الحكم في الموضوع هو النهاية الطبيعية لكل نزاع، حيث أن الغرض من طرح الخصومة على التحكيم، هو التوصل إلى حكم يُقرر حقيقة مركز الخصوم فيها، وتنفيذ هذا الحكم يعنى إزالة ما وقع من تعد على الحقوق التي كفلها هذا الحكم، وعلى هذا، فإن وجود أى حق أو حكم دون حماية له يُصبح هو والعدم سواء.
ومن ثم، فإن فرض مضمون حكم التحكيم عند عدم الوفاء طوعاً بالإلتزام الذي قضى به، هو ضمانة لتحقيق الإستقرار للحقوق والمراكز القانونية التي كفلها هذا الحكم، وتأكيد للثقة في أعمال هيئات التحكيم وفي صحة وعدالة مايصدر عنها من أحكام، وبعث للطمأنينة في نظام التحكيم بأسره، لأنه لاإستقرار بمعزل عن إقامة العدل، فلا قانون ولا قاض، ولا تنفيذ لحكم جبراً، دون تدخل القضاء من خلال الأمر بالاعتراف به وتنفيذه ومن ثم يتجلى دور القضاء في هذه المرحلة في كفالة الحماية القانونية لحكم التحكيم، من خلال فرض مضمونه والإلزام به.
ولذلك يضحى من الطبيعي أن يرغب الطرف المحكوم له فى الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه.
ولهذا ينبغي أن يكون هذا الحكم متمتعا بفعالية التنفيذ، ويُقصد بذلك ألا يتضمن هذا الحكم أى عيب يمكن أن يؤدى إلى إبطاله أو رفض الإعتراف به وتنفيذه من قبل المحاكم الوطنية، فمثل هذا الحكم لا يشكل أكثر من «قصاصة من الورق، ، حتى يتمتع بالحماية التى تكفلها له تلك المحاكم التي غالباً ماتكون فى دولة أو دول أخرى غير التي جرى فيها التحكيم.
وبذلك فإن التنفيذ يُعد بمثابة أساس وجود التحكيم الدولى، وإذا كان التاريخ يُكتب للخلف، بينما يسير للأمام، لذلك فإن الأطراف يطرقون باب القضاء وهم يتطلعون إلى الوراء من منظور التنفيذ، بينما يلجأون إلى التحكيم وهم ينظرون إلى الأمام من خلال إعداد الإتفاق وإدارة النزاع.
ويسعى القانون الدولي الإتفاقى والقوانين الوطنية، إلى إحتواء هذه الإتجاهات المتعارضة والتوفيق بينها، من خلال النص على (أ) مبدأ عام يجىء في صالح تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، و(ب) عدد محدود من الأسباب يجوز الإستناد عليها في رفض تنفيذ هذه الأحكام.
وإذا كان من المستقر عليه أن حكم التحكيم هو حكم مُحايد، لأنه بـــلا جنسية، فهـو لا يصدر باسم سيادة دولة معينة، ولا من هيئة تنتمى إليها، بل يصدر من "هيئة خاصة تستمد سلطتها في إصداره من إتفاق خاص" بين الأطراف، إلا أن آثار هذا الحكم، تترتب بالضرورة داخل دولة معينة، ولذلك، فإنه من البديهي أن يُحدد قانون هذه الدولة الشروط والأوضاع القانونية التي تترتب بها هذه الآثار.
إلا أنه بالنسبة لتنفيذ هذه الأحكام، ففى غياب مايُمكن أن تطلق عليه حكم التحكيم الذى يعلو فوق الدول، وفى ضوء إفتقار المحكمين للسلطة الملزمة لإجبار الخصوم على الإمتثال لأوامرهم وأحكامهم، وتباين الشروط والقواعد الإجرائية لتنفيذها في الدول المختلفة، وإفتقارها للضمانات التي تكفل هذا التنفيذ، فإن مخاوف عدم الإعتراف بها وتنفيذها تظل عقبة أساسية أمام تطور نظام التحكيم التجارى الدولى على نحو يعوق فعاليته وكفاءته، ومن هنا تكتسب مشكلة تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية بصفة عامة أهمية عملية كبيرة.
ومن هذا المنطلق، فقد سعى المجتمع الدولى إلى تذليل كافة العقبات التي تحول دون الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها وإيجاد حلول مُتناغمة ومقبولة على نطاق واسع، من أجل العمل على تيسير تنفيذها وكفالة الحماية الدولية لها، وتلافى القصور الذي نجم عن نـدرة التشريعات الوطنية التى تناولت هذه المسألة الهامة بقواعد خاصة، وذلك من خلال إبرام إتفاقيات دولية ثُنائية أو متعددة الأطراف.
وتأييداً لذلك، ذهب الفقيه الأمريكي Gary B.Born إلى القول بأنه: "وكما هو الحال في إتفاقيات التحكيم، تتمتع أحكام التحكيم الدولية بحماية إتفاقية نيويورك، بالإضافة إلى قوانين التحكيم الوطنية الرامية لتحقيق ذلك في العديد من الدول، وتوفر تلك الأدوات نظاماً مؤيــــداً للتنفيذ، مع أسباب محدودة لرفض الإعتراف بأحكام التحكيم...
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل ذهب الفقيه الأسبانى Bernardo M.Cremades للحديث عن وجود آليات لحماية حكم التحكيم ۲۸ أسندها إلى إحدى قواعد تحكيم غرفــــة التجارة الدولية .
إن الحماية الدولية لأحكام التحكيم الأجنبية تعنى فى تقديرنا الحماية الدولية الفعالة لأطراف التحكيم في المساواة أمام القانون، ومنع التعسف أو الإستبداد فى الرأى في معاملة هذه الأحكام، وبالتالى، يُصبح إتساق المعالجة القضائية بالنسبة لها عاملاً أساسياً في التأكيد على مناخ الإستقرار والقدرة على التنبؤ المطلوبين في تسوية منازعات التجارة الدولية فى المجتمع الدولي الذي يقوم على إقتصاد السوق.
هذه الأحكام تعتبر النتيجة الحقيقية والمنظورة لنظــام التحكيم، ومن ثم فإن الإعتراف بها وتنفيذها يُعد إختباراً عملياً لفعالية هذا النظام على المستوى الدولى، ولا يقتصر منهجنا في هذه الدراسة على بحث مُشكلة الحماية الدولية لأحكام التحكيم الأجنبية التي لا تُطرح إلا في الدولة التي يُعد الحكم أجنبياً بالنسبة لها، بل يمتد إلى بحث هذه المشكلة بالنسبة لأحكام التحكيم الدولية، وتلك التي لا تنتمى لأى دولة أى تلك التي لاترتبط بقانون إجرائي لدولة معينة.
وإذا كانت المناهج العلمية تتأثر فى ثوبها النهائى بالتفرقة التقليدية بين المنهج اللاتيني والمنهج الأنجلو أمريكي، لذلك فقد تركزت هذه الدراسة على أن تقدم مزيجاً من كلا المنهجين يجمع بين التنظير والمعالجات، في تحليل المشكلة محل البحث، من خلال عرض الإتفاقيات الدولية المعنية، في إطار التركيز على إتفاقية نيويورك لعام ۱۹٥٨ ، باعتبارها الاتفاقية الأساسية في القانون الدولى الإتفاقى للإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، وإستقراء موقف التشريعات الوطنية التى تنتمى إلى أنظمة قانونية مُختلفة، وقواعد مؤسسات التحكيم الدولية، وأحكام هيئات التحكيم الدولية، وكذا تحليل آراء الفقه وأحكام القضاء المقارن التي تناولت هذه المشكلة.
ولعل دراسة هذه الإشكالية الهامة من خلال إتباع المنهج التحليلي التطبيقي المقارن، الذى يتناول بالتحليل والإستخلاص كافة جُزئيات هذا البحث دون إغفال للجانب التطبيقي المقارن، هي التي ستمكننا في خاتمة هذه الدراسة من تقدير ما إذا كانت إتفاقية نيويورك وباعتبارها عمـــاد القانون الدولي الاتفاقي قد إستطاعت منذ إبرامها وحتى الآن أن تكفل الحماية الدولية لأحكام التحكيم الأجنبية، أم أن الأمر بحاجة إلى إعادة النظر فيها.