تتفق القوانين محل البحث على أن حكم التحكيم غير قابل للتنفيذ بحد ذاته، وإنما يجب إكساؤه الصيغة التنفيذية من الجهة القضائية المختصة. والسبب في ذلك، أن الحكم ليس صادراً عن جهة قضائية رسمية، وإنما عن جهة خاصة ليس لها القدرة القانونية على إجبار الأطراف على تنفيذ الحكم، بل لا بد من مساعدة جهة رسمية حسب ما ينص عليه القانون، وهي جهة القضاء الرسمي في مختلف القوانين وقد سبق وبينا أحكام القانون السعودي فيما يتعلق بهذه المسألة ، ونشير هنا إلى أحكام كل من قطر والإمارات وسوريا والعراق ولبنان. أما قوانين البحرين والكويت وليبيا، فلا تختلف المبادئ الأساسية فيها، الخاصة بتنفيذ حكم التحكيم عن هذه القوانين، حسب الحالة المعروضة. وقبل ذلك، نود الإشارة لبعض النقاط ذات الصلة بالموضوع.
فمن جهة، يجدر القول بأن المحكمة المعروض عليها الحكم للمصادقة والتنفيذ، ليس لها البحث في أصل النزاع ثانية، وإنما تنحصر مهمتها بالمصادقة عليه، مع الأمر بتنفيذه، أو عدم المصادقة عليه. والأصل أن تصادق على الحكم، ما لم يتبين لها أن هناك ما يمنع تنفيذه، مثل مخالفة النظام العام ، لكون موضوع النزاع، مثلاً، لا يجوز التحكيم فيه أصلاً.
ومن جانب آخر، فإن القوانين التي أوجبت إيداع الحكم، لدى جهة القضاء المختصة أصلا بنظر النزاع ، لو لم يكن هناك تحكيم بشأنه، لم تبين الأثر القانوني الذي يترتب على عدم الإيداع بصورة مطلقة ، أو الإيداع المتأخر عن الموعد المحدد لذلك. ويمكن القول في هذا الشأن، أنه لا يترتب أي أثر قانوني على مخالفة النص الخاص بإيداع الحكم ، ولا على عدم تنظيم محضر بهذا الإيداع من قبل الجهة المختصة خلافاً للنص القانوني ، كما سنبين بعد قليل.
وبالنسبة للواجب المفروض على المحكم في عملية الإيداع، أو حتى واجبه بتسليم النسخ اللازمة من الحكم لأطراف النزاع، نرى بأن امتناع المحكم عن ذلك قد يكون مبرراً. وفي هذه الحالة، لا يجبر على إيداع الحكم ولا تسليمه للأطراف. وهناك حالتان على وجه الخصوص من هذا القبيل. الأولى، حيث يكون التحكيم مؤسسياً. وفي هذا الفرض يكون من واجب المحكم تسليم الحكم لمؤسسة التحكيم، وهو ما تقضي به قواعد التحكيم المؤسسي عموماً. وعندئذ، يكون إيداع الحكم لدى المحكمة أو تسليمه للأطراف، من واجبات مؤسسة التحكيم. وعليه، نرى فهم النصوص القانونية الخاصة بهذه المسألة ضمن هذا الإطار العملي، الذي يتماشى مع التحكيم في الوقت الحاضر لدرجة العرف. الثانية، حيث تكون هناك أتعاب تحكيم لم تدفع بعد للمحكم أو مؤسسة التحكيم. في هذا الفرض أيضاً، لا يتوجب على مؤسسة التحكيم أو المحكم إيداع الحكم لدى المحكمة، ولا تسليمه للأطراف إلا بعد دفع الأتعاب المتفق عليها ، أو المقررة من المحكم حسب الأحوال حتى لو دفع أحد طرفي النزاع نصيبه من الأتعاب فإن من حق مؤسسة التحكيم أو المحكم الاستمرار في الامتناع عن إيداع الحكم أو تسليمه لأي من الطرفين، ما دام الطرف الآخر لم يدفع نصيبه من أتعاب أو نفقات أخرى.
وأخيراً، فإن المحكوم ضده في حكم التحكيم، لا يجبر على تنفيذه قبل المصادقة القضائية عليه والأمر بتنفيذه . وإذا لم ينفذه طوعاً قبل ذلك، فلا يكون مسؤولاً بالتعويض أو غيره تجاه المحكوم له .
تنفيذ الحكم في القانون القطري
تقضي المادة (203) من القانون القطري بأنه "جميع أحكام المحكمين ولو كانت صادرة بإجراء من إجراءات التحقيق، يجب إيداع أصلها بمعرفة أحدهم مع أصل وثيقة التحكيم، قلم كتاب المحكمة المختصة أصلا بنظر الدعوى خلال الخمسة عشر يوما التالية لصدورها. ويحرر كاتب المحكمة محضراً بهذا الإيداع، ويبلغ صورته إلى المحتكمين. وإذا كان التحكيم وارداً على قضية استئناف، كان الايداع في قلم كتاب محكمة الاستئناف". كما تقضي المادة (204) بأنه لا يكون حكم المحكمين قابلاً للتنفيذ، غلا بأمر يصدره قاضي المحكمة التي أودع أصل الحكم قلم كتابها، بناءً على طلب أي من ذوي الشأن ويصدر القاضي الأمر بالتنفيذ بعد الإطلاع على الحكم ووثيقة التحكيم، وبعد التثبيت من أنه لا يوجد ما يمنع من تنفيذه. ويوضع أمر التنفيذ بذيل أصل الحكم. ويختص القاضي الآمر بالتنفيذ بكل ما يتعلق بتنفيذ الحكم ".
وبناء عليه، يجب إيداع الحكم لدى قلم كتاب المحكمة المختصة أصلاً بنظر النزاع، وهي في الأصل محكمة الدرجة الأولى. ولكن إذا كان الاتفاق على التحكيم قد تم أثناء نظر النزاع قضائياً من قبل محكمة الاستئناف، كان الإيداع لدى هذه المحكمة. ويلاحظ على القانون القطري، أنه نص على أن الذي يجب إيداعه لدى المحكمة جميع أحكام المحكمين"، دون تفرقة بين ما إذا كان اتفاق التحكيم قد تم أثناء نظر النزاع من المحكمة، أو خارج المحكمة أي دون تقديمه للقضاء. وإيداع الحكم، يجب أن يتم خلال خمسة أيام في القانون القطري. وكما نرى فإن عدم التقيد بهذا الميعاد لا يرتب أي أثر قانوني، غاية ما في الأمر أن الحكم لا يكون قابلاً للاستئناف كما لا يمكن إعطاؤه الصيغة التنفيذية، ما دام لم يتم إيداعه بعد.
وبعد الإيداع، ينظم كاتب المحكمة محضراً به ويبلغ صورة عنه إلى أطراف التحكيم. والهدف من ذلك واضح، وهو إعطاؤهم أو إعطاء الطرف المعني منهم الفرصة للطعن بالحكم .
وحسب ما ينص عليه القانون، أي عن طريق الاستئناف أو الطعن ببطلان الحكم. وحسب النص، يتم الإيداع لأصل الحكم. ولكن، كما نرى، يكفي لغايات النص إيداع صورة عنه ، مصادق عليها على أنها طبق الأصل من قبل المحكمين، أو أي جهة أخرى ذات اختصاص . على أية حال، جرى العمل في الوقت الحاضر أن يدون المحكمون حكمهم في أكثر من نسخة، ويوقعون على كل نسخة توقيعاً أصلياً، بحيث تعتبر كل نسخة أصلاً عن الحكم. كما يجب أن يودع مع أصل الحكم أصل وثيقة التحكيم، أي اتفاق التحكيم. وإذا تم اتفاق التحكيم في صيغة شرط أو بند تعاقدي في العقد الأصلي، فهذا يعني وجوب إيداع أصل العقد.
والإيداع يتم بمعرفة أحد المحكمين الذين فصلوا بالقضية التحكيمية، أي من قبل المحكم المنفرد ، أو من قبل أي من المحكمين في التحكيم الذي تتكون فيه الهيئة من أكثر من محكم. ويفترض أن يتم الإيداع في الحالة الأخيرة من قبل رئيس هيئة التحكيم وهو الغالب في الحياة العملية، ويمكن القول أن ذلك من مسؤولياته الإدارية في العملية التحكيمية. ولكن ليس هناك ما يمنع من إيداعه من قبل أي عضو آخر من أعضاء هيئة التحكيم.
ولا يكون الحكم المودع لدى المحكمة قابلاً للتنفيذ، إلا بأمر يصدره قاضي المحكمة التي أودع أصل الحكم لدى قلم كتابها ، بناءً على طلب أي من ذوي الشأن وهو عملاً المحكوم له. ويصدر القاضي الأمر بالتنفيذ بعد الاطلاع على الحكم واتفاق التحكيم، وبعد التثبت من أنه لا يوجد ما يمنع من تنفيذه. ولا يوجد حكم خاص بشأن إمكانية الطعن بقرار الأمر بتنفيذ أو عدم تنفيذ حكم التحكيم، فتبقى هذه المسألة خاضعة للقواعد العامة. ولكن، كما نرى، إذا كان هذا الأمر صادراً أصلاً عن رئيس محكمة الاستئناف، فلا يكون قراره خاضعاً للطعن عن طريق الاستئناف.
كما لا يوجد نص في القانون القطري يقضي بعدم جواز إصدار الأمر بتنفيذ الحكم، إذا كان الحكم لا زال قابلاً للاستئناف. إلا أننا نرى ذلك ما دام الحكم لم يصبح قطعياً بعد. ويفترض عندئذ انقضاء ميعاد استئناف الحكم القابل للاستئناف، ولكن لا يتم استئنافه ، ومن ثم يصدر الأمر بالتنفيذ. ويقع عبء إثبات عدم استئناف الحكم على طالب التنفيذ، ويتم ذلك عملاً بإرفاق كتاب من الجهة الرسمية بذلك مع طلب التنفيذ.
وهنالك عدة أمور تجدر الإشارة إليها : الأول - أن تنفيذ الحكم، يتم بأمر على عريضة من القاضي المعني، وليس بناء على محاكمة ومرافعات. الثاني - ليس للقاضي إصدار الأمر بالتنفيذ، إلا بعد التثبت من أنه لا يوجد ما يمنع ذلك. والمقصود بذلك بالدرجة الأساسية، كما نرى أن لا يكون الحكم مخالفاً للنظام العام، وأن يكون واضحاً، على الأقل في منطوقه، بحيث يكون قابلا للتنفيذ دون أي إشكال يذكر. وليس للقاضي بداهة رفض التنفيذ لسبب يعتبر من حقوق الأطراف، حيث يجوز لهم التنازل عنه صراحة أو ضمناً، مثل تجاوز المحكم لحدود المهمة الموكلة إليه فيما يتعلق بحقوق الأطراف أو صدور الحكم خارج الميعاد المحدد لذلك. الثالث ـ كما هو واضح، فإن مجرد إيداع الحكم، لا يعطي للقاضي صلاحية الأمر بالتنفيذ من تلقاء نفسه، بل لا بد أن يطلب منه ذلك أحد طرفي التحكيم. الرابع - ومدة استئناف الحكم هي ثلاثون يوما، تبدأ اعتباراً من اليوم التالي لإيداع الحكم. وهو نص منتقد ، لان الحكم قد يتم إيداعه في تاريخ معين، ولكن لا يتم تبليغه للمحكوم عليه إلا بعد انقضاء فترة الثلاثين يوماً. فكيف يمكن إعطاؤه الحق بالاستئناف خلال مدة انقضت أصلاً؟ لذلك نرى بأنه كان يجب ربط مدة الاستئناف بتبليغ -
الحكم للأطراف، كالقول مثلاً أن هذه المدة تبدأ من اليوم التالي لتبليغ الأطراف بالحكم، حتى تتاح لهم أو للطرف المعني منهم فرصة الطعن به استئنافاً ، إذا كان قابلاً للاستئناف.
وصدور الأمر بالتنفيذ لا يحول بين المحكوم عليه والطعن ببطلان حكم التحكيم. وفي هذه الحالة، يترتب على رفع دعوى البطلان وقف التنفيذ ما لم تقض المحكمة باستمراره. والمقصود بالمحكمة هنا المحكمة المرفوع أمامها دعوى البطلان. ويلاحظ على القانون القطري أنه لم ينص على مدة لرفع دعوى البطلان، وهذا يعني أنه يجوز رفعها حتى ولو تم تنفيذ الحكم كاملاً، ولكن التأخير غير المبرر في رفع الدعوى، قد يفسر على أنه تنازل من المحكوم عليه عن حقه فيها، على الأقل بالنسبة لحالات البطلان التي لا ترجع للنظام العام، وإنما تتعلق بحقوق الأطراف والتي يمكن التنازل عنها صراحة أو ضمناً
تنفيذ الحكم في القانون الإماراتي
يميز القانون الإماراتي في إيداع الحكم بين اتفاق التحكيم الذي يتم عن طريق المحكمة، والتحكيم الذي يتم خارجها . ويقصد بالأول أن يكون ثمة نزاع لا يتضمن الإحالة للتحكيم ومن ثم يتم عرضه على المحكمة. وأثناء نظر هذا النزاع القضائي، يتفق الطرفان على إحالته للتحكيم، فتقرر المحكمة ذلك. أما الثاني فيقصد به التحكيم الذي يتم بناء على اتفاق تحكيم مسبق خارج القضاء، بحيث لا يكون النزاع مطروحاً أمام المحكمة.
وبناءً عليه، يمكن القول أن النزاع القضائي حول سريان أو عدم سريان اتفاق التحكيم، بحيث تقرر المحكمة سريانه وبالتالي ترفض الدعوى شكلاً، لا يعتبر من قبيل التحكيم الذي تم عن طريق المحكمة. فما دام أن موضوع النزاع محل اتفاق تحكيم أ أصلاً، فيعتبر التحكيم قد تم خارج المحكمة، حتى لو كانت إحالته للتحكيم قد تمت بقرار قضائي، نتيجة المنازعة حول اتفاق التحكيم. وكذلك الأمر، لا يعتبر تحكيماً تم عن طريق المحكمة، إذا كان دور المحكمـة هـو تـعـيـين المحكمين بناءً على اتفاق تحكيم مسبق بين الطرفين