التنفيذ / طبيعة طلب التنفيذ والأمر الصادر فيه / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 5 / تنفيذ أحكام التحكيم الدولية طبقا للقانون الجزائري الجديد
تفرق أغلب التشريعات الحديثة – ومنها التشريع الجزائري والفرنسي والمصري- بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي ويختص التحكيم الدولي بأحكام متميزة مختلفة عن التحكيم الداخلي من عدة نواح ومن بينها التزام أغلب دول العالم حالياً باتفاقية نيويورك المبرمة عام 1958 الخاصة بتنفيذ أحكام المحكمين الدولية، فضلاً عما تتطلبه مقتضيات التعاون الواجب بين مختلف الدول في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية. وقد خصص قانون الاجراءات الجزائري الجديد الفصل السادس من المواد الخاصة بالتحكيم للأحكام الخاصة بالتحكيم الدولي (المواد من 1039 الى 1061 ).
وتعرف المادة 1039 من هذا القانون التحكيم الدولي بنصها على أنه يعد التحكيم دولياً بمفهوم هذا القانون التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل .
وترد لنا على هذا التعريف ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: هي أنه فيما يخص الطابع الدولي للتحكيم فان حرفية التعريف تقصره على المصالح الاقتصادية للدول أو لدولتين على الأقل، بحيث لا تدخل تحته المصالح الاقتصادية لأشخاص القانون الخاص كالشركات ذات الجنسيات المختلفة أو الأفراد التابعين لدول مختلفة، بل حتى أشخاص القانون العام غير الدول. واذا كان من المصلحة ازالة هذا اللبس بطريق التعديل أو التفسير التشريعي فاننا لا نعتقد بوجوب التقيد بحرفية النص القائم ونرى أن ورود النص على المصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل" لا يستبعد من نطاقه مصالح أشخاص القانون الخاص، بل ينظر الى حقيقة أن مصالح أشخاص القانون الخاص تعتبر أيضاً مصالح ندولهم التي يتمتعون بجنسيتها.
ويعرف قانون الاجراءات المدنية الفرنسي الجديد التحكيم الدولي في المادة 1492 منه بأنه التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية.
"L'arbitrage qui met en cause des intérêts du commerce international"
وهو تعريف أوضح وأفضل من التعريف الجزائري وان كنا لا نرى أن المشرع الجزائري يستهدف بتعريف المادة 1039 مفهوماً آخر يختلف عن مفهوم النص الفرنسي.
أما قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، فإنه يعرف التحكيم الدولي بالتفصيل في المادة 3 منه بأنه التحكيم الذي يكون موضوعه نزاعاً يتعلق بالتجارة الدولية وذلك في الأحوال الآتية:
1- اذا كان المركز الرئيسي لأعمال كل من طرفي التحكيم يقع في دولتين مختلفتين وقت ابرام التحكيم، وفي حالة تعدد مراكز الأعمال تكون العبرة بالمركز الأكثر ارتباطاً بموضوع اتفاق التحكيم.
2- اذا اتفق طرفا التحكيم على اللجوء الى منظمة تحكيم دائمة أو مركز للتحكيم يوجد مقره أو خارجها. وفي رأينا وجوب الغاء هذا النص لأنه ينصرف إلى الشكل دون النظر مصر داخل إلى طبيعة موضوع النزاع.
3- اذا كان موضوع النزاع الذي يشمله اتفاق التحكيم يرتبط بأكثر من دولة واحدة. 4- اذا كان المركز الرئيسي لأعمال كل من طرفي التحكيم يقع في الدولة نفسها وقت ابرام اتفاق التحكيم وكان أحد الاماكن التالية واقعاً خارج هذه الدولة:
أ- مكان اجراء التحكيم كما عينه اتفاق التحكيم أو أشار الى كيفية تعيينه. ونرى الغاء هذا النص أيضاً لأنه لا ينبني على طبيعة موضوع النزاع.
ب- مكان تنفيذ جانب جوهري من الالتزامات الناشئة عن العلاقات التجارية بين الطرفين.
ج- المكان الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع.
أما الملاحظة الثانية: فهي أن القانون الجزائري الجديد لم يضع تعريفاً محدداً للتحكيم التجاري – رغم أنه خصص الفصل السادس من باب التحكيم للأحكام الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي – بل اكتفى في نص المادة 1039 منه (والذي يعرف التحكيم الدولي فقط) بالاشارة الى المصالح الاقتصادية"، ومن ثم يثور التساؤل عما اذا كانت كل المصالح الاقتصادية تدخل تحت تعريف التحكيم التجاري ولو لم تكن تلك المصالح من طبيعة تجارية بالمعنى الوارد في قانون التجارة. وقد نميل الى هذا التفسير الواسع الذي يتجاوز مفهوم التجارة الدولية commerce "international الوارد في المادة 1492 من القانون الفرنسي، رغم أن نص المادة 1039 يعرف التحكيم الدولي ويقف عند هذا الحد.
أما قانون التحكيم المصري، فان المادة 2 منه تقضي بأن يكون التحكيم تجارياً اذا نشأ النزاع حول علاقة قانونية ذات طابع اقتصادي عقدية كانت أو غير عقدية. ويشمل ذلك على سبيل المثال توريد السلع أو الخدمات والوكالات التجارية وعقود التشييد والخبرة الهندسية أو الفنية ومنح التراخيص الصناعية والسياحية وغيرها ونقل التكنولوجيا والاستثمار وعقود التنمية وعمليات البنوك والتأمين والنقل وعمليات تنقيب واستخراج الثروات الطبيعية وتوريد الطاقة ومد أنابيب الغاز أو النفط وشق الطرق والانفاق واستصلاح الأراضي الزراعية وحماية البيئة واقامة المفاعلات النووية".
وفيما عدا النص على أن التحكيم يمكن أن يكون موضوعه علاقات غير عقدية أيضاً، فلا نرى أن ما أورده القانون المصري من تفصيل حول موضوع العلاقات القانونية ذات الطابع الاقتصادي قد أضاف جديداً الى تعبير المصالح الاقتصادية" الوارد في المادة 1039 من القانون الجزائري الجديد.
وقد ننصح باستبعاد الاشارة الى التحكيم التجاري كلية والاقتصار في النص على تنظيم التحكيم الدولي، لأن اشتراط تجارية التحكيم أو تجارية المنازعة موضوع التحكيم دون تعريف هذه المصطلحات على وجه الدقة هو تعقيد لا مبرر له ولا جدوى منه ويفتح الباب أمام خلافات دون طائل، ولا سيما أن التحكيم الدولي يقتصر بطبيعته على العلاقات الاقتصادية.
ثانياً- تنفيذ أحكام التحكيم الدولية الصادرة في الجزائر وشروطه
متى توافرت للتحكيم مقومات التحكيم الدولي (التجاري) طبقاً لأحكام القانون الجديد والتي سبق بيانها، فقد يكون مكان التحكيم في الجزائر أو خارجها: فاذا صدر حكم في تحكيم دولي مقره الجزائر كان الحكم حكماً جزائرياً وترتبت على ذلك نتائج معينة سيأتي بيانها. أما حكم التحكيم الذي يصدر في تحكيم دولي يكون مقره خارج الجزائر، فانه يكون حكماً أجنبياً وتترتب على ذلك نتائج مختلفة عن تلك التي يخضع لها حكم التحكيم الصادر في الجزائر.
وأهم أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر هو ما يلي:
أ- تنفيذ التحكيم الدولي الصادر في الجزائر: يجوز لمن صدر حكم التحكيم الدولي لمصلحته في الجزائر أن يطلب تنفيذ هذا الحكم في الجزائر وذلك باستصدار أمر من المحكمة الجزائرية التي صدر حكم التحكيم في دائرة اختصاصها. واذا رفض القاضي المختص اصدار الأمر بتنفيذ الحكم جاز لطالب التنفيذ استئناف أمر الرفض خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ الرفض أمام المجلس القضائي (المواد( 1054 و 1035 و 1055) من القانون الجديد. ولا يقبل الأمر الذي يقضي بتنفيذ الحكم أي طعن (المادة 1058).
ب- عدم جواز الطعن بالاستئناف في حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر: يجيز القانون الجديد كقاعدة عامة الطعن في أحكام التحكيم الصادرة في الجزائر بطريق الاستئناف في أجل شهر واحد من تاريخ النطق بها أمام المجلس القضائي الذي صدر حكم التحكيم في دائرة اختصاصه وذلك ما لم يتنازل الأطراف عن حق الاستئناف في اتفاقية التحكيم (المادة 1033) من القانون الجديد. وتكون القرارات الفاصلة في الاستئناف وحدها قابلة للطعن بالنقض طبقاً للأحكام المنصوص عليها في هذا القانون (المادة 1034). وفي رأينا أن التنازل عن حق استئناف حكم التحكيم وارد ويقع صحيحاً في أي وقت ولو بعد توقيع اتفاق التحكيم. غير أن حق الاستئناف هذا لا ينطبق على أحكام التحكيم الدولية الصادرة في الجزائر. وذلك بصريح نص المادة 1054 التي لا تشير الى المادة 1033 ضمن نصوص القانون الجديد التي تطبق على التحكيم الدولي بل يقتصر نصها على المواد من 1035 الى 1038 وكذلك بصريح نص المادة 1058 التي تقصر الطعن في أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر على الطعن بالبطلان.
ولما كان استئناف حكم التحكيم يتضمن حتماً اعادة طرح الخصومة التي فصل فيها ذلك الحكم بكافة جوانبها ويفتح باب الغاء حكم التحكيم لأي مخالفة في فهم أو تفسير القانون المطبق على موضوع النزاع، فقد جاء استبعاد استئناف أحكام التحكيم الدولية الصادرة في الجزائر حكماً صحيحاً وصائباً، لأن استئناف حكم التحكيم بوجه عام واعادة طرح النزاع الذي تم الفصل فيه عن طريق التحكيم على محكمة استئنافية يذهب بفائدة التحكيم حتى اذا كان تحكيماً داخلياً، ومن ثم تأخذ أغلب تشريعات التحكيم باستبعاد استئناف أحكام التحكيم جميعاً. واذا كان هذا هو الوضع في التحكيم بوجه عام فهو أولى بالاتباع بصدد أحكام التحكيم الدولي حيث توجد مصالح طرف واحد أجنبي على الأقل لا شك في أن مقصده بتوقيع اتفاق التحكيم هو استبعاد عرض موضوع النزاع على محاكم دولة الطرف الآخر أو أي محكمة قضائية أخرى. ويتضح من ذلك أن القانون الجديد قد أصاب في استبعاد استئناف أحكام التحكيم الدولي الصادر في الجزائر وفي قصر الطعن فيها أمام المحاكم الجزائرية على الطعن بالبطلان كما سيرد بيانه.
ج- جواز الطعن بالبطلان في أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر أمام القضاء الجزائري: يجيز القانون الجديد لمن يصدر ضده حكم تحكيم دولي في الجزائر أن يبادر فور صدور الحكم وقبل الشروع في تنفيذه بالطعن في الحكم بالبطلان طبقاً لأحكام المادتين 1058 أو 1059 من القانون الجديد :
المادة 1058: يمكن أن يكون حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر موضوع طعن بالبطلان في الحالات المنصوص عليها في المادة 1056 أعلاه.
ولا يقبل الأمر الذي يقضي بتنفيذ حكم التحكيم الدولي المشار اليه اعلاه أي طعن، غير أن الطعن ببطلان حكم التحكيم يرتب بقوة القانون الطعن في أمر التنفيذ أو تخلي المحكمة عن الفصل في طلب التنفيذ اذا لم يتم الفصل فيه ."
المادة 1059: يرفع الطعن بالبطلان في حكم التحكيم المنصوص عليه في المادة 1058 أعلاه أمام المجلس القضائي الذي صدر حكم التحكيم في دائرة اختصاصه. ويقبل الطعن ابتداءً من تاريخ النطق بحكم التحكيم.
ولا يقبل هذا الطعن بعد أجل شهـر واحد من تاريخ التبليغ الرسمي للأمر القاضي بالتنفيذ ".
وتقرر هذه النصوص ما تجرى عليه جميع التشريعات تقريباً - نظراً إلى عدم جواز استئناف أحكام التحكيم الدولي - من تقرير الحق لمن يصدر ضده حكم التحكيم في طلب ابطال ذلك الحكم لأسباب محددة وواردة على سبيل الحصر في المادة 1056. وهذه ضمانة أساسية، بل هي الضمانة الوحيدة المتاحة لمن يصدر ضده الحكم.
ولعل أهم المسائل التي يجب أن نشير اليها ولو بايجاز في هذا المقام هي المسائل الآتية:
1- عدم جواز التنازل المسبق عن دعوي البطلان:
لا ينص القانون الجديد - خلافاً لأغلب التشريعات (وعلى سبيل المثال المادة 1/54 من قانون التحكيم المصري) على عدم جواز التنازل مقدماً وقبل صدور حكم التحكيم – عن الحق في الطعن فيه بالبطلان، لما في هذا التنازل من اسقاط مسبق للضمانة الوحيدة للطرف الذي يصدر ضده حكم التحكيم.
ونرى أن يضاف النص إلى ذلك لأهميته، وان كنا نرى بطلان هذا التنازل حتى في غياب النص على ذلك.
2- أسباب البطلان:
لا يجوز الطعن في حكم التحكيم بالبطلان الا لأحد الأسباب الواردة على سبيل القصر والحصر، في المادة 1056 من القانون الجديد، وهي حالات: 1- عدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلانه أو انقضاء المدة المحددة فيه. 2- اذا كان تشكيل هيئة التحكيم (محكمة التحكيم) أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون 3- خروج المحكمين عن حدود المهمة المسندة اليهم. 4- عدم مراعاة مبدأ الوجاهية 5- عدم تسبيب حكم التحكيم أو وجود تناقض في أسبابه 6- مخالفة حكم التحكيم للنظام العام الدولي.
وهذه الأسباب هي ذات الأسباب التي تجيز لقاضي التنفيذ الجزائري رفض الاعتراف بحكم التحكيم المراد تنفيذه في الجزائر ورفض ذلك التنفيذ، ولنا عودة الى تفصيل البحث في هذه الأسباب.
ولما كان الطعن ببطلان حكم التحكيم الصادر في الجزائر مقصوراً على هذه الأسباب وحدها – وهي لا تعيد طرح النزاع في الموضوع ولا تراقب سلامة تطبيق أحكام القانون واجب التطبيق- فان هذا الحكم يميز بوضوح تام بين الطعن ببطلان حكم التحكيم واستئنافه، لأن رقابة قاضي البطلان المحددة على هذا النحو تقترب في طبيعتها من رقابة محكمة النقض على سلامة الأحكام المطعون فيها بالنقض، بل هي أضيق منها، لأنها لا تمتد الى سلامة تطبيق القانون فيما عدا مخالفة الحكم المطعون فيه بالبطلان لقواعد النظام العام الدولي.
ونلاحظ أيضاً على أسباب البطلان كما حددها القانون الجديد أن واضعي القانون الجديد لم يشاؤوا التوسع في أسباب البطلان، بل اكتفوا بأهم أسباب رفض الاعتراف بالحكم وتنفيذه كما وردت في اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، رغم أن تلك المعاهدة- وان حددت أسباب عدم الاعتراف بالحكم ورفض تنفيذه – لم تتطرق بشيء الى أسباب بطلان أحكام التحكيم في كل دولة منضمة الى المعاهدة. وهكذا ظل كل مشرع وطني طليق اليد في تحديد أسباب بطلان أحكام التحكيم الدولي الصادرة في اقليم دولته، وحراً في اضافة أسباب جديدة الى البطلان لا تنص عليها المعاهدة، ولكنها تعبر عن المستوى الذي يحق لأي مشرع الالزام به كحد أدنى لحسن أداء العدالة في دولته. وعلى سبيل المثال، فقد أضاف المشرع المصري في القانون المصري للتحكيم (مادة 1/53) أسباباً جديدة لبطلان أحكام التحكيم الصادرة في مصر كعدم تطبيق المحكمين للقانون المتفق على تطبيقه من الطرفين، وكوقوع بطلان في الحكم أو بطلان اجراءات التحكيم بطلاناً أثر في الحكم. وما زال الباب مفتوحاً أمام المشرع الجزائري لو شاء ذلك لاضافة أسباب جديدة للبطلان تضاف الى ما ورد في نص المادة 1056 من القانون الجديد إذ لا تقيده معاهدة نيويورك بشيء في مجال تحديد أسباب بطلان أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر.
3- مدة الطعن بالبطلان:
أجاز القانون الجديد الطعن ببطلان حكم التحكيم ابتداء من تاريخ النطق بالحكم المطعون فيه بشرط الا تتجاوز المدة شهراً واحداً من تاريخ التبليغ الرسمي للأمر القاضي بالتنفيذ (المادة 1059). ولنا على هذه الأحكام ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: هي أن تحديد المدة بشهر واحد من تاريخ اعلان المحكوم ضده رسمياً بأمر القاضي بتنفيذ الحكم (أنظر أيضاً المادة 1505 مرافعات فرنسي) هو تحديد مقبول نظراً الى مضي مدة كافية بين صدور حكم التحكيم وصدور أمر القاضي بتنفيذه. أما التشريعات التي تقضي ببدء مدة الطعن بالبطلان من تاريخ الاعلان بحكم التحكيم كالقانون المصري، فأن المدة المتاحة للطعن تكون أكبر وتبلغ في القانون المصري 90 يوماً من تاريخ الاعلان بالحكم وهذا أيضاً منطقى ومعقول.
والملاحظة الثانية: هي أنه لما كانت المادة 1058 تنص على أن الأمر الذي يقضي بتنفيذ حكم التحكيم الدولي المشار إليه أعلاه (وهو حكم التحكيم الدولي الصادر في الجزائر) لا يقبل أي طعن، فانه يتضح من هذا النص أن الطريق الوحيد المتاح أمام المحكوم ضده هو طريق رفع دعوى بطلان حكم التحكيم اما فوراً بمجرد صدور هذا الحكم واما خلال شهر من صدور أمر القاضي الجزائري بتنفيذه (المادة 1059).
4- الأثر الموقف suspensif للطعن بالبطلان :
وسواء اختار المحكوم ضده طريق الطعن بالبطلان أو اختار المحكوم له طريق استئناف أمر القاضي برفض التنفيذ، فان الطعن في الحالتين يوقف تنفيذ حكم التحكيم، اذ تنص المادة 1060 على أنه "يوقف تقديم الطعون وأجل ممارستها المنصوص عليها في المواد 1055 و1056 و 1058 تنفيذ أحكام التحكيم" وهو ما يأخذ به القانون الفرنسي أيضاً (مادة 1506 مرافعات فرنسي).
ويأخذ القانون المصري بعكس ذلك اذ تنص المادة 57 من قانون التحكيم المصري على أنه "لا يترتب على رفع دعوى البطلان وقف تنفيذ حكم التحكيم، ومع ذلك يجوز للمحكمة أن تأمر بوقف التنفيذ اذا طلب المدعي ذلك في صحيفة الدعوى وكان الطلب مبنياً على أسباب جدية.
وعلى المحكمة الفصل في طلب وقف التنفيذ خلال ستين يوماً من تاريخ أول جلسة محددة لنظره. واذا أمرت بوقف التنفيذ جاز لها أن تأمر بتقديم كفالة أو ضمان مالي. وعليها إذا أمرت بوقف التنفيذ الفصل في دعوى البطلان خلال ستة أشهر من تاريخ صدور هذا الأمر". وفي رأينا - رغم عدم النص على ذلك – أن من حق القاضي كذلك طبقاً لمقتضيات الاحوال أن يأمر بتقديم كفالة أو ضمان مالي في حالة رفضه طلب وقف تنفيذ حكم التحكيم المطعون فيه وذلك حماية لطالب البطلان من ضياع حقه بعد تنفيذ حكم التحكيم فيما لو قضت المحكمة في نهاية الأمر ببطلان ذلك الحكم.
وفي مجال المقارنة بين حكم القانون الجديد هو وقف تنفيذ حكم التحكيم بمجرد رفع دعوى البطلان – وحكم القانون المصري الذي يجعل الأصل هو انعدام الأثر الذي يوقف الطعن، نرى أن الأمر يتوقف على مدى سرعة قضاء الدولة في الفصل في دعوى البطلان، فلا بأس من الأخذ بالأثر الموقف للطعن اذا كانت مدة الفصل فيه بحكم نهائي مدة معقولة. ولعل من أهم أسباب استبعاد المشرع المصري للأثر الموقف للطعن هو طول مدة الفصل في الدعاوى القضائية في مصر حيث يقترب متوسط مدة الفصل في دعوى البطلان من العامين. ولا بأس في نظرنا من استبعاد الأثر الموقف للطعن بشرط أن يكون من حق القاضي أن يأمر بتقديم كفالة أو ضمان مالي سواء قبل طلب الأمر بوقف تنفيذ حكم التحكيم أم قضى برفضه.
5- الحجية الدولية للحكم بابطال حكم التحكيم الدولي:
اذا حكم قضاء دولة مكان التحكيم ببطلان حكم التحكيم، كانت لهذا البطلان حجية دولية عامة فلا يجوز تنفيذ ذلك الحكم في دولة أخرى موقعة على اتفاقية نيويورك، كما أن قيام دعوى لابطال الحكم في بلد صدوره يوقف أية مطالبة في دول أخرى بتنفيذ ذلك الحكم الى أن يفصل في دعوى البطلان بحكم نهائي.
هذا هو حكم اتفاقية نيويورك. ولكن قضاء بعض الدول – وبوجه خاص فرنسا – يذهب الى غير ذلك ويجيز تنفيذ أحكام التحكيم التي يقضى ببطلانها في دولة صدورها، وذلك كما يقال تطبيقاً للقواعد القانونية العامة. وقد قضت بذلك محكمة النقض الفرنسية في عدد من أحكامها صدرت بتاريخ 84/10/9 حكم Norslor))وتاريخ 93/3/10 (حكم Polish Ocean Line) وتاريخ 94/3/23 (حكم Hilmarton) وتقوم هذه الأحكام على أساس أن معاهدة نيويورك تضع حداً أدنى من الحماية الدولية لأحكام التحكيم الدولي ومن ثم يجوز لقضاء الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها أن تتجاوز ذلك الحد الادنى الذي تقرره المعاهدة وذلك تطبيقاً للقواعد القانونية العامة. وقد سببت محكمة النقض الفرنسية قضاءها بأن حكم التحكيم الذي يقضى ببطلانه في دولة صدوره هو حكم دولي لا يندمج في النظام القانوني لتلك الدولة ولا يصبح جزءاً منه، ومن ثم يبقى ذلك الحكم الدولي قائماً وقابلاً للتنفيذ في فرنسا رغم الحكم ببطلانه طالما أنه لا يخالف النظام العام الدولي في فرنسا. ومقتضى هذا المنطق القانوني هو أن أحكام التحكيم الصادرة في تحكيم محلي تندمج في النظام القانوني لدولة مكان التحكيم وتعتبر جزءاً من ذلك النظام القانوني ومن ثم لا يجوز تنفيذها في دولة أخرى بعد أن تحكم ببطلانها محاكم دولة مكان التحكيم. ولكن الوضع يختلف تماماً فيما يخص أحكام التحكيم الدولية التي لا تربطها بدولة مكان التحكيم تلك الرابطة الوثيقة، ومن ثم يظل حكم التحكيم الدولي بعد الحكم ببطلانه قابلاً للتنفيذ في الدول الاخرى ما لم يتضمن ما يخالف النظام العام الدولي للدولة المطلوب تنفيذه فيها. ومن تطبيقات تنفيذ أحكام التحكيم الدولي في دول أخرى رغم الحكم ببطلانها في دولة صدورها أن حكم تحكيم دولياً صدر في القاهرة – ثم أبطلته المحاكم المصرية لأنه طبق القانون المدني على عقد اداري – قد اعتمدت المحاكم الأميركية تنفيذه على اعتبار أن ابطال ذلك الحكم لا يمنع من وجوده وصلاحيته للتنفيذ في الولايات المتحدة اذا لم يقم مانع من هذا التنفيذ طبقاً للقانون الأميركي.
وفي رأينا أن هذا القضاء يخالف أحكام معاهدة نيويورك دون سند كاف في نظرنا لتلك المخالفة. ولا شك في أن هذه الصعوبات ستعرض في المستقبل على القضاء الجزائري.
6- الطعن بالتماس اعادة النظر:
ورغم النص على أن الأمر بتنفيذ حكم التحكيم لا يقبل الطعن بأي طريق من طريق الطعن عدا الطعن بالبطلان، فقد ثار التساؤل عن مدى جواز الطعن في حكم التحكيم بطريق التماس اعادة النظر. وقد قضت المحكمة العليا السويسرية بجواز الطعن بهذا الطريق رغم عدم النص على جوازه لأن الأمر هنا يتعلق بالقواعد الأساسية لدولة القانون وهي لا تسمح باستبعاد هذا الطعن رغم عدم النص عليه بل ورغم استبعاده بالنص، ولا سيما أن هذا الطعن يهدف الى تصحيح الوضع في حالة تأسيس الحكم على مستندات ثبت تزويرها أو حالة ظهور وقائع جديدة تغير وجه الحكم في الدعوى. وعندنا أن هذا القضاء صحيح وصائب ويجب الأخذ بما قرره رغم عدم النص الصريح على جواز الطعن في أحكام التحكيم بهذا الطريق.
ثالثاً: تنفيذ أحكام التحكيم الدولية الصادرة خارج الجزائر
طبيعة دور القاضي الجزائري: اذا كان حكم التحكيم الدولي قد صدر خارج الجزائر ويراد تنفيذه في الجزائر، فان ذلك الحكم يكون حكماً أجنبياً لا وطنياً، ويكون دور القاضي الجزائري الذي يطلب منه اصدار أمر بتنفيذ الحكم هو دور قاضي التنفيذ ودور الرقيب على جواز الاعتراف بهذا الحكم وقابليته للتنفيذ، ولكن دون أن تمتد هذه الرقابة الى حد ابطال الحكم إذ لا يجوز ابطال الحكم الا من قبل محاكم الدولة التي صدر فيها.
فاذا انتهى القاضي الجزائري الذي يطلب منه الأمر بتنفيذ الحكم في الجزائر الى سلامة حكم التحكيم وعدم قيام موانع تحول دون تنفيذه، فانه يعترف بالحكم ويأمر بتنفيذه والا فإنه يرفض اصدار الأمر بتنفيذ ذلك الحكم اذا خلص الى قيام سبب أو أكثر من الأسباب الستة المنصوص عليها في المادة 1056 من القانون الجديد. وفي هذه الحالة يكون أمر القاضي برفض الاعتراف بالحكم أو برفض التنفيذ قابلاً للاستئناف خلال شهر واحد من تاريخ التبليغ الرسمي لأمر رئيس المحكمة (المادة 1057) بينما تكون المدة في غير التحكيم الدولي خمسة عشر يوماً من تاريخ الرفض (المادة 1035 الفقرة الثالثة) وهي مدة بالغة القصر.
أسباب رفض الاعتراف أو التنفيذ: حدد القانون الجديد في المادة 1056 منه بصيغة القصر أسباباً ستة يجوز فيها للقاضي الوطني رفض الاعتراف بحكم التحكيم الدولي الصادر في الخارج ورفض الأمر بتنفيذه. وهذه الأسباب هي كذلك ذات الأسباب التي تجيز استئناف الأمر القاضي بالاعتراف بحكم التحكيم الدولي الصادر في الخارج والأمر بتنفيذه، ونتناول فيما يلي هذه الأسباب بشيء من التفصيل:
السبب الأول: عدم وجود اتفاق تحكيم أو بطلان اتفاق التحكيم أو انقضاء مدة التحكيم: لما كانت سلطات المحكمين تنبعث من اتفاق التحكيم بين الطرفين، فان عدم وجود هذا الاتفاق أو بطلانه أو انقضاء المدة التي يوجب ذلك الاتفاق صدور حكم التحكيم قبل انتهائها يهدم حكم التحكيم ويوجب على القاضي رفض الاعتراف به أو الأمر بتنفيذه. وفيما يخص انقضاء المدة المحددة للتحكيم، فقد حدد القانون الجديد تلك المدة بأربعة شهور من تاريخ تعيين المحكمين أو من تاريخ أخطار محكمة التحكيم، ويجوز مد المدة باتفاق الطرفين أو بقرار من رئيس المحكمة المختصة (المادة 1018 و 1024). وفي رأينا أن هذه الأحكام لا تسري على التحكيم التجاري الدولي لعدم الاشارة اليها في باب التحكيم الدولي، ولكن تبقى في التحكيم الدولي سلطة المحكمة في مد المدة قائمة ومنطبقة.
ومن أوضح الأمثلة لهذا السبب الأول ما قضت به المحاكم الفرنسية من بطلان حكم التحكيم الصادر طبقاً لنظام غرفة التجارة الدولية في النزاع الخاص بمشروع هضبة الاهرام بين شركة القطاع العام المصرية والمستثمر الأجنبي، فقد صدر هذا الحكم ضد الحكومة المصرية باعتبارها طرفاً في اتفاق التحكيم بينما نجحت الحكومة المصرية في اثبات أنها ما وقعت ذلك العقد مع المستثمر الأجنبي الا باعتبارها مجرد سلطة رقابة أو وصاية على شركة القطاع العام المصرية. وليس باعتبارها طرفاً في اتفاق التحكيم، وبالتالي سقط حكم التحكيم الصادر ضد الحكومة لانعدام أساسه وقضى ببطلانه.
ويثور التساؤل هنا عن القانون الذي يجب أن يرجع اليه القاضي الجزائري للفصل في صحة أو بطلان شرط التحكيم. وتجيب عن هذا السؤال الأساسي المادة 1040 من القانون الجديد الواردة في باب التحكيم التجاري الدولي وهي تنص على ما يلي:
"يجب من حيث الشكل وتحت طائلة البطلان أن تبرم اتفاقية التحكيم كتابة أو بأية وسيلة اتصال أخرى تجيز الاثبات بالكتابة.
وتكون اتفاقية التحكيم صحيحة من حيث الموضوع اذا استجابت للشروط التي يضعها اما القانون الذي اتفق الطرفان على اختياره أو القانون المنظم لموضوع النزاع أو القانون الذي يراه المحكم ملائماً.
ولا يمكن الاحتجاج بعدم صحة اتفاقية التحكيم بسبب عدم صحة العقد الأصلي."
فمن ناحية الشكل، يتضح من هذا النص المكمل لنص المادة 1056/1 أن كتابة شرط التحكيم أو التوصل اليه بوسيلة اتصال أخرى تجيز الاثبات بالكتابة تعتبر شرطاً لصحته من ناحية الشكل، ومن ثم يتعين على القاضي الجزائري أن يرفض الاعتراف بحكم التحكيم أو الأمر بتنفيذه اذا لم يستوف اتفاق التحكيم هذا الشرط الشكلي الجوهري الذي يوجبه القانون الجديد تحت طائلة البطلان.
أما صحة شرط التحكيم من حيث الموضوع: فيرجع قاضي التنفيذ الجزائري في شأنها الى القانون واجب التطبيق على موضوع النزاع – سواء اتفق الطرفان صراحة أو ضمنا على اختيار ذلك القانون أو حدده المحكمون في حكمهم – أو القانون الذي ينتهي المحكمون الى اعتباره قانونا ملائماً، وهو ما يقرره المحكمون في حالة عدم اتفاق الطرفين صراحة أو ضمناً على تطبيق قانون معين على موضوع النزاع (أنظر المادة 1496 من قانون المرافعات الفرنسي والمادة 17/1 من نظام تحكيم غرفة التجارة الدولية والمادة 39/1 من قانون التحكيم المصري). ويتضح من هذا النص أن القانون الجديد يخضع اتفاق التحكيم للقانون واجب التطبيق على موضوع النزاع ولا يعتبره اتفاقاً اجرائياً وهذا نظر صحيح.
ويقوم التساؤل عن مغزى عدم اشارة النص الى القانون الجزائري وهو قانون مكان تنفيذ الحكم: فهل يجوز للقاضي الجزائري رفض الاعتراف بالحكم أو الأمر بتنفيذه اذا كان شرط التحكيم – رغم صحته طبقاً لأحد القوانين المشار اليها في المادة 1056/2 - باطلاً طبقاً للقانون الجزائري أو كان ينصب على نزاع لا يجوز التحكيم بشأنه طبقاً لهذا القانون litige inarbitrable؟ والجواب هو وجوب تطبيق القانون الجزائري وهو قانون القاضي وقانون مكان التنفيذ اذا كان حكمه متعلقاً بالنظام العام الدولي على ما سيأتي بيانه عند بحث الحالة السادسة المنصوص عليها في المادة 1056.
هذا وتنص معاهدة نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية (المادة 5/1/a) على أنه في حالة عدم اتفاق الأطراف على قانون معين يحكم صحة اتفاق التحكيم، يطبق حكم قانون الدولة التي صدر فيها حكم التحكيم المراد تنفيذه. وهذا الحكم أيضاً ملزم باعتباره جزءاً من القانون الجزائري الداخلي نظراً لانضمام الجزائر الى هذه المعاهدة.
ومن أهم حالات بطلان اتفاق التحكيم بطلانه لعدم أهلية أحد طرفيه طبقاً لقانون جنسيته وتظهر هذه الحالة بوجه خاص فيما تحرمه بعض التشريعات على أشخاص القانون العام من اللجوء الى التحكيم ومنها القانون الجزائري الجديد الذي يقضي في المادة 1006 منه بأنه لا يجوز للأشخاص المعنوية العامة أن تطلب التحكيم ما عدا في علاقاتها الاقتصادية الدولية أو في اطار الصفقات العمومية. ومن ثم يكون التحكيم من قبل تلك الأشخاص المعنوية صحيحاً اذا كان تحكيماً دولياً. وقد تقرر هذا المبدأ في فرنسا بمناسبة اتفاقيات مدينة ديزني بضواحي باريس. ويأخذ قانون التحكيم المصري بذات المبدأ (مادة 1/2).
السبب الثاني: مخالفة تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد للقانون: لما كان ما يبني على الباطل باطلاً، فأن حكم التحكيم الدولي الذي يصدر عن هيئة تحكيم أو عن محكم فرد لم تعين أو يعين على نحو صحيح يكون معيبا لفساد أساسه ومن ثم يتعين رفض الاعتراف به.
ويكون تشكيل هيئة التحكيم أو تعيين المحكم الوحيد مخالفاً للقانون إذا جاء مخالفاً لما ينص عليه اتفاق التحكيم لأن العقد قانون المتعاقدين، أو جاء مخالفاً لقواعد التحكيم المتفق عليها بين الطرفين كقواعد غرفة التجارة الدولية مثلاً، كما يكون التشكيل مخالفاً للقانون أيضاً اذا تم تعيين أحد المحكمين أو المحكم الفرد بالمخالفة لأحكام المادة 1041 من القانون الجديد التي توجب رفع الأمر الى رئيس المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها التحكيم إذا كان التحكيم الدولي يجري في الجزائر أو الى رئيس محكمة الجزائر اذا كان التحكيم يجري خارج الجزائر واختار الأطراف تطبيق قواعد الاجراءات المعمول بها في الجزائر. واذا لم تحدد الجهة القضائية المختصة في اتفاقية التحكيم، يؤول الاختصاص الى المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها مكان ابرام العقد أو مكان التنفيذ (المادة 1042) أي مكان تنفيذ العقد.
ولم يتضمن القانون الجديد نصوصاً خاصة تحدد كيفية تعيين المحكمين في حالة التحكيم متعدد الأطراف. ولما كانت محكمة النقض الفرنسية قد قضت ببطلان تشكيل أية هيئة تحكيمية اذا لم يكفل لكل طرف في التحكيم الموافقة على تعيين محكم مختار من قبله، فقد نصت قواعد تحكيم غرفة التجارة الدولية على أن تتولى محكمة التحكيم بالغرفة تعيين جميع المحكمين في هذه الحالة، وهو أكثر الأحكام ابتعاداً عن تطبيق مبدأ حرية كل طرف في اختيار محكم معين من قبله. واذا قامت مثل هذه المشكلة في ظل القانون الجزائري الجديد، فنرى أن تعيين المحكمين جميعهم يكون من حق المحكمة الجزائرية التي تنص عليها المادتان 1041و 1042 من القانون الجديد، اذ تعتبر هذه الحالة من حالات "صعوبة تعيين المحكمين" المنصوص عليها في المادة 1041 من و القانون الجديد.
السبب الثالث: حالة فصل هيئة التحكيم بما يخالف المهمة المسندة اليها: لما كانت ولاية المحكمين ومهمتهم مستمدة من اتفاق التحكيم وحده، فان على المحكمين أن يلتزموا حدود هذه الولاية بدقة، فاذا تجاوزوها صدر حكمهم معيباً بانعدام ولاية مصدريه وتعين رفض الاعتراف به وتنفيذه أيا كان مكان صدوره وأيا كان القانون المطبق على موضوع النزاع.
واذا دفع أمام هيئة التحكيم بعدم اختصاصها بالنظر في النزاع أو بعض مكوناته، فيجب اثارة هذا الدفع بعدم الاختصاص قبل أي دفاع في الموضوع الا اذا كان عدم الاختصاص متعلقاً بالنظام العام. وتفصل محكمة التحكيم في الاختصاص الخاص بها (المادة 1044) وهو ما يعرف بقاعدة الاختصاص بالاختصاص compétence de la compétence وتفصل هيئة التحكيم في اختصاصها بحكم أولي الا اذا كان الدفع بعدم الاختصاص مرتبطاً بموضوع النزاع (المادة 1045).
ويعتبر المحكمون قد خالفوا مهمتهم وتجاوزوا اختصاصهم اذا فصلوا في منازعات لا يشملها اتفاق التحكيم كما لو فصلوا مثلاً في أمور تتعلق بتنفيذ العقد رغم اقتصار مهمتهم على الفصل في صحة العقد أو بطلانه أو مجرد تفسير بعض نصوصه، ولهذا يفضل أن تكون صياغة اتفاقيات التحكيم عامة وشاملة لأي نزاع يتصل بالعقد موضوع التعامل.
وكذلك يتجاوز المحكمون حدود ولايتهم إذا طبقوا أحكام قانون آخر غير ذلك الذي اتفق الأطراف على تطبيقه (مادة 53/د من قانون التحكيم المصري). وقد قضت محكمة استئناف القاهرة ببطلان حكم تحكيم دولي صدر في القاهرة وطبق على العقد الاداري موضوع النزاع أحكام القانون المدني بينما كان يتعين تطبيق أحكام العقود الادارية باعتبارها النظام القانوني المتفق على تطبيقه على العقود الادارية.
ولما كان المحكمون ملزمين بتطبيق أحكام القانون واجب التطبيق على النزاع (المواد 1023 و1050 من القانون الجديد) فانهم يخرجون عن مهمتهم ويجوز اهدار حكمهم اذا بنوه على مقتضيات العدالة والانصاف دون أن يكونوا مفوضين بذلك من أطراف النزاع. ولما كان القانون الجديد لا يشير في أي من نصوصه الى جواز الاتفاق على تفويض المحكمين بالفصل طبقاً لقواعد العدالة والانصاف (ex aequo et bono, amiable compositeur)، فقد يقال أن القانون الجديد لا يجيز هذا النوع من التحكيم، وهو ما لا نراه نظراً الى حرية أطراف النزاع في تحديد نطاق ولاية المحكمين ولأن مثل هذا الاتفاق لا يخالف النظام العام في شيء. ونفضل أن تضاف في القانون الجديد نصوص تنظم هذا النوع من التحكيم.
ويختلف القضاء في حالة قيام الشك في شأن ضوابط الفصل فيما اذا كان المحكمون قد تجاوزوا حدود مهمتهم أم لم يتجاوزوها. وتأخذ أغلب المحاكم في الدول العربية بأنه لما كان تحكيم استثناء من الولاية العامة لمحاكم الدولة، فإن شروط التحكيم يجب أن تفسر تفسيراً ضيقاً مثل كافة الاستثناءات. أما القضاء الأمريكي فأنه يذهب على العكس إلى أنه لما كان الطرفان قد اتفقا على عدم طرح نزاعهما على محاكم الدولة، فان شروط التحكيم يجب أن تفسر تفسيراً واسعاً يغلب جانب التحكيم (pro-arbitration) على جانب اختصاص قضاء الدولة. ولا شك في أن مرجع الفصل في هذه الصعوبات هو استظهار القاضي لارادة الطرفين دون تعنت أو اسراف. ولا يتسنى لقاضي تنفيذ حكم التحكيم الدولي الذي أمامه بتجاوز المحكمين لمهمتهم الفصل في هذا الطعن الا اذا كان على بينة تامة من حدود تلك المهمة، ولذلك يوجب قانون التحكيم المصري (المادة 43) أن يشتمل حكم التحكيم ذاته على صورة من اتفاق التحكيم (قارن المادة 1028 من القانون الجزائري الجديد وهي لا توجب ذلك) حتى يتسنى لقاضي البطلان أو التنفيذ الفصل عن بينة في الدفع بتجاوز المحكمين لاختصاصهم. وقد بالغت محكمة النقض المصرية في هذا الصدد اذ قضت بأبطال أحكام تحكيم دولية لمجرد أن اتفاق التحكيم لم يدمج في صلب حكم التحكيم ولو أودع ذلك الاتفاق منفصلاً في أمانة المحكمة جنباً إلى جنب مع حكم التحكيم الذي يخلو في صلبه من ایراد نص اتفاق التحكيم. وقد بررت محكمة النقض المصرية هذا القضاء المتشدد والمغرق في الشكلية بحجة أن أحكام التحكيم يجب أن تتوافر لها كفاية ذاتية تعني قاضي البطلان أو التنفيذ عن الرجوع الى أية أوراق أخرى غير الحكم لتبين حدود مهمة المحكمين. وقد سبق لنا انتقاد هذا القضاء ولا سيما في مقام أحكام التحكيم الدولية ونحبذ ألا يأخذ القضاء الجزائري بهذه الحلول المتشددة والمبالغة في الشكلية.
السبب الرابع: عدم مراعاة مبدأ الوجاهية: يعتبر مبدأ الوجاهية أو المواجهة الكاملة بين الخصوم في التحكيم ضمانة أساسية لسلامة أي تقاض وأي حكم يصدر في النزاع: فيجب أن يتم اخطار الطرفين بكل خطوة من خطوات الاجراءات وبكل مذكرة أو تقرير خبرة أو شهادة أو تقرير يقدم في الدعوى مع كفالة حق كل من الطرفين في الرد والدفاع وعرض قضيته على وجه المساواة بين الخصوم. ويعرف مجموع هذه القواعد في بلاد القانون الانجليزي بمبدأ الاجراء السليم أو سلامة الاجراءات Due Process ويشمل المساواة بين الطرفين في المعاملة واتاحة الفرصة الكافية لكل منهما لعرض دفاعه، والا صدر حكم التحكيم معيباً وجديراً برفض الاعتراف به وتنفيذه.
وتقضي المادة 1043 من القانون الجديد بأنه "يمكن أن تضبط في اتفاقية التحكيم الاجراءات الواجب اتباعها في الخصومة مباشرة أو استناداً إلى نظام تحكيم (مثل قواعد تحكيم غرفة التجارة الدولية) كما يمكن اخضاع هذه الاجراءات لقانون الاجراءات الذي يحدده الأطراف في اتفاقية التحكيم.
اذا لم تنص الاتفاقية على ذلك تتولى محكمة التحكيم ضبط الاجراءات عند الحاجة مباشرة أو استناداً الى قانون أو نظام تحكيم".
ويخرج حكم التحكيم معيباً بمخالفة مبدأ الوجاهية اذا لم تتبع في خصومة التحكيم القواعد الاجرائية التي يتفق الطرفان على اتباعها أو تلك التي تحددها هيئة التحكيم في حالة عدم اتفاق الطرفين كما ورد في النص المتقدم.
ويعتبر مخالفاً لمبدأ الوجاهية أو الاجراء السليم عدم اعلان أحد الطرفين بطلب التحكيم أو بأي مذكرة لاحقة أو قرار لاحق من هيئة التحكيم أو حرمانه من الاطلاع على تقارير الخبراء وعدم تمكينه من الرد عليها أو قبول ملاحق لهذه التقارير لم يتم اطلاع الطرفين عليها كما تبطل الخبرة بعدم حضور الطرفين جميع جلساتها أو رفض بعض المستندات المقدمة من أحد الطرفين. ويعتبر من قبيل الاخلال بمبدأ الاجراء السليم تحديد المحكمين لمواعيد حضور غير كافية ولو كانت مساوية لمواعيد قانون المرافعات في مكان التحكيم أو حتى أطول منها، وكذلك أي اخلال بالمساواة بين الطرفين في المواعيد أو في حقوق الرد والتعليق ولو من الناحية العملية وحدها. وعلى العكس من ذلك، لا يجوز للطرف الذي لم يستعمل حقه في الرد على مذكرة للطرف الآخر أو على تقرير خبير مقدم في الدعوى خلال المدة المساوية التي خولته اياها هيئة التحكيم أن يدعي وقوع اخلال بمبدأ الاجراء السليم.
وقد قام التساؤل في مجال التحكيم الدولي عن القانون الذي يرجع اليه خارج نطاق الاجراءات المتفق على اتباعها - في تقدير وقوع أو عدم وقوع اخلال بمبدأ الاجراء السليم. ويتجه الرأي الى أن هذا القانون هو قانون قاضي مكان التنفيذ أي القانون الجزائري في شأن الأمر بالتنفيذ في الجزائر لأحكام التحكيم الدولية الصادرة في الخارج. ولكن ذلك لا يعني تطبيق الأحكام التفصيلية الواردة في هذا القانون بأسرها: وعلى سبيل المثال، اذا كان المبدأ في قانون قاضي مكان التنفيذ هو أن المدعى عليه هو آخر من يتكلم، فلا محل لرفض تنفيذ تحكيم دولي صدر الحكم فيه بعد أن قدم الطرفان مذكرات ختامية متزامنة خلال فترة واحدة حددها المحكمون للطرفين متى كان مبدأ التعاقب الزمني لمذكرات دفاع الطرفين قد اتبع بشأن المذكرات الأساسية المقدمة في التحكيم.
وينص قانون التحكيم المصري (المادة 53/1) على بطلان حكم التحكيم اذا تعذر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم اعلانه اعلاناً صحيحاً بتعيين محكم أو باجراءات التحكيم أو لأي ، سبب آخر خارج عن ارادته (فقرة ج) وكذلك اذا وقع بطلان في حكم التحكيم أو كانت اجراءات التحكيم باطلة بطلاناً أثر في الحكم (فقرة ز). وقد أثار هذا النص الأخير صعوبات لا يستهان بها.
السبب الخامس: عدم تسبيب حكم التحكيم أو وقوع تناقض في أسبابه: تنص المادة 1056/5 على جواز استئناف الأمر القاضي بتنفيذ حكم التحكيم الدولي "اذا لم تسبب محكمة التحكيم حكمها أو اذا وجد تناقض في الأسباب". ذلك أن القانون الجديد يوجب كقاعدة عامة أن تكون أحكام التحكيم مسببة (المادة 1027/2) فضلاً عن أن وقوع تناقض في أسباب الحكم يؤدي الى تماحيها وتهاترها ومن ثم الى انعدامها جميعاً. هذا وينص قانون التحكيم المصري (المادة 43/2) على أنه "يجب ان يكون حكم التحكيم مسبباً الا اذا اتفق طرفا التحكيم على غير ذلك أو كان القانون واجب التطبيق على اجراءات التحكيم لا يشترط ذكر أسباب الحكم".
ذلك أن أسباب الحكم هي التي تحدد الأساس الذي يبنى عليه الحكم ومنطق القرار ratio decidendi الذي يتضمنه الحكم كما يتلافي بيان أسباب الحكم وقوع تناقض فيه ويسمح لقاضي البطلان والتنفيذ بممارسة رقابة جدية على الحكم.
ويثور التساؤل عما اذا كان الاستثناءان الواردان في قانون التحكيم المصري من مبدأ وجوب تسبيب الحكم (والخاصان بعدم تطلب التسبيب اذا اتفق الطرفان على عدم لزومه وحالة ما اذا كان القانون الواجب التطبيق على اجراءات التحكيم لا يشترط ذكر أسباب الحكم) قابلين للتطبيق في ظل القانون الجزائري الجديد. ورأينا أنهما ينطبقان: أولاً، لأنه لا محل للتعقيب على اتفاق الطرفين صراحة – وهما صاحبا المصلحة على اعفاء المحكمين من واجب التسبيب، وثانياً، لأن الأخذ بحكم القانون المنطبق على اجراءات التحكيم والذي لا يستوجب تسبيب الحكم هو أيضاً حكم سائغ مادام الطرفان قد ارتضيا أن يجري التحكيم في ظل قانون لا يوجب تسبيب الحكم ولو لم يقع هذا التراضي من الطرفين صريحاً هنا كما في الحالة الأولى.
ويعتبر التساؤل ثانياً عن أثر التسبيب الناقص أو القصور في تسبيب حكم التحكيم وهل يصلح سبباً لابطال حكم التحكيم الدولي أو رفض تنفيذه كما هو سبب لنقض أحكام المحاكم داخل الدولة. وقد يقال أن تسبيب حكم التحكيم الذي أوجبه القانون الجديد في المادة 1027 منه يجب أن يكون كافياً وجدياً ومتسقاً وأنه لما كان التحكيم في جوهره عملاً قضائياً فان حكم التحكيم يجب أن يخضع لما تخضع له أحكام المحاكم، ومن ثم يجب الا يلحقه قصور في التسبيب. غير أنه يؤخذ على هذا النظر أنه يتجاهل حقيقة أن كثيراً من المحكمين لا يكونون من رجال القانون أصلاً ومن ثم فلا تجوز محاسبتهم على أحكامهم بطريقة ومستوى محاسبة قضاة محاكم الدولة المتخصصين وذوي الخبرة بالعمل القضائي. ومن رأينا أنه محل لاخضاع أحكام التحكيم لمعايير كفاية التسبيب المطبقة على أحكام محاكم الدولة بل يجب تطبيق معيار أهون وأكثر يسراً على أحكام التحكيم، بمعنى أنه يكتفي لسلامة حكم التحكيم أن يكون تسبيبه سائغاً في عمومه وألا يهبط الى مستوى انعدام التسبيب أو تناقض الأسباب. ولو أخضعنا أحكام التحكيم الدولية لضوابط التسبيب التي تخضع لها أحكام المحاكم القضائية لأدى ذلك الى اهدار عدد كبير من أحكام التحكيم الدولية، ولا سيما تلك التي تصدر عن غير القانونيين وهي كثيرة.
السبب السادس: مخالفة حكم التحكيم الدولي للنظام العام الدولي: تنص المادة 5/2/b من معاهدة نيويورك وكذلك قانون التحكيم النموذجي الموحد (مادة 36/1) بجواز رفض الاعتراف بحكم التحكيم الدولي ورفض تنفيذه إذا كان مخالفاً للنظام العام في الدولة التي يراد تنفيذه فيها، وهكذا تكتفي المعاهدة الدولية بمخالفة حكم التحكيم للنظام العام في الدولة التي يطلب تنفيذه فيها وهو حكم طبيعي ومنطقي، لأن من حق كل دولة أن تحمي مفهومها للنظام العام وأن تمنع تنفيذ ما يخالفه من أحكام التحكيم في اقليمها. وتطبيقاً لذلك رفضت محكمة النقض النمساوية عام 1983 اعتماد فكرة النظام العام الدولي كما رفضتها محكمة باريس عام 1966 قبل صدور قانون المرافعات الفرنسي الجديد.
وعلى العكس من ذلك أقام قانون المرافعات الفرنسي الجديد تفرقة أساسية بين أحكام التحكيم المحلي من جهة – ويكفي لرفض تنفيذها أن تكون مخالفة للنظام العام أي النظام العام الفرنسي (مادة 1484) وأحكام التحكيم الدولية من جهة أخرى، والتي لا يجوز رفض تنفيذها الا اذا كانت مخالفة للنظام العام الدولي ordre public international (مادة 1502). وهو ما أخذ أيضاً به القانون الجزائري الجديد.
أما القانون المصري، فانه يجيز رفض تنفيذ أي حكم تحكيم ولو كان دولياً اذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية (مادة 58/2/b) وهو ما يتفق مع حكم معاهدة نيويورك. ورغم هذا النص الصريح، فقد أخذت محكمة النقض المصرية في عدة أحكام أصدرتها بفكرة النظام العام الدولي وبالتالي لم تقبل رفض تنفيذ حكم التحكيم الدولي الا اذا كان يخالف مفهوم النظام العام الدولي في مصر. وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض المصرية بأن أحكام المادة 502/3 من قانون المرافعات المصري الملغي – والتي كانت توجب تحت طائلة البطلان تسمية المحكمين بأسمائهم في اتفاق التحكيم هي أحكام آمرة ولكنها لا تتصل بالنظام العام الدولي، وبالتالي لا يجوز رفض تنفيذ حكم التحكيم الدولي الصادر في الخارج طبقاً لقانون لا يوجب ذلك الشرط، وقضت بأن استبعاد حكم القانون الأجنبي الذي صدر حكم التحكيم الدولي في ظله لا يجوز الا اذا خالف ذلك القانون الأسس الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الخلقية للدولة والتي تتعلق بالمصالح العليا للمجتمع وليس لمجرد مخالفة قاعدة آمرة في القانون المصري لا تتوافر فيها تلك العناصر. وقد أبدينا رأينا في أكثر من موطن بانتقاد هذا القضاء الذي يلزم بما لا تلزم به لا المعاهدات الدولية ولا نصوص القانون المصري، والذي يضيق من دائرة الزام القواعد الآمرة في القانون المصري لصالح القانون الأجنبي دون مبرر حقيقي أو مقبول. وكثيراً ما يؤدي هذا القضاء الى احباط أثر الشرط التعاقدي الذي يقضي صراحة بخضوع العقد للقانون المصري وذلك لحساب الطرف الأجنبي.
وقد أخذ القانون الجزائري الجديد بفكرة النظام العام الدولي صراحة ومن ثم يتعين تحليلها وتقديم بعض الأمثلة لتطبيقاتها:
تحليل فكرة النظام العام الدولي: خلافاً لما يفهم من مصطلح النظام العام الدولي فان قواعد النظام العام الدولي ليست قواعد دولية من أي وجه بل هي قواعد نظام عام محلى خاص بدولة قاضي التنفيذ، ولكنها قواعد أمرة من درجة سامية تعلو على مستوى جمهور القواعد الآمرة في قانون ذلك القاضي، أو هي تعبير عن المفهوم القومي الخاص بهذه الدولة للقيم العليا في قانون قاضي التنفيذ بشأن التعامل الدولي وما يعتبر في هذا المفهوم القومي عادلاً ومقبولا وما لا يعتبر كذلك. وبالتالي يرتكب النظام العام للدولة من مستويين: مستوى عام أدنى ينتظم جميع القواعد الأمرة ومستوى رفيع تحتله قواعد النظام العام الدولي وحدها.
ومن ناحية الوقت والزمن ينظر في تحديد مفهوم النظام العام الدولي لقاضي التنفيذ لا في تاریخ صدور حكم التحكيم الدولي بل في تاريخ بحث القاضي الوطني لجواز الاعتراف به وتنفيذه، وهو ما يعرف بمبدأ الآنية والمعاصرة actualité de l'ordre public international كما أن اختبار النظام العام الدولي لا يطبق الا على ما إنتهى اليه الحكم المطلوب تنفيذه من نتائج وليس على حيثيات ذلك الحكم.
تطبيقات النظام العام الدولي: نظراً الى ضيق مفهوم النظام العام، أثبتت دراسة أجريت في فرنسا أنه خلال السنوات العشر من 1981 الى 1990، دفع أمام محكمة استئناف باريس بمخالفة أحكام التحكيم الدولية للنظام العام الدولي 46 مرة، ومع ذلك لم تستجب تلك المحكمة لذلك الدفع الا للحكم ببطلان حكمي تحكيم دوليين ورفض تنفيذ حكم واحد (مؤلف الأساتذة فوشار وجايار وجولدمان عن التحكيم ص 978 و 976).
وتطبق أحكام النظام العام الدولي على اجراءات التحكيم وكذلك على موضوعه:
ومن تطبيقات النظام العام الدولي الاجرائي اعتبار الاخلال بمبدأ الاجراء السليم أو بالمساواة بين طرفي التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي الاجرائي كما يدخل في هذا المفهوم أيضاً مبدأ عدم انحياز المحكم لأي من الطرفين. ومن الطريف أن محكمة النقض التركية قد رفضت في حكم لها صدر بتاريخ 10 مارس 1976 تنفيذ أحكام التحكيم الدولية الصادرة طبقا لنظام غرفة التجارة الدولية نظراً الى تدخل محكمة التحكيم بالغرفة في اصدار الحكم عن طريق رقابتها المسبقة على مشروع الحكم قبل اعتماده، الأمر الذي يخالف استقلال المحكمين، ولكن تلك المحكمة عدلت عن هذا القضاء فيما بعد، كما رفضت محكمة النقض المصرية هذا الدفع في حكم حديث لها صدر عام 2007 وقضت بجواز تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة طبقاً لقواعد الغرفة.
أما النظام العام الدولي الموضوعي: فمن تطبيقاته في فرنسا تخفيض الفوائد الربوية المرتفعة التي يقضي بها حكم التحكيم ورفض الحكم باستحقاق مبالغ الرشوة لتسيير الأعمال وابرام العقود (pots de vin)، كما أن الفقه يعتبر مخالفاً للنظام العام الدولي التأميم الذي لا يقترن بتعويض كاف وعاجل وكذلك اعتماد الشرط التعاقدي الذي يسمح للبائع في حالة عدم دفع الثمن بالقيام ببيع الشيء المبيع بالثمن الذي يراه. وعلى العكس من ذلك لا ترقى الى مرتبة النظام العام الدولي القواعد القانونية الأمرة المنظمة لحرفة وحقوق الممثلين التجاريين ولا- في رأي البعض – الأحكام الداخلية الأمرة التي تحظر التحكيم على أشخاص القانون العام في الدولة، وهو ما لا نراه لأن الأمر هنا يتعلق بحالة من حالات عدم الأهلية المنصوص عليها في معاهدة نيويورك والتي يجوز فيها رفض تنفيذ حكم التحكيم الدولي الصادر في الخارج. وفي أغلب الدول العربية تعتبر النصوص المقيدة للفوائد بحد أقصى معين وتحريم الفوائد المركبة أو تجاوز الفوائد لرأس المال نصوصاً متعلقة بالنظام العام الدولي لتلك الدول نظراً لكراهية الفوائد ووجوب تقييدها الشريعة الاسلامية، وهو ما حكمت به محكمة النقض المصرية.
حالات أخرى لرفض الاعتراف أو التنفيذ وردت في معاهدة نيويورك: واذا كانت الحالات الست المنصوص عليها في المادة 1056 من القانون الجديد تتفق بوجه عام مع ما تقضي به معاهدة نيويورك، فان هناك أسباباً أخرى لعدم الاعتراف بحكم التحكيم الدولي ولرفض تنفيذه وردت في المعاهدة وحدها. وهذه الحالات هي:
1- حالة نقص أهلية أحد أطراف التحكيم incapacité اذ تجيز المعاهدة رفض تنفيذ حكم التحكيم الدولي اذا كان أحد أطراف التحكيم ناقص الأهلية لتوقيع اتفاق التحكيم طبقاً لقانونه أي قانون جنسيته. ونجد مثالا لذلك في القانون الجزائري الجديد بشأن عدم أهلية الأشخاص المعنوية العامة لتوقيع اتفاق تحكيم (مادة 1006).
2- حالة أحكام التحكيم غير الملزمة أو الموقوفة أو المحكوم ببطلانها: تجيز المعاهدة رفض تنفيذ أحكام التحكيم التي لم تصبح بعد ملزمة للطرفين أو تلك التي يتقرر وقف تنفيذها من قبل سلطة مختصة في الدولة التي صدر فيها حكم التحكيم أو التي صدر ذلك الحكم طبقا لقانونها. وقد رأينا بصدد بطلان أحكام التحكيم الدولي الصادرة في الجزائر أن لذلك البطلان حجية دولية عامة في كافة الدول الموقعة على المعاهدة وان كانت بعض الدول لا تقف عند هذا المفهوم.
أما أحكام التحكيم التي لم تصبح بعد ملزمة، فليس المقصود بها الأحكام التي لم تحصل على أمر بالتنفيذ في دولة صدورها حيث ألغت معاهدة نيويورك ازدواجية الأمر بالتنفيذ double exequateur أي تطلب أمر بتنفيذ الحكم في دولة صدوره ثم أمر تنفيذ آخر في الدولة التي يراد تنفيذ الحكم فيها ومن ثم تكتفي بصدور أمر واحد بالتنفيذ في هذه الدولة الاخيرة. والمقصود بأحكام التحكيم غير الملزمة هو أحكام التحكيم التي يوجب قانون الدولة التي تصدر فيها تصديق قضاء تلك الدولة عليها. ومن أمثلة ذلك ما كان يقضي به القانون الأردني وقانون دولة الامارات العربية المتحدة من وجوب "تصديق أو مصادقة" محاكم الدولة على حكم التحكيم. وقد طعن أمام المحاكم البلجيكية في تنفيذ حكم تحكيم دولي صادر في الأردن على أساس عدم تمام التصديق المطلوب من المحكمة ولكن هذا الدفع رفض. وفي رأينا أنه أياً كانت العبارات الواردة في نصوص بعض التشريعات، فأن العبرة هي بحقيقة دور محكمة الدولة بحيث اذا كان المقصود بالتصديق أو المصادقة هو اصدار أمر بتنفيذ الحكم، فان حكم التحكيم يكون ملزماً للطرفين ولا ينطبق عليها نص المعاهدة الخاص بالأحكام غير الملزمة.
3- حالة عدم القابلية للتحكيم inarbitrabilité: وكذلك تجيز معاهدة نيويورك رفض تنفيذ حكم التحكيم الدولي اذا كان موضوع النزاع غير قابل للتحكيم طبقاً لقانون الدولة المراد تنفيذه فيها. وقد طبقت المحاكم الأمريكية هذا النص اذ رفضت الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الصادر في قضية Liamco ضد الحكومة الليبية التي قامت بتأميم استغلال البترول في اقليمها. وقد رفضت المحاكم الأمريكية الأمر بتنفيذ ذلك الحكم على أساس أن التأميم من سلطات الدولة التي لا يجوز التحكيم بشأنها. وكذلك رفضت محكمة النقض البلجيكية الأمر بتنفيذ أحكام التحكيم الصادرة في منازعات ناشئة عن عقود توزيع البضائع مع الاقتصار exclusivité نظراً الى وجود قانون بلجيكي يقصر على المحاكم البلجيكية حتى الفصل في تلك المنازعات.
ورغم عدم نص القانون الجزائري الجديد على هذه الحالة، فان في وسع المحاكم الجزائرية أن ترفض تنفيذ أحكام التحكيم الدولية في الجزائر اذا كان موضوع النزاع غير قابل للتحكيم طبقاً للقانون الجزائري باعتبار أن حكم التحكيم يخالف النظام العام الدولي في الجزائر اذا كان موضوعه غير قابل للتحكيم طبقاً لقانون الجزائر.
رابعاً: ملاحظات عامة وتوصيات في شأن أحكام القانون الجديد
اتماماً للفائدة من بحثنا السابق نوجز فيما يلي توصياتنا في شأن القانون الجديد فيما لو رأى المسؤولون محلاً للأخذ بها وهي لا تعبر الا عن رأينا واجتهادنا الشخصي، وهي بايجاز تام ما يلي:
1- ايضاح تعريف التحكيم الدولي بحيث لا يقتصر نص المادة 1039 على المصالح الاقتصادية للدول.
2- الغاء النص على وجوب أن يكون التحكيم الدولي تجارياً أو وضع تعريف محدد لمعنى تجارية موضوع التحكيم الدولي.
3- الغاء النص على جواز استئناف أحكام التحكيم الداخلية.
4- النص على خضوع أحكام التحكيم للطعن بالتماس اعادة النظر.
5- النص على جواز التحكيم مع تفويض المحكمين بالصلح ووضع حد أدنى من التنظيم التشريعي لهذا النوع من التحكيم.
6- النص على عدم جواز التنازل قبل صدور حكم التحكيم عن حق طلب ابطال أحكام التحكيم الصادرة في الجزائر.
7- اضافة الحالات المنصوص عليها في معاهدة نيويورك لرفض الاعتراف بأحكام التحكيم الدولية ورفض تنفيذها والتي لم ترد في القانون الجديد.
8- استناد الاختصاص بالحكم في ابطال أحكام التحكيم الدولي أو في الاعتراف بها وتنفيذها أو رفض تنفيذها الى محكمة عليا واحدة تخضع أحكامها وقراراتها للنقض وحده وذلك توحيداً للقضاء واقتصادا في وقت التقاضي.
أهم المراجع
-Fouchard, Gaillard et Goldman: Traité de l'arbitrage commercial international 1996.
- De Boissesson: Le droit français de l'arbitrage interne et international, Paris 1990.
-Redfern and hunter: Law and practice of international commercial arbitration, London 1986.
- Rubino Sammartano: International arbitration law, 1990. -
- Van den Berg: The New York Arbitration Convention of 1958, 1981.
- Brower: The post- arbitral phase, ICCA, Bahrain 1993.
-Gaudet: The enforcement of awards relating to international trade, ICCA Bahrain 1993.
-Lalonde: The post-arbitral phase in North America and Western Europe, ICCA Bahrain 1993.
-Mahmasani: Jurisdiction problems in the enforcement of international arbitration awards.
-El Ahdab: Enforcement of international arbitral awards within the framework of the New Egyptian Code of Civil and Commercial Procedure.
The post-arbitral phase, ICCA, Bahrain 1993.
The Enforcement of international arbitral awards under the new Egyptian law on arbitration (in Arabic).
-UNICITRAL: UNICITRAL Model Law on international commercial
arbitration, Note by Secretariat, New York 1988. Sefrioui: The judge and the arbitrator's jurisdiction for the settlement of the arbitral awards enforcements disputes, ICCA Bahrain 1993.
- El Kholy: The general trends in the new Egyptian law on arbitration, Cairo, September 1994, (in Arabic). El Kholy: The enforcement of international arbitral awards, Dubai 1999.
- Waly: The action for the annulment of arbitral awards under the Egyptian
law No 27 of 1994, Cairo, September 1994 (in Arabic).
- El Baharna: The enforcement of foreign arbitral awards in the States of the Cooperation Council of Gulf Arab States, a comparative study, October 1942 (in Arabic).
- Nader: The enforcement of the foreign award in the Kingdom of Saudi - Arabia (in Arabic).
- El Hakim: The enforcement of the arbitral award, Abu