الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / اجراءات تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 33 / أثرتحديد قواعد النظام العام الإجرائي الدولي في مجال التحكيم على فاعلية تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية والدولية

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 33
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    111

التفاصيل طباعة نسخ

أهمية الدراسة:

   إن تحديـد مفهـوم النظـام العـام الإجرائـي الـدولي l'ordre public procédural international، لم يكن أمراً سهلاً على الإطلاق، فهو مصطلح غامض ومعقد complexe، لا يمكن للقاضي والمحكم معرفة كافة قواعد النظام العام الدولي الإجرائي، لذلك كان واجباً علينـا وفي محاولة من قبلنا، تحديد القواعد التي تشكل النظام العام الـدولي الإجرائـي، مـن خـلال ممارسات محكمة النقض الفرنسية.

   وتأتي أهمية دراسة هذه المسألة من ثلاثة أوجه: الأولى وهي محاولة من قبلنا لوضع إطار عام لماهية القواعد التي تشكل النظام العام الدولي الإجرائي في مجال التحكيم، لتكون أمام نصب أعين محرري اتفاقات التحكيم وممارسيه، وذلك لضمان تنفيذ أحكامهم في الدول الأجنبية، بالنسبة للدول التي تشترط لتنفيذ حكم التحكيم – الدولي - ألا يخالف النظام العام الدولي l'ordre public international وليس الداخلي مثل فرنسا ولبنان والجزائر وتونس L'ordre public interne، فيجب أن تقع عين أطراف التحكيم على دولة مقر التنفيذ . فإذا صدر حكم تحكيم دولـي وذهـب الصادر لصالحه الحكم لتنفيذه في دولة الصادر ضده الحكم ورفضت التنفيذ، فيستطيع أن يـذهب لدولة أخرى للمحكوم ضده لديه أصول مالية فيها، والقيام بتنفيذ حكم التحكيم طالما الحكم متفقا مع النظام العام الدولي.

   وتكمن المسألة الثانية في تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي وليس الدولي – ويكون حكـم التحكـيم أجنبياً إذا صدر خارج حدود دولة مقر التنفيذ أو صدر بها، ولكن وفقاً لقـانون إجرائـي لدولـة أخرى، طالما لم يتعلق بمصالح التجارة الدوليـة intérêts du commerce international- فعندما يصدر حكم تحكيم ويذهب الشخص الصادر لصالحه الحكم والذي كان مقر التحكيم فـي دولته – لتنفيذ الحكم في تلك الدولة، وترفض تلك الدولة التنفيذ بحجة مخالفة الحكم للنظام العـام الداخلي، فيأتي دور دولة مقر التنفيذ، فيذهب الشخص بحكم التحكيم الأجنبي، لتنفيذه في الخـارج (دولة مقر التنفيذ)، فمثل هذا الحكم يعامل معاملة حكم التحكيم الدولي والذي يـشترط لتنفيـذه ألا يكون مخالفا للنظام العام الدولي وليس الداخلي.

   وتكمن المسألة الثالثة في منع عودة اختصاص قاضي الدولة، حيث نتيجـة للأثـر الـسلبي لإتفاق التحكيم، فإن قاضي الدولة محظور عليه نظر المنازعات التي يتضمنها اتفـاق التحكـيم ، فإذا عرضت عليه منازعة يشملها اتفاق التحكيم، فيجب عليه – طبقـاً للأثـر الـسلبي لاتفـاق التحكيم – أن يقضي بعدم قبول الدعوى لوجود شرط التحكيم، إلا أن هناك استثناءين لذلك، وهمـا أن يكون شرط التحكيم ظاهر البطلان nullité manifeste أو يكـون غيـر قابـل للتطبيـق manifestement inapplicable ومن ثم إذا كان شرط التحكيم مخالفاً للنظام العام الإجرائـي الدولي - بالاضافة إلى مخالفته للنظام العام الموضوعي التي ليست محلا للبحث- يكـون ظـاهر البطلان، ومن ثم يعود الاختصاص لقاضي الدولة وتصبح المنازعة محل التحكيم مقبولة أمامه.

وفي ضوء ذلك يمكن تقسيم البحث إلى ثلاثة فصول:

الفصل الأول- ماهية النظام العام الإجرائي الدولي.

الفصل الثاني- قواعد النظام العام الإجرائي الدولي.

الفصل الثالث - آثار مخالفة حكم التحكيم للنظام العام الإجرائي الدولي.

الفصل الأول:

ماهية النظام العام الإجرائي الدولي

اختلاف قواعد النظام العام الداخلي عن الدولي:

    تختلف مكونات النظام العام الداخلي عن الدولي، ففي حين يشمل الأول كافة القواعـد الأساسية التي تتعلق بمجتمع أو دولة ما، دون مراعاة اعتبارها متعلقة بمصالح عليا للمجتمع الدولي، أما الثاني فيشمل القواعد المشتركة والمرتبطة بالمصلحة العليـا للمجتمـع الـدولي بأسره، ومن ثم يختلف نطاق النظام العام الداخلي عن الدولي، فقد تكون هناك قاعدة تعد من النظام العام الداخلي ألا أنها في ذات الوقت ليست من النظام العام الدولي، وهذا الاختلاف قد نعطيه مبررا للمحاكم الفرنسية- بل لغيرها من محاكم التنفيذ العربية - التي ذهبت في بعض الحالات إلى تنفيذ أحكام التحكيم الباطلة في دولة مقر التحكيم - لمخالفتهـا النظـام العـام الداخلي- حيث أن في دولة مقر التنفيذ، يكون الحكم غير مخالف للنظام العام الدولي. وقـد تكون هناك قاعدة ليست من النظام العام الداخلي، ولكنها من النظام العام الـدولي، وتظهـر أهمية الجزئية الأخيرة عند التنفيذ خارج مقر التحكيم، فرفض التنفيذ داخل مقر التحكيم لأي سبب، يجعل الصادر لصالحه الحكم الإلتجاء إلى دولة أخرى –للمحكوم ضده أصول فيهـا- للتنفيذ بها، فيجب أن يكون حكمه متفقاً مع النظام العام الدولي الإجرائي، سواء أكان حكـم التحكيم أجنبياً أم دولياً.

مفهوم النظام العام الإجرائي الدولي لنظام التحكيم:

 La notion de l'ordre public procédural international dans l'arbitrage:

   وقبل أن نضع تعريفنا، نوضح تعريف محكمة استئناف باريس لمفهوم النظام العام الدولي، التي عرفته بأنه "مجموعة القواعد والقيم التي يتكون منها النظام القانوني الفرنسي والتي لا يمكن تجاهلها، والتي تتميز بالطابع الدولي".

 "   Comme l'ensemble des règles et des valeurs dont l'ordre juridique français ne peut souffrir la méconnaissance, même dans des situations à caractère international".

   فمن خلال تعريف محكمة استئناف باريس، يتضح لنا أن كل قاعدة أو قيمـة لهـا الطـابع الدولي، باتفاق المجتمع الدولي عليها، والتي تعد جزءا من النظام العام الداخلي، تعتبر قاعدة من النظام العام الدولي، وكأن ما أتفق عليه المجتمع الدولي من قواعد لا تتعارض مع النظام العـام الداخلي، تشكل نطاق النظام العام الدولي من المنظور القانوني الفرنسي.

  وفي تعريف مشابه لما عرفته محكمة استئناف باريس، عرفت محكمة النقض الفرنسية النظام العام الدولي بأنه "مجموعة المبادئ الأساسية التي يتضمنها القانون الفرنسي".

   وأعتقد أن هذا التعريف محل نظر، حيث يسمح بتعدد نطاق النظام العام الدولي من دولة إلى أخرى، لارتباطه بالنظام العام الداخلي بتلك الدول المختلفة في مضمونها للنظام العام الـداخلي، ويؤدي إلى مزيد في صعوبات تنفيذ حكم التحكيم الاجنبي أو الدولي. فليس شرطاً – من وجهـة نظرنا لإعتبار القاعدة من النظام العام الدولي الإجرائي أن تتفق مع قواعد النظام العام الداخلي الإجرائي Ordre public procédural interne، فقد يتفق المجتمع الدولي على اعتبار قاعـدة من النظام العام الدولي، ولكنها قد تخالف قاعدة من النظام العام الداخلي لدولة ما، ومع ذلك تعتبر القاعدة من النظام العام الدولي . فقواعد النظام العام الدولي يجب أن يتفق عليها غالبية المجتمـع الدولي، وفي ذلك قضت هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بباريس" "ببطلان العقد الناتج من دفع رشاوى، وأن هذا البطلان ليس فقط لمخالفة النظام العام الداخلي الفرنسي، ولكن لمخالفة النظام العام الدولي المتعارف عليه من غالبية الدول".

   ولكن في هذه الحالة الأخيرة إذا تعارضت قاعدة من النظام العام الدولي مع الداخلي، فـإن دولة مقر التنفيذ يجب أن تفرق بين حكم التحكيم الدولي والأجنبي والداخلي، ففي الأول والثـاني يجب أن تطبق قواعد النظام العام الدولي، أما الثالث فتطبق قواعد النظام العام الـداخلي. ولكـن البعض قد يخالفنا الرأي بالنسبة لحكم التحكيم الأجنبي، حيث في أغلب التشريعات يستلزم تنفيـذ الحكم القضائي - الأجنبي عدم تعارضه مع النظام العام الداخلي، فأعتقد لفاعلية التحكيم الـدولي والأجنبي والأحكام الناتجة منهما، ومنحها مزيداً من الثقة، أن يكتفى لتنفيذها عدم تعارضها مـع النظام العام الدولي دون الداخلي. وأعتقد أن النظام العام الدولي الإجرائي سهل الاتفاق عليه، فهو أهون من الاتفاق علي النظام العام الدولي الموضوعي، فعلى سبيل المثـال، إن مسألة القابليـة للتحكيم، قد تختلف قيم وتقاليد ومفاهيم المجتمعات في قابلية النزاعات المختلفة للتحكيم، ففي حين البعض يقبل التحكيم في مسائل الافلاس (التصفية الجماعية)، ولا يقبل البعض الآخر حيث يقصر نظر تلك المسائل على محاكم الدولة. أما النظام العام الدولي الإجرائي فقد يمكن الاتفـاق علـى قواعده، لأنها في مجملها متعلقة بضمانات محاكمة تحكيمية عادلة، وتلك الضمانات نادراً ما نجد عدم اتفاق عليها. ،

   ومن قبلنا نعرف النظام العام الإجرائي الدولي لنظام التحكـيم، بأنـه مجموعـة القواعـد (المبادئ) الأساسية في الإجراءات التي أتفق المجتمع الدولي على ضرورة توافرها لصحة العملية التحكيمية، ومن ثم الاعتراف بها وتنفيذ الحكم الناتج منها.

الفصل الثاني:

قواعد النظام العام الإجرائي الدولي في مجال التحكيم

   تتعدد قواعد النظام العام الإجرائي الدولي المتعلقة بالتحكيم، فنجد بعض القواعد يتعلق بالحق في التحكيم (المبحث الأول)، والبعض الآخر يتعلق بتشكيل هيئة التحكيم (المبحث الثاني)، وأخرى تتعلق بإجراءات نظر خصومة التحكيم (المبحث الثالث)، وأيضاً قواعد تتعلـق بحكـم التحكـيم (المبحث الرابع).

المبحث الأول:

قواعد النظام العام الإجرائي الدولي المتعلقة بالحق في التحكيم

 الحق في الإلتجاء إلى القضاء التحكيمي L'accés à la justice arbitrale:

  إذا اتفق الأطـراف علـى الإلتجـاء إلـى التحكـيم لفـض نزاعـاتهم القابلـة للتحكـيم l'arbitrabilité des litiges – سواء كان في صورة شرط أو مشارطة تحكيم ليـسـت ظـاهرة البطلان أو غير قابلة للتطبيق – وعدم وجود تنازل صريح أو ضمني عن اتفاق التحكيم – فأنه يتولـد للأطراف حق أساسي من الحقوق الأساسية اللصيقة بهم، وهو حق الإلتجاء للقضاء، ولكنه قضاء تحكيمـي L'accès à la justice arbitrale est un droit de procédure fondamental فلا يمكن لهيئة التحكيم أن لا تقبل نظر دعوى التحكيم تعسفاً أو إنكاراً للعدالة، وفي هذا قـضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر 28 مارس 2013 بأن: "تعتبر هيئة التحكيم قد خالفت مبدأ المساواة في الإلتجاء الى قضاء التحكيم، إذ رفضت هيئة التحكيم نظر الطلبـات العارضـة les demandes reconventionnelles المقدمة من أحد الخصوم بسبب عدم قدرته على دفـع مصاريف التحكيم frais d'arbitrage لهيئة التحكيم، وذلك بسبب تـصفية الـشركة، فالطلبـات العارضة تعتبر جزءا لا يتجزأ من الطلبات الرئيسية ما دامت مرتبطة بها، فالهيئة برفضها نظر تلك الطلبات تكون قد خالفت مبدأ المساواة في الالتجاء إلى القضاء التحكيمي".

وقضت أيضاً الدائرة الأولى المدنية لمحكمة النقض الفرنسية بأن بعد إبرام الشخص لاتفاق التحكيم، يتولد له الحق في الإلتجاء الى هيئة التحكيم، الذي يعد من النظام العام الدولي، والمتواتر عليه ضمن قواعد التحكيم الدولي، والمطبق للمادة 1/6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنـسان والحريات الأساسية، وبالتالي إذا استحال على الشخص الالتجاء الى هيئة التحكيم، يـشكل ذلـك إنكاراً للعدالة un déni de justice، ويبرر تدخل قاضي الدولة.

المبحث الثاني:

قواعد النظام العام الإجرائي الدولي المتعلقة بتشكيل هيئة التحكيم

صدور حكم التحكيم من شخص ليس له صفة المحكم:

   إذا صدر حكم التحكيم من شخص ليس له صفة المحكم، فلا وجود للتحكيم، وتعتبـر تلـك المخالفة من النظام العام الدولي، فلا ينفذ حكم التحكيم إذا صدر من محكم ليست له صفة المحكم، وتكتسب تلك الصفة بالاتفاق بين الاطراف المتنازعة على شخص المحكـم، ولا بد أن يكـون المحكم شخصاً طبيعياً، فصدور حكم التحكيم من شخص معنوي، لا يعتد به كون مصدره شخص معنوي وليس طبيعيا، وهكذا قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر فـي 28 مـارس 2012 بأن "حكم التحكيم الصادر من لجنة التحكيم التجارية الاقتصادية بالصين لا وجـود لـه وذلك لأن حكم التحكيم الصادر باسم مؤسسة التحكيم مخالف للنظام العام الـدولي، لأن مؤسـسة التحكيم ليست لها صفة المحكم".

المساواة بين الخصوم في تعيين المحكمين:

   قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر 9 يوليو 2014، بأن "المساواة بـين الخصوم في تعيين المحكمين من النظام العام الدولي".

"   que le principe de l'égalité des parties dans la désignation des arbitres est d'ordre public international".

   فإذا تضمن شرط التحكيم بندا يميز أحد الخصوم عن الآخر في مسألة تعيين المحكمين، فإن هذا البند يكون باطلاً، ومن ثم يكون شرط التحكيم باطلاً لمخالفته النظام العام الدولي الإجرائـي فالنص على أنه في حالة الخلاف على تعيين المحكمين يخول أحد الأطراف تعيين المحكمـين مخالفاً النظام العام الدولي .

 وترية هيئة التحكيم من النظام العام الدولي:

تعد قاعدة تشكيل هيئة التحكيم من عدد فردي، من النظام العام الـدولي، ولا شـك فى أن وجب أن  يكون عدد أعضاء هيئة التحكيم فردياً، له دور كبير عند مداولات هيئة التحكيم، إذ في حالة كون عدد هيئة التحكيم زوجيا قد ينقسم المحكمون إلى فريقين متساويين فيتعذر صدور حكم بالأغلبية، وهو لا يحدث عند تشكيل هيئة التحكيم من عدد فردي.

هل حياد المحكم واستقلاله من النظام العام الدولي؟

   إن من ضرورات عدالة إجراءات التحكيم Process équitable dans l'arbitrage سواء في التحكيم الدولي أو الداخلي، أو في التحكيم الحر أو المؤسسي- أن يكون المحكم محايداً ومستقلاً، فمن المبادئ الأساسية في التحكيم مسألة استقلال المحكمين وحيادهم، نظراً لأن المحكم هو الشخصية الرئيسية في التحكيم ويجب دائماً أن يكون متمتعاً بثقة الخصوم. لذلك تعـدّ من الصفات الضرورية التي يجب أن يتصف بها المحكمون، همـا صـفتا الاستقلال والحيـاد L'indépendence et impartialité، فالمحكم كالقاضي يجب أن يكون مستقلاً ومحايدا.

   وتطبيقاً لذلك قضت محكمة النقض الفرنسية بأن "الاستقلال يجب أن يتـوافر لكـل سـلطة قضائية أياً يكن مصدرها، ويجب أن يكون صفة أساسية في المحكمين" .

استقلال المحكم وحياده من النظام العام الدولي:

   ذهب بعض الفقه ونحن نؤيده، إلى أن استقلال المحكم وحياده شيء أساسـي فـي عمليـة التحكيم، ويعتبر من النظام العام الداخلي والدولي، وبطلانه يكون وفقا للمادة 5/1052 الخاصـة بمخالفة حكم التحكيم للنظام العام الدولي، وليس بواسطة مخالفة تشكيل هيئة التحكيم". بل ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى أبعد من ذلك بضرورة تضمين شرط التحكيم ضمانات حياد المحكـم استقلاله، فقضت في حكمها الصادر 9 يوليو 202014، بأن "شرط التحكيم الـذي لا يتـضمن ضمانات حياد المحكم واستقلاله يكون مخالفا للنظام العام الدولي".

Que la clause compromissoire qui n'offre pas les garanties d'indépendance et d'impartialité de l'arbitre est contraire à l'ordre public international".

المبحث الثالث

قواعد النظام العام الإجرائي الدولي المتعلقة بإجراءات نظر خصومة التحكيم

مبدأ عدالة إجراءات التحكيم: principe de loyauté dans la procédure arbitrale:

   إن العدالة الإجرائية في عملية التحكيم، تعد من الضروريات المسلم بها في نظـام التحكـيم الدولي، فقد قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر 8 يوليو 212010 بأنه "يجب على قاضي البطلان أن يراقب مبدأ العدالة في إجراءات التحكيم، بأن الحكم الصادر قد صدر وفقاً لهذا المبدأ".

 "   Un principe de loyauté dans la conduite de la procédure arbitrale dont le juge du contrôle de la sentence doit s'assurer qu'il a été respecté".

   فإذا كان هناك إخلال بالعدالة الإجرائية في عملية التحكيم، فإننا لا نكون بصدد تحكيم عادل، والعدالة الإجرائية في التحكيم تبدأ مراعاتها منذ لحظة تشكيل هيئة التحكيم حتى صدور حكم منه للخصومة التحكيمية، فيجب اختيار المحكمين بالمساواة بين طرفي النزاع، وأن يراعي المحكـم المساواة بين الخصوم في عرض طلباتهم وقبول مذكراتهم، وأن يظـل محـايـدا طـوال ســر الخصومة التحكيمية حتى صدور حكم فيها.

مبدأ المواجهة Principe de la contradiction:

   إن مبدأ المواجهة واجب لكل من يخول له سلطة الفصل في النزاع، فيعد مـن الـضمانات الأساسية التي يقوم عليها النظام القضائي، فبدون احترامه لا وجود للمحاكمة العادلة. وقد قضت محكمة استئناف باريس في حكمها الصادر في 22 نوفمبر 1978 بأن مبدأ المواجهة من النظـام العام الدولي الإجرائي، لذلك فهـو واجـب علـى المحكـم مثـل القاضـي .contradictories s'impose à l'arbitre comme au juge". respect du

    فيجب على هيئة التحكيم أن تحترم مبدأ المواجهـة، الـذي يتطلـب أن يـسبب القاضـي حكمه بناء على الأدلة القانونية التي عرضها على الخصوم ، والمقدمة مـنـهم فـي مرافعـات invoquées au cours des débats تمكن كل خصم من مناقشتها والرد عليها25. فيجب علـى المحكم أن يمكن كل خصم بإثارة أسبابه الواقعية والقانونية، وأن يعلم بها خصمه لكي يناقشها، وأن أي مذكرات أو مستندات تقدم الى المحكمين، يجب أن يطلع عليها الخصم، وأن أية أسـباب قانونية أو واقعية يجب أن لا تثار من تلقاء نفس المحكم، دون أن يدعو الخصوم لإبداء ملاحظتهم عليها.

الغش الإجرائي في عملية التحكيم يخالف النظام العام الدولي: la fraude de procédure:

   تعد إيجابيات التحكيم هي الدوافع الرئيسية وراء إقدام الدول والأفـراد والمؤسسات علـى الدخول في التحكيم لحل كافة منازعاتهم بدلا من اللجوء الى قضاء الدولة وما يستتبعه من سلبيات منذ نظر الدعوى وحتى تنفيذ الحكم، لذلك يجب المحافظة على مميزات التحكيم من السلوك غير المشروع، وعلى الأخص الغش .

    ويعتبر الغش في مباشرة إجراءات التحكيم من النظام العام الدولي، فحكم التحكيم الـصادر بناء على غش أحـد الخصوم le sentence obtenue par fraude مخـالف للنظـام العـام الدولي ، وتطبيقاً لذلك قضت محكمة استئناف باريس بأنه لا يقبل أن تبنى أحكام التحكيم الدولية على الغش والتزوير، وإذا صدرت بالمخالفة لذلك يمكن الطعن عليها بـالبطلان لمخالفـة حكـم التحكيم للنظام العام الدولي، حيث أن قاعدة حظر الغش الإجرائي في خصومة التحكيم من النظام العام الدولي.

  كذلك قضت محكمة النقض الفرنسية في قضية Westman، أن الغش يكون معاقبـا عليـه بالرجوع إلى فكرة النظام العام الدولي في إطار المادة 1502 فقرة 5 مرافعات فرنسي، فعنـدما يثبت الغش، فإن ذلك مبرر لبطلان حكم التحكيم .

   وفي حكم حديث لمحكمة استئناف باريس، قضت فيه بأنه لا يكون لقاضي البطلان في حالة الادعاء بمخالفة النظام العام، إعادة النظر في موضوع حكم التحكيم، إلا إذا كانت هناك مخالفـة واضحة أو تبين وجود غش في إجراءات التحكيم .

   والمستفاد من أحكام محكمة باريس ومحكمة النقض السابقة أنهما اعتبرتا الغش في إجراءات التحكيم من النظام العام الدولي، وأن النظام العام الدولي يجب أن يحتـرم مـن قبـل الخـصوم والمحكمين، فإذا صدر الحكم بالمخالفة لذلك- بأن بني على وثائق أو شهادة مزورة كانت منتجـة في الدعوى- فإنه يتعرض للبطلان أو عدم التنفيذ، باعتبار أن أحدى حالات بطلان أو عدم تنفيذ حكم التحكيم الدولي هو مخالفته للنظام العام الدولي .

قاعدة الاستوبل Estoppel عدم التناقض:

   تفترض تلك الفكرة أن الخصم يأتي أمام خصمه ولا يتمسك بموقف مخالف لأفعاله التي يقوم بها أثناء سير خصومة التحكيم، وبعد ذلك يقوم بعمل يخالف ما قام به بقصد الإضرار بخصمه بمعنى آخر على حد تعبير الأستاذ Gaillard "يمتنع على الشخص أن يتخـذ أعمـالاً ومواقـف مغايرة لم يتم اتخاذها في ادعائه الأول، والتي بنى عليها موقفاً سلم به الخصم الآخر، والتي تعدل من موقف الخصم الآخر". هذه القاعدة معترف بها في القانون العام "منع التناقض المقصود منه الإضرار بالغير"  L'interdiction de se contredire au detriment d'autrui، ومعتـرف بها ضمن قواعد الأعراف التجارية les mercatoria التي يطبقها المحكمون، وهي مبدأ عام في القانون التجاري الدولي .

   ولقد أخذ القضاء الفرنسي حديثا بتطبيق قاعدة الاستوبل، حيث قضت محكمة النقض الفرنسية بأن المشاركة في إجراءات التحكيم أمام محكمة تحكيم المنازعات الأمريكية الإيرانية بدون تحفظ وإبداء الادعاء بأسباب البطلان أمام المحكمة، فالنتيجة عدم قبول الادعاء أمام قاضي البطلان، تطبيقا لقاعدة الاستوبل le règle de l'estoppel"

   وأيضاً أخذت بهذه القاعدة محكمة استئناف باريس39 في دعوى تتلخص وقائعها بأن أبرمت شركة Exoai عقد توزيع مع شركة Ricoh في 13 مارس 1997، وفي اليوم نفسه أرسلت شركة Exoai خطاباً الى شركة Ricon للتصرف دون منازع في المنتجـات، وقبلـت شـركة Ricoh هذا العرض، شركة Rican لامت شركة Exodis على عدم الوفاء بالتزامها وفـسخت العقد، ودخل الطرفان في إجراءات تحكيم طبقاً لشرط التحكيم المتضمن في العقـد، وأصـدرت محكمة التحكيم حكمها في 29 أكتوبر 2002، وطعنت شركة Exodi على الحكم لتجاوز محكمة التحكيم المهمة المخولة لها، رفضت محكمة الاستئناف الطعن وقضت بعدم قبوله على أساس إن "شركة Exodi تناقضت في أقوالها، إذ إنها أمام محكمة التحكيم طلبت التعويضات والفوائد بنـاءً على عدم تنفيذ شركة Ricon شرط الحق في التوزيع بلا منافس، فيكون موقف شـركة Exodi موقفا متناقضا ويكون ادعاؤها غير مقبول".

تطبيق القضاء اللبناني قاعدة عدم التناقض Estoppel:

   أخذ القضاء اللبناني بفكرة عدم التناقض بدلاً من فكرة التنازل الضمني لتأسيس قاعدة أثـارة سبب البطلان أثناء الخصومة التحكيمية، فقضت محكمة التمييز بأن "وحيث أن رئيس مجلـس الإدارة يتمتع حتماً بسلطة تمثيل الشركة أمام القضاء العادي أو التحكيم، وكان بإمكانه بصفته هذه أن يتذرع ببطلان البند التحكيمي، كما يفعل حالياً، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، لم يتمسك به أنما تمادى في السكوت عنه خافياً على الفريق الآخر أمر وجوده على الرغم من وضوح صورته لديه فلم يعد بإمكانه أمام قاضي البطلان أن يطالب به بعد أن جاء التحكيم لغير صالحه، فيرد ادعاؤه بهذا الخصوص لوروده متأخراً، لأنه يخرج بكل تأكيد عن حدود حسن النية، وذلك تطبيقاً للقاعدة العامة الواردة في المجلة والقائلة بأن من سعى إلى نقض ما تم من جهته يكون سـعيـه مـردوداً عليه، وهي جزء من القانون الوضعي اللبناني إذ أنها لا تخالف أو تجاوز أية قاعدة أخرى واردة في قانون الموجبات، إنما هي تكرس مبدأ عاماً يمكن تلمس آثاره في القانون بالذات.

والسؤال الهام هل يغطي مبدأ عدم التناقض الإجراءات المخالفة للنظام العام الداخلي والدولي؟!

   ذهبت محكمة استئناف باريس إلى أن قاعدة منع التنـاقض بقـصد الإضـرار بـالغير، تحد من المراجعـة القـضائية للإجـراء المخـالف للقواعـد الأمـرة فـ القـانون العـام، règles impératives du droit communautaire أي أنه في حالة مخالفة الحكم قاعدة مـن النظام العام، فإن قاعدة الاستوبل تبرر عدم قبول طلب البطلان، وقد طبق القضاء الفرنسي ذلـك من خلال قضاء محكمة بأريس في 8 نوفمبر 422007 فقضت المحكمة بأن المـصفي القـضائي الذي أعلن بإجراءات التحكيم لا يستطيع أن يدعي أمام قاضي البطلان أن حكم التحكـيم بأطـل بسبب أنه لم يمثل أمام محكمة التحكيم أو لم يتدخل هجومياً في منازعة التحكيم، فقاعدة الاستوبل تفترض أن المصفي القضائي الذي أعلن بإجراءات التحكيم لا يستطيع أن يدعي مخالفـة مبـدأ المواجهة بسبب أن حكم التحكيم صدر بدون مرافعات شفوية، حيث تبين مـن خـلال صـحف الإعلانات أن كل الخصوم بمن فيهم المصفي القضائي قد أعلن لحضور جلسات المرافعة.

   وفي حكم حديث لمحكمة النقض الفرنسية طبقت قاعدة عدم التناقض فقضت بأنه "لا يمكـن لأحـد أن يناقض أفعاله بقصد الإضرار بالآخرين، والجزاء هو عدم قبول الادعاءات المتناقضة لإجـراءات سابقة، فإن الخصم الذي لم يدع أمام المحكم بسبب البطلان يكون متناقضاً مع نفسه، وبالتـالي رفـضت المحكمة ادعاء المصفي القضائي بأنه لم يشارك في إجراءات التحكيم، على أساس أنه أعلن بها.

   فبرغم أن قواعد التصفية من النظام العام، إلا أن محكمة النقض ومحكمة استئناف بـأريس طبقتا مبدأ الاستوبل، واعتبرتا إعلان المصفى مباشرة إجراءات التحكيم، وعدم حضوره يعتبـر متناقضاً مع فعله، ويصدر حكم التحكيم بدون حضوره جلسات التحكيم.

    ولقد شكك بعض الفقه في إمكانية تغطية قاعدة الاستوبل لانتهاك مبدأ وقـف الإجـراءات الفردية والدخول في الإجراءات الجماعية (التصفية) ومخالفة مبدأ المواجهة.

الرأي الشخصي: مبني على فلسفة التحكيم وتدعيم فاعليته، وهو قبول فكرة الأستوبل لتغطيـة المخالفة الإجرائية للنظام العام الداخلي دون الدولي:

   أرى أنه يمكن الاستناد إلى فكرة الاستوبل لتأسيس مبدأ وجوب إثارة سبب الـبطلان أمـام المحكمين لقبول البطلان في كافة حالات البطلان، فتغطي حالات البطلان المتعلقة بالنظام العـام الإجرائي الداخلي، لأن الأفعال المتناقضة بقصد الإضرار بالغير، لا يكون جزاء فاعلهـا (سـيئ النية) إلا عدم قبول طلب بطلانه، حتى ولو تحققت المخالفة بقاعدة مـن قواعـد النظـام العـام الإجرائي الداخلي، فتشكيل هيئة التحكيم من عدد زوجي، وصدور حكم التحكيم دون اعتـراض اطراف التحكيم على ذلك، يعد ذلك تنازلا منهما عن الإجراء المخالف للنظام العام الداخلي وهـو قاعدة وترية هيئة التحكيم. ولكن يختلف الأمر بالنسبة لقواعد النظام العام الإجرائي الـدولي، ولا سيما أن هذا الحكم معرض أن ينفذ خارج مقر صدور حكم التحكيم، حيث يصطدم الحكم بالقضاء الأجنبي الذي يستلزم توافق حكم التحكيم مع النظام العام الدولي، ومن ثم يرفض تنفيـذ الحكـم المخالف إجرائيا للنظام العام الدولي، رغم عدم اعتراض أحد أطرافه على تلك المخالفة أثناء نظر المحكم في خصومة التحكيم.

   وأخيراً نرى أنه يجب أن يكون هناك – لتدعيم فاعلية التحكيم – توافق دولي على ضرورة اعتبار عدم اعتراض أحد الاطراف على المخالفة الإجرائية للتحكيم، والتي تعد من النظام العـام الدولي، تنازلا منه عن إثارتها عند تنفيذ حكم التحكيم، وبعبارة واحدة شمول قاعدة الاستوبل قواعد النظام العام الإجرائي الدولي.

المبحث الرابع

قواعد النظام العام الإجرائي الدولي المتعلقة بحكم التحكيم

المداولة بين المحكمين Délibération entre les arbitres:

   قضت محكمة النقض الفرنسية في مادة تحكيم دولية ببطلان حكم التحكيم، لعـدم وجـود مداولة حقيقة بين المحكمين، فمن حـق المحكـم أن ينـاقش قـرار التحكـيـم مـع المحكمـين الآخرين قبل إصداره. لذلك فإن المداولة بين المحكمـيـن تعـد مـن النظـام العـام الـدولي الإجرائي.

الالتزام بالتسبيب Exigence de Motivation:

   أكد القضاء الفرنسي أن المحكم مثل القاضي يجب أن يسبب حكمه، ولقد كـان القـضاء الفرنسي القديم في أحكامه يستلزم تسبيب حكم التحكيم، ولم يتغير الوضع في أحكـام القـضاء الفرنسي الجديد في ظل أحكام قانون المرافعات الجديدة الخاصة بالتحكيم فظل القضاء الفرنسي على موقفه متمسكا بوجوب تسبيب حكم التحكيم ، حيث اعتبر القضاء الفرنسي أن التسبيب يمكن من فحص حكم التحكيم فيبين كل الاسباب التي استند إليها في حكمه، وبالتالي يقف الخـصوم على شرعية الحكم، ويزال شك الخصوم في حكم المحكم". ويطمئن قاضي الطعن من ضمان ردّ المحكمين على إدعاءات الخصوم عند فصلهم في الدعوى .

اتجاه محكمة النقض الفرنسية السابق بخصوص اعتبار تسبيب حكم التحكيم ليس مـن النظـام العام الدولي:

   ذهبت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في 22 نوفمبر 521966 بأن "عدم تسبيب حكم التحكيم لا يشكل مخالفة للنظام العام الدولي، بشرط ألا يكون هناك إعتـداء علـى حقـوق الخصوم في الدفاع".

   أعتقد أن هذا القضاء السابق لمحكمة النقض الفرنسية محل نظر، وذلك لأنه بدون تــسبيد حكم التحكيم لا يمكن للأطراف معرفة الأساس الذي بنى عليه المحكم حكمه،

   وبدون التسبيب لا يمكن معرفة هل تجاوز المحكم في حكمه أم لا، بمعنى آخر هـل التـزم المهمة المخولة إليه في اتفاق التحكيم، ولا سيما لو أننا علمنا موقف محكمة النقض الفرنسية فـي مراقبة حكم المحكم المفوض بالصلح بالنسبة لتجاوزه مهمة التفويض بالصلح، فقد حكمت محكمة النقض الفرنسية في 10 يوليو 2003، بأنه "يجب على القاضي أن يجـري مراجعـة شـكلية لاحترام مهمة المحكم المفوض بالصلح، فيجب أن يشير المحكم في حكمه لكلمة العدالة"، فبـدون الاشارة في أسباب حكم المحكم على أنه مفوض بالصلح وراعي اعتبارات العدالة، يكون حكمـه باطلاً لتجاوزه المهمة المخولة إليه.

   وبدون التسبيب لا يمكن لقاضي البطلان مراقبة احترام المحكم لإجراءات التحكيم.

   وبدون التسبيب يمكن للمحكم أن ينتهي إلى حل النزاع موضوعاً بالمخالفة لقواعـد النظـام العام الموضوعي، دون إمكانية بحث ذلك لخلو الحكم من أسبابه.

قضاء محكمة النقض الفرنسية الحديث:

   قضت محكمة النقض الفرنسية في حكمها الصادر في 14 يونيو 2000 بـأن "مـضمون أسباب حكم التحكيم يخرج عن نطاق سلطة قاضي البطلان في مراجعة الحكم، إلا إذا كان حكـم التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي"، فيعد التسبيب في هذه الحالة ضروري لبيان مخالفـة حكـم التحكيم لقواعد النظام العام، ومن ثم يكون تسبيب حكم التحكيم من النظام العام الدولي، إذا تضمن الحكم مخالفة لحقوق الدفاع أو النظام العام.

هل حجية حكم التحكيم تعد من النظام العام الدولي؟

   تلحق بحكم التحكيم الصادر صفة حجية الأمر المقضي – التي تلحق بالأحكـام القضائية- على اعتبار أن ما يصدر من المحكم هو عمل قضائي un acte juridique. هذه الحجية التي تلحق بحكم التحكيم فور صدوره، معترف بها في غالبية التشريعات المقارنة، وكذلك أغلب لوائح مراكز التحكيم، حيث تنص على أن حكم التحكيم يكون ملزماً "obligatoire" للأطراف.

   أن حجية حكم التحكيم تمنع هيئة التحكيم أو محاكم الدولة57 من العودة مرة أخرى – بعيـداً عن دعوى بطلان حكم التحكيم (أو طرق الطعن على الحكم بالنسبة للتشريعات التـي سـمحت بذلك) - في إعادة طرح النزاع من جديد للفصل في ما قضي فيها، وهذا يعد الأثر الإيجابي لحجية الأمر المقضي، تلك الحجية تشكل عقبة أمام أي قضاء آخر autre jurisdiction – سواء أكان تحكيمياً أم قضائياً، من إعادة طرح النزاع - الذي فصل فيه تحكيمياً – أمامه. والنتيجة المؤديـة لذلك إذا رفع ذات النزاع بذات الخصوم – والمقضي فيه سابقاً بحكم تحكيمـي - أمـام قاضـي الدولة، هو الحكم بعدم جواز نظر الدعوى لسابقة الفصل فيها. أما بالنسبة إذا رفع النـزاع ثانيـاً أمام هيئة تحكيم أخرى، فإنه يجب على الهيئة أن لا تفصل في موضوع النزاع، بل تختص بنظر توافر شروط حجية الأمر المقضي من عدمه، فإذا توافرت قضت بعدم قبول الدعوى، وبـذلك توقف آثار اتفاق التحكيم.

   وحيث أن حجية الأمر المقضي لحكم التحكيم لا تعد من النظام العام الدولي، بينمـا بينمـا تعـد جزءا من النظام العام الداخلي، ونتيجة لعدم اعتبارها قاعدة من النظام العام الدولي، فإن حكـم التحكيم الصادر بالمخالفة لتلك القاعدة لا يعد باطلاً أو مرفوضاً تنفيذه، بسبب إغفال حجية الأمر المقضي لحكم تحكيم سابق، ولكن يبطل الحكم أو يرفض تنفيذه إذا كان يتعارض مع حكم تحكـيم أو قضاء سابق، فقضي بأن الاعتراف أو تنفيذ حكم تحكيم يتعارض مع قرار تحكيمي أو قضائي سابق يتعارض مع النظام العام الدولي الفرنسي .

   ومع ذلك يجوز للخصمين بالاتفاق المشترك بينهما أن يتنازلا عن حجية حكم التحكيم – إذا لم يقبلا ما قضى به المحكم – وإعادة طرح النزاع على هيئة تحكيم جديدة، غير التي أصدرت الحكم الأول، لأنها استنفدت ولايتها.

   ويكون للحكم التحكيمي حجية الأمر المقضي حتى ولو لم يودع قلم كتاب المحكمة المختصة، لأنه لا علاقة بإجراء إيداع حكم التحكيم وحجيته التي تكتسب بمجرد صدوره. بل ايضاً يكتـسـب تلك الحجية حتى ولو لم يصدر أمر بتنفيذه، باعتباره عملاً قضائياً يحوز حجية الأمر المقـضي. وتستمر هذه الحجية ما لم يقضى ببطلانه من قبل قاضي البطلان أو صدور أمر برفض التنفيذ.

  هذة الحجية لا تكون نهائية definitive إلا بفوات ميعاد الطعن (رفع دعوى البطلان بالنسبة للتشريعات التي تقصر مراجعة حكم التحكيم على دعوى البطلان) أو في حالة رفض الطعـن وتطبيقاً لذلك قضي بأنه "من المقرر أن الحكم الصادر من المحكمين يحوز حجية الأمر المقضى بمجرد صدوره ولا يجوز لطرفي الخصومة اللجوء الى القضاء أو معاودة المنازعة في ما فصل فيه عند اتحاد الموضوع والسبب - في أية دعوى تالية أمام المحاكم ولو بأدلة قانونية أو واقعيـة لم يسبق إثارتها في خصومة التحكيم طالما لم يصدر حكم ببطلانه أو برفض التصديق عليه ففي الحالة الأخيرة لا يكون للحكم حجية تحول دون معاودة نظر موضوع الدعوى بناء علـى الخصوم أمام القضاء بإعتباره صاحب الولاية العامة.

   وقضى أيضاً بأنه لا تمنع حجية الأمر المقضي لحكم التحكيم، عدم جواز طرح النزاع مرة أخرى أمام القضاء المختص فقط، بل تمنع من طرح النزاع مرة أخرى أمام المحكم الذي أصدر الحكم، بل أمام أي هيئة تحكيم أخرى، إلا إذا اتفق الأطراف باتفاق تحكيم جديد على إعادة طرح النزاع الذي سبق وان فصل فيه على هيئة تحكيم جديدة.

   واكتساب حكم التحكيم حجية الأمر المقضي يمنع الخصوم من العودة الى المناقـشـة فـي المسألة التي فصل فيها الحكم ولو بأدلة قانونية أو واقعية لم تسبق إثارتها. وهذه الحجية تكون لحكم التحكيم بمجرد صدوره، حتى ولو قبل صدور الأمر بتنفيذه. إلا أن اكتساب حكم التحكيم حجية الأمر المقضي لا يمنع من تقديم طلب بطلانه إذا توافرت الشروط، فالحجية التي اكتسبها هذا الحكم حجية مؤقتة لحين الانتهاء من مرحلة التصديق عليه واجازة تقديم طلب بطلان عليـه أو صدور حكم القاضي برفض طلب البطلان وتأييد حكم التحكيم.

للمحكم وحده سلطة تقدير حجية حكم تحكيم سابق بين نفس الخصوم على المنازعة الجديدة:

   يكون الاختصاص بنظر سابقة الفصل في المنازعة التحكيمية لهيئة التحكيم، وليس لقاضـي الدولة، فالمحكم مستقل بتقدير وتفسير حجية الأمر المقضي لحكم تحكيم ســـابق، وذلـك طبق لمبدأ الاختصاص بالاختصاص، فإن المحكم هو الذي يفصل في كافة الدفوع المتعلقة بموضـوع التحكيم وإجراءاته، بما فيها النظر في سابقة الفصل في الطلب المعروض عليـه أم لا، فقاضـي الدولة لا يتدخل في هذه المسألة إلا عند صدور حكم تحكيم بعدم جواز سـماع الطلـب لـسابقة الفصل فيه، وطعن عليه بالبطلان، فيحق للقاضي مراجعة هل أحترم المحكم مهمته المخولة إليـه أم لم يحترمها وانكر العدالة، ولم يفصل في المنازعة المعروضة عليه. وتطبيقـاً لـذلك قـضت محكمة استئناف باريس (69) في قضية تتلخص وقائعها بأنه قد صدر قـرار فـي 21 مـارس 2002 من رئيس المحكمة الابتدائية بباريس، برفض تعيين المحكمين مرة أخرى للفـصـل فـي نطاق حجية الأمر المقضي لحكم تحكيم سابق بالنسبة للنزاع الجديد الطارئ بين ذات الخـصوم، على أساس أن النزاع الجديد شمله حكم التحكيم السابق، وبالتالي حاز حجية في النـزاع ذاتـه طعن الخصم على القرار – حيث طبقاً للمادة 1457 مرافعات فرنسي يكون لـرئيس المحكمـة الابتدائية أن يصدر قراراً على وجه السرعة (بصفة مستعجلة) وغيـر قـابـل للاستئناف الحالات المنصوص عليها في المواد 1444، 1454، 1456، 1463، واستثناء يقبـل قـراره الطعن في حالة الفقرة الثالثة من المادة 1444، والخاصة برفض تعيين المحكمين فـي حالـة إذا شاب تعيين المحكمين بطلان ظاهر، وأيضاً في حالة تجاوز السلطة من قبـل رئيس المحكمـة الابتدائية – لتعدي رئيس المحكمة الابتدائية على اختصاص هيئـة التحكـيم، وقبلـت المحكمـة الطعن، وقضت بأنه طبقـا للمـادة 1466 مرافعـات وأيـضاً طبقـاً لمبـدأ الاختـصـاص - بالاختصاص، فإنه لهيئة التحكيم وليس لرئيس المحكمة الابتدائية تقدير نطاق حجية حكم تحكـيم سابق بين ذات الخصوم، في حالة وجود نزاع جديد طارئ، وبيـان كمـا إذا كانـت المنازعـة الجديدة شملها حكم التحكيم السابق من عدمه، فكل ذلك من اختصاص المحكمين، فـإذا رفـضت المحكمة الابتدائية تعيين المحكمين للفصل في نطاق حجية حكم تحكيم سـابق بالنـسبة للنـزاع  الجديد، فإنها تكون قد جاوزت سلطتها، ويكون القرار الصادر مخالفاً لنص المـادة 1466، ممـا يتعين إلغاؤه.

عدم التوافق بين حكم التحكيم وبين قرار قضائي أجنبي:

 Inconciliabilité de la sentence avec la décision étrangère:

   تثير مسألة التوافق بين حكم التحكيم وبين قرار أجنبي، مسألة الاعتـراف بحكـم تـحـكـيـم مخالف لحكم أجنبي سابق حاز قوة الأمر المقضي، فإذا لجأ أحد الأطراف إلى هيئة التحكيم، بعد صدور حكم من المحكمة المختصة حاز قوة الأمر المقضي، وأصدرت هيئة التحكيم قرارها، فلا يمكن تنفيذ هذا القرار لمخالفته حجية الأمر المقضي، ويكون تنفيذ حكم التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي، ذلك في حالة أن الشخص الصادر ضده الحكم القضائي هو وحده الذي لجأ إلـى هيئـة التحكيم لمعاودة طرح النزاع مرة أخرى أمامها- ودفع الصادر لصالحه الحكم القضائي بحجيـة ذلك الحكم أو لم يدفع- فيكون قد تنازل بإرادته الضمنية عن حجية الحكـم القـضائي لـصالح التحكيم، وهذا لا يجوز لأن التنازل عن الحكم تنازل عن الحق، فإذا أصدر المحكم حكمـه فـلا نكون إلا أمام حكم واحد قابل للتنفيذ، وهو حكم القضاء، ويكون تنفيذ حكم التحكيم مخالفاً للنظـام العام الدولي.

   إن تنفيذ حكم التحكيم غير المتوافق مع الحكم الأجنبي الحائز قوة الأمر المقـضي، يكـون تنفيذه مخالفاً للنظام العام الدولي، حيث من شروط تنفيذ الأحكام الأجنبية ألا يكون الحكم مخالفـاً لحكم سابق حاز قوة الأمر المقضي، فقد ذهبت محكمة استئناف باريس في حكمها الـصادر 17 يناير 2012 في قضية شركة "اتصالات" الإماراتية وشركة "بلانور أفريـك" أن مجـرد عـدم التوفيق (التوافق) بين حكم التحكيم وقرار محكمة الاستئناف، يجعل الاعتـراف بحكـم التحكـيم وتنفيذه مخالف بطريقة ملموسة وفعلية للنظام العام الدولي، فقد صدر حكم التحكيم بالمخالفة لحكم سابق صادر من المحكمة الابتدائية ببوركينافاسو والمؤيد استئنافياً من محكمة استئناف اجادوجو، ومن ثم يكون حكم التحكيم خالف حكما قضائياً حائزاً قوة الأمر المقـضي، ونظـراً لأن فرنسا ودولة بوركينافاسو وقعتا اتفاقية تنفيذ الأحكام في 24 أبريل 1961، والتـى تـنص أن الأحكـام الصادرة في بوركينا فاسو - والتي حازت قوة الأمر المقضي – يمكن تنفيذها في فرنسا، ومن ثـم يبطل حكم التحكيم والأمر بتنفيذه - لتناقضه مع حكم أجنبي سابق حاز قوة الأمـر المقـضي، حيث يشترط للاعتراف بحكم التحكيم الدولي وتنفيذه بفرنسا، إلا يكون مخالفاً للنظام العام الدولي، وحيث أن حكم التحكيم صدر مخالفاً حكماً سابقاً حائزاً قوة الأمر المقضي، ومن ثم فإن الاعتراف بهذا الحكم لصالح "اتصالات" يعد مخالفاً للنظام العام الدولي، وكذلك الأمر بالتنفيذ الصادر في 14 أكتوبر 2010، مخالف للنظام العام الدولي لصدوره بالمخالفة لحكم سـابق حـائز قـوة الأمـر المقضي، وقد تم الطعن بالنقض على هذا الحكم، وقد أيدت محكمـة الـنقض الفرنسية حكـم الإستئناف، على أساس أنه وفقاً للقانون الفرنسي يجوز بطلان حكم التحكـيم الـدولي إذا كـان الاعتراف به أو تنفيذه يخالف النظام الدولي .

الفصل الثالث

آثار مخالفة حكم التحكيم للنظام العام الإجرائي الدولي

    تختلف آثار التحكيم المخالف للنظام العام الإجرائي الدولي، في دولة مقر التحكيم، عن دولة صدور حكم التحكيم، عن دولة تنفيذ حكم التحكيم. فقد تباشر إجراءات التحكيم في دولة ما، ولكن يصدر الحكم في دولة أخرى، وينفذ الحكم في دولة أخرى، لذلك يحتلف أثر مخالفة التحكيم للنظام العام الإجرائي الدولي، عن ماهية المرحلة الإجرائية التي يمر فيها التحكيم، وعن الدولـة التـى تباشر بها تلك المرحلة.

- أثر التحكيم المخالف للنظام العام الإجرائي الدولي بدولة مقر التحكيم:

   يجب ألا يتضمن اتفاق التحكيم أي نص إجرائي يخالف النظام العام الإجرائـي الـدولي، وإلا أصبح اتفاق التحكيم مخالفاً للنظام العام الدولي، ويكون في هذه الحالة ظاهر البطلان، ومن ثم يعود الاختصاص – المستبعد باتفاق التحكيم- بنظر الدعوى محل التحكيم إلى قاضي الدولة مرة أخرى.

    وإذا كان اتفاق التحكيم صحيحاً، وغير مخالف للنظام العام، فيتعين على هيئة التحكيم قبـول طلب التحكيم والبدء في نظر خصومة التحكيم، ولكن إذا رفضت هيئة التحكـيم ذلـك أصـبحت منكرة للعدالة، حيث كما سبق القول إن حق الوصول الى المحكم مثل حق الوصول الى القاضي، من الحقوق الأساسية المتعلقة بالنظام العام الدولي، فينبغي في هذه الحالة تشكيل هيئة تحكيم جديدة مع إمكانية مطالبة المحكم منكر العدالة بالتعويضات.

- أثر مخالفة حكم التحكيم الدولي للنظام العام الإجرائي الدولي بدولة صدور حكم التحكيم:

   يتعرض حكم التحكيم الدولي المخالف للنظام العام الدولي، لأن يكون محلاً لدعوى البطلان في دولة مقر التحكيم، فحكم التحكيم الدولي إذا صدر بالمخالفة للنظام العام الإجرائي الدولي يكون الحكم محلا لدعوى البطلان، حيث أن بعض التشريعات، وعلى سبيل المثال فرنسا، تجيز للطرف المضرور رفع دعوى بطلان حكم التحكيم الدولي في حالة مخالفته النظام العام الدولي (5/1520 إجراءات مدنية فرنسي).

- أثر مخالفة حكم التحكيم للنظام العام الإجرائي الدولي بدولة مقر تنفيذ حكم التحكيم:

   قد لا يستطيع الصادر لصالحه حكم التحكيم، تنفيذ ذلك الحكم داخل دولة مقر التحكيم، فيمكن له الذهاب خارج دولة مقر التحكيم، ويذهب الى دولة أجنبية لتنفيذ ذلك الحكم، وفي الحقيقـة أن غالبية التشريعات مثل فرنسا ولبنان وتونس والجزائر، تستلزم لتنفيذ حكم التحكـيم الأجنبـي أو الدولي، توافقه مع النظام العام الدولي وليس الداخلي، فصدور حكم التحكيم بالمخالفة للنظام العام الدولي يعرضه لعدم التنفيذ بمقر الدولة الاجنبية (دولة مقر التنفيذ)، وعلى العكس مخالفة حكـم التحكيم الأجنبي أو الدولي للنظام العام الداخلي بدولة مقر التنفيذ لا يجعل حكم التحكيم غير قابـل للتنفيذ، بل يمكن تنفيذه.

 

  إن بطلان حكم التحكيم في دولة مقر التحكيم، لا يؤدي إلى عدم تنفيذ حكم التحكيم في دولة أجنبية، ففي فرنسا يمكن تنفيذ حكم التحكيم الباطل في مقر التحكيم، فقد أرسى القضاء الفرنسي مبدأ جواز تنفيذ أحكام التحكيم الباطلة الصادرة في الخارج، وذلك من خلال أربع قضايا، قـضية ،Hilmarton ،Polish ocean ،Norsolor، والسبب الوحيـد الـذي Chromalloy يمنع تنفيذ حكم التحكيم الباطل في دولة مقر التنفيذ،هو مخالفة حكم التحكـيم المقـضي ببطلانـه للنظام العام الدولي، ففي هذة الحالة لا ينفذ الحكم، ليس لكونه باطلا في دولة مقر التحكيم، ولكن لكونه مخالفا للنظام العام الدولي.

   وينبغي ملاحظة أن قاضي التنفيذ عندما يراجع مدى توافق حكم التحكيم الأجنبي أو الـدولي للنظام العام الإجرائي الدولي، ينبغي أن تكون المخالفة ملموسة وفعليـة manière effective et concrete، وأن تكون المخالفة في منطوق حكم التحكيم وليس في الأسباب L'ordre public doit avoir été violé dans le dispositif de la sentence et non dans les motifs حيث يحظر على القاضي مراجعة اسباب حكم التحكيم.