إن فكرة المسئولية الإجرائية كي يقال بوجودها في نظام تشريعي معين لا بد امن توافر عدة مفترضات تدور في مجملها حول وجود تنظيم دقيق لبعض الواجبات والالتزامات الإجرائية ، وتحديد واضح لفكرة الخطأ الإجرائي الذي يستتبع - حال تحققه - توقيع جزاء إجرائي ، فإذا كانت كتابات الفقه الإسلامي - القديم منها والمعاصر - لم يرد في ثناياها ذكر لاصطلاح واجب أو التزام إجرائي ، أو اصطلاح خطأ إجرائي أو اصطلاح جزاء إجرائي، فإن التساؤل الذي يفرض نفسه هو هل عرفت تلك الكتابات مضمون هذه الاصطلاحات أم لا؟ فإذا كانت الإجابة بالإيجاب فهذا يعني أن فقهاء الشريعة الإسلامية تعرضوا لمضمون فكرة المسئولية الإجرائية وذلك بقدر تعرضهم المضمون تلك الاصطلاحات المذكورة ، وإذا كانت الإجابة بالنفي فهذا يعني أن يريد الباحث استعمال هذا المصطلح وتعميمة سواء في خصوص الفقه الاسلامي أو القانون الوضعي على السواء في محاولة منه لتمييز المسئولية الخاصة بمباشرة الإجراءات القضائية عن المسئولية المترتبة على مخالفة المبادی والأحكام الموضوعية ، وإذا كان المنطق يقرر ض رورة التمييز بين المبدأ الموضوعي وآلية تحقيقه وتنفيذه فإن ذات المنطق يفرض ضرورة التمييز بين المسئولية المتولدة عن مخالفة المبدأ الموضوعي في ذاته وتلك المتولدة عن مخالفة آلية تحقيق ذلك المبدأ.
فالشرع الحنيف وضع العديد من المبادئ والأحكام التي يجب مراعاتها في اقتضاء الحقوق كنبذ الظلم و تحريم أكل أموال الناس بالباطل وتحريم الربا ، وأداء الحقوق لأصحابها ومستحقيها وعدم الإضرار بالآخرين إلى غير ذلك من قواعد الإسلام ومبادئه ، فإذا ما تم الإخلال بهذه المبادئ أو النيل من تلك القواعد فقد عهد الشرع الإسلامي لولي الأمر بضرورة التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها وتحقيق مراد الحق سبحانه وتعالى في الأخذ على يد الآثمين والمعتدين ومواجهة الطغاة وكبح جماح طغيانهم ، وترك له سلطة اختيار الوسائل المناسبة لتحقيق هذه الغاية ، ولا شك أن ولي الأمر في تنظيمه لهذه الوسائل يصدر العديد من الأوامر والتعليمات التي يتعين ضرورة احترامها وتنفيذها وهنا نجد جانبا من الالتزامات التي ترتد في مصدرها إلى إرادة ولي الأمر وما منحه الشرع من سلطة الأمر والنهي في هذا النطاق ، وهذه الالتزامات والواجبات تتعلق بتنظيم إجراءات الفصل بين المتخاصمين في خصوماتهم ورفع الظلم عن المظلومين ، وتحقيق التوافق والتطابق بين الواقع العملي المعاش وبين الأحكام التي قررها وجاء بها الشرع الحنيف؛ ولذا يجب تسميتها بالمسئولية الإجرائية على نحو ما بينا.
وهكذا ننتهي إلى أن مصدر الالتزام الإجرائي في شأن القاضي ومعاونيه قد يتمثل في مبادئ الشرع الإسلامي الواردة في الكتاب والسنة المطهرة أو ما أجمع عليه فقهاء الأمة في عصر من العصور أو ما ورد من قياس معتبر ، وقد ينبع هذا الالتزام من إرادة ولي الأمر المنظمة لمسائل للسياسة الشرعية الرشيدة التي تعمل على تحقيق الأمن والسلام في المجتمع المسلم وإحقاق الحق ونبذ الظلم ومحاربته في هذا المجتمع.
ورغبة في إيضاح ذاتية المسئولية الإجرائية عموما والالتزامات الإجرائية كعنصر من عناصر هذه المسئولية على وجه الخصوص نعرض لتطبيقين من تطبيقات الواجبات أو الالتزامات الإجرائية في فقه الشريعة الإسلامية.
1- المساواة بين الخصومات
من الواجبات الإجرائية التي فرضها الشرع الحكيم على القاضي المساواة بين الخصوم ، وهذا الواجب الإجرائي ورد ذكره في كتاب الله جل وعلى وركز عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من أحاديثه الشريفة التي تناولت الأحكام المتعلقة بالفصل بين الناس في خصوماتهم ، كما تولى فقهاء الشريعة الإسلامية تفصيل أحكامه بصورة كافية لإيضاحه وتحديد مضمونه ومعناه.
فقد جاء في القرآن الكريم في أكثر من موضع ما يفيد وجوب المساواة بين الخصوم عند الحكم بينهم ، بل إن الحق تبارك وتعالى عاتب نبيه داوود حين تخلى عليه الصلاة والسلام عن هذا الواجب عن غير قصد قال سبحانه وتعالى
وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب.
فهذه الآيات الكريمات المباركات تعبر بصورة واضحة عن ضرورة المساواة بين الخصوم حال الفصل بينهم في الخصومات فالفتنة التي استشعر نبي الله داوود أن الله فتنه بها هي فتنة الفصل في النزاع و علم صلی الله عليه وسلم أنه لم يسلم من هذه الفتنة حيث حكم للمدعي بموجب دعواه دون سماع دفاع المدعى عليه ، وقد دفعه لذلك وضوح أحقية المدعي من خلال عرضه لدعواه ، ولكن هذا الوضوح لا ينفي أحقية الخصم الآخر في أن يستمع إليه القاضي فلعل المدعي كاذا في دعواه.
لذلك جاء عتاب الله لنبيه داوود في كتاب الله بعد استعراض تلك القصة فقال سبحانه وتعالى " یا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله * إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.
وقد يقال إن هذه القصة تعد من الناحية الإجرائية دليل على وجوب احترام مبدأ المواجهة وحق الدفاع ، ولكن مع صحة هذا القول تعد القصية من منظور آخر ملمحا على ضرورة التسوية بين الخصوم في الكلام فكما سمع القاضي - وهو داوود - لكلام الأول يتعين عليه أن يعطي الثاني فرصة الكلام تماما كما حظي بها الأول.
كما أن كتب الفقه الإسلامي ورد بها الكثير مما يفيد التزام القاضي بالتسوية بين الخصوم حتى في النظر والكلام والسلام والجلوس والقيام ؛ فلا يجوز للقاضي أن يرد السلام على خصم دون خصم ، كما لا يجوز له أن يأذن لأحد الخصوم ( بالجلوس دون الآخر ، بل لا يجوز له أن يجعل أحد الخصوم أمامه والآخر إلى جواره فيجب أن يمثلا أمامه سواء بسواء ، ولا مانع من أن يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، ولا يجوز للقاضي القيام لأحد الخصوم لعظم شأنه ، فإن قام لمن لم يظنه خصما فتبين له حاله بخلاف ذلك قام لخصمه أو اعتذر له ، كذلك إن خاطب أحد الخصمين بكنيته فعليه أن يكنى خصمه.
وحرصنا على تنزيه القضاء ورغبة في تحقيق أقصى درجات العدل حال الفصل في الخصومات فقد رصد الشرع الحكيم الجزاءات المناسبة لضمان احترام القضاة مبدأ المساواة بين الخصوم فنجد العديد من الجزاءات قد رصدت لحمل القضاة على احترام هذا المبدأ، كما رصدت جزاءات أخرى تلحق بالعمل القضائ المتمثل في الحكم القضائي الصادر بالمخالفة لواجب المساواة بين الخصوم ، فمن قبيل الجزاءات التي قد توقع على القاضي الذي يشتهر بعدم تسویته بین ال جزاء العزل عن ولاية القضاء ، ومن قبيل الجزاءات التي تلحق بالعمل ذاته جزاء عدم نفاذ الحكم أونقض الحكم أو إلغاؤه في بعضالفروض حسب الأحوال.
هذا، وتجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين واجب المساواة بين الخصر على نحو ما أسلفنا وبين واجب الحياد ، وهو أيضا من تطبيقات الواجبات الإجرائية التي يتعين على القاضي احترامها والقيام بمفترضها حال مباشرته الفصل في المنازعات ، والسبب الذي قد يدعو للخلط بين الواجبين المذكورين أن كليهما يعني عدم الميل لأحد الخصوم وألا يحابي القاضي أحد الخصوم علی حساب الآخر ، كما أن كلا الواجبين المذكورين يعد من شعائر العدل ومن الوسائل المؤدية إلى تحقيقه.
إلا أن هذا التشابه يجب ألا يقود إلى الخلط بين هذين المبدأين ، فالفارق بينهما لا يزال قائما ، ذلك أن المساواة بين الخصوم أمر خارجي محسوس وظاهر، بينما الحياد أمر نفسي داخلي يعني عدم الميل لأحد الخصوم لحب أو مودة أو فائدة مرجوة ، وكذلك عدم ظلم أحد الخصوم لسبق كره أو عداوة مضمرة في نفس القاضي لأمر دینی و دنیوی.
كما أن متطلبات إعمال كل مبدأ تختلف عن متطلبات إعمال المبدأ الأخر ، فمتطلبات إعمال مبدأ المساواة تدور حول توحيد معاملة جميع الخصوم في مجلس القضاء وحال نظر الدعوى وسير إجراءات الخصومة، سواء أثناء سريان الخصومة القضائية وحتى إصدار الحكم أو حال خصومة التنفيذ بعد إصدار الحكم وأثناء تنفيذه ، بينما تدور متطلبات إعمال مبدأ الحيدة حول تنحي القاضي عن الفصل في خصومة خاصة بمن يحب أو يكره ، كما يمتنع عليه أن يقضي لأصوله وكذا فروعه أو في خصومة لرقيق عنده ، كما يتطلب إعمال هذا المبدأ امتناع القاضي عن قبول الهدايا من الخصوم أو مصادقتهم أو مؤاكلتهم لأن كل ذلك يؤدي إلى المساس بنزاهة القاضي وحدته.
كما أن واجب الحيدة بخلاف واجب المساواة من المتعذر إثباته أو الاستدلال عليه بصورة مباشرة و بعلامات ظاهرة وواضحة ، ولكن من الممكن التثبت منه بالنظر إلى الحكم الصادر من القاضي المنازع في مدي حيدته ونزاهته ؛ ولذا فإن الجزاء الذي يغلب توقيعه حال تخلف مفترضات الحيدة ينصب على الحكم القضائي ذاته ويتمثل في رفع القوة القضائية للأحكام عنه بوقف تنفيذه أو نقضه أو إلغائه، اللهم إلا إذا اشتهر أحد القضاة بعدم الحيدة وعدم النزاهة فإن هذا يكون مدعاة لعزله وسلب ولاية القضاء منه.
كما أن هذا الواجب الإجرائي والمتمثل في ضرورة المساواة بين الخصوم لا ينحصر الالتزام به على القاضي وحده بل يمتد ليثقل كاهل كل من يستعان به المعاونة القاضي في القيام بدوره في الفصل في المنازعات ، ولكن يضمحل مجال إعمال الواجب المذكور في شأن معاوني القاضي عنه في خصوص هذا الأخير ، ذلك أن مبدأ المساواة يقتضي قيام شخص بأمر يجعله يفصل بين اثنين أو أكثر في مسألة متنازع عليها وهو ما يتوافر في شأن القاضي بصفة أساسية ، ولكن لا مانع من تصور قيام أحد معاوني القاضي بأمر يتسم بهذه السمة و وقتئذ يقع على كاهله احترام ذلك المبدأ والقيام بحقه والعمل بموجبه ومقتضاه.
وهكذا ننتهي إلى أن المساواة بين الخصوم واجب إجرائي يرتد في مصدره إلى الكتاب والسنة وينشىء التزاما إجرائيا على كاهل القاضي وكذلك أعوانه بضرورة القيام على مقتضاه ، ویستتبع توقيع جزاءات إجرائية معينة تختلف وتتباين تبعا لاختلاف صور الإخلال بهذا الواجب وتباين حالات الخروج عليه.
۲- احترام تخصيص القضاء بالزمان والمكان والحادثة
من المقرر لدى فقه الشريعة الإسلامية أن لولي الأمرتخصيص القضاء بالزمان والمكان والحادثة ، إذ إن ذلك من قبيل أمور السياسة الشرعية التي من الأولى ترك أمر تحديدها لولي الأمر إذ إنها من ناحية لا تمس أصول الدين ومبادئه الأساسية ، ومن ناحية أخرى تتسم بعدم الثبات وعدم الاستقرار والتأثر بمستجدات الزمان و اختلاف عادات البشر وكيفية مباشرتهم لحياتهم اليومية ، وقد سبق لنا التعرض لهذا الأمر حال الحديث عن التنظيم القضائي قبل عرض على القضاء.
ورغبة في عدم التكرار تقتصر على ما يخصنا في هذا المقام الا وهو أنه اذا كان لولي الأمر تخصيص القضاء بالزمان بأن يحدد للقاضي أوقات معينة ومحددة يباشر فيها القضاء ، وتخصيص القضاء بالمكان بأن يعهد للقاضي بولاية القضاء لأهل مدينة محددة دون غيرها ، وتخصيص القضاء بالموضوع أو الحادثة كان يعهد لأحد القضاة بالفصل في المسائل المتعلقة بحقوق العباد دون حقوق الله تعالی أو العكس ، فإن لزام ذلك ضرورة احترام القاضي لهذا التخصيص إذ إن ولايته للقضاء تتقيد به وتنحصر في نطاقه ، وهذا يعد من قبيل الواجبات الإجرائية التي يتعين على القاضي احترامها والقيام بمقتضاها حال مباشرته ولاية القضاء.