النظرة إلى المستقبل بشكل عام تعني الوعي بضرورة امتلاك رؤية محددة للـشيء محـل النظر عبر قراءة الواقع واستشراف المستقبل، وهي مسألة محمودة في كل المجالات، خاصة إذا اتصلت تلك النظرة بمجال التحكيم الدولي لأن أمره يرتبط بتنظيم واستقرار المجتمـع التجـاري على الصعيد العالمي، هذا الاستقرار ذو أهمية قصوى لإرتباطه بالمصالح الإقتصادية لكل دولة. وأيضاً لأن هناك جهة كمنظمة الأمم المتحدة تملك الكفاءة والكفاية والقدرة على تفعيل ما يمكـن الوصول إليه من مقترحات عبر آليات متعددة.
ولعل من المناسب أن أبدأ هذه الدراسة المبسطة بتأكيد أن التحكيم غير القضاء بحـسبان أن هذا التأكيد هو العنصر الفاعل في إعداد أية مقترحات مستقبلية بشأن محتـوى قواعـد تحكـيم اليونسترال. وبعد هذا التأكيد سوف أشير بإيجاز إلى بعض النقاط القانونية التي يثيرها ما يعرف بالنظام العام الذي يحدد بشكل كبير نطاق تنفيذ قرار أو حكم التحكيم جبرياً، لأن إكساب حكـم التحكيم الصيغة التنفيذية من قضاء دولة التنفيذ يقتضي أن لا يكون الحكم التحكيمي مخالفـاً لمـا يعرف بالنظام العام.
(1)
نقطة بدء ضرورية: "ذاتية نظام التحكيم":
1- فكرة القضاء وفكرة التحكيم ليستا بالنقيضين، ولكنهما ليستا بشيء واحد:
ينبغي أن نسلم، بداية، أن التحكيم العصري هو نظام قانوني ذو طبيعة واحــدة مؤسـس على فكرة من نوع خاص لا ينطوي تحت فكرة عامة كفكرة القضاء فكرة قائمة على الإتفاق، لها خصائصها الذاتية المميزة. ففي التحكيم يحصل ارتباط وتفاعل بين اتفاق التحكيم وطبيعـة المهمة التحكيمية التي تعهد إلى المحكم بموجب هذا الاتفاق، مع وجود تنظيم قـانوني هيكلـي يسمح بحسم النزاع من غير القضاء النظامي وخارج محاكم الدولة، هذا الإرتباط أو التـزاوج أفرز في الواقع العملي وجود نظام التحكيم ككيان مستقل متفرد بذاتـه، بمفاهيمـه، وثقافتـه وفلسفته، التي تقوم أول ما تقوم على رغبة الخصوم في حل نزاعهم بعيداً عن القـضاء، كـل قضاء.
التحكيم، بوضوح كامل، هو مصدر اتفاقي لفض منازعات محددة، متميز عـن القـضاء لا يتفرع عنه ولا هو استثناء منه. والأطراف إنما يلجأون إلى التحكيم من أجل الإسراع في فـض منازعتهم إلى محكم صاحب خبرة فنية خاصة ملائمة لطبيعة معاملاتهم، يخضعونه لقواعـدهم، وعليه أن يراعي في الوقت ذاته الإهتمام بمصالحهم المتعارضة، كما قد يوفق بين هذه المصالح. في مقابل ذلك يقبل الأطراف ضمنياً التضحية ببعض الضمانات الشكلية التـي يوفرهـا قـضاء الدولة عبر محاكمها، هذه التضحية يمكن تفهمها والقبول بها في التحكيم، ويتعين دائماً أخذ هـذا الأمر (التوازن المعقول لمصالح الأطراف) في الحسبان.
والمشرع -كل مشرع- لم يخلق التحكيم من العدم أو تفضلاً، بل أنه وضع قواعده (موجهاته الأساسية المتعين مراعاتها) بعد أن تأكد انتصار التحكيم كنظام اقتصادي وسياسي دولي، وأيـضاً كفكرة قانونية مستقلة عن فكرة القضاء. فالتحكيم الحديث هو نظام لحسم المنازعـات التجاريـة أفرزه مجتمع التجارة الدولي وأجازه وهضمه، وتبناه الفكر القانوني والتشريعي علـى المـستوى العالمي. والقانون – كل قانون - وإن صدر عن إرادة الدولة أو عن السلطة الفاعلة في مجتمع ما، فهو في نهاية الأمر صراع بين إرادات مختلفة، صراع أفكار وصراع مصالح وصـراع قـوى "صراع من أجل القانون".
والمشرع الوطني لم يبتكر القواعد التي تنظم التحكيم في دولته، وإنما كان عاكـسا لواقـع حاصلاً فعلاً في النطاق الدولي، لم يكن في مقدوره أن ينفيه أو يتجاهله. والمحكـم إنمـا يقـوم بممارسة دوره أو مهمته وينظر النزاع التحكيمي ويصدر قراره فيه وفقاً لمقتضيات محددة مقبولة من الأطراف، هذه المقتضيات وإن تشابهت مع مقتضيات وضوابط الوظيفـة القـضائية، فإنهـا بالتأكيد ليست إلا مقتضيات أو ضوابط تحكيمية. ضوابط ذات معايير مستمدة من مفهـوم فكـرة التحكيم ذاتها القائمة على مبدأ سلطان الإرادة وبحسبان أن نظام التحكيم طريقاً متميـزاً، لحـسم نزاع معين، يختلف عن طريق القضاء. هذا الاختلاف وإن كان لا يعتبر اختلافـاً رئيسياً فـي الجوهر إلا أنه يظل مع ذلك إختلافاً رئيسياً في النوع والدرجة والتفاصيل.
2 - للتحكيم مرجعية مختلفة عن مرجعية القضاء:
المعلوم أن قانون المرافعات القضائية في كل بلد هو مجموعة القواعد التي تضعها كل دولة في شأن تكوين السلطة القضائية بها وتنظيم وظيفة هذه السلطة لتتولى إقامة العدل بـين أفـراد المجتمع والفصل في منازعاتهم. وتشغل القواعد التي تتناول إجراءات التقاضـ ، أي إجـراءات رفع الخصومة أمام القضاء ووسائل الدفاع أمامه وكيفية إصدار الأحكام وتنفيـذهـا فـي قـانون المرافعات أهم مكان. فقواعد المرافعات القضائية تتعلق، إذا، بتنظيم سلطة عامة مـن سـلطات الدولة الجوهرية لإقامة العدل بين مواطنيها وإشاعة الطمأنينة في نفوسهم، هذه القواعد هي وسيلة أو أداة الدولة في هذا الشأن. لذلك فإن المبادئ التي يقوم عليها قانون المرافعات تلائم الأوضـاع التي يحكمها في كل دولة، فقط حسب مصالحها وعلى ضوء واقعها وثقافة مجتمعها. أما القواعد التي تنظم التحكيم وتحكمه -خاصة التحكيم الدولي - فلا بد بداهة أن تتلاءم هي الأخرى مع البيئة أو الثقافة التي يعمل التحكيم في فلكها بحيث تكون مندمجة فيه. وعلى ذلك يتضح أن سبب كـون التحكيم نظاماً متميزاً عن نظام القضاء، إنما يرجع إلى أن للتحكيم مرجعية مختلفة عن مرجعية القضاء. وتعني المرجعية، في السياق الذي نحن بصدده، المفاهيم والأسس التـي يـستمد منهـا التحكيم أصوله وشرعيته، تلك الموصولة بجوهره وخصائصه، والمؤثرة بالتـالـي فـي القواعـد المنظمة له والمحددة لنطاقه والحاكمة له، ومن ثم يجب الاسترشاد بها فيما يستشكل من أموره. التحكيم هو وليد حاجة المجتمع التجاري الدولي لتنظيم حل منازعاته على نحو عاكس لواقع معین، غير منفصل عن هذا الواقع بل يدور في محيطه، تملي الإعتبـارات العمليـة المتجـددة أحكامه وقواعده، ومن ثم فإن التطور التجاري المعرفي الحاصل في شأن التحكيم الحـديث هـو الذي أبرز ذاتيته، وخلق في الوقت ذاته مفاهيمه الخاصة التي يجب دائماً أخذها فـي الحـسبان كمرجعية تحكيمية. هذه المرجعية مختلفة بطبيعة الحال عن مرجعية القضاء، كما تقدم.
لذلك، فالتحكيم الدولي غير مرتبط بنظام أو فلسفة أو سلطة دولـة مـا، بـل أنـه لضرورات مجتمع التجارة العالمي، هذا هو الأساس الأول في بنائه القانوني. وفي كل الأحـوال فإن التحكيم ليس مجرد إجراءات تداعي فقط، فالمسائل الإجرائية في التحكيم -رغم جوهريتها- ليست سوى الجزء الظاهر منه، الأكثر دراسة وذيوعا وشهرة. وهي التي ترتكز عليها قـوانين ولوائح التحكيم المختلفة.
بعبارة أخرى، فإن التحكيم الدولي هو، ككيان ونظام قانوني لـه نـطــاق مـحـدد، يتـضمن مجموعة من القواعد (الإجرائية وغير الإجرائية) الخاصة به، صياغات وتفسيرات وحلـول ذات طابع دولي، واقعي، مرن، تحددها في الغالب الأعم- مصالح المحتكمين وإرادتهم، والمـصالح الاقتصادية المهيمنة في نطاق التجارة الدولية عابرة الحدود، وقد كانت هذه الخاصية ولا تـزال السبب في تدويل القواعد التحكيمية وعموم تطبيقها في الأنظمة القانونية المختلفة. وعلى ذلك فإن الضوابط التي ينبغي أن يلزم بها المشرع -كل مشرع- العملية التحكيمية يجـب أن تكـون مستمدة من مفهوم وخصوصية التحكيم ذاته، ضوابط وحدود تتسق مع أهدافه ومناخه والمبـادئ هي ع اللصيقة بمجتمع التجارة العالمية، وبقصد تنظيم سلوك ومعاملات التجار داخل هذا المجتمع.
لذلك، فإنه يجب أن يكون مفهوماً أن القواعد التي يخضع لها التحكيم هـي فـي الأسـاس قواعد تحكيمية، بمعنى أن الضوابط التي يدور التحكيم في فلكها إنما تستمد من فكـرة التحكـيم بحسبانه وسيلة اتفاقية مرنة لفض المنازعات على مسرح التجارة الدولية، وهي فكرة مميزة حتى من الناحية الإجرائية عن فكرة القضاء الشكلية الجامدة، بما يستتبعه ذلك من تميز هذه الـضوابط عن القواعد التي تحكم القضاء، فقد يوجد الشيئان المتشابهان أو المنفصلان، ولا يتناقضان.
ترتيباً على ما تقدم، فإنه ولئن كانت التشريعات واللوائح التحكيمية الإجرائية قد استعارت من قوانين المرافعات الكثير من مصطلحاتها ومسمياتها – لوجود صلة إجرائية ظاهرة بينهم -، فإنه يجب النظر إلى هذه المصطلحات التحكيمية والنظريات الإجرائية المستقاة عـن المرافعـات القضائية من زاوية التحكيم الرحبة المفتوحة، أي إعمال القاعدة القضائية بعد إدخال ما يـستلزمه مفهوم التحكيم من تحويرات فيها. وبمعنى آخر، فإنه إذا كانت القاعـدة أن قـانون المرافعـات القضائي يكمل كل قانون إجرائي ومنه قانون التحكيم الإجرائي، وإن كان من الممكن أن يستكمل هذا الأخير بقواعد المرافعات، عند وجود النقص، ووجود الحاجة، فإن هذه التكملـة يجـب أن تكون بمنظار التحكيم ووفقاً لمفاهيمه ومقاصده، وبحيث لا يحصل تداخل بين قواعـد قـانون التحكيم الإجرائية وقواعد قانون المرافعات.
فالتقارب أو التشابه الملموس بين القانونين يجب ألا يمس تميز القواعد التحكيمية عن قواعد القضاء. كما أن الربط بينهما من الناحية الإجرائية لا يعني تفسير التحكيم بنفس أسلوب المرافعات أو بحسبانه تابعاً له. وتطبيق المحكم أو القاضي المعني بشؤون التحكيم هو في النهايـة تطبيقـاً لقواعد تحكيمية، وهي قواعد قانونية بالمعنى الصحيح وإن كانت تتسم بكثير من المرونة المنشودة دائماً في التحكيم، بحيث يكون فهمها وتطبيقها تقديرياً عقلياً تراعي فيه الظروف الواقعية الخاصة بكل حالة على حدة، بخلاف تطبيق القاضي لقواعد المرافعات الجامدة التي تكون بدورها تطبيقـاً استبدادياً آلياً سهلاً.
ونشير في هذا السياق إلى أنه من الخطأ أن يقوم التشريع بتكبيل التحكـيم بقواعـد عامـة ملزمة، كتلك التي يخضع لها القضاء، وإلا فقد التحكيم أساس وجوده. ذلك أن التحكيم بطبيعتـه ينفر من القواعد القانونية الجامدة، خاصة التفصيلية منها، هذه السمة يمكن ردها إلـى الطبيعـة الاتفاقية للتحكيم وخصائصه المرنة المتطورة، مع تنوع مصادره التي يغلب عليها الطابع الإتفاقي أو العرفي "غير المكتوب" التي تلائم طبيعة الدائرة التي ينظمها وينسجم مع التطور الحاصل في أساليب المعاملات التجارية.
فهناك مبادئ أساسية ذات اعتبار عملي عالمي في مجال التحكيم الدولي تلائـم مقتـضيات التطور الحاصل على مسرح التجارة العالمية، حتى وإن كانت هذه المبادئ غير مقننة تشريعياً أو لائحياً، فهي مبادئ ومفترضات مستمدة من متطلبات المحيط الإتفاقي والإقتصادي التي يعمل فيها التحكيم، تشارك مجتمعة في بنائه كنظام قانوني عالمي متفرد للفـصـل فـي منازعـات بعينهـا، والمطلوب هو إيجاد وحدة قانونية بين الدول في المجال التجاري، فالمجتمع الدولي يعمل علـى تجاوز الدولة والسعي نحو وحدة العالم التجارية في شكل سوق واحدة تسود هويتها وقواعدها في كل دولة، وبحيث تنفتح السوق الوطني لتصير جزءاً من سوق عالمي.
ويعمل الفكر القانوني العالمي في حدود المبادئ التحكيمية المرجعية- نحو الوصول إلـى صياغة قواعد وحلول تحكيمية موحدة (إجرائية وغير إجرائية) تسري في شأن التجارة الدوليـة بالرغم من تنوع النظم القانونية الوطنية، فالتحكيم بمفهومه الـراهن نـشأ فـي كنـف العـادات والأعراف التي أملتها الحياة الإقتصادية الدولية، لذلك جاءت قواعده منسجمة ونوعية العلاقـات التي يحكمها، ثم أنه نما وتطور في كل بلد تحت ضغط الضرورات العملية وحدها، دون مراعاة للمبادئ العامة والنظريات القانونية السارية في هذا البلد. وكما يقال فإن الإحساس بالمعاني يسبق اختراع الكلمات.
3- التحكيم العصري من نتاج الفكر القانوني الغربي:
على ضوء الإعتبارات السابقة، فواقع الحال أن ظاهرة التحكيم التجاري في العصر الراهن لم تعد استثناء، بل هي نتاج أو إفراز منطقي منهجي للتطور المتلاحق في التجارة الدولية الحديثة التي تمسك الدول الغربية القوية اقتصادياً زمامها، ولذلك يتعين النظر إلى التحكيم بحسبانه متولداً عن الفكر القانوني التجاري الغربي، ومن ثم لا يمكن فهمه أو تفسير جوانبه وأبعاده أو خصائصه الجوهرية بمعزل عن منطلقات ذلك الفكر أو تلك التجارة.
على سبيل التذكير فإننا يجب أن لا نتجاهل أن قانون المرافعات المدنية والتجارية المصري، مثله في ذلك مثل غيره من القوانين الإجرائية وغير الإجرائية الوطنية (أو في الأقـل معظمهـا) مأخوذاً في واقع الأمر عن قوانين الدول الغربية، ولقد كان من العسير إعمال تطبيقاته وحلوله أو تحديد مسمياته ونظرياته السائدة والمتداولة في الفكر القانوني العربي إلا من خلال مـا يطرحـه الفكر القانوني الحضاري الغربي الذي أنتجها. ويعني هذا ضرورة رؤية التحكـيم فـي إطـاره الحضاري الكلي، مع التأكيد على أن التفسير والإستنباط والإجتهاد ليس حكراً على أحد. فواقـع الحال أن مجتمع القوى الإقتصادية هو الذي يفرض القواعد الحاكمة له، ولو لم تكن هذه القواعد منطقية تماماً، أو مخالفة لما نبغي أو نأمله.
وظاهرة استقبال القوانين الأجنبية تعد أحد الظواهر المعني بها علـم الإجتمـاع القـانوني، وجوهر هذه الظاهرة أن المشرع بدلاً من أن يضع القواعد القانونية التي تتفق ومصالحه العامـة ومعطيات مجتمعه الحضارية والإجتماعية والإقتصادية، فإنه يتجه إلى نموذج القـانون الأجنبـي فينقله – كما هو أو بعد تعديل ظاهري – إلى مجتمعه. وبالنسبة للتشريعات التي لا تمس مصالح دولية يتمتع المشرع الوطني على نحو واسع بوضع الأحكام التفصيلية، بحيث لا يخـل - عنـد اقتباسه القاعدة الأجنبية أو تقليدها – بظروف البيئة المحلية وتماسك مناخه الثقـافي الإجتمـاعي وأغراضه الوطنية، بل أنه في هذا السبيل قد يغير في مضمون القاعدة القانونية المقتبسة. ولكـن الأمر يكون مختلفا إن أتصل الشأن بمصالح عالمية وبيئة اقتصادية دولية لأن الإطـار يكـون مختلفاً وكذلك الثقافة والأبعاد والنتائج القانونية.
ما نريد التركيز عليه هو أنه على القاضي في نطاق الشأن التحكيم ، أن يتجنـب إعطـاء التفسيرات نفسها الموجودة في قوانين بلده خاصة قانونه القضائي، لأن ذلك قد يؤدي إلى نتـائج غیر معقولة أو غير منصفة أو إلى حلول عبثية. ذلك أن للتحكيم مفترضاته ومقدماته المرشـدة، التي يجب أن يحصل التفسير والفهم على هداها.
فلا يجوز أن تطبق قواعد قانون المرافعات على مسائل التحكيم، عند خلو قانون التحكيم من نص يحكم المسألة المثارة، إلا على سبيل القياس وبشروط القياس. أي بتوافر "العلة" مع ترك كيفية إعمال وأسلوب تطبيق القاعدة المختارة إلى المفاهيم الخاصة بالتحكيم. بمعنـى أن تطبـق قاعدة المرافعات، عند وجود العلة، على نحو يتفق ويتناسق وطبيعة التحكيم والبيئـة الدوليـة الإتفاقية التي تهيمن عليه، لا على بيئة القضاء ونصوصه الشكلية.
وهذا الأمر يعد أمراً جوهرياً، لأن عدم إعمال مفاهيم التحكيم وقواعده في حالاته أو فـي مجاله من قبل المحكم أو القاضي- يتصادم وإرادة أطرافـه وحقـوقهم وكـذلك توقعـاتهم القانونية المشروعة حيث يفقدون بذلك الأمان القانوني، فهم لم يقصدوا قـضـاء بـل اتجهـت إراداتهم منذ البداية إلى التحكيم، وهو ما يفيد بداهة انصراف نيتهم إلى تطبيق قواعد تحكيميـة على نزاعهم التحكيمي وقبول النتائج المترتبة على ذلك. حماية التوقعـات المشروعة لأفـراد المجتمع، هي غاية يستهدفها كل قانون، وكل مشرع.
أياً ما كان الحال، علينا وضع الخطوط الفاصلة بين ما هو قضائياً وما هو تحكيمياً. فالتحكيم نظام قانوني متفرد ومتماسك وهو ما يعطي لقواعده – سواء أكانت إجرائية أم غير إجرائيـة - هي الأخرى، معانيها المتفردة المتماسكة.
4 ـ قانون التحكيم الإجرائي الوطني، هو قانون المرافعات التحكيمية، ويرجع إليه مباشرة عند إعمال اتفاقية نيويورك في شأن الإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية:
نستطيع أن نقول إنه ولئن كان قانون التحكيم يتمتع بخواص مميزة عن غيره من القـوانين القضائية، إذ يتضمن قواعد تتلاءم مع الطبيعة المتفردة للتحكيم وتشعب المعاملات التجاريـة فقانون التحكيم – في كل دولة – يعد بمثابة قانون المرافعات بالنسبة لشؤون التحكيم الإجرائية أو هو "قانون الإجراءات التحكيمية" بحسبانه متضمنا القواعد الإجرائية الخاصة بالتحكيم في دولتـه، بداية من الإتفاق عليه حتى الأمر بتنفيذه جبراً، وذلك في مقابل قانون المرافعات القضائية.
وإذا كان المبدأ في القانون الدولي هو سريان المعاهدات "الشارعة" كمصدر ملزم كالقــانون الداخلي، حيث تصبح المعاهدة بما تتضمنه من أحكام قانونية – وبعد نفاذها – جزءاً من القـانون الوطني، وتلتزم الدولة بتطبيقها بمختلف أجهزتها وسلطاتها وفي مقدمتها جهاز القـضاء. وعلـى سبيل المثال، فعندما تثور مشكلة أمام القضاء المصري بصدد تطبيقه للمعاهدة في حالة تعـارض أحكامها مع القانون الداخلي الساري في الدولة، فإنه ينبغي على المحاكم تطبيق مـواد المعاهـدة المتعارضة مع التشريع الوطني الداخلي. وفي الفرض الذي تشير اتفاقية دوليـة إلـى قـانون المرافعات الوطني لاعماله بشأن مسألة تحكيمية ما، هنا على القاضي المصري أن يرجع بداية إلى نصوص قانون التحكيم بوصفه قانون المرافعات في خصوص مسائل التحكـيم "قـانـون المرافعات التحكيمية".
والحال كذلك عند إعمال القضاء المصري لقواعد اتفاقية نيويورك لـسنة 1958 فـي شـأن الإعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية، ذلك أن الإتفاقية تحيل في شأن تطبيق بعض موادها إلى قوانين المرافعات الوطنية. هنا على القاضي الوطني "المصري" أن يرجع مباشرة إلى قواعد قانون إجراءات التحكيم في شأن تنفيذ أحكام التحكيم دون المرور المسبق على مواد قـانون المرافعـات (قانون القضاء المدني) المتعلقة بذلك الشأن، فنصوص قانون التحكيم تعد ناسخة للنصوص الواردة في قانون المرافعات عند التعارض، ومنها المواد المتعلقة بالنصوص الحاكمة لموضوع تنفيذ أحكام المحكمين. وقد نصت المادة الثالثة من مواد إصدار قانون التحكيم المصري صراحة وبشكل قـاطـع على إلغاء كل حكم مخالف لأحكامه، هذه هي إرادة المشرع واضحة اللفظ والعبارة والمعنى.
6- قواعد تحكيم اليونسترال واتفاقية نيويورك.. "البحث في تعديل قواعد تحكيم اليونـسترال لا بد أن يتضمن وبالقدر ذاته من الإهتمام تعديل قواعد اتفاقية نيويورك":
لم تتناول قواعد تحكيم "اليونسترال" مسألة الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها بشكل مباشر، وذلك بسبب سبق تناول هذا الشأن في اتفاقية الأمم المتحدة المعروفة بإتفاقية نيويـورك. لذلك فإن البحث في تعديل قواعد تحكيم اليونسترال لا بد أن يتضمن وبالقدر ذاته مـن الإهتمـام تعديل قواعد اتفاقية نيويورك، طالما أن الأمر مشترك متلامس متكامل، وما دام الوصال متـصل والهدف واحد، وكذلك المبرر.
ونرى أن يحصل ذلك عن طريق اعتماد صياغات وتفسيرات إرشـادية موحـدة لجوانــب الإتفاقية المختلفة وإيضاح ما غمض منها أخذاً في الحسبان تطبيقاتها المنطقية المعقولة والتي تلقى قبولاً عاماً على الصعيد التحكيمي العالمي، مع مراعاة أن لا يسمح التفسير المقترح إلى حلـول ضبابية أو متناقضة تضر بإستقرار المعاملات التجارية التي يسعى الجميع إلى توكيدها وتقويتها. تفسيرات، مستمدة من المعاملات والفقه والقضاء وأحكام التحكيم، تبعد عن الجمـود والتـضييق والتعقيد والغموض، بجعل مواد الإتفاقية أكثر مرونة ووضوح، متسقة والتعـديلات المنتظـرة لقواعد تحكيم اليونسترال، وبحسبان أن التفسير المقترح هو أحـد مراحـل التطبيـق، فـالتطبيق التحكيمي الصحيح يتوقف على التفسير السليم المتفق مع روح التحكيم.
وما من شك أن اتفاقية نيويورك المعمول بها ذات صياغة ناقصة غائمـة، تـسبب، وكمـا كشف التطبيق العملي، الكثير من المشاكل، كما أنها لم تعد مواكبة بحال للتطور الحاصـل فـي الفكر القانوني التحكيمي المتلاحق، فقد جرت مياه كثيرة في نهر التحكيم الدولي. في ظل اتفاقيـة نيويورك كأننا لا نزال في حالة فراغ قانوني بالنسبة لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، لذلك اختلفـت الحلول وتنوعت المشارب وتعقدت أمور.
********************************
(2)
في تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي: والنظام العام:
1- من ضوابط إكساب حكم التحكيم القوة التنفيذية:
كالحاصل في القوانين المقارنة، ففي القانون المصري يخضع حكم المحكم – وطنياً كان أم أجنبياً – لرقابة وإشراف القضاء كإجراء أولي تمهيدي يسبق الإعتراف بآثـاره ووضـع الصيغة التنفيذية عليه. في هذا النطاق يمارس القاضي الوطني المختص نوع مـن الرقابـة على حكم التحكيم المطلوب الأمر بتنفيذ، ولكنها رقابة خارجية محدودة، شكلية أو أكثر قليلاً، ليست كالرقابة التي تمارسها محاكم الطعن في الحكم التحكيمي، بل أضيق مدى، وليس على القضاء في نطاق الأمر بالتنفيذ أن يتحقق من عدالة أو صحة حكم التحكيم المطلوب تنفيـذه. بل أن المخالفة التي تعتور حكم التحكيم وتمنع صدور الأمر بتنفيذه، يجب أن تكـون باديـة وملموسة من النظرة الأولى حسب الظاهر من الأوراق دون تغلل في بحث إلى ما وراء هذا الظاهر.
استقرت على الصعيد الدولي قاعدة أمكانية الإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه في غيـر بلـد إصداره رغم الحكم ببطلانه وفقاً لقانون دولة مقر التحكيم، ولذلك قيل أن الأمر يقتضي خاصة في التحكيم الدولي تغليب مفاهيم النظام القانوني الذي من المنتظر تنفيذ الحكم فيه (دولة المحكوم عليه في غالب الحال) على تلك السائدة في دولة المقر أو دولة المنشأ، أي الدولة التي تم التحكيم على إقليمها أو وفقاً لقانونها الإجرائي، فعلى المحكم أن يعمل على جعل حكمه قابلاً للتنفيذ. ومع ناحية أخرى فإن صدور الأمر بالتنفيذ لا يعد في ذاته دليلاً على صحة الحكم التحكيمي، فيجوز القضاء ببطلانه رغم سبق صدور الأمر بتنفيذه.
هناك رأي في الفقه جدير بالنظر والعمل به، ووفقاً لهذا الرأي يكون لقاضي التنفيذ سـلطة تقديرية تمكنه – حسب الحال – من رفض أمر التنفيذ إذا ما وقع إبطال حكم التحكـيم فـي بلـد المنشأ أو تتيح له الأمر بالتنفيذ برغم الإبطال. هذه السلطة التقديرية تقتضي من القاضي المعني بالإذن بالتنفيذ أن يأخذ في الحسبان البطلان الذي تأسس على أسباب داخلية خاصة فقط ببلد مكان التحكيم، وهنا يجوز له الأمر بتنفيذ حكم التحكيم رغم سبق الحكم ببطلانه داخلياً، ولكن من واجبه أن يرفض الإذن بالتنفيذ إذا ما بني البطلان على أسباب دولية معترف بها "شائعة على الـصعيد القانوني الدولي "وليست خاصة فقط ببلد المنشأ".
يتعين على القاضي الوطني بالنسبة لأحكام التحكيم غير الوطنية مراعاة إعمال قواعد اتفاقية نيويورك في شأن الإعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية طالما أن دولته أحد دول الاتفاقيـة، مع الأخذ في الإعتبار المعاهدات الدولية الأخرى ذات الصلة المنضمة إليها بلده. ويتمتـع حـكـم التحكيم الأجنبي بقوة الشيء المحكوم فيه، شأنه في ذلك شأن حكم التحكيم الوطني.
2- أمر تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي والنظام العام الوطني:
بصفة عامة وعلى النطاق الدولي، فإنه يشترط للإعتراف بحكم التحكيم الأجنبي وتنفيـذه ألا يتعارض الحكم مع النظام العام في بلد التنفيذ، وهو الأمر الثابت أيضاً في اتفاقية نيويورك. فيجب للأمر بالتنفيذ أن لا يكون حكم التحكيم متعارضاً مع مبادئ النظام العام الأساسية الإقتـصادية والإجتماعية والفلسفية لمجتمع دولة قاضي التنفيذ. وفكرة النظام العام فكرة مرنة وهي سائدة في جميع فروع القانون، ويقال أن النظام العام يمارس دوره في كل قانون من أجل حماية المصالح الجوهرية لجماعة ما في وقت ما، لأن مضمون فكرته تتركز في حماية هذه المصالح.
وتقضي القاعدة الشائعة بوجوب عدم المساس بالقواعد الجوهريـة التـي تتـصل بكيـان المجتمع، أي احترام مجموعة القيم أو الأسس الجوهرية التي يقوم عليها المجتمع. فـداخل كـل مجتمع توجد مجموعة من القواعد والمبادئ تحمي مصالحه الأساسية وقيمـه العليـا، لا يمكـن تجاوزها، ومن ثم تلزم المجتمع (سلطاته وأفراده)، فإذا ما خولفت تعيّن استبعاد أو أبطـال أو إهدار التصرف المخالف استنادا إلى فكرة النظام العام، وبحيث لا ينتج التـصرف أو الإجـراء المخالف أثراً قانونياً.
ويختلف النظام العام من دولة إلى أخرى وفقاً لما يسودها من نظم وقيم وفلسفة وثقافة، فمـا يعتبر من قبيل النظام العام في مجتمع معين، قد لا يعد كذلك بالنسبة لمجتمع آخر. ومن المعلـوم أن ما يعد من النظام العام الداخلي لا يكون بالضرورة كذلك على نطاق القانون المقارن أي فـي القوانين الأجنبية. وفي الغالب الأعم يحصل التوصل إلى فكرة النظام العام في دولـة أو قـانون وطني ما، عن طريق معيار التمييز بين القواعد الآمرة والقواعد الإختيارية أو المكملة الموجودة في القوانين الداخلية.
وكون القاعدة غير اختيارية في قانون وطني ما، لا يعني بالضرورة أنهـا مـن القواعـد الأساسية للنظام العام فيه، بمعنى إنه إذا كان حكم التحكيم الأجنبي يتضمن ما يعد مخالفاً لقواعد آمرة في قانون بلد التنفيذ، فهذا لا يستتبع مباشرة أو آليا اعتبار الحكم مخالفا للنظام العام فـي ذلك البلد، لأن مثل هذه المخالفة قد لا تشكل بحال مساس بالقواعد والمبادئ الأساسية الجوهريـة التي يقوم عليها النظام القانوني في دولة التنفيذ. ومن ثم يجب لرفض تنفيذ حكم التحكيم الأجنبـي أن يتضح وجود تنافر ظاهر بين أسباب الحكم أو منطوقه وبين مقتضيات النظام العام فـي بلـد التنفيذ، فلا يكفي مجرد وجود اختلاف بين القواعد المطبقة في التحكيم من ناحية وبـين قواعـد القوانين الوطنية لبلد التنفيذ ولو كانت من القواعد الآمرة ، ويتعين أيضاً على القاضـي الـوطني المعني بالتنفيذ مراعاة التغاير والتباين والتفسيرات والحلول ذات الطابع العالمي "القواعـد عبـر الدولية".
لإعتبارات العدالة وحاجة المعاملات الدولية، يجب عدم التوسع في تفسير فكرة النظام العام بالنسبة لأحكام التحكيم الأجنبية، أي أن إعمال هذه الفكرة يكون بوصفه ضرورة تقدر بقـدرها، بحيث ينبغي عدم الإسراف في استخدام آثارها إلا بالقدر الذي يمنع المساس بالقواعد الأساسـية المتعلقة بجوهر النظام العام في قانون قاضي التنفيذ. فإذا كان حكم التحكيم ينطوي على مخالفـة للنظام العام الحقيقي ببلد التنفيذ، أي يتصادم مع مصالح الدولة الحيوية ذات الأهمية الخاصة فـي المجال الإقتصادي أو الإجتماعي والتي تتصل بفكرة تنظيم الدولة ذاتها وتشكل العمـود الفقـري للنظام القانوني فيها، فعلى القاضي المختص بالتنفيذ أن يستبعد فقط التنفيذ بالنسبة للجزء المتعلـق بهذه المخالفة إذا أمكن فصله، وفيما وراء ذلك يمكن إعطاء الحكم الـصيغة التنفيذيـة (استبعاد جزئي).
في مجال تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، يجب الانتباه فقط إلى القواعد القانونية الآمرة التـي ترتبط بالنظام العام في دولة التنفيذ برابطة قوية تقتضيها موجهات الدولة الأساسية الحاكمة لبنيـة نظامها القانوني، لأن إطار النظام العام في التحكيم الدولي لا يتعلق إلا بهذه القواعد ذات الأهمية الجوهرية، ومن ثم يجب عدم الربط بصورة تلقائية بين قواعد النظام العام وبين القواعد الأمـرة في قانون بلد التنفيذ وخاصة بالنسبة إلى العقود التي تتصل بحركة التجارة عبر الدول والتي يحق للمتعاقدين فيها اختيار القواعد التي تحكم علاقتهم ولو لم تكن قواعد منتمية إلى قـانون وطن معين، لذلك على قاضي بلد التنفيذ مراعاة طبيعة القاعدة الأمرة المعنية والأهداف التي ترمي إليها لإستظهار عما أذا كانت تشكل صمام أمن قانوني لمصالح المجتمع الداخلي العليا من عدمه.
في مرحلة نشأة الحق أو المركز القانوني فإن مصادمة القانون الأجنبـي المطبـق علـى موضوع النزاع التحكيمي للنظام العام الوطني، قد لا يمنع في ذاته الإحتجاج بـالحكم التحكيمـي والتمسك بآثاره وتنفيذه في بلد التنفيذ، ومبنى ذلك أن الإجراءات أو المقتضيات الضابطة لنـشأة الحق أو المركز القانوني التي قد تتعارض مع النظام العام الوطني تمت وتحققت في الخارج طبقاً لقواعد قانون غير وطني، ومن ثم فإن النظام العام في بلد التنفيذ لن يتأذى، ومن ثم لا يوجد محل للإعتراض على تنفيذ ما حكم به الحكم التحكيمي استنادا إلى ذلك الحق أو المركز القانوني الذي تم صحيحاً وموافقاً للقانون الموضوعي الأجنبي الواجب التطبيق. فيجب أن يكون مفهوماً أن رد فعل النظام العام يختلف في حدته عنه في حالة ما إذا نشأ المركز القانوني صحيحاً ودون غش في الخارج ثم أريد الاحتجاج بآثاره كلها أو بعضها في داخل دولة القاضي، هذا الحـل أو هـذا النظر مسلم به في فرع القانون الدولي الخاص .
3- أنواع ثلاثة من النظام العام في التحكيم الدولي:
في التحكيم الدولي، فإننا نقابل بصفة عامة ثلاثة أشكال أو أنواع رئيسية من النظـام العـام يشكلون جميعاً قيداً على حرية الإرادة، وبالتالي قيداً على حرية المحكم:
(أ) النوع الأول يتعلق بتنازع القوانين في القانون الدولي الخاص، ويطلق عليه النظـام العـام الحمائي أو الوقائي أو الإستبعادي، وتقوم فكرته على أن هنـاك قواعـد قانونيـة وطنيـة ضرورية التطبيق، هذه القواعد يطلق عليها الفقه مصطلح "قواعد البوليس" بموجبها يتعـين على المحكم استبعاد الشروط العقدية، أو قواعد القانون المختار، أو القانون الـذي أشـارت بتطبيقه قاعدة الإسناد المعمول بها، أي القانون الواجب التطبيق حسب الأحوال، مع تطبيـق القاعدة الحمائية الوطنية بحسبانها تعد من القواعد القانونية الجوهرية في القانون المتـصل بالنزاع بصورة واضحة وتكون مؤثرة في العلاقة التعاقدية الدولية بشكل كبير. هنـا تحكـم القاعدة الحمائية الوطنية - المتصلة بأسس المجتمع العليل – تلـك العلاقة مباشـرة دون وساطة قواعد الإسناد المعمول بها في منهج تنـازع القـوانين، فهـي لـذلك ذات تطبيـق ضروري، ومن أمثلتها القوانين الوطنية الخاصة بالجمارك أو القواعد التي تحارب الإحتكار أو تلك الخاصة بالضرائب أو التأمينات الإجتماعية، أو أحكام الملكية العقارية. وعلى كـل حال فإن قواعد البوليس هذه تتصل إلى حد كبير بموضوع مشروعية الإتفاق على التحكـيم وربما تتصل بفكرة النظام العام العادي (غير الحمائي) أو بفكرة الغش.
(ب) أما النوع الثاني من قواعد النظام العام، فهو النظام العام الدولي الإجرائي المرتبط بالخواص الجوهرية المستمدة من معطيات التحكيم كنظام قانوني متفرد. ويدخل مبدأ المواجهـة بـين الخصوم وتطبيقاته ضمن ما يعرف بالنظام العام الإجرائي الدولي، وكذلك مبدأ حيدة المحكم. كما أن هناك قواعد تحكيمية هيكلية ملزمة تتعلق بأسس وشرعية نظام التحكيم ذاته وبالنظر إلى طبيعته الإتفاقية، بحيث لا يجوز مجاوزة مثل هذه الأصـول التحكيميـة مـن الناحيـة الواقعية أو الناحية الفنية سواء من قبل الأفراد أو من قبل المشرع، كل مشرع".
.... هذا وقد أكدنا في الحكم الذي صغنا أسبابه في الإستئناف رقم 633 لـسنة 119 قـضائية تجاري القاهرة الصادر بتاريخ 2002/6/4 (الدائرة السابعة) أنه إذا خرج المشرع الوطني عـن الغاية المرجوة من التحكيم بأن تجاوز بالقاعدة التشريعية الموضوعة الـدائرة المحـدودة لـحـق الحرية الشخصية في التحكيم – حتى ولو كان يقصد تحقيقها وتحت ستار أنه يصون المـصالح الوطنية – صارت القاعدة القانونية الوطنية لا أثر لها في التحكيم الـدولي. وجـاء بالحيثيـات أيضاً: ". ... عندما فرض المشرع المصري اختياره على اختيار وإرادة أطراف التحكيم – فـي أمور يعد اتفاق المحتكمين حولها حجر الزاوية والركن الركين في مفهوم نظام التحكيم ذاتـه كنظام قانوني يملك خصائصه المتفردة – فإنه يكون بذلك قد أهدر مفترضاً أولياً للتحك عقود نقل التكنولوجيا، إذ أثقله بقيود تهدم بنيانه بحيث تقوض أمره إلى زوال، فإتفاق التحكيم من ناحية، وتعطيل حرية أطرافه في التراضي على لغته ومقره وإجراءاته وقانونه وفـق تقـديرهم لمصالحهم المالية وعلى ضوء ما يرونه ملبياً لها من ناحية أخرى، أمران لا يجتمعان".
(ج) أما النوع الثالث من النظام العام الدولي، فهو الذي يطلق عليه النظام العام الموضـوعي الحقيقي، ونبرز في خصوص هذا النظام العام الموضوعي عدد من النقاط فـي الفقـرة أو الفقرات التالية.
4- النظام العام الموضوعي الدولي:
في مجال العقود بشكل عام تتحدد في التحكيم الدولي معايير النظام العام الدولي على نحـو خاص ومختلف – ولو قليلاً - عن النظام العام الوطني، فعلى المحكم فـي منازعـات التجـارة الدولية أن ينظر دائما إلى الغاية التي يستهدفها مجتمع التجارة الدولي وجوهر المصالح التـ يحميها هذا المجتمع من القاعدة المثارة، ذلك لأن المصالح التي يحميها النظام العام الموضـوعي في التحكيم الدولي (الذي يقابل النظام العام الموضوعي في القوانين الوطنية) هي مصالح مجتمع التجارة الدولية، التي تهيمن عليها وعليه – إلى حد ملحوظ - المؤسسات الماليـة والتجاريـة صاحبة القوة الإقتصادية الكبرى. في حين أن قواعد النظام العام الداخلي ترتبط بالمصالح الداخلية لمجتمع الدولة، بوصف هذه المصالح – ولو كانت عقدية تجارية – هي واجبة الحماية في نظـر مشرع ذلك المجتمع أو صاحب السلطة فيه.
مجموعة القواعد التي تنظم التحكيم في مجتمع التجارة الدولي لا بد أن تتأثر بدورها بطبيعة ذلك المجتمع وعليها أن تسايره وتستجيب لواقعه وحقائق طبيعة علاقاته، وذلك بعـد أن صـار أساس قوة الدولة – كل دولة – هو قوتها الإقتصادية التنافسية. وبينما يتم تكوين قواعد القـانون الداخلي بحسب الأصل عن طريق السلطة التشريعية في الدولة، فإن مثل هـذه الـسلطة مفتقـد تواجدها في المجتمع التجاري الدولي، ومع ذلك فلم يعد الفكر القانوني يستلزم وجـود الدولـة كشرط لنشأة القانون، ما دمنا في نطاق مجتمع منظم كمجتمع التجارة الدولية، حيث يشعر أفراده بضرورة الإلتزام بالقواعد التي تعارفوا عليها والتي تشكلت عملاً في الأوساط التجارية أو المهنية الدولية والتي تنظم معاملاتهم، بوصفها قانونا ملزم لهم.
ينبغي أن يسود مفهوم موحد للنظام العام في داخل المجتمع الواحد، ولـو كـان مجتمعـاً تجارياً عالمياً، وبالطبع – حتى وقتنا الحاضر ولو بحسب الظاهر فمجال النظام العام يختلف في النطاق الدولي، عنه في النطاق الوطني الداخلي، ولا يزال الفصل بين فكـرة النظـام العـام الدولي وفكرة النظام العام الوطني قائما، فلا تطابق أو تلازم بينها، على الرغم من أنه يجـب ولو من الناحية النظرية المنطقية – عدم وجود ثمة تعارض بين الفكرتين فـي مجـال التجـارة الدولية، لوحدة أسواق المجتمع التجاري الدولي، ومن ثم وحدة القواعد القانونية التي تحكمه، ذلك أن الأصل القانوني يقضي بعمومية وتجريد القاعدة القانونية في النطاق تسري فيه عنـد تـوافر الشروط المتطلبة.
والذي يجب مراعاته كذلك، أن الأصل أن عقود التجارة ولو كانت عبر دولية إنها تنظم في الأساس حقوق تجارية ومصالح خاصة، كما وإن التحكيم يفصل في مصالح أو نزاعات اقتصادية تجارية بطبيعتها، وعادة ما يكون محل الالتزام في حكم التحكيم مبلغاً من النقود يستوفي من مال المحكوم ضده، أي أن مقتضيات النظام العام الدولي الموضوعي تنكمش وتضييق إلى حد كبيـر في شأن أحكام التحكيم لأن أمر العقود الدولية يتصل في الأغلب الأعم بمصالح خاصة اختيارية في الأساس، وبالتالي يكون مخالفة القواعد القانونية المطبقة عليها وحسب الغالب صحيحاً يرتب كافة أثاره القانونية، لأن الأطراف هم الأقدر من غيرهم على تنظيم علاقتهم الخاصـة تبعـاً لمصالحهم.
مع أنه لا شأن لقواعد النظام العام العالمي – من الناحية الفنية – بالمصالح الأساسية لمجتمع وطني معين، ففي الأغلب ما تتشكل أسس هذا النظام الدولي من قواعد مشتركة بين الأنظمـة القانونية المختلفة، خاصة تلك القوانين المرتبطة بالعلاقة الدولية التجارية المطروحة. ومع فليس للمحكم في التحكيم التجاري الدولي أن يستعين في تحديده للنظام العام الدولي بمفهومـه المطبق في دولته، وأيضاً فإنه يمتنع على القاضي المعني بالشأن التحكيمي أن يعتـد بمعتقداتـه ذلـك مع المفهوم السائد المستمدة من قانون دولته في النظر لمفهوم النظام العام الدولي بما يتعارض تحكيمياً في منازعات التجارة الدولية.
5- فكرة العدالة وقواعد النظام العام الدولي:
إذا كانت قواعد النظام العام الدولي تتمثل في مفاهيم أساسية موحدة تتجاوز الحدود الإقليمية، فإن هذه القواعد تستمد مادتها أو موضوعها في واقع الحال من فكرة العدالة، وغالباً ما تنـدرج مفاهيم قواعد العدالة هذه في الأعراف التجارية الدولية والمبادئ العامة للقانون، وتـدخل بهـذا المعنى في مكونات القانون الواجب التطبيق على عقود التجارة الدولية وعلى المسائل التحكيميـة المتعلقة بمنازعات التجارة ذات الطابع الدولي. ومن الجدير بالإنتباه أن قواعد السلوك التجـاري الواجبة الإتباع تكتسب في التحكيم الدولي جزاء قانونياً. سلطة توقيع هذا الجزاء المـادي تملكـه هيئات التحكيم من خلال أحكامها.
على كل حال، فإنه يوجد بحسب الواقع عدد من مبادئ العدالة العالمية، تملك قيمة مطلقـة، وغالبا ما يكون المبدأ العالمي الصبغة، موجود وثابت، بصورة أو أخرى، في مختلف الأنظمـة القانونية بحسبانه قاعدة وضـعية. فعلى الرغم من وطنية المبدأ في قانون دولة ما، إلا أنه يعتبر في الوقت نفسه مبدأ عالمياً في محتواه، وأيضاً في تفريعاته المختلفة.
استناداً إلى ما تقدم، فإن القاعدة المتصلة بقواعد العدالة قد تصير عالمية أو عبر دولية رغم إنها قد تكون مستقاة في الأصل من نظام قانوني وطني (أو يوجد في القانون الـوطني قواعـد مماثلة أو مشابهه لها)، ومع ذلك فقد لا يشار إلى النص القانوني الوطني، بل قد يرجع أمرها في التحكيم (المتصل بالتجارة الدولية) إلى القواعد العامة المشتركة أو إلى قواعد العدالة التي تنـادي بها الأديان أو المواثيق الدولية، أو يشار مباشرة في شأنها إلى قواعد ما يعرف بالقانون الطبيعي، بحسبان أن هذه القواعد تشكل جزءاً أساسياً هيكلياً للأخلاق التجارية السائدة في مجتمع التجـارة عبر الدولية في زماننا الراهن.
في كلمة موجزة، مبادئ القانون الطبيعي القائمة على أسس العدالة هي المصدر الأساسي أو المعيار الذي يتم الإلتجاء أو الإشارة إليه عند تحديد قواعد النظام العام الدولي"، وبحيث يعد المساس بالعدالة وتفريعاتها تعديا على النظام العام الدولي، ومن ثم يتم استبعاد أو إبطـال أو إغفال الفعل أو التصرف المخالف.
حقيقة الأمر أن مبادئ القانون الطبيعي (ما يعتبر كذلك) تلعب الدور الرئيسي فـي مـعـايير إعداد وصياغة القوانين الوضعية في كل بلد وتحاول كافة الدساتير والتشريعات الأساسـية أن تكون ترجمة صادقة لها. وفي مجال التحكيم يصير الجهد الحقيقي هو محاولة تحديد المقصود من هذه المبادئ الأساسية، وبمعنى "أدق" التعرف على مجال تطبيقها واستخلاص القواعد التفصيلية المتفرعة عنها وما يتفق مع مفهومها في القواعد القانونية الوطنية. فمثل هذه المبادئ ما هي إلا قواعد كلية موجهة ودافعة لغيرها من القواعد الأخرى التفصيلية المتولـدة عنهـا، والمـشكلة أو الشيطان – كما يقال – إنما تكون أو يكون في التفاصيل.
كلمة أخيرة:
بحسبان أن التحكيم التجاري الدولي وبحسب طبيعته وخصائصه يعد جـزءاً مـن الحيـاة التجارية على الساحة العالمية يلبي مطالبها وحاجاتها في حسم المنازعات التي تثـار خلالهـا أو بسببها، لذلك فهو دعامة أساسية وحلقة ضرورية في هذه التجارة. ولأنه لم يعد حكراً على دولـة أو قوة قانونية دون أخرى، من ثم كان من المنطقي أن تتسم القواعد الهيكلية التي تحكم جوانبـه المختلفة بقدر من التوحيد. هذه القواعد الهيكلية هي عبارة قواعد مرتبطة أو متأثرة بفكرة العدالة وبمبدأ سلطان الإرادة، وهناك في التحكيم قواعد عدلية مطلقة انتشر تطبيقها واستقرت حجيتهـا وتبلورت في البيئة التجارية على المستوى العالمي. والفقه والاتفاقيات الدولية والقضاء الـوطني وخاصة سوابق أحكام التحكيم هي التي تساهم مجتمعة في خلق قواعد النظام العام عبر الـدولي، وتعتبر مصدراً لها، فللتحكيم قواعده الفريدة ومبادئه العامة ذات الأصالة الخاصة التي يتعين على كافة النظم القانونية تثبيتها والاستجابة لها، وإلا أدى ذلك إلى عدم استقرار التجارة الدولية، وهو أمر غير محمود لكل دولة.
هذه أهم النقاط أو المسائل القانونية التي رأيت رصدها، حسبت إنها تتصل بموضوع البحث.