كان المشرع قد استحدث هذا الشرط في قانون المرافعات الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968 .
وإيراد هذا الشرط في غاية الخطورة، إذ أنه يترتب عليه رفض تنفيذ معظم - إن لم يكن كل - أحكام التحكيم الأجنبية في مصر. إذ أن حكم التحكيم الأجنبي المراد تنفيذه في مصر لا بد وأن يكون قد صدر في نزاع يرتبط بمصر برابطة ما. وقد أدخل المشرع في اختصاص المحاكم المصرية، أي نزاع تربطه بمصر أدني رابطة. فمصر تختص بالنزاع ليس فقط إذا كان المدعى عليه مصري أو أجنبي متوطن أو مقيم في مصر، وإنما أيضا إذا كان أحد المدعى عليهم . ( في حالة تعددهم) موطن أو محل إقامة في مصر (المادة 30 من قانون المرافعات) .
وتختص مصر بالنزاع إذا تعلق بمال موجود في مصر، أو بالتزام نشأ أو نفذ أو كان واجبة تنفيذه، فيها أو بإفلاس أشهر فيها .
وكذلك تختص بكل طلب عارض على الدعوى الأصلية التي تختص بها، وكذلك بكل طلب يرتبط بهذه الدعوى، وبكل مسألة أولية فيها .
هذا بالإضافة إلى حالات اختصاص أخرى عديدة غير ذلك ويترتب على ذلك في مجال التحكيم، أنه سيرفض، على سبيل المثال، تنفيذ كل حكم تحكيم صدر في نزاع يتعلق بمال موجود في مصر سواء أكان هذا المال عقاراً أم منقولا، وكذلك كل حكم في نزاع يتعلق بعقد أبرم أو نفذ أو كان واجبا تنفيذه في مصر.. الخ .
وبإيراد هذا الشرط يكون المشرع قد تصدى للإجابة على التساؤل التالي : هل تملك إرادة الأفراد أن تسلب اختصاص المحاكم المصرية لصالح تحكيم أجنبي ؟ وبالرغم من أن المشرع قبل صدور قانون التحكيم كان قد أجاب بالنفي على هذا التساؤل.
الحالة الأولى : وهي التي يكون فيها اختصاص محاكم الجمهورية اختصاصا مانعا أو قاصرا عليها " مثل ذلك الحالة التي يتعلق فيها النزاع بعقار موجود بمصر ويتعين حينئذ عدم الاعتراف باختصاص محاكم أي دولة أخرى ينظر نفس النزاع وبالتالي عدم السماح بتنفيذ الحكم الأجنبي الصادر في هذا النزاع .
والحالة الثانية : هي الحالة التي يكون فيها الاختصاص الدولى ا لمحاكم الجمهورية مزدوجا أو مشتركا، إذ يكون ثابتا لمحاكم الجمهورية ويكون في نفس الوقت ثابتاً لمحاكم دولة أجنبية.
ويرى البعض أن المشرع المصري " حينما حدد الاختصاص الدولى للمحاكم المصرية، لم يقصد أن يكون الاختصاص في كل الدعاوی المشار إليها للمحاكم المصرية وحدها... وعلى هذا فإذا صدر حكم التحكيم الأجنبي في مسألة كان الاختصاص بها مشتركا للمحاكم المصرية ومحاكم دولة أجنبية فإن المحكمة تأمر بتنفيذ الحكم ". هذا ويفرق الفقه والقضاء في فرنسا (2) ، أيضا ، بين نوعين من المنازعات نوع يقتصر الاختصاص به على المحاكم الفرنسية.
وبالتالي توجد حالات يمكن أن تنفذ فيها أحكام أجنبية بالرغم من اختصاص المحاكم الفرنسية .
ويمكن لاتفاق التحكيم أن يسلب الاختصاص من القضاء الفرنسي متى كان هذا الاختصاص مشتركا مع غيره من الدول .
وينتقد بعض الفقه في مصر التفرقة بين اختصاص مقصور على محاكم الدولة واختصاصا مشتركا باعتبار هذه التفرقات والاصطلاحات توجد اللبس وتوقع في التخليط ".
ويرى أن " التقيد بقاعدة عدم جواز الخروج على اختصاص المحاكم المصرية على إطلاقها مجاله تعيين المحكمة المختصة لرفع الدعوى ولا بأس من التحلل منها قليلاً، ونحن في صدد تعيين الاختصاص للأمر بتنفيذ حكم أجنبي ".
وكذلك تعلق النزاع بمسألة من مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للمصريين. ويجوز للقاضي أن يأمر بتنفيذ الأحكام الأجنبية ولو اختصت المحاكم المصرية بالنزاع متى كان متعلقا بعقد أبرم أو نفذ أو كان مشروطا تنفيذه في مصر وكان العقد لا يتعلق
التفرقة بين الاختصاص المقصور على الدولة والاختصاص المشترك، ويرى الأخذ بدلا من هذه الفكرة بفكرة قوة النفاذ، بمعنى أن يمتنع القاضي عن تنفيذ الحكم الأجنبي متى كان قد صدر في نزاع تختص به المحاكم المصرية بناء على ارتباط النزاع ارتباطا وثيقا، أي بناء على ما يطلق عليه " قوة النفاذ ".
وللقاضي المصري أن يأمر بتنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة في مثل هذه الحالات ".
كل هذه المجهودات الفقهية الرائعة، تنبع من الرغبة في استبعاد شرط عدم اختصاص المحاكم المصرية بالمنازعات ولتنفيذ الأحكام الأجنبية الصادرة فيها سواء أكانت أحكاما قضائية أم أحكام تحكيم .
كما أن هذه المعايير المقترحة تقدم للقضاء الأسانيد التي يمكن أن يبرر بها إهدار شرط عدم اختصاص المحاكم المصرية .
فماذا كان عليه حال القضاء ؟
عرضت على محكمة النقض قضية تتعلق بالطعن في حكم استئناف القاهرة بتأييد أمر المحكمة الابتدائية بتنفيذ حكم صادر من محكمة أردنية.
وكان قد صدر من محكمة بداية القدس الأردنية في 5 يوليو 1953 حكما في نزاع بين فلسطنيين وأحد البنوك العربية بشأن تعهد بفتح اعتماد بحساب جار في يافا في أول ابريل سنة 1946 وعندما تأخر المدينين في الوفاء لجأ البنك لمحكمة بداية القدس الأردنية التي أصدرت حكمها في صالحه وقد أمرت محكمة القاهرة الابتدائية في ۲۹ فبراير سنة 1958 بتنفيذ هذا الحكم .
ولما اتضح لمحكمة النقض اختصاص محكمة بداية القدس دوليا وداخيا بالفصل في النزاع . " فلا يغير من ذلك - على حد تعبير المحكمة ما يدعيه الطاعنون من أنهم كانوا يقيمون في مصر وقت رفع الدعوى، إذ بفرض صحة هذا القول فإنه لا يؤدى إلى النتيجة التى يرتبونها من نفى الاختصاص عن محكمة بداية القدس واعتبارها غير ذات صلاحية لإصدار الحكم المطلوب تذييله بالصيغة التنفيذية .
ويتعين مراعاة أن هذا الحكم كان قد صدر قبل العمل بقانون المرافعات الحالي . إذ أن القانون السابق ( القانون رقم 77 لسنة 1949) كان يتطلب لتنفيذ الحكم الأجنبي صدوره من هيئة قضائية مختصة، ولم يكن ينص على اشتراط عدم اختصاص المحاكم المصرية. ومع ذلك فقد كان بعض الفقه في مصر يرى تفسير هذا النص
على أنه يشترط عدم اختصاص المحاكم المصرية، لتنفيذ الحكم الأجنبي في مصر .
ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن محكمة النقض لا تشترط لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية عدم اختصاص المحاكم المصرية، طالما أنها لم تعترض على إحالة نزاع إلى التحكيم بالاستناد إلى اختصاص المحاكم المصرية به. -
ونحن نرى عدم تطبيق شرط عدم اختصاص المحاكم المصرية بالنزاع الذي صدر فيه حكم التحكيم الأجنبي المطلوب تنفيذه في مصر. لأن المشرع بإجازته التجاء الأطراف إلى التحكيم لحل منازعاتهم بدلا من القضاء، يكون قد قيد اختصاص المحاكم المصرية في الحالات التي أجاز حلها بالتحكيم، ومكن الأطراف من نزع الاختصاص من القضاء المصري الصالح التحكيم فتزول ولاية القضاء المصري بنظر أي نزاع اتفق أطرافه علی حله بالتحكيم، طالما أن موضوع هذا النزاع يقبل الحل بالتحكيم.