلد المنشأ أو إيقاف تنفيذها أو رفض هذا الإذن بالتنفيذ، لكن لا يمكن تصور تنفيذ حكم تحكيمي وقع إبطاله أو إيقاف تنفيذه في بلد المنشأ.

   وإن هذه القراءة الصحيحة، لو اقتصرنا على الفصل الخامس، تصبح قاصرة عن بيان جميع أبعاد اتفاقية نيويورك لو تمعنا فيما جاءت به المادة السابعة فقرة أولى من الإتفاقية، هذه المادة التي وصفها الفقيه الراحل فيليب فوشار بالكنز أو بالدرة المكنونة بين ثنايا اتفاقية نيويورك. وإن المادة السابعة تسمح للدول الأطراف أن تلفظ أو تعترف بالحكم التحكيمي باعتماد شروط أخف من تلك التي نصت عليها اتفاقية نيويورك إذا وردت هذه الشروط باتفاقيات أبرمتها، أو بالقانون الداخلي المعتمد من الدولة المطلوب منها تنفيذ حكم تحكيمي. وهكذا فإن اتفاقية نيويورك واعتماداً على الفصل السابع منها تضمن حدا أدنى من القبول للأحكام التحكيمية الأجنبية يمكن اعتماد شروط أخف منه. ولكن لا يمكن اعتماد أشد من تلك الواردة بالاتفاقية، وهي من ثم لا تمثل سقفاً للتحررية تجاه أحكام التحكيم بل أرضية يمكن تجاوزها".

  وإنه يمكن انطلاقاً من الفصل السابع اعتبار أن اتفاقية نيويورك وإن لم تكن في ذاتها تفك الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ، فإنها لا ترفض فك الارتباط بما أنها قابلة، إن لم نقل مشجعة، لاعتماد شروط أخف من قبل بلد التنفيذ سواء في قانونه الداخلي أو في الاتفاقات الدولية التي اعتمدها...

  وإن هذا الفصل السابع من اتفاقية نيويورك قد اعتمد فعلاً من قبل الدول الأطراف لإبرام معاهدات دولية أو لاعتماد قوانين داخلية أو فقه قضاء يقبل الإعتراف بأحكام تحكيمية دولية أو تنفيذها رغم إبطالها في بلد المنشأ. 

   وإن اعتماد مثل هذه النصوص قد بدأ بسرعة بعد إبرام معاهدة نيويورك. إذ لم تمض ثلاث سنوات حتى وجدنا في الاتفاقية الأوروبية بجنيف حول التحكيم التجاري الدولي المؤرخة في 21 أفريل 1961 والتي تجمع اليوم بين 27 دولة طرفاً تحديداً وتخفيفاً للارتباط بين بلدي منشأ الحكم التحكيمي وتنفيذه . وقد تم ذلك من خلال اعتبار أن قاضي التنفيذ غير مقيد ببعض أسباب إبطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ، والخاصة بهذا البلد، وهي الإبطال من أجل مخالفة الحكم التحكيمي للنظام العام لبلد المنشأ استناداً إلى عدم قابلية النزاع للتحكيم في بلد المنشأ. ومن ثم فإن هناك أسباباً يبقى فيها ارتباط بين الإبطال في بلد المنشأ وعدم التنفيذ، وهي الواردة في الفقرة الأولى من الفصل الخامس من اتفاقية نيويورك في حين أن هناك أسبابا وقع فك الارتباط في خصوصها وهي الواردة بالفقرة الثانية". وإن اتفاقية جنيف على غاية الأهمية، إذ بمجرد مرور ثلاث سنوات على إبرام اتفاقية نيويورك تبين أن الارتباط بين الإبطال في بلد المنشأ و التنفيذ في بلد آخر ليس أمراً حتمياً، وأن الحكم التحكيمي الدولي الواقع إبطاله في بلد المنشأ لا ينزل بالضرورة إلى حضيض العدم. ولكنه يمكن أن يبقى سائر المفعول، وحتى أن يؤذن بتنفيذه رغم ابطاله.

   وإن فك الارتباط قد تحقق فعلاً وبصفة كاملة في بعض القوانين المقارنة الحديثة. والتي لم تدمج الفصل 5-1-ج (أو ه) من اتفاقية نيويورك، أي لم تجعل من إبطال الحكم التحكيمي في بلد المنشأ علة لعدم تنفيذه في بلد التنفيذ.

   وإنه يمكن بدءاً التطرق إلى قانون الإجراءات المدنية الجديد الفرنسي لسنة 1981 الذي لا ينص على مثل هذا السبب لعدم تنفيذ الحكم التحكيمي، كما يمكن أيضاً التطرق إلى بعض القوانين العربية الحديثة التي لم تنص على بطلان الحكم التحكيمي الدولي في بلد المنشأ كسبب مبرر لعدم تنفيذه فيها. ومن هذه القوانين ما جاء في القانون المصري للتحكيم رقم 27 لسنة 1994 في المادة 58 من أنه:

 

  " لا يجوز الأمر بتنفيذ حكم التحكيم وفقا لهذا القانون إلا بعد التحقق مما يأتي:

   أ- أنه لا يتعارض مع حكم سبق صدوره من المحاكم المصرية في موضوع النزاع؛ 

    ب- أنه لا يتضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية؛ 

    ج- أنه قد تم إعلانه للمحكوم عليه أعلاناً صحيحاً."

    وإن عدم التطرق للبطلان في بلد المنشأ كسبب لعدم التنفيذ يمكن أن يؤدي إلى اعتبار أن القانون المصري يفك الارتباط بين بلدي المنشأ والتنفيذ.

    وإننا نجد نفس الموقف في القانون اللبناني للتحكيم لسنة 1983 الذي ينص في المادة 814 فقرة 1 من أ.م.م أنه "يعترف بالقرارات التحكيمية وتعطى الصيغة التنفيذية إذا أثبت الشخص الذي يتذرع بها وجودها ولم تكن مخالفة بصورة واضحة للنظام العام الدولي". وإن القانون الجزائري قد لحق حديثا بركب القوانين التي تفك الارتباط بين الإبطال في بلد المنشأ والتنفيذ خارجه ذلك أن التنقيح التشريعي لمجلة الإجراءات المدنية والإدارية في 25 فيفري 2008 لا يتطرق إلى الإبطال في بلد المنشأ كسبب من أسباب رفض التنفيذ للأحكام التحكيمية الدولية (الفصل 1051 جديد).

    وإن ما يلاحظ هو أن فك الارتباط قد تحقق بصفة مؤكدة في فقه القضاء المقارن لعديد البلدان، حيث أن القضاة لم يترددوا في الإذن بتنفيذ أحكام تحكيمية دولية وقع إبطالها في بلد المنشأ. ويصح هذا خاصة بالنسبة لفقه القضاء الفرنسي المستقر والمتواتر في هذا الاتجاه منذ ما يزيد عن أربعة وعشرين سنة: وإن قرارات نورسولور، وهيلمارتون وباشت أشهر من نار على علم، وقد علق عليها كثيراً مما يعفينا من الرجوع إلى تحليلها . و يكفي للدلالة على فقه القضاء الفرنسي هذا وأسسه النظرية حسب رأينا التطرق إلى أحدث القرارات وأكثرها تأصلاً نظرياً. وهي قراري بوترابالاي Putrabali المحكوم فيها من محكمة التعقيب بتاريخ 23 جوان2007. وهذا لأن الصلة بين صفة الحكم التحكيمي الدولي كحكم نابع من قضاء دولي غير مدمج بأي نظام قانوني و بين إمكان تنفيذه وإن وقع إبطاله في بلد المنشأ خارج هذه البلاد قد وقع التأكيد عليها في هذين القرارين، مما يدعم النظرية التي تعتبر أن الحكم التحكيمي لا يسبح في فراغ من القانون أو يحلق في جو من اللا قانون إلى أن يحط به التنفيذ في بلد معين، وإنما هو متمركز في نظام قانوني عبر وطني (Un ordre juridique transnational) يدعى عادة لاكس ماركاتوريا أو النظام العالمي للتجار La lex mercatoria.

   وإن هذين القرارين على غاية من الأهمية، وإن واصلا الاتجاه الذي كان سائداً من قديم أمام المحاكم الفرنسية، إذ يؤصلان ويوضحان المنطق الذي ترتكز عليه النظرية التي ترى إمكانية تنفيذ حكم تحكيمي دولي خارج بلد المنشأ: إنه فقه قضاء يتماشى مع التصور غير الوطني للتحكيم التجاري الدولي، فتنفيذ حكم إبطال في بلد المنشأ يفترض على الأقل أن هذا الحكم غير مدمج في هذا البلد، ويتدعم إذا اعتبرناه مدمجاً في نظام قانوني عبر وطني. وإن فقه القضاء هذا يبين أنه لا يمكن منطقاً تصور تنفيذ حكم تحكيمي دولي خارج بلد المنشأ لو اعتبرنا أن التحكيم الدولي مدمج في بلد المنشأ وأن المحكم الدولي، كالقاضي الوطني لبلد المنشأ، له قانون يحكمه...فكل نظرية لها نتائجها المنطقية التي تتلاءم مع تصور النظام القانوني لقاضي التنفيذ للتحكيم التجاري الدولي.

   أما في تونس، فإن المشرع قد اعتمد مجلة للتحكيم، تحتوي إضافة إلى باب يهم الأحكام المشتركة بين التحكيم الداخلي والدولي، على باب ثان يخص التحكيم الداخلي، وباب ثالث يخص التحكيم التجاري الدولي الفصول (47 إلى 82) وهو باب مستوحى في معظم أحكامه من القانون النموذجي للأمم المتحدة للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1985. إضافة إلى مجلة التحكيم ترتبط تونس بعديد اتفاقيات التعاون القضائي سواء المتعددة أو الثنائية الأطراف والتي تتطرق ضمن أحكامها إلى مسألة تنفيذ أحكام التحكيم الدولية. وما يلاحظ في خصوص القانون التونسي هو انعدام الإتساق المنطقي في ما يخص مسألة تنفيذ الحكم الدولي الواقع إبطاله في بلد المنشأ: ففيما يخص مجلة التحكيم فإنها وإن تأثرت أساساً بالقانون النموذجي للأمم المتحدة فقد وقع تطعيمها بعديد القوانين الأخرى، مع عدم إحكام التوفيق بين مختلف هذه المصادر مما يجعل المجلة غير متناغمة في أحكامها (I) أما اتفاقيات التعاون القضائي فإننا لا يمكن إلا أن نلحظ أن هناك تضارباً بين الاتفاقيات الدولية للتعاون القضائي مع اتفاقية نيويورك المصادق عليها من البلاد التونسية مما يطرح إشكالية حل هذا التضارب. كما أن معظم هذه الاتفاقيات تتراجع عن التحررية النسبية لمجلة التحكيم في خصوص التنفيذ، مما يؤثر مباشرة على مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الواقع إبطالها في بلد المنشأ، وهو يتضارب مع منطق الاتفاقيات القضائية التي تعقد لتسهيل تنفيذ الأحكام بالنسبة للقانون الداخلي لا العكس (11).

 

1- انعدام الاتساق المنطقي لمجلة التحكيم

   أريد لمجلة التحكيم التونسية المؤرخة في 26 أفريل 1993 أن تكون مثالاً للتحررية تجاه التحكيم التجاري الدولي. ومن ثم فإنه من المفاجئ أن يلحظ الدارس لهذه المجلة الصادرة بعد خمس وثلاثين سنة من اتفاقية نيويورك أنها لم تكن أكثر تحررية في خصوص مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الواقع إيطاليا في بلد المنشأة. فقد وقع أخذ هذه الأحكام دون أي نظر فيها أو تمحيص، لاعتماد شروط أخف بالسماح بتنفيذ الحكم رغم إبطاله في البلاد التي صدر فيها أو على الأقل باعتماد تمييز بين أسباب الإبطال على غرار ما وقع في اتفاقية جنيف لسنة 1961.

   وإن عدم الاتساق المنطقي يتجلى خاصة من خلال اعتماد المشرع التونسي سنة 1993 على ما ورد بالقانون النموذجي للتحكيم الدولي للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي لسنة 1985 في المادة 36-1-أ-5 التي تنص على أنه لا يجوز رفض الاعتراف بأي قرار تحكيمي بناء على طلب الطرف المطلوب تنفيذ القرار ضده إلا بناء على "5- أن قرار التحكيم لم يصبح بعد ملزماً للطرفين، أو أنه قد ألغته أو أوقفت تنفيذه إحدى محاكم البلد الذي صدر فيه ذلك القرار أو بموجب قانونه"، مع تجاوز ما ورد في الفصل 36 من القانون النموذجي في بعض الحالات الأخرى للإبطال" من إحالة إلى قانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم على غرار اتفاقية نيويورك. 

   وإن تصرف المشرع التونسي سنة 1993، بالنسبة إلى ما ورد في اتفاقية نيويورك أو في القانون النموذجي للأمم المتحدة، أمر يعتبر مجدتها محموداً بالنظر إلى الصبغة التحررية النسبية لهذه النصوص. أما ما يمكن ملاحظته، وإبداء الأسف منه، هو أن المشرع التونسي اعتمد عديد المصادر المادية في المجلة، كالقانون السويسري التحكيم أو البلجيكي، من دون إحكام التصرف في هذه المصادر. ويتجلى ذلك خاصة في تنظيم شروط الإذن بالتنفيذ وبصفة عامة في أحكام الطعن في الأحكام التحكيمية الدولية". وقد أكد الأستاذان كتوم مزير وعلى المزعني على أن تعدد المصادر..لم يقع السيطرة عليه بصفة مرضية ".

   وإن عدم السيطرة المرضية على تعدد المصادر المادية لمجلة التحكيم يتجلى فيما يخص الدور المنوط لقانون البلد الذي صدر فيه حكم التحكيم الدولي في النزاعات التي تلي صدور هذا الحكم، فمنطقها، كما تتوقع أن يكون لهذا القانون دور جذري في الطعون، تماشياً مع دوره الجذري عند إبطال الحكم التحكيمي أو إيقاف تنفيذه. أما ما نلاحظه فإن دوره يعتبر ثانوياً جداً، بل يمكن أن نقول أن دوره مهمش، وهذا بالنظر لكون المشرع يسمح عندما يصدر التحكيم بتونس للأطراف، مع احترام بعض الشروط بالاتفاق على عدم الطعن بالإبطال في حكم التحكيم، سما يدل على عدم وحدة المنطق المعتمد عندما يكون مكان صدور التحكيم في تونس أو خارجها (أ). كما يلاحظ عدم التنسيق المنطقي في أحكام التنفيذ ذاتها، إذ تجاوز المشرع الحالات الأخرى الواقع الإحالة بشأنها إلى قانون البلاد الصادر بها حكم التحكيم في اتفاقية نيويورك وفي القانون النموذجي للأمم المتحدة (ب). وإنه من الضروري للحد من سلبيات عدم اتساق أحكام مجلة التحكيم أن يؤول القاضي هذه الأحكام بصفة تسمح بالحد من إطلاقية آثار بطلان حكم التحكيم الدولي عند الإذن بالتنفيذ (ج).

 

أ- تهميش دور قانون مكان صدور حكم التحكيم الدولي فيما يخص أبطال الأحكام التحكيمية الصادرة بتونس :

   إن نفس المنطق يحكم دور قانون مكان صدور حكم التحكيم في النزاعات التي تلي صدور هذا الحكم، فإما أن تعتبر أن دولة مكان التحكيم دولة توطين جغرافي وقانوني للتحكيم، وفي هذه الحالة لا يمكن إلا الإقرار بأثر مطلق الإبطال حكم التحكيم الدولي في بلد المنشأ على المحاكم التونسية إذا لم تكن تونس إلا بلد تنفيذ. وبالمقابل وبنفس المنطق، فإنه إذا صدر حكم التحكيم بتونس فإنه يقع الإقرار للقضاء التونسي بإمكانية إبطال هذا الحكم وإن كان دوليا. أما إذا انطلقنا من منطق عدم وجود توطين للتحكيم الدولي ولو في بلد المنشأ فإن النتائج المترتبة عن ذلك مختلفة جذريا على مستوى النزاعات التالية لصدور الحكم التحكيمي: لا يقع بالضرورة الاعتراف بإبطال الحكم التحكيمي خارج بلد المنشأ، فيما أنه غير مندمج في النظام القانوني لهذا البلد فإن إبطاله فيه لا ينجر عنه انعدام وجود هذا الحكم مطلقا، وإنما انعدام أثره في بلد المنشأ،مع إمكانية إحداث آثار، وإمكانية تنفيذه خارج هذا البلد، ومن هنا بناتي الدور المهمش المتروك لمحاكم بلد المنشأ في الإبطال: ذلك أن بعض الفقهاء اعتبر أن فائدة الطعن بالإبطال في هذه الحالة تصبح منعدمة، ومن ثم اقترح حذف الطعن بالإبطال تماماً، والسماح فقط لمحاكم بلد المنشأ بالنظر في الحكم التحكيمي الدولي إذا ما طلب منها الإذن بالتنفيذ...ولكنها تراقب في هذه الحالة الحكم التحكيمي لا يوصفها محاكم بلد المنشأ، ولكن بصفتها محكم بلد تنفيذ. ، 

   وقد وقع انتقاد القانون الفرنسي للتحكيم بشدة في خصوص هذه المسألة، إذ هناك من اعتبر أنه من قبيل الإمبريالية القانونية imperialisme juridique أن ترفض المحاكم الفرنسية على أساس العدام توطين الحكم التحكيمي الدولي في بلد المنشأ الإقرار بار اثبات ابطال الأحكام التحكيمية بها ومن ثم الإذن بتنفيذها رغماً عن الإبطال في حين تسمح بإبطال الأحكام التحكيمية إذا كانت صادرة بفرنسا ومن ثم نفر بدور هام المحاكم بلد المنشأ كمحاكم يطال، فإما أن تكون لبلد المنشأ أهمية أم لا، ولا يمكن أن يتغير ذلك بكون بلد المنشأ بفرنسا أو خارجها، وإن الانتقاد المعاكس يمكن توجيهه للقانون التونسي: كيف يمكن أن نفهم أن يقع الإقرار بأثر مطلق لكل إبطال منطوق به خارج تونس إذا صرحت به محاكم بلد المنشأ، في حين يسمح الفصل 78 -6 من مجلة التحكيم، المجدد في هذه المسألة بالنسبة للقانون النموذجي للأمم المتحدة متأثراً بالقانون السويسري للتحكيم"، للأطراف بالإتفاق على عدم الطعن بالإبطال أمام المحاكم التونسية، عندما يكون حكم التحكيم قد صدر في تونس: "يجوز للأطراف الذين ليس لهم بتونس مقر أو محل إقامة أصلي أو محل عمل أن يتفقوا صراحة على استبعاد الطعن كليا أو جزئيا فيما تصدره هيئة التحكيم"، وإن هذا الفصل، وإن لم يمنع كل طعن بالإبطال إذا لم يكن للأطراف ارتباط (مقر..) بتونس، فإنه بالسماح لهم بذلك يتماشى تماما مع المنطق الذي يرى أن حكم التحكيم مستقل عن بلد المنشأ، وغير موطن قانونياً به، والدليل على ذلك أن وجود مكان التحكيم بتونس اعتبر رابطا أو صلة أقل تأثيراً من صلات أخرى يمنع معها التنازل عن الطعن بالبطلان، كمقر الأطراف بتونس، أو حتى وجود محل إقامة أصلي أو محل عمل لهم بها، وهذا دليل على تهميش مكان صدور حكم التحكيم الدولي في أحكام الطعن بالإبطال، وهذا ما يقدر أن المتمسكين بالنظرة الكلاسيكية والإقليمية للتحكيم التجاري الدولي، انتقدوا بشدة تنازل الأطراف عن الطعون في سويسرا، والقانون السويسري كان مصدر إلهام المشرع التونسي في الفصل 78 -6، معتبرين أنه من غير المقبول السماح لأطراف بالتنازل وبصفة مسبقة، عن طعن غير عادي، خاصة عندما يكون لهذا الطعن آثار تهم النظـام العـام مـن ذلـك ما كتبـه الأستـاذان J. Fr. Poudret S. Besson حين علقا على التأويل الضيق للمحكمة الفيدرالية السويسرية إمكانية التنازل المنصوص عليها بالفصل 192 من القانون الدولي الخاص بهذه العبارات "إن هذا التجديد.. لم يلق النجاح المرجو، إلا نادراً ما خاطر الأطراف بالتنازل عن الطعون، وحتى عندما يقع التنازل ويدفع به تجاه الطعن بغاية رفضه، فإن المحكمة الفيدرالية، وعن حق، تؤول بصفة ضيقة (صعبة) الشروط لهذا التنازل الاستثنائي.

    وفي نهاية الأمر ومهما يكن موقفنا من فتح إمكانية التنازل عن الطعن بالبطلان للأطراف فإنه لا يمكن بالنسبة للقانون التونسي إلا أن تتأسف لانعدام التناسق، الناتج من عدم التحكم في تعدد المصادر المادية للمجلة: إنه من غير المنطقي ومن غير المعقول ولا المقبول أن تنفي كل دور لمكان التحكيم الدولي في السمن بالبطلان عندما يكون مكان التحكيم بتونس وذلك بفتح الإمكانية للطرفين بالتنازل عن هذا الطعن، وإعطاء هذا المكان عندما يكون خارج تونس مكالة على غاية الأهمية باعتبار البطلان في هذه الحالة له أثر مطلق ويؤدي إلى انعدام الحكم التحكيمي وعدم إمكان الإذن بتنفيذه بتونس. كان يمكن أن نفهم العكس، لا أن نتفهمه، بافتراض نوع من الامبريالية القانونية لنظام لا يريد التنازل عن إمكانية إبطال الأحكام التحكيمية عندما يكون مكانها على أراضيه، وعدم الاستعداد للاعتراف بإبطال رفع في دولة أخرى. أما الموقف الموجود في مجلة التحكيم فلا يمكن فهمه إلا إذا اعتبرنا أن محرري المجلة لم يتحكموا في تعدد المصادر المادية للمجلة. وإن هذا التفسير يدعم إذا ما عدنا إلى الفصل 81 من المجلة وتمعنا في دور قانون مكان التحكيم في أسباب عدم تنفيذ أحكام التحكيم الأخرى.

 

ب - دور منعدم لقانون مكان التحكيم في الأسباب الأخرى لرفض الإذن بالتنفيذ:

    إن القاعدة التي تسمح للقاضي التونسي عند التدخل بالإذن بالتنفيذ برفض الإذن إذا كان "حكم التحكيم قد أبطلته أو أوقفت تنفيذه إحدى محاكم البلد الصادر فيه ذلك الحكم..." (الفصل 81-أولا-ه) مأخوذة من اتفاقية نيويورك، ومن القانون النموذجي للأمم المتحدة لسنة 1985 اللذين مثلا الإلهام الرئيسي لمجلة التحكيم التونسية لسنة 1993. وإن هذا الارتباط بين بلدي المنشأ والتنفيذ عند الإبطال في بلد المنشأ منطقي إذا ما نظرنا إلى اتفاقية نيويورك أو إلى القانون النموذجي للأمم المتحدة لسنة 1985، فجميع أحكام هذين النصين متناسقة وتعطي مكانة هامة لمكان التحكيم، إن لم نقل تسمح بتوطين حكم التحكيم في بلد صدوره، ويتجلى ذلك مثلاً في المادة 36 من القانون النموذجي والتي تقوم بتعداد أسباب رفض الاعتراف أو التنفيذ. فهذه المادة تتطرق إلى جواز رفض الاعتراف أو رفض تنفيذ أي قرار تحكيمي بصرف النظر عن البلد الذي صدر فيه بناء على طلب الطرف المطلوب التنفيذ ضده إذا قدم دليلاً يثبت "أن أحد طرفي اتفاق التحكيم...مصاب بأحد عوارض الأهلية، أو أن الاتفاق المذكور غير صحيح بموجب القانون الذي اخضع الطرفان الاتفاق له أو أنه عند عدم الإشارة إلى مثل هذا القانون، غير صحيح بموجب قانون الدولة التي صدر فيها القرار." (الفصل 36-1-أ-). ونجد نفس الإحالة إلى قانون الدولة التي صدر فيها حكم التحكيم في الفصل 36 -1-أ-4، إذا وقعت إقامة الدليل على "أن تشكيل هيئة التحكيم أو أن الإجراء المتبع في التحكيم كان مخالفاً لاتفاق الطرفين أو أنه في حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق، مخالف لقانون البلد الذي جرى فيه التحكيم." وإن الإحالة إلى قانون مكان صدور التحكيم بغاية مراقبة صحة شرط التحكيم أو إجراءات التحكيم يجعل من المنطقي اعتبار حكم التحكيم الواقع إبطاله في بلد المنشأ منعدم الوجود ولا يمكن تنفيذه خارج هذه البلاد". وإننا نجد أيضا نفس القواعد في الفصل5 من اتفاقية نيويورك حيث وقعت الإحالة، ولو بصفة ثانوية إلى قانون مكان صدور حكم التحكيم لرقابة صحة إتفاقية التحكيم أو الإجراءات .

   وبالمقابل يتمثل الإشكال في القانون التونسي للتحكيم لسنة 1993 في أن محرري المجلة أخذوا بعين الاعتبار النظريات الحديثة التي ترى أن مكان التحكيم لا يمكن اعتباره توطيناً قانونياً للتحكيم في الفصل 81 في خصوص صحة اتفاقية التحكيم وصحة الإجراءات وذلك بعدم الإحالة بتاتاً إلى قانون مكان صدور حكم التحكيم في هذه الحالات وإعطاء الأولوية المطلقة لقانون بلد التنفيذ لا بلد المنشأ، في حين أبقى المحررون الدور التقليدي الجذري لقانون مكان صدور حکم التحكيم وذلك برفض الاعتراف أو تنفيذ الحكم التحكيمي الواقع إبطاله أو حتى إيقاف تنفيذه في بلد المنشأ. وإن التغيير الذي أحدثته مجلة التحكيم بالنسبة للقانون النموذجي ولاتفاقية نيويورك في هاتين المادتين لم يكن صدفة أو عفويا، وإنما هو ناتج من وعي بأن الإحالة ولو احتياطياً إلى قانون البلاد الصادر فيها حكم التحكيم لرقابة صحة شرط التحكيم أو سلامة الإجراءات يمثل تغليباً لقانون البلد الصادر فيه حكم التحكيم، وتوطيناً للتحكيم الدولي، في حين يستقل التحكيم اليوم عن كل النظم القانونية الدولية، ولا وجود لقانون دولة يحكمه من ناحية، ومن أخرى فإن الدراسات الفقهية الحديثة تبين أن قانون بلد التنفيذ له صلة أقوى مع التحكيم إذ سيأذن بالتنفيذ، وسيسمح بتحريك القوة العامة إن اقتضى الحال. ولكن إذا ما اعتبرنا أن تغيير هذه الأحكام كان عن اختيار واع، فإننا لا يمكن أن نفهم لماذا تراجع المشرع عن هذا الاختيار وعاد إلى منطق توطيني للحكم في بلد صدوره بالتنصيص على عدم التنفيذ إذا وقع إبطال الحكم أو أوقف تنفيذه في بلد الصدور.

   وإن المنطق الموجود في مختلف أسباب رفض الاعتراف أو الإذن بالتنفيذ في أحكام الفصل 81 متضارب، فهي تتراوح من حالة إلى أخرى، بل ومن سطر إلى آخر، بین رفض توطين حكم التحكيم في بلد صدوره وإعطاء أولوية لأحكام بلد التنفيذ، وبين القول بتوطين هذا الحكم في بلد صدوره الذي بإبطاله لهذا الحكم يجعله في غياهب العدم ويمنع على بلد التنفيذ، ومحاكمة، الإذن بتنفيذه... وإننا لا يمكن أن نقبل كتفسير لاختلاف المنطق في هذه الحالات ما اقترحه المرحوم عبد الوهاب بن عامر الرئيس الأول السابق لمحكمة الاستئناف بتونس بعد صدور مجلة التحكيم حين رأى أن هذا النص يبدو أنه قصد منه حماية المؤسسات التونسية من تنفيذ قرار قابل للإبطال صدر في بلد أجنبياً، لما فيه من تغليب المصالح الوطنيين، يذكرنا بامتياز الجنسية الذي تخلت عنه المحاكم التونسية من زمن والذي يتنافى خاصة مع فلسفة التحكيم التجاري الدولية. أما التفسير الوحيد لهذا التضارب الصارخ في أحكام فصل واحد الذي يمكن أن تقتنع به فإنه يتمثل في تعدد مصادر المجلة وعدم إحكام المحررين لجميع هذه المصادر ومبرراتها وفلسفة أحكامها. وإننا نتوقع أن يغتنم المشرع فرصة تنقيح مجلة التحكيم وقع الإعلان عن قربه من طرف وزير العدل لتصحيح الأمر والحد من الأثر المطلق للبطلان المنطوق به في بلد صدور حكم التحكيم. أما قبل هذا التنقيح المنتظر فإنه لا يسع القاضي إلا التأويل لمحاولة الحد من إطلاقية أثر إبطال حكم التحكيم الدولي على قاضي التنفيذ.

 

ج- ضرورة التأويل للحد من إطلاقية آثار بطلان حكم التحكيم الدولي عند الإذن بالتنفيذ :

   اقترح الفقيه جان بولسون Jan Paulsson تأويل الفصل 5 من اتفاقية نيويورك، تأويلاً حرفياً، يسمح بالحد من إطلاقية آثار بطلان حكم التحكيم الدولي على قاضي التنفيذ، وذلك بإعطاء سلطة تقديرية لقاضي التنفيذ تمكنه إما من رفض التنفيذ إذا ما وقع إبطال حكم التحكيم في بلد المنشأ أو إيقاف التنفيذ وإما الإذن بالتنفيذ رغم الإبطال أو إيقاف التنفيذ في بلد المنشأ. وهذا يسمح بفك الارتباط نسبياً بين قاضي المنشأ وقاضي التنفيذ. والفقيه Paulsson يؤسس هذه السلطة التقديرية على العبارات الواردة في نص اتفاقية نيويورك بالإنجليزية التي تسمح للقاضي بإمكانية رفض الإذن بالتنفيذ إذا وجدت إحدى أسباب الفصل 5: "May" ولا تلزمه على ذلك، إذ لا يستعمل الفصل الخامس عبارة "يجب" "Must". وقد استند الفقيه إلى هذه العبارة بالإنجليزية التي يبدو أنها تختلف عن العبارة المستعملة في النص الفرنسي لاتفاقية نيويورك الملزمة للقاضي، لاقتراح أن يرفض قاضي التنفيذ الأخذ بعين الاعتبار الإبطال إذا بني على أسباب خصوصية ببلد المنشأ، وأن يقر بهذا الإبطال وبالتالي يرفض الإذن بتنفيذ الحكم التحكيمي إذا ما بني الإبطال على أسباب دولية معترف بها أي غير خصوصية ببلد الإبطال.

   وإنه رغم ما قد ينتج من السلطة التقديرية لقاضي الإذن بالتنفيذ من شعور بعدم الأمان القانوني ومن خطر حقيقي تتحكمية القاضي، فإن تأويل الفقيه بولسون يسمح فعلا بجعل الارتباط بين قاضي المنشأ وقاضي التنفيذ نسبيا، وإن لم يقع فکه تماماً، كما يسمح إذا اعتمد القاضي فعلاً على المعيار المقترح من بولسون بالتمييز بين أسباب الإبطال الخصوصية وأسباب الإبطال الدولية. وإن فقه القضاء المقارن مليء بالقرارات التي نجد فيها أسباباً خصوصية للإبطال. ويستند الفقيه بولسون مثلاً على القرار المصري بإبطال الحكم التحكيمي الدولي Chromalloy الذي استند للإبطال على سبب خصوصي بمصر، للإبطال ألا وهو عدم تطبيق الحكم التحكيمي للقانون الذي اختاره الأطراف (الفصل 53 (1) من قانون 1994)، وتأويل هذا النص بصفة موسعة، إذ اعتبر القضاء المصري أن عدم تطبيق القانون المصري الإداري، مع تطبيق القانون المدني المصري، يمثل سبباً من أسباب الإبطال ( القرار المؤرخ في 5 ديسمبر 1995 لمحكمة استئناف القاهرة)، حيث جاء بقرار المحكمة: " ... إذا تضمن... العقد النص على أن القانون الواجب التطبيق..هو القانون المصري فإنه يكون قد استبعد القانون المتفق في العقد على إعمال أحكامه بما تتوافر معه حالة من حالات طلب بطلان حكم التحكيم المنصوص عليها في المادة 35 وفق فقرتها الأولى بند (د) من القانون رقم 1997/27 أنفه البيان". كما يمكن أن نجد مثالاً آخر في قرار صادر عن محاكم الإمارات العربية المتحدة، بإبطال حكم تحكيم دولي لا لشيء إلا لأن المحكمين أخذوا بشهادة شهود دون إلزامهم بأداء اليمين قبل الشهادة !.

    ومن المفيد الإشارة إلى أن القانون النموذجي للأمم المتحدة لسنة 1985 ، متبوعاً بمجلة التحكيم التونسية، استعمل عبارات مرادفة لما ورد باتفاقية نيويورك في نصها بالإنجليزية من "إمكانية" لرفض الإذن بالتنفيذ وليس "وجوب" هذا الرفض. وفعلًا فقد جاء بالفصل 36 - 1 من القانون النموذجي للأمم المتحدة، كما جاء بالفصل 81 من مجلة التحكيم التونسية قبل الإعلان عن أسباب رفض الإذن بالتنفيذ ومنها حالة بطلان أو إيقاف تنفيذ حكم التحكيم الدولي ما يلي: "لا يجوز رفض الاعتراف بأي قرار تحكيم أو رفض تنفيذه بصرف النظر عن البلد الذي صدر فيه، إلا...". وإن استعمال عبارة "لا يجوز" تسمح بتأويل عكسي، باعتبار أنه في الحالات الأخرى المذكورة بالمادة 36 من القانون النموذجي وبالفصل 81 من مجلة التحكيم يجوز رفض الإذن بالتنفيذ. وهذه العبارة تسمح باعتبار أن رفض الإذن بالتنفيذ ليس واجباً محمولاً على كاهل قاضي التنفيذ بل لا يعدو أن يكون خاضعة لسلطته التقديرية.

   وإن هذا التأويل المستند الى حرفية النص، قد يجد أساساً صحيحاً في قواعد تأويل القانون كما وردت في مجلة الالتزامات والعقود التونسية بالفصل 532: نص القانون لا يحتمل إلا المعنى الذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون." وإعطاء سلطة تقديرية لقاضي في هذه الحالة، رغم بعض مساوئه المذكورة آنفاً، قد يرجع نوعاً من المنطق لأحكام الإذن بالتنفيذ في القانون التونسي، وذلك بجعل الارتباط بين الإبطال والإذن بالتنفيذ نسبياً. أما الحل الأمثل فيتمثل حسب رأينا في مراجعة أحكام مجلة التحكيم لإعطائها التناسق اللازم، وذلك بفك الارتباط كلية بين الإبطال ببلد المنشأ والتنفيذ. ولكن ما العمل لإرجاع التناسق لأحكام القانون الاتفاقي التونسي؟

 

II - رجعية منطق اتفاقيات التعاون القضائي والتضارب الصارخ بين مصادر التحكيم الدولي في تونس

   عقدت تونس عديد اتفاقيات التعاون القضائي التي تنظم فيما تنظمه شروط تنفيذ الأحكام العالية والأحكام التحكيمية الصادرة في إحدى أراضي الدولة أو الدول المتعاقدة. و إن دراسة لهذه الاتفاقيات، تجعلنا أمام رجعية المنطق المعتمد في هذه الاتفاقيات أو في معظمها بالنسبة لمجلة التحكيم الصادرة سنة 1993 أو حتى اتفاقية نيويورك لسنة 1958 نتبين مظاهر التضارب الصارخ بين مصادر التحكيم الدولي في خصوص مسألة ارتباط قاضي التنفيذ التونسي بأحكام الإبطال المنطوق بها في بلد المنشأ، إذا كانت دولة المنشأ إحدى أطراف هذه الاتفاقيات (أ). وبعد التطرق إلى مظاهر هذا التضارب سنحاول اقتراح تأويل يحد من مساوئ رجعية المنطق المعتمد في هذه الاتفاقيات الدولية. إن رجعية الاتفاقيات المبرمة من الجمهورية التونسية للتعاون القضائي أدت إلى نوعين من التضارب في مصادر التحكيم الدولي في تونس. أول تضارب نجده بين نص التشريع الذي يرفض ازدواجية التنفيذ، خاصة بصدور مجلة التحكيم سنة 1993، والاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف التي تفرض هذه الازدواجية؟ كيف السبيل إلى تجاوز هذا التضارب من غير إحداث رجعية غير مقبولة في التحكيم الدولي بتونس (ب). أما ثاني تضارب في مصادر التحكيم الدولي بتونس فهو تضارب بين الاتفاقيات ذاتها، وخاصة بين اتفاقية نيويورك والاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف التي أبرمتها تونس. وهنا سنحاول أيضا إيجاد حل يغلب نجاعة التحكيم الدولي على كل اعتبار آخر (ج).

 

أ- مظاهر التضارب الناتج من رجعية منطق اتفاقيات التعاون القضائي المبرمة من طرف الجمهورية التونسية: 

   إن المزية الأساسية لاتفاقية نيويورك، والتجديد الجذري الذي جاعت به، كما رأينا، يتمثل في أن طالب تنفيذ حكم تحكيمي دولي صدر بدولة ما، غیر مطالب لتنفيذ هذا الحكم خارج هذا البلد بالقيام بقضية لتنفيذ هذا الحكم ببلد المنشأ. إن حذف النظام الرجعي للتنفيذ، المسمى " ثنائية أو ازدواجية التنفيذ " مثل قفزة كبرى حققتها اتفاقية نيويورك في طريق نجاعة التحكيم الدولي. وقد استنتج غالب الفقه هذا التجديد من كون اتفاقية نيويورك قد تخلت عن العبارات التي كانت مستعملة في النصوص التي سبقتها (بروتوكول 1923 - اتفاقية 1927 بجنيف...) والتي كانت تفرض لتنفيذ الحكم التحكيمي خارج بلد المنشأ أن يكون نهائيا في هذا البلد، وقد فهمت الصيغة النهائية بكون الحكم التحكيمي تحصل على الصيغة التنفيذية في بلد المنشأة. وإن اتفاقية نيويورك باشتراطها أن يكون الحكم ملزما في بلد المنشأ تقتصر على اشتراط أن لا يكون قد وقع إبطاله أو إيقاف تنفيذه ببلد المنشأ، وبذلك فهي وإن لم تكن قد فكت الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ فإنها على الأقل كسرت الأغلال وتركت رباطاً يحفظ للتحكيم نجاعته وإن تبين فيما بعد أنها ليست النجاعة القصوى... 

    وإن مصادقة تونس على هذه الاتفاقية منذ القانون عدد 12 لسنة 1967 المؤرخ في 10 أفريل 1967. وما يفرضه فصلها السابع من أنها تمثل سقفاً لا يمكن تجاوز الشروط الموجودة فيه لتنفيذ الأحكام التحكيمية ولكن يمكن أن تنص الدولة الطرف على شروط أخف في قوانينها الداخلية أو في اتفاقيات أخرى تعقدها، يجعل من غير المنطق أن تتراجع تونس في اتفاقيات التعاون القضائي التي تعقدها بعد المصادقة عن عدم فرضها ثنائية الإذن بالتنفيذ" بأشتراطها أن تكون الأحكام التحكيمية الدولية المطلوب من محاكمها الإذن بتنفيذها، قد أضحت نهائية ببلد المنشأ. وإن المتمعن في مجلة التحكيم لا بد أن يلاحظ أنه رغم ما تتسم به في خصوص هذه المسألة من عدم اتساق منطقية، فإنها لم تتراجع عن الميزة الأساسية المحدثة باتفاقية نيويورك، فقد اكتفت هي أيضا بأن تكون الأحكام التحكيمية المطلوب الإذن بتنفيذها ملزمة في بلد صدورها.

   وإن ما يفاجئ حقاً، هو أنه على عكس مجلة التحكيم التي واصلت السير في منهج اتفاقية نيويورك، نجد رجعية شديدة في عديد اتفاقيات التعاون القضائي المبرمة من طرف الجمهورية التونسية، سواء الاتفاقيات متعددة الأطراف أو الثنائية، وذلك بفرض أن تكون الأحكام التحكيمية نهائية وفي ذلك عودة للنظام المقيت الثنائية التنفيذ، وفي بعض الأحيان تكون هذه الاتفاقيات أكثر وضوحاً وصراحة في فرضها أن تكون الأحكام التحكيمية قابلة للتنفيذ في بلد المنشأ. وإن بعض الأمثلة تكفي للدلالة على رجعية المنطق المعتمد في عديد الاتفاقيات الدولية المبرمة بين تونس ودول صديقة للتعاون القضائي. 

   فهذه مثلا اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي الموقعة بالرياض يوم 6 أفريل 1983 بين 21 دولة عربية والتي صادقت عليها تونس بالقانون عدد 69 لسنة 1985 المؤرخ في 12 جويلية 1985 تنص بصفة صريحة على وجوب حصول الأحكام التحكيمية الصادرة في إحدى الدول المتعاقدة على الصيغة التنفيذية في بلد المنشأ حتى يمكن تنفيذها بإحدى الدول الأخرى المتعاقدة، وفي هذا الإطار تنص الفقرة الثانية من المادة 37 التي تخص أحكام المحكمين أنه يتعين على الجهة التي تطلب الاعتراف بحكم المحكمين وتنفيذه أن تقدم صورة معتمدة من الحكم مصحوبة بشهادة صادرة من الجهة القضائية تفيد حيازته لقوة التنفيذية."

   وإن نظام " ثنائية التنفيذ " موجود أيضاً في اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول اتحاد المغرب العربي التي تم توقيعها برأس الأنوف بالجماهيرية الليبية بتاريخ 9 و10 مارس 1991 حيث تنص المادة 44 ب من هذه الاتفاقية أنه يجوز رفض الأمر بتنفيذ الأحكام التحكيمية الصادرة في بلدان الأطراف المتعاقدة " إذا كان حكم المحكمين صادراً تنفيذاً لشرط أو لعقد تحكيم باطل أو لم يصبح نهائياً." وإن اشتراط أن يكون حكم التحكيم نهائياً في بلد المنشأ حتى يقع تنفيذه في بلد آخر يرجعنا بوضوح إلى نظام ثنائية التنفيذ المعتمد في اتفاقية جنيف لسنة 1927 على أساس استعمالها لنفس عبارة "أحكام نهائية".

   وإذا كان هذا هو حال اتفاقيات التعاون القضائي المتعددة الأطراف التي أبرمتها الجمهورية التونسية مع الدول العربية سنة 1983 والمغاربية سنة 1991، فإن حال الاتفاقيات الثنائية ليس أحسن، حيث نجد في العديد منها شرط أن تكون نهائية في البلاد التي صدرت فيها حتى يقع الإذن بتنفيذها بالبلاد التونسية.

   فهذه مثلاً اتفاقية التعاون القضائي والإعلانات والإنابات القضائية وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين بين الجمهورية التونسية ودولة الإمارات العربية المتحدة الموقعة في تونس في 7 فيفري 1975 تنص في المادة 23 (و) على أنه: "تكون أحكام المحكمين قابلة للتنفيذ في أي من الدولتين المتعاقدتين ولا يجوز للسلطة القضائية المختصة في الدولة المطلوب إليها التنفيذ أن تبحث في موضوع التحكيم ولا أن ترفض تنفيذ الحكم إلا في الأحوال الآتية: "(و) إذا لم يكن حكم المحكمين نهائياً طبقاً لقانون الدولة التي صدر فيها."

   ونفس الملاحظة يمكن إبداؤها في خصوص اتفاقية التعاون القانوني والقضائي في المواد المدنية والتجارية ومواد الأحوال الشخصية والمواد الجزائية المبرمة بين الجمهورية التونسية وجمهورية مصر العربية الموقعة بتونس في 9 جانفي 1976، حيث تنص في مادتها 35 ب على أنه يتعين على الطرف الذي يطلب الاعتراف بحكم المحكمين وتنفيذه أن يقدم صورة معتمدة من الحكم مصحوبة بشهادة صادرة من الجهة القضائية تفيد حيازته للقوة التنفيذية."

   وإن نظام ثنائية أو ازدواجية الإذن بالتنفيذ سيتواصل حتى في الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها الدولة التونسية حديثة، مثل ذلك الاتفاقية المبرمة مع اليمن في 8 مارس 1998 واللاحقة لصدور مجلة التحكيم سنة 1993، حيث جاء بالمادة 35 ب منها أنه " يتعين على الطرف الذي يطلب الاعتراف بحكم المحكمين وتنفيذه أن يقدم صورة معتمدة من الحكم مصحوبة بشهادة صادرة من الجهة القضائية تفيد حيازته للقوة التنفيذية".

   وإن الاتفاقيات الأخرى التي تحتوي على عبارات مماثلة عديدة، وهي لا يمكن إلا أن تترك المتمعن فيها مستاء من الرجوع إلى نظام ازدواجية الإذن بالتنفيذ بعد أن وقع التخلي عنه في اتفاقية نيويورك سنة 1958 وتأكد ذلك في مجلة التحكيم لسنة 1993، هذه النصوص التي وإن لم تكرس فكا كاملا للارتباط بين بلدي المنشأ والتنفيذ فإنها ضمنت حدا أدنى من الفعالية لأحكام التحكيم الدولية، بالإقرار بإلزاميتها، التي تستمدها منذ صدورها ولا تنزع عنها إلا استثنائيا خاصة عند إبطالها أو إيقاف تنفيذها.

   ولكن رجل القانون لا يمكن أن يقف موقف الباكي على الأطلال، أطلال فعالية أحكام التحكيم الدولي، وإنما يجب أن يحاول من خلال التأويل أن يقترح ما من شأنه أن يسمح بالحد من هذا التضارب بين النصوص ويمكن أن يجد في الفصل 541 من مجلة الالتزامات والعقود الذي ينص أنه "إذا أحوجت الضرورة لتأويل القانون جاز التيسير في شدته ولا يكون التأويل داعياً لزيادة التضييق أبدا" طريقاً وسبيلاً إلى تحقيق ذلك.

 

ب - محاولة تجاوز التضارب بين منطق اتفاقيات التعاون القضائي ومجلة التحكيم:

   إن مجلة التحكيم تتبنى كما سبق أن رأينا نظرية كلاسيكية، وإقليمية في خصوص ارتباط القاضي التونسي كقاضي تنفيذ بالإبطال الواقع في بلد المنشأ. ولكننا رأينا أن المجلة رغم عدم اتساق أحكامها لا تفرض نظام ازدواجية الإذن بالتنفيذ، هذا النظام الذي تفرضه عديد الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الجمهورية التونسية. ومن ثم فإن هناك تضارباً بين مصدرين أساسيين للقانون التونسي للتحكيم يتجه إيجاد حل له.

   أما الحل الكلاسيكي والعادي لتجاوز هذا التضارب فإنه يتمثل في تطبيق الفصل 32 من الدستور بصفة حرفية ومن ثم تغليب ما ورد بالاتفاقيات الدولية للتعاون القضائي سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف على أساس علوية الاتفاقيات على القوانين كما وردت بالفصل 32 فقرة 3 من الدستور. وإن هذا التمشي المغلب للاتفاقيات الدولية على أساس العلوية الشكلية هو السائد في فقه القضاء التونسي.

   والمسألة لم تطرح حسب علمنا، فيما يخص تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية، التي تكون شروط قبولها في مجلة التحكيم أقل شدة من تلك الموجودة بالاتفاقيات، وإنما طرحت وفي عديد الأحيان فيما يخص الإذن بتنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية أمام القاضي التونسي، وإن نفس الإشكال المطروح في خصوص تضارب مجلة التحكيم مع الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف قد طرح بعد تبني المشرع التونسي لمجلة القانون الدولي الخاص بالقانون عدد 37 لسنة 1998 المؤرخ في 27 نوفمبر 1998، والذي يعتبر مثالاً للتحررية في قبول وتنفيذ الأحكام الأجنبية، مما أدى في عديد الأحيان إلى تضارب بينه وبين اتفاقيات دولية أشده. وللأسف فإن فقه القضاء التونسي، وفي عديد القرارات، دأب دوماً على تغليب الاتفاقيات الدولية الأشد مع قبول الأحكام الأجنبية مغلبة العلوية الشكلية للاتفاقيات الدولية طبقاً للفصل 32 من الدستور، وإن هذا التمشي وإن بدا لنا محترماً شكلياً للاتفاقية الدولية وعلويتها في هذه الحالة، فإنه يبدو لنا غير آبه بروح الاتفاقيات الدولية، ولمراد واضعيها. فعندما يكون القانون أخف شروط لقبول الأحكام الأجنبية وفيما يخصنا الآن لقبول الأحكام التحكيمية الدولية، فإنه من باب الاحترام لعلوية الاتفاقية الدولية ترك الأولوية للقانون، وإن كان يبدو ذلك مثيرة للاستغراب، فإن هذا الاستغراب يغرب إذا ما عدنا إلى قواعد تأويل الاتفاقيات الدولية كما جاءت بها اتفاقية الاتفاقيات: اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات السنة 1969، وخاصة إلى المادة 31-1 التي تنص أنه "يجب أن يقع تأويل المعاهدة عن حسن نية حسب المعنى الاعتيادي الذي ينبغي إعطاؤه لمفردات المعاهدة حسب محتواها وعلى ضوء موضوعها وهدفها." وبما أن هدف الدول إذا أبرمت معاهدة تعاون قضائي، لا يمكن إلا أن يتجه إلى إعطاء نجاعة للأحكام (العدلية أو التحكيمية المنطوق بها على أراضي إحدى الدول المتعاقدة فوق أراضي الدول الأخرى تفوق ما يحققه القانون العام لهذه الدول، وإلا فإن هذه الاتفاقيات تصبح وسيلة لتشديد شروط تنفيذ الأحكام لا إلى تسهيلها، وهذا يكون من العبث، وتصرفات الدول يجب أن تؤول بكونها بمنأى عن العبث. ومن ثم فإذا تبين أن القواعد العامة في مجالنا هنا مجلة التحكيم) أيسر شروطأ، فإنه و احتراماً لروح الاتفاقية وتأويلاً لها على ضوء موضوعها وهدفها لا يمكن إلا تغليب النص الداخلي على الاتفاقية، وفي ذلك احترام لعلوية الاتفاقية، ولكن لعلويتها المادية لا الشكلية. وفي هذا الاتجاه نجد فقهاً منادياً بنظرية النجاعة القصوى للأحكام التحكيمية الدولية، ويعتبر أنه يجب تغليب النص الداخلي على الاتفاقية عندما تكون شروط قبول الأحكام التحكيمية الدولية فيه أسهل من تلك الموجودة في الاتفاقية. ونحن نأمل نو طرحت المسألة أمام فقه القضاء التونسي في خصوص قبول أحكام تحكمية دولية، أن يقع تغليب مجلة التحكيم التي تقبل تنفيذ الأحكام التحكيمية بمجرد إلزاميتها في بلد المنشأ، إلا إذا وقع إبطالها أو إيقاف تنفيذها، دون أن تفرض ازدواجية الإذن بالتنفيذ. ومن ثم نأمل أن يقع احترام روح القوانين، وبالذات روح اتفاقية نيويورك.

 

ج - محاولة تجاوز التضارب بين منطق اتفاقيات التعاون القضائي واتفاقية نيويورك:

   إن تضاربا بل تنافراً واضحاً بين اتفاقيات التعاون القضائي المبرمة من الجمهورية التونسية والتي كثيراً ما تفرض نظام ازدواجية الإذن بالتنفيذ وبين اتفاقية نيويورك لسنة 1958 التي تكتفي بالزامية الحكم التحكيمي في بلد المنشأ يجعل من العسير على القاضي إيجاد حل مرض إذا طلب تنفيذ حكم تحكيمي دولي منطوق به في دولة أجنبية طرف في نفس الوقت في اتفاقية تعاون قضائي مع تونس، وطرف في اتفاقية نيويورك لسنة 1958. ولتجاوز هذا الإشكال العويص يبدو لنا أن الحل الوحيد يكمن في الرجوع إلى النظرية الفقهية القائلة " بالنجاعة القصوى للأحكام"، ومن ثم تغليب الاتفاقية الأخف شروطاً والتي تسهل انتقال الأحكام من بلد إلى آخر. وفي هذا الإطار يقول الفقيه ماجوروس أن هذه النظرية تؤدي إلى تغليب آلي للاتفاقية التي تفرض صيغة أقل حدة " لنهائية" الأحكام المطلوب تنفيذها. ومن ثم فإنه من المتجه تغلیب اتفاقية نيويورك لسنة 1958 على غيرها من اتفاقيات التعاون القضائي التي أبرمتها تونس حين تفرض هذه الاتفاقيات نظام ازدواجية الإذن بالتنفيذ. 

   وإن هذا الموقف يتدعم بالرجوع إلى نص اتفاقية نيويورك ذاتها، التي تسمح في المادة 7 فقرة 11 بتطبيق اتفاقيات أخرى أو قوانين داخلية إذا كانت شروطها أقل حدة لقبول الأحكام التحكيمية، ولكنها وبتأويل عكسي، لا تقبل تغليب نص قانون أو اتفاق أشد مع الأحكام التحكيمية الدولية، وهي من ثم تمثل أرضية للتحررية يمكن تجاوزها. ولكن لا يمكن النزول دونها. وإن هذا الموقف لا يمكن إلا الدفاع عنه في القانون التونسي، وإن كنا نأسف للجهد الدبلوماسي الذي ذهب هدرا.

   خاتمة: يتسم القانون التونسي للتحكيم الدولي بعدم الاتساق المنطقي والتضارب بين الأحكام في خصوص مسألة تنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية الواقع إبطالها في بلد المنشأ.

   وإن عدم الاتساق المنطقي يتجلی من دراسة مجلة التحكيم التي تأثرت بعديد المصادر وتبنت في أحكامها مبادئ تبدو متنافرة، إذ هي من ناحية ترفض أن تنفذ الأحكام التحكيمية الدولية الواقع إيطالها في بلد المنشأ، مما يوحي أنها تتبنى النظرية الإقليمية التي تجعل التحكيم مركزا وموطنا في البلد الصادر فيه الحكم، وهي من ناحية أخرى ترفض التوطين القانوني للتحكيم في أحكام أخرى، منها أنها تسمح للأطراف عندما يجري التحكيم بالبلاد التونسية بالاتفاق على عدم الطعن في هذه الأحكام. أما تضارب الأحكام فيظهر من خلال دراسة اتفاقيات التعاون القضائي التي أبرمتها تونس سواء المتعددة الأطراف أو الثنائية، إذ ترجعنا عديد الاتفاقات إلى منطق رجعي تجاوزته اتفاقية نيويورك التي صادقت عليها تونس منذ ما يزيد على أربعين سنة كما ترفضه مجلة التحكيم، رغم أن هذين النصين لم يفكا تماما الارتباط بين بلد المنشأ وبلد التنفيذ.

   وإنه لا يمكن بعد خمسة عشر سنة من صدور مجلة "التحكيم" أن نبقى في مثل هذه الضبابية القانونية، التي اقترحنا بعض الحلول للحد من مساوئها، أما خير الحلول فنراه يتمثل في تدخل تشريعي تنقيحي تصحيحي، بموجبه يقع نسخ الفقرة ه من الفصل 81 أولا التي تسمح برفض الاعتراف بأحكام التحكيم الدولية أو برفض الإذن بتنفيذها إذا أثبت الطرف المطلوب تنفيذ الحكم ضده " أن حكم التحكيم قد أبطلته أو أوقفت تنفيذه إحدى محاكم البلد الصادر فيه ذلك الحكم، أو أنه وقع إيطاله أو إيقاف تنفيذه بموجب قانون ذلك البلد". وإن هذا النسخ، هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن ترجع لمجلة التحكيم منطقا ومنهجا واضحا: منهج ومنطق استقلالية التحكيم التجاري الدولي، هذا المنطق والمنهج الذي يتجلی من بقية أحكامها.