الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / اسباب اخرى / الكتب / الحماية الدولية لأحكام التحكيم الاجنبية / أسباب أخرى لرفض الاعتراف والتنفيذ لم ترد في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك

  • الاسم

    د. هشام إسماعيل
  • تاريخ النشر

    2012-01-01
  • اسم دار النشر

    دار النهضة العربية
  • عدد الصفحات

    1141
  • رقم الصفحة

    905

التفاصيل طباعة نسخ

أسباب أخرى لرفض الاعتراف والتنفيذ لم ترد في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك

تتسم أسباب رفض التنفيذ الواردة في المادة الخامسة من الإتفاقية بعـــدة سمات من بينها : أنها قد وردت على سبيل الحصر، ويتفرع عن هذه السمة، أنه لايجوز لقاضى التنفيذ فحص وقائع النزاع، ومن ثم فلايجوز إضافة أسباب أخرى لرفض التنفيذ، وبعبارة أخرى، فإنه لا يملك أى سلطة تقديرية" لرفض تنفيذ حكم التحكيم عندما لا تتوافر أياً من تلك الأسباب الواردة فى المادة الخامسة من الإتفاقية ومؤدى ذلك أنه ينبغى تطبيق الأسباب الخاصة برفض التنفيذ على نحو ضيق يقتصر على ماورد بالإتفاقية.

   ومع ذلك فقد أضاف القضاء المقارن أسباب قانونية أُخرى لرفض الإعتراف والتنفيذ لم يـرد النص عليها بالاتفاقية، وهذه الأسباب تتلخص في: إشتراط تمتع محكمة التنفيذ بالإخـ الشخصي على شخص أو ملكية المدعى عليه ويرتبط بهذ السبب سبب آخر يتعلق بعدم ملائمة المحكمة لإنتفاء وجود رابطة يُمكن أن ينعقد بها الإختصاص لها بنظر دعوى التنفيذ. 

   وكذلك إشتراط دمج حكم التحكيم فى حكم قضائي بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بغموض الحكم، والتى تثير تساؤلاً حول سُلطة المحكمة فى توسيع نطاق المراجعة وإعادة القضية إلى هيئة التحكيم .

   وهناك سبب آخر يتعلق بما درجت عليه بعض أحكام القضاء الأمريكي من القضاء بإلغاء أحكام التحكيم بسبب "الإهمال الواضح للقانون، وأخيراً السبب المتعلق بحصانة الدولة. 

   وسوف نعرض لكل سبب من هذه الأسباب بإيجاز ، لنبين المدى الذي يُمكن أن يكون فيه تدخل المحاكم الوطنية في عملية التحكيم مفيداً لتحقيق هذه العملية لأهدافها، ومُحققاً للحماية الدولية لأحكام التحكيم الأجنبية، وذلك فى ضوء القوانين ذات العلاقة، وإتفاقية نيويورك، وما عسى أن يكون مُرتبطاً بهذه المسائل من أحكام هذه المحاكم.

1- الإختصاص الشخصى بدعوى التنفيذ

  يثور تساؤل فى هذا الصدد عما إذا كان يجوز لإحدى الدول المتعاقدة في إتفاقية نيويورك أن تفرض شروطاً تتعلق بالإختصاص بشأن طلب تنفيذ حكم تحكيم صادر في ظل الإتفاقية، بحيث يحقُ للمحكمة المختصة في هذه الحالة رفض دعوى التنفيذ، إذا رأت - في حدود سلطتها التقديرية - أن عرضها على محكمة أخرى غيرها، يعد أنسب للخصوم، وأيسر لأغراض العدالة ومقتضياتها، وأضمن لتحقيقها.

   ولاشك في أن هذا التساؤل ليس فرضاً نظرياً محضاً، وإنما هو حقيقة واقعة، حيث يُبين الواقع العملى أن هناك تضارباً حادثاً بين أحكام بعض المحاكم الوطنية بشأن هذا الموضوع، فقد إستلزمت المحاكم الأمريكية - على سبيل المثال عند نظر دعوى تنفيذ حكم تحكيم خاضع للإتفاقية، ضرورة إثبات أن المحكمة تتمتع بالإختصاص الشخصي على شخص أو ملكية المدعى عليه، ففى قضية Transatlantic Bulk  Shipping Ltd. (Liberia) v. Saudi .Chartering S.A ، ذكرت المحكمة المحلية لجنوب ولاية نيويورك الأمريكية أن الإتفاقية وقانون التحكيم الفيدرالي لم يمنحا المحاكم الأمريكية السلطة المطلقة لإعلان الإختصاص علي "كافـــة الأشخاص في شتى أنحاء العالم والذين أبرموا إتفاق تحكيم خاضع للإتفاقية».

  وفي قضية Creighton Limited v. Government of the State of Qatar واجهت محكمة إستئناف كولومبيا، مدى كفاية صلات المدعى عليه بالولايات المتحدة لثبوت الإختصاص الشخصى للمحكمة، دون النظر لما إذا كان ثبوت هذا الإختصاص يُعد ضرورياً في ظل الإتفاقية وقانون التحكيم الفيدرالي - من عدمه -. 

   ورأت المحكمة أنه لا يمكنها الجزمُ بالإختصاص الشخصي علي حكومة قطر، لأنه ولئن كانت حكومة قطر قد أبرمت عقداً مع شركة تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، كما إتصلت بها ووقعت العقد المعدل معها، وأرسلت تقارير حالة بالتلكس إليها في الولايات المتحدة ، إلا أن كافة هذه الإتصالات لاتُثبت أن حكومة قطر قد قصدت الخضوع لإختصاص المحاكم في الولايات المتحدة في ضوء حقيقة أن عرض التعاقد وقبوله وتنفيذه ومُخالفته والسداد في حساب مصرفي للمدعي قد تم في قطر وخضع لقوانينها .

   وقد تأكد هذا الإتجاه في الثلاثية الأمريكية الشهيرة للأحكام الصادرة من محاكم الإستئناف الفيدرالية الأمريكية فى قضايا Base Metal و Glencore Grain و .Monde Re v Naftogaz، حيث خلصت المحاكم الأمريكية فى القضيتين الأوليتين إلى أنها لا تمتع بالإختصاص الشخصي على المدعى عليه الأجنبي، ورفضت بالتالى تنفيذ حكمى التحكيم الصادرين فيهما، بينما قررت في القضية الثالثة أنها غيرُ مُلائمة لنظر طلب تنفيذ حكم التحكيم، وقضت لذلك برفضه .

   ففي قضية Base Metal Trading, Limited v. OJSC Novokuznetsky Aluminum Factory، رفضت الدائرة الرابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية تنفيذ حكم تحكيم صدر في روسيا ضد مصنع روسى لعدم وجود أدنى صلة بالمحكمة، حيث رأت المحكمة بأنه على عكس الإنطباع السائد فإنه ليس بالضرورة أن يُمكن المدعى من إقامة دعوى التنفيذ، كلمــا وجدت أصول للمدين، وبناءاً عليه رفضت المحكمة دعوى التنفيذ لعدم الإختصاص الشخصي بالنسبة للمدين.

   وفى سبيل ذلك، رأت المحكمة أن إقامة الدعوى أمام محكمة قضائية، بحجة وجود ممتلكات للمدين – تقع فى نطاق إختصاص هذه المحكمة - لا علاقة لها بالنزاع لا يُعد سبباً كافياً للإختصاص الشخصي ، وأوردت المحكمة فى أسباب حكمها : حيث أن الممتلكات التي تعد بمثابة الأساس المحدد للولاية القضائية على الإطلاق، لا تربطها أى صلة بالسبب الذي دفع بالمدعين لإقامة الدعوى، ومن ثم، فإن مجرد تواجد الممتلكات لايمكن الإستناد إليه وحده كمعيار لتحديـــد الإختصاص ، وبالتالي، فإنه وبالنظر إلى أن الألومنيوم الذى تمت مصادرته وإحتجازه في ميناء بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن تربطهُ ثَمْةَ صلة بالنزاع الذي أفضى إلى صدور حكم التحكيم، وخلصت المحكمة من ذلك إلى القضاء بالغاء أمر الحجز والمصادرة.

  وقد إستشهدت المحكمة الأمريكية فيما إنتهت إليه من قضاء بما كانت قد قررت به سلفاً المحكمة العليا الأمريكية فى رأى عارض" لها في قضية Shaffer v. Heitner، من أن وجود ممتلكات لا تربطها ثمة علاقة بسبب الدعوى، لايمكن إعتباره، بوجه عام، سنداً كافياً لممارسة سُلطة الإختصاص الشخصى، اللازمة للفصل في موضوع النزاع ، على الرغم من أن هذه القضية لا تتعلق بحكم تحكيم أجنبى، بل بحكم قضائى يخص شأناً داخلياً في الولايات المتحدة الأمريكية.

  إلا أنه - وعلى الجانب الآخر - وبعد مرور ثلاثة أسابيع فقط على الحكم الأخير الصادر من الدائرة الرابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية في قضية ... .Base Metal Trading, Ltd V.OJSC  - سالفة الإشارة - ذهبت الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية - في رأى عارض لها - في قضية Glencore Grain Rotterdam B.V.V. Shivaath Rahi  Harnarain Co ، والتي تتعلق بحكم تحكيم صدر فى لندن، إلى القول بأنه على الرغم من أن إتفاقية نيويورك تُعطى للمحاكم الفيدرالية الإختصاص الموضوعى، إلا أنها لا تلغى شرطاً مقتضاه أن المحكمة الفيدرالية يجب أن تتمتع بالإختصاص الشخصى، وأن تحديد جهة الاختصاص الشخصى التي تتولى تنفيذ حكم التحكيم، يُمكن أن يكون مُستنداً على ممتلكات تقع في نطاق إختصاص المحكمة ولا تربطها صلة بالنزاع المعنى، بمعنى أن المحكمة المختصة بالتنفيذ، يمكن أن تكون تلك التي تتبعها هذه الممتلكات، رغم عدم إتصال الأخيرة بالنزاع موضوع التحكيم . 

   وأكدت المحكمة على أنه : " في دعاوى الإعتراف بحكم تحكيم أجنبي في ظل الإتفاقية تستلزم المحاكمة العادلة أن تتمتع  المحكمة المحلية بالإختصاص علي المدعي عليه المراد التنفيذ عليه أو علي ملكيته، مشددةً على أن الإختصاص الشخصي لابد وأن يستند علي وجود المدعي عليه أو ملكيته بطريقة تستوفي من خلالها شروط المحاكمة العادلة في ظل الدستور، كما لاحظت المحكمة أنه لأبد من تطبيق الإتفاقية وقانون التحكيم الفيدرالى بما يتوافق مع الدستور، لأنه: "من المبادئ الأساسية في قانون الإجراءات المدنية والقانون الدستوري أن التشريع لا يمنح الإختصاص الشخصي عندما يحظره الدستور ». 

  وبعد مضى عام آخر تقريباً، وأثناء نظرها لقضية .Dardana Ltd. V A.O. Yuganskneftegaz، أجرت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية، دراسة ميدانية حول مسألة الإختصاص الشخصى بالنسبة للمدعى عليه كأساس لإنعقاد ولايتها عليه في دعوى التنفيذ، فتبين لها أنها مسألة صعبة"، دون أن تخوض فى ثمة تفاصيل، مما دفعها إلى المراوغة تفادياً للبت فيها .

   حيث أشارت المحكمة فى هذه القضية إلى التضارب الحاصل فى الأحكام الصادرة عن الدائرتين الرابعة والتاسعة دون أن تفصل صراحةً فيما إذا كان ينبغى على طالب التنفيذ "إثبات أساس ممارسة الإختصاص الشخصى على الطرف الآخر، أو على ملكية هذا الطرف المراد التنفيذ عليه“، ولذلك أمرت بإعادة الدعوى إلى المحكمة المحلية للنظر فيما إذا كان "وجود الممتلكات" وحدها يمكن أن يوفر أساساً للإختصاص بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي. 

   وفى تقديرنا أنه يُمكن تجنب صدور مثل هذه الأحكام من خلال تضمين إتفاق التحكيم، نصاً يُجيز للطرف الرابح للتحكيم إقامة دعوي التنفيذ في أي دولة عضو في إتفاقية نيويورك، وهو ما يكفل الحماية الدولية لأحكام التحكيم، ويحقق الفعالية الدولية للإتفاقية. 

 

٢- مبدأ عدم ملائمة المحكمة 

   يُعد هذا المبدأ، على خلاف شرط الإختصاص الشخصي، أكثر إثارة للجدل، ويرجع ذلك إلى أن هذا المبدأ يُعد مبدأ إجتهادياً تطور قضائياً فى ظل القانون العرفى، ولا يوجد له أساس من الدستور أو التشريع ، أو إتفاقية نيويورك، إلا أنه مع ذلك يُجسد أحد المبررات التي ابتكرها القضاء المقارن لرفض الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.

   وعلى سبيل المثال، رفضت المحكمة الإتحادية السويسرية فى حكمها الصادر في قضية "Socialist People's Libyan Arab Republic Jamahirya v. Libyan American Oil Company (LIAMCO الإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، على الرغم من صدوره بجنيف، وذلك على أساس أنه بالنظر إلى أطراف النزاع وكذا المنازعة نفسها، فإن طلب التنفيذ يفتقد لكل رابطة يُمكن أن ينعقد بها الإختصاص للقاضى السويسرى. 

   وعلى نحو مشابه، قامت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية في قضية Monde Re، v. Naftogaz And State Of Ukraine ، برفض تنفيذ حكم تحكيم صدر في موسكو ضد حكومة أوكرانيا وشركة أوكرانية إستناداً إلى مبدأ عدم : مُلائمة المحكمة".

  وتتحصل وقائع هذه القضية فى أنه بتاريخ ١٦ يناير ۱۹۹۸، أبرمت شركة AO Gazprom Gazprom ، وهى شركة غاز روسية، مع شركة " (AO (Ukragazprom Ukragazprom ، وهى شركة أوكرانية تعمل فى خطوط أنابيب الغاز والنفط، عقداً تلتزم بموجبه الأخيرة بنقل ٢٣٥ مليون متر مكعب من الغاز الطبيعى عن طريق خط أنابيب عبر أوكرانيا، إلى مناطق عدة في أوروبا، وقد تضمن العقد المذكور شرطاً للتحكيم أمام محكمة التحكيم التجارى الدولى بغرفة التجارة والصناعة بالإتحاد الروسي .

   وفى مايو ۱۹۹۸ إندمجت شركة Ukragazprom مع شركات أوكرانية أخرى، لتشكل (NAK Naftogaz Of Ukraine (Naftogaz، وفى أكتوبر ١٩٩٨ أبرمت شركة Gazprom وثيقة تأمين مع شركة Sogaz للتأمين ضد مخاطر قيام شركة Ukragazprom بالسحب غير المسموح به للغاز الطبيعى ثم قامت شركة Sogaz بالتأمين ضد تلك المخاطر لدى شركة تأمين أخرى هي (Monegasque De Reassurances s.a.m(Monde (Re، وإذ نشب نزاع بين طرفي العقد في عام ۱۹۹۹ ، بشأن قيام Naftogaz بالسحب غير المشروع لما يقرب من ١,٤٨ بليون متر مكعب من الغاز الطبيعى، وقبل أن تتم تسوية هذا النزاع  بين طرفيه طلبت شركة Gazprom تعويضاً من شركة Sogaz فأوفته إليها، ثم تلقت الأخيرة بدورها تعويضاً مماثلاً من شركة التأمين الأخ Monegasque De Reassurances  (s.a.m(Monde Re

 

  وفى ٢١ أبريل ۱۹۹۹، استهلت Monde Re إجراءات التحكيم أمام محكمة التحكيم التجارى الدولى بغرفة التجارة والصناعة بالإتحاد الروسي ضد Naftogaz طبقاً لشرط التحكيم الوارد بعقد النقل الأصلى وبتاريخ ۳۱ مايو ۲۰۰۰ أصدرت محكمة التحكيم المذكورة حكماً - بأغلبية أعضائها – قضى بالزام Naftogaz بأن تؤدى إلى Monde Re المبلغ الذي سبق لها أن دفعته إلى Sogaz وقدره

88,374,401,49 دولار أمريكي، فطعنت Naftogaz على هذا الحكم أمام محكمة إستئناف موسكو، حيث قضت الأخيرة بتاريخ ٢١ مارس ۲۰۰۱ برفض الطعن، وأيدتها في ذلك محكمة النقض الروسية بتاريخ ٢٤ أبريل ۲۰۰۱. 

   وفى غضون ذلك - بتاريخ ۱۲ سبتمبر ۲۰۰۰ - كانت Monde Red قد سعت إلى تنفيذ حكم التحكيم المشار إليه على كل من Naftogaz ، وحكومة أوكرانيا – التي لم تكن طرفاً في التحكيم – أمام محكمة جنوب ولاية نيويورك، مُقررةً أن Naftogaz كانت وكيلاً رسمياً عن الحكومة الأوكرانية.

   وفي حكم صدر بتاريخ ٥ سبتمبر ۲۰۰۱، تم تعديله في ٤ ديسمبر (۲۰۰۱ ، رفضت المحكمة الأخيرة الطلب المقدم للتنفيذ من Monde Re، معللة ذلك بأن مبدأ عدم ملائمة المحكمة ، يسمح للمحاكم - في حدود سلطتها التقديرية - برفض الإختصاص بنظر القضايا المعقدة، التي تضم أطرافاً أجنبية فقط، ولا يؤثر في سريان هذا المبدأ قانون حصانات الدول الأجنبية FSLA أو الإستثناء المتعلق بالتحكيم، الذى يجوز فى ظلهما لأحد الأطراف طلب تنفيذ حكم تحكيم أجنبي، صادر طبقاً لإتفاق تحكيم مُبرم بين دولةٍ مُستقلة وطرف خاص، إذا إنطبق على هذا الحكم إتفاقية تنفيذ كإتفاقية نيويورك لعام ١٩٥٨.

   وقد أيدت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية بتاريخ ١٥ نوفمبر ۲۰۰۲ الحكم الصادر من قاضي محكمة جنوب ولاية نيويورك من كافة جوانبه، مقررةً أنه: "لا يمكننا القيام بشيء أفضل من تكرار تسبيب القاضى ، ورفضت الدفع المبدى من Monde Re بأن مبدأ "عدم ملائمة المحكمة لا يندرج ضمن الدفوع الواردة على سبيل الحصر في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك لرفض التنفيذ، وقررت المحكمة أنه فى ظل المادة الخامسة تخضع إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية إلى القواعد الإجرائية المتبعة في دولة التنفيذ، وأن الإستثناء الوحيد على ذلك هو عدم فرض المزيد من الشروط المرهقة من الناحية الموضوعية . .... أكثر مما يتم فرضه عند الإعتراف بأحكام التحكيم المحلية وتنفيذها. 

   وعللت المحكمة رأيها، بأنه في ظل المادة الثالثة من الإتفاقية يجب على محاكم الدول المتعاقدة تنفيذ أحكام التحكيم وفقاً للقواعد الإجرائية فى الدولة التى التى يحتج فيها بالحكم، وبذلك يكون واضعي الإتفاقية قد إعترفوا بأن قواعد" الإجراءات المختلفة سوف تطبق أمام محاكم الدول الأعضاء ، وأن المحكمة العليا الأمريكية قد صنفت مبدأ عدم مُلائمة المحكمة"، باعتباره "مبــداً إجرائياً أكثر منه موضوعي“ .

  ومن ثم، فإنه يُعد واجب التطبيق على أحكام التحكيم المحلية بالولايات المتحدة الأمريكية، وأن محاكم الدول الموقعة على الإتفاقية تكون لديها الحرية : " فى تطبيق القواعد الإجرائية المختلفة، بما يتفق مع الشرط الوارد بالإتفاقية بألا تكون هذه القواعد أكثرُ إرهاقاً بالنسبة لدعاوى الإتفاقية، من تلك المنصوص عليها بالنسبة للدعاوى المحلية .. أياً كانت قواعد إجراءات التنفيذ المطبقة في دولة التنفيذ والتي تعتبر مقبولة، دون الإشارة إلى أى نص آخر فى الإتفاقية وأن مبدأ عدم ملائمة المحكمة، يُعد قاعدة إجرائية، يُمكن تطبيقها على قضايا التحكيم الوطنية المرفوعة بموجب قانون التحكيم الفيدرالي، ولذلك فإنه يجوز تطبيقها في ظل نصوص الإتفاقية». 

   وأضافت المحكمة أن: "القضية المعروضة علينا لا علاقة لها ببساطة بالولايات المتحدة، بخلاف حقيقة أن الولايات المتحدة هي دولة موقعة على الإتفاقية وأن المسائل التي ينطبق عليها قانون أوكرانيا وأيضاً القانون الروسى قد أثيرت بالفعل، وتعتبر المحاكم الأوكرانية أكثر ملائمة من المحاكم الأمريكية لحل هذه المسائل القانونية ولا تمثل مُشكلة تكدس المحاكم في أوكرانيا أكثر مما هي عليه هنا، وليس هناك من سبب لئلا تُحسم هذه المسائل المحلية بمعرفة محاكم المكان باعتبارها أكثر صلة بها، وأن عوامل المصلحة العامة تُرجح أيضاً لصالح الرفض، وهذا ما توصلت إليه محكمة الولاية على نحو سليم“.

   وتبدو المحكمة بهذا التسبيب تَائِهَةٌ علي مستوي المنطق والتاريخ، حين قدمت لحكمهــا بـأن إتفاقية نيويورك لا تفرض قيوداً سوي عدم التمييز فى القواعد الإجرائية المطبقة بمحكمة التنفيذ، - تعويلا منها علي تاريخ إعداد إتفاقية نيويورك بأن بلجيكا قد إقترحت صياغة محايدة – وأيدتها في ذلك الولايات المتحدة - بعد فشل الجهود المبذولة لإرساء معايير موحدة ، حال أن التاريخ التشريعي للإتفاقية لايؤيد النتائج التي خلصت إليها المحكمة .

   بل علي العكس تؤكد المناقشات التى دارت حول المادة الثالثة أن الإشارة إلي "القواعد الإجرائية تتعلق فقط بالشكليات التى يتعين توافرها في طلب الإعتراف أو التنفيذ، كما أن العبارة المذكورة بالمادة الثالثة من الإتفاقية لم يُكن مصدرها المبعوث البلجيكي" ، أو أي مبعوث غيره، وإنما أخذت حرفياً من سلف إتفاقية نيويورك .

   كما أنه من الصعب فهمُ مُبررات هذا القضاء، بدعوى عدم وجود رابط بين القضية المطروحة والولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن الإنضمام إلى إتفاقية نيويورك يُعد فى حد ذاته رابطاً وثيقاً بـين الدول الأعضاء الموقعة عليها ومن بينها أطراف هذه القضية روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن أن هذا المسوغ الذى إستخدمته محكمة الإستئناف الأمريكية، إذا تم تبنيه على الصعيد الدولى ستكون له آثار ضارة على تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية فى ظل إتفاقية نيويورك تتمثل في الآتى : 

   (1) أن هذا الحكم يتعارض تماماً مع فحوى العبارة الأولى من المادة الثالثة من الإتفاقية والتي تنص على أنه على كل دولة مُتعاقدة أن تعترف بأحكام التحكيم كأحكام مُلزمة وأن تقوم بتنفيذها وفقاً للقواعد الإجرائية المتبعة في الدولة التي يحتج فيه بالحكم .. وقد وافقت الولايـــات المتحدة عندما أصبحت دولة عضو علي هذا الشرط الوارد بالمادة الثالثة، وهو الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها .

 

   والثابت أن "القواعد الإجرائية التي تُحيل إليها المادة الثالثة لا تتضمن المبادئ القانونية التي تجيز للمحاكم الأمريكية - في إطار السلطة التقديرية لها - الإحجام عن ممارسة الإختصاص في قضية أُقيمت في ظل الإتفاقية، كما أن الزعم بأن: "عدم مُلائمة المحكمة " يُعد من بين القواعد الاجرائية الواجبة التطبيق في ظل المادة الثالثة يبدو وكأنه ينفي الإلتزام الوارد في هذه المادة بحيث يُجردها من فاعليتها وأثرها تاركاً أمر الإعتراف بحكم تحكيم صادر في ظل الإتفاقية وتنفيذه إلي السلطة التقديرية المطلقة للمحكمة المحلية بحسب كل قضية علي حدة.

 (2) أن هذا الحكم يُضيف إلى الأسباب الواردة على سبيل الحصر فى المادة الخامسة من إتفاقية

نيويورك لرفض الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، سببين آخرين، هما : ضرورة وجود صلة بين الأطراف والدولة المنشود بها التنفيذ وهو سبب عدم الإعتراف بحكمى التحكيم الصادرين في قضيتي Base Metal و (Glencore Grain .

  رغم أن هذه الصلة تُعد قائمة من الناحية العملية من خلال حقيقة هامة هي وجود داخل تلك الدولة، أو مُلائمة المحكمة لنظر طلب الإعتراف (وهو سبب عدم الإعتراف بحكم التحكيم الصادر في قضية Monde Re) ومع ذلك، فقد تكون هناك رغبة لدى الطرف الرابح الحكم التحكيم، في الإعتراف به من خلال تحويله إلى حكم قضائى فى دولة معينة، حتى ولو لم تكن هناك أصولاً للتنفيذ بتلك الدولة.

(3) أنه ولئن كانت الإتفاقية تُلزم الدول المتعاقدة في الفقرة الأولى من المادة الثالثة منها، بالإعتراف بحجية أحكام التحكيم وأن تأمر بتنفيذها وفقاً للقواعد الإجرائية المتبعة في الدولة المطلوب إليها التنفيذ، فإن معظم الفقه يرى أن هذا النص يتعلق بشكل التنفيذ وليس بشروط التنفيذ.

   وإذا كان من المؤكد أن الدول تتمتع بالسلطة التقديرية فيما يتعلق ببعض الأمور الإجرائية البسيطة مثل أتعاب القضية، أو القواعد التي تنص علي مكان إقامة دعاوي التنفيذ، ولذلك فإن تفسير عبارة "القواعد الإجرائية المتبعة في الدولة المطلوب إليها التنفيذ على هذا النحو، يُتيح للمحاكم الوطنية النفاذ من هذا الباب الخلفى بالإستناد إلى أسباب لاحصر لها، للتهرب من الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية الصحيحة.

  (4) أن إشتراط مُلائمة المحكمة الأخرى البديلة فى إجراءات التنفيذ قد يعني أن التنفيذ لن يحدث مطلقاً فى الواقع العملى، وهذا ما قد يحدث بالفعل خاصةً بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات، والتي تملك أصولاً في دول مُتعددة، في ضوء ماتتبناه المحاكم الأمريكية من أنه متى وجدت أصول فى دولة أخرى ؟ ، فإنه ينبغى إثبات مُلائمة المحكمة البديلة وهو ما قد يسفر عنه رفض التنفيذ، إذا لم يتم إثبات مُلائمة المحكمة البديلة للتنفيذ . 

   وهو ما يتعارض مع الأساس الذى قامت عليه إتفاقية نيويورك، وهو تشجيع وتعزيز التجارة الدولية، من خلال جعل أحكام التحكيم - التى يتم الحصول عليها بالشكل القانونى الصحيح . أحكاماً واجبة النفاذ على أوسع نطاق ممكن حتى ولو كان المدعى عليه سوف يُضطر حتماً إلى التقاضي ضد وجوب النفاذ أمام العديد من المحاكم، فضلاً عما يُمثله إعتناق مبدأ عدم " ملائمة المحكمة" بوجه عام من مُخالفة لقواعد القانون الدولي التى تحظر علي الدول اللجوء إلي قانونها الداخلي للتملص من إلتزاماتها الدولية .

(5) أنه ولئن كان تكدس القضايا فى المحاكم يُعد من الناحية العملية مشكلة عالمية – حتى ولو كان ذلك بدرجات متفاوتة فى مُختلف الدول ، إلا أن إعتبار مايسمى بعوامل المصلحة العامة، ربما يُصبح سبباً لرفض التنفيذ لأسباب أخرى تتعلق بالحماية المحلية ، ويطرح هذا القضاء المزيد من التساؤل حول ما إذا كان يكفى طالب التنفيذ إثبات أن حكم التحكيم قد صدر طبقاً إتفاقية نيويورك، أم أنه يتعين عليه أيضاً أن يستوفي شروط الإختصاص فى دولة قاضي التنفيذ ؟ وهــذا السؤال ينشأ خاصةً فى محاكم الولايات المتحدة الأمريكية التي تبحث دائماً الإختصاص في ظـل قوانينها الخاصة.

   ولاشك فى أن هذا الإتجاه من القضاء الأمريكى بالنسبة لإشتراط مُلائمة محكمة التنفيذ، يُمثلُ رِدَةً على التوجه الدولى نحو تحقيق الفعالية الدولية لأحكام التحكيم الأجنبية، والعمل على كفالة الحماية الدولية لها، بتحقيق التناسق الدولى نحو إنفاذها، كما أنه يُخالف ما هو حادث في عدد من الدول الأخرى من عدم فرض شروط إضافية تجاوز ما نصت عليه إتفاقية نيويورك، إكتفاءاً بأن يُثبت طالب التنفيذ صدور حكم التحكيم في دولة أخرى عضو في إتفاقية نيويورك وفقاً لما نصت عليه المادة الأولى من الإتفاقية .

 3- دمج حكم التحكيم فى حكم قضائي

  وقد تباينت مواقف المحاكم الوطنية بشأن ما إذا كان إدماج حكم التحكيم في حكم قضائي في دولة المنشأ، يحوز أثراً فوإقليمى - من عدمه -، ففى حين تتجه معظم المحاكم للقول بأن إدماج حكم التحكيم في حكم قضائى ليس له من تأثير خارج الدولة التي صدر بها، ولا يجوز أثراً فوإقليمي ومن ثم، يظل حكم التحكيم سبباً لدعوى التنفيذ فى دول أخرى إستناداً إلى الإتفاقية . 

  نجد أن محكمة إستئناف Florence قد اتخذت في عام ۱۹۸۰ موقفاً مغايراً، حيث رفضت في قضية 'Nidera Handelscompagnie BV v. Moretti Cereali SPA تنفيذ حكم تحكيم إنجليزى خضع لإجراء قضائى خاص مُعللة ذلك بأن طالب التنفيذ كان يملك الحق في الحصول على مبلغ من المال، ليس بسبب حكم التحكيم، ولكن بسبب حكم المحكمة الصادر في إجراءات القضية الخاصة، وأن حكم التحكيم قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحكم القضائي، ومن ثم فإن الأخير - وليس حكم التحكيم - هو الذى يجب أن يُتخذ أساساً للتنفيذ .

  وبعد مرور عام تقريباً على هذا الحكم المتفرد، لم تر ذات المحكمة في حكماً تحكيمياً إنجليزياً آخر صدر فى قضية Rederi Aktiebolaget Sally v. Srl Termarea حكماً مستقلاً، بحيث يُمكن تنفيذه طبقاً للإتفاقيات الدولية والقانون المحلى إستناداً إلى "إجراء القضية الخاصة  ، ورفضت بالتالى تنفيذ حكم التحكيم إستناداً إلى أن تشكيل هيئة التحكيم كـــان مخالفاً لإتفاق الأطراف. 

   وعلى الفور سعى طالب التنفيذ للحصول على حكم قضائي بشأن حكم التحكيم في إنجلترا، ثم عاد مرة أخرى إلى إيطاليا طالباً التنفيذ فيها هذه المرة إستناداً إلى الحكم القضائي الإنجليزي، بيد أن محكمة إستئناف Florence إتخذت في هذه المرة رأياً مُغايراً تماماً لرأيها السابق الصادر في ذات القضية، مؤداه أن الحكم القضائى الإنجليزى يُعد مُشابهاً لحكم التحكيم، ولذلك رفضت التنفيذ.

   وعلى نحو مماثل، رفضت المحكمة المحلية بجنوب إنجلترا - وقبل تصديق إنجلترا على الإتفاقية – ، تنفيذ حكم تحكيم إنجليزى على سند من أنه بموجب قانون التحكيم الإنجليزى الواجب التطبيق على النزاع، فإن حكم التحكيم دون إدماجه فى حكم قضائي يفتقر إلى "النهائية بالنسبة للتنفيذ .

  وبهذا المفهوم، أمرت بعض المحاكم الأمريكية فى ظل قانون الإعتراف الموحد بتنفيذ حكم حكم تحكيم مندمج فى حكم قضائي، ففى قضية . Island Territory of Curacao .Solitron Devices, Inc، أمرت المحكمة بتنفيذ حكم قضائى صادر بشأن حكم تحكيم   مقررة أن إتفاقية نيويورك وباعتبارها تنطبق على أحكام التحكيم "لم تهدف بأي حال إلى منع الدول من تنفيذ الأحكام المالية الأجنبية، سواءً أكانت هذه الأحكام صادرة بشأن تنفيذ حكم تحكيم، أو غير ذلك".

   وعلى نحو مشابه، أمرت المحكمة العليا بولاية نيويورك الأمريكية في قضية New .Central Jute Mills Co. v. City Trade & Industries Ltd بالإعتراف بحكم قضائی مُستعجل صادر بناءً على طلب تنفيذ حكم تحكيم صادر في الهند، مقررةً أنه لايمكن الطعن بنجاح على الحكم القضائي الصادر في الهند إستناداً إلى دفوع كان ينبغي إبداؤها في الهند. 

   بيد أنه في قضية (Copal Co. Ltd. (Japan) v. Fotochrome, Inc. (USA وجدت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية، أنه على الرغم من أن حكم التحكيم في ظل قانون المرافعات الياباني، يتمتع بنفس الأثر كما لو كان حكماً قضائياً صادراً في اليابان، إلا أنه لا يمكن الإعتراف بحكم التحكيم أو مُعاملته كحكم قضائى فى الولايات المتحدة حتى يصدر بالفعل حكماً قضائياً بشأنه فى اليابان ومن ثم رفضت المحكمة تنفيذ حكم التحكيم في ظل قانون الإعتراف الموحد.

4- المشكلات المتعلقة بغموض الحكم ( سلطة المحكمة فى توسيع نطاق المراجعة وإعادة القضية إلى هيئة التحكيم)

   لقد أصبحت هذه المسائل ذات أهمية كبيرة فى السنوات الأخيرة، باعتبارها تلقى بآثارها على الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، وعلى الحماية التي تتمتع بما في هذه المرحلة، وعلى نظام التحكيم بأكمله، باعتباره وسيلةً حاسمة وعادلة وسريعة للفصل فى منازعات التجارة الدولية، وقد تجلى ذلك فى القضايا الأمريكية والإنجليزية التالية…..

  وعلى سبيل المثال، وفي قضية .Hyle v. Doctor's Assocs., Inc ، قررت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية أن المحكمة الإبتدائية قد تجاوزت سلطتها عندما قررت بوجود خطأ في حكم التحكيم.

  وأكدت محكمة الإستئناف على أنه عندما يكتنف الغموض ظاهر الحكم أو الظروف المحيطة بالتحكيم، فإن المحكم - وليس المحكمة - هو من يُقرر وجود خطأ ويقوم بالتصحيح الضروري إن وجد ، ولذلك فقد كان من الأفضل أن تقوم المحكمة الإبتدائية بإعادة الحكم... الي المحكم لكي يُبدد الغموض ، ولكي يقرر إمكانية التصحيح، ومن ثم، خلصت محكمة الإستئناف إلى القضاء بإعادة الحكم إلي المحكم لكي يتولي توضيحه"

  كما تناولت الدائرة التاسعة الأمريكية فى حكمها الصادر بتاريخ ٢٣ يوليو ۲۰۰۲ في قضية ،Kyocera Corporation v. Prudential-Bache Trade Services النتائج المترتبة على حكم سابق مخالف لأمر صادر من محكمة الولاية بتأكيد الحكم الصادر من غرفـــة التجارة الدولية لمخالفته لقانون التحكيم الفيدرالى، وأعادته للمحكمة المحلية لإعادة النظر فيه طبقاً لأقصى درجات الفحص المتفق عليها بين الأطراف.

   كما أيدت الدائرة التاسعة الأمريكية ما كانت قد قررته الدائرة الخامسة في السابق، حيث ذهبت إلى القول بأن المحاكم الفيدرالية" يُمكن أن توسع نطاق مُراجعتها لحكم التحكيم إلى أبعد من الأسس الواردة في القانون الفيدرالي، فقط إلى المدى الذي اتفق عليه الأطراف.

وفي قضية Lesotho Highlands Development Authority v. Impregicao S.P.A. And Others لم يجد القاضي Morison بمحكمة العدل العليا بالمملكة المتحدة -  المحكمة التجارية - صعوبةً فى القول بأنه: "لا أعتقد أن هيئة التحكيم تملك سلطة إصدار حكم تحكيم بعملات أخرى غير تلك المنصوص عليها فى العقد، وأنه من خلال التعمد في ممارسة السلطة التقديرية التى كانوا يعتقدون بشكل خاطىء أن القانون يخولهم إياها، قد أكدوا على سُلطة لا يملكونها، بناءاً عليه، يجب أن أعيد الأمر إلى الهيئة فيما يتعلق بعُملة الحكـم لكى تصدر حكماً يتفق مع النصوص العقدية. 

  وأضاف مُقرراً أنه من ناحية ثانية، وللأسباب نفسها المنطبقة على عُملة القرار، أعتقد أن هيئة التحكيم قد تجاوزت سُلطتها، فى ظل القسم ٦٨ من قانون التحكيم، كما يجب إعادة النظر في مسألة الفائدة، أخذاً في الإعتبار عبارات هذا الحكم.

   ولذلك أمر بتاريخ ۱۵ نوفمبر ۲۰۰۲ بإعادة حكم التحكيم إلى المحكمين بغرفة التجارة الدولية، من أجل إعادة النظر فيه بشأن (أ) عملة الحكم، (۲) مسألة الفائدة، باعتبار أن هاتين المسألتين تتعلق بالقانون الموضوعى وليس الإجرائى فى ظل قانون مملكة Lesotho الواجب التطبيق على العقد، وطبقاً لنصوص العقد. 

   وفى قضية أخرى، رأت إحدى المحاكم الأمريكية أن سُلطة محكمة التنفيذ في دعوى التنفيذ، لا ينبغي أن تتعدى لتمتد إلى تفسير مالحق بحكم التحكيم من غموض، بل يجب عليها في هذه الحالة أن تعيده إلى هيئة التحكيم لإستجلاء هذا الغموض .

   ففى قضية : Liberty Re Ltd.{Liberty Re} v. Transamerica {Occidental Life Insurance Company{Transamerica كانت شركة Liberty Re - من بيرمودا - قد أبرمت مع شركة {Transamerica الأمريكية، إتفاق تنازل { إتفاق Retro بموجبه وافقت Liberty Re على تجديد تأمين جزء من إعادة التأمين الذي كانت Transamerica قد قدمته لطرف ثالث شركة The Equitable Life {(Insurance Company (Equitable ، وقد اشتمل هذا الإتفاق على شرط تحكيم .  

   وفى ٩ فبراير ۱۹۹۹ ، حاولت Liberty Re إنهاء إتفاق Retro" . بدعوى أن Transamerica قد خالفت التزاماتها ، وفى سبتمبر ۲۰۰۲ أقامت Liberty Re دعوى تحكيم ضد Transamerica ، وفى ٧ مايو ٢٠٠٤ أصدرت هيئة التحكيم بالإجماع حكماً لصالح Liberty Re، وفى ٢٥ يونيو ۲۰۰٤ سعت الأخيرة لتنفيذ الحكــ إلا أن Transamerica إدعت بأن الفقرة الثانية من الحكم جاءت غير واضحة وطلبت وقف تنفيذ الحكم، وإعادته إلى المحكمين لتوضيح مالحق به من غموض وإلهام.

وفى البداية، وافقت المحكمة المحلية بمنطقة جنوب ولاية نيويورك الأمريكية، برئاسة القاضي Naomi Rice Buchwald على التنفيذ، وقالت المحكمة فى بيان ذلك: أن محاكم التنفيذ يجوز لها أن تراجع الأحكام فقط وفقاً لمدى محدود للغاية، ويجب ألا تتجاوز الحكم ، بأن تفصل في مسائل لم يتم البت فيها من المحكمين وذكرت المحكمة أنه فى ظل إتفاقية نيويورك – التي تنطبق على القضية الراهنة، بما أن Liberty Re شركة فى بير مودا ) ، و Transamerica (شركة في أيوا)، والأطراف ينشدون التنفيذ فى نيويورك » - ، فإنه يجب على المحكمة أن توافق على التنفيذ، مالم تكتشف توافر أحد الأسباب السبعة للرفض الواردة فى الإتفاقية على سبيل الحصر. 

   وأضافت المحكمة أن Transamerica لم تدع توافر أحد هذه الأسباب، بل طعنت على حكم التحكيم إستناداً إلى غموضه، ودفعت بأن الوقف مسموح به فى ظل المادة السادسة مــن الإتفاقية. 

   وأردفت المحكمة مقررةً أنه على الرغم من أنه ". يجوز أيضاً للمحكمة المحلية أن تنظر في الطعون المقامة بشأن غموض الحكم عند النظر في طلب التأكيد .... ومع ذلك فلا ينبغي للمحكمة أن تسعى لصياغة تفسيرها الخاص لحكم تحكيم غامض، وبناءاً عليه، لا يجب علـــى المحكمة أن تحاول تنفيذ حكماً يعتبر غامضاً أو غير مُحدد ، بل يجب عليها في هذه الحالة أن تعيد الحكم إلى المحكمين، لكى تعرف المحكمة ماهو المطلوب منها بالضبط للتنفيذ...ومع ذلك فإنه "يجوز تأكيد الحكم عندما تكون النية الحقيقية للمحكم واضحة..... 

   وخلصت المحكمة للقول بأنه : "لهذه الأسباب نتفق مع Transamerica في أن الفقرة ٢ من  الحكم تعتبر غامضةً فيما يتعلق بالتزامات Liberty Re التالية للإنهاء، وعلى الرغم من أن هذه المحكمة يُمكنها أن تقدم رأيها بشأن إلتزامات Liberty Re اللاحقة على الإنماء، وماذا كان قد تم تعديلها في الحكم، إلا أن هذه الممارسة سوف تكون خارج نطاق مراجعتنــا المحدودة للحكم ، وبناءاً عليه قررت المحكمة إعادة هذه المسألة على وجه التحديد، لتسويتها بمعرفة هيئة التحكيم.

4-الإهمال الواضح للقانون

   يُعد قانون التحكيم الفيدرالى الأمريكي FAA بمثابة حجر الأساس في قانون التحكيم بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد سنة الكونجرس الأمريكي من أجل "التخلص من قرون طويلـــة العداء القضائي لإتفاقات التحكيم عن طريق وضع تلك الإتفاقات على قدم المساواة مع العقود من الأخرى.

   وطبقاً لقانون التحكيم الفيدرالى ولقانون التحكيم الموحد يُمكن للمحاكم أن تقضى ببطلان حكم التحكيم، إذا صدر نتيجة تدليس، أو فساد، أو تحيز واضح، أو تجاهل لحقوق الأطراف الأساسية في الدفاع، أو المضمون الأساسى لإتفاق التحكيم، أو لإساءة التصرف، أو لإنعدام إختصاص المحكمين، أو تجاوزهم لسلطاقم، ويُمكن للمحاكم تعديل أو تصحيح حكم التحكيم، إذا إكتشفت خطاً حسابياً، أو مادياً في هذا الحكم. 

  إلا أن بعض المحاكم الأمريكية ، قد تبنت مبدأ غامض كانت قد أعلنته المحكمة العليا الأمريكية فى دعوى Wilco . Swan  ، والتي تتعلق بقابلية التحكيم في المنازعات الناشئة عن قانون السندات، مؤداه أنه يجوز إلغاء أحكام التحكيم بسبب الإهمال الواضح للقانون"، ويتجلى المعيار المتبع في تقدير وقوع إهمال واضح للقانون، عندما يعترف المحكـــم بالقانون الواجب التطبيق على النزاع، إلا أنه مع ذلك يتجاهله عن عمـد عنـد الفـصل في القضية ، وكذلك إذا تجاهل أدلة قاطعة تشير إلى إثبات عناصر معينة في الدعوى .

  وبعبارة أخرى، يعنى هذا الدفع، أنه ينبغى أن يكون المحكمين قد تجاوزوا سلطاتهم ليس فقــــط لإرتكابهم لخطأ قانوني ،واضح، ولكن أيضاً لأنه من الواضح أنهم قد تجاهلوا عن عمــد القـانون الواجب التطبيق عند التوصل إلى حكمهم ، وذلك على الرغم من أن المحكمة العليا نفسها قد عادت - بعد إنقضاء ثلاث سنوات - فى قضية Bernhardt v. Polygraphic وقررت أنه "سواء أكان المحكمون قد أخطأوا فى تفسير العقد أم لا، فإن النزاع لا يكون قابلاً للمراجعة القضائية .

   وبذلك تكون هذه المحاكم قد أضافت لأسس البطلان أساساً آخر لم يرد النص عليه في القانون الأمريكي، ألا وهو: "الإهمال الواضح للقانون ، ويتحقق ذلك الأساس للإبطال عندما يتبين للمحكمة أن المحكم قد إرتكب خطاً واضحاً، ويُمكن للشخص المعتاد المؤهل لأن يكون محكماً، إدراكه بسهولة. 

   وطبقاً للقسم ۲۰۷ من قانون التحكيم الفيدرالى الأمريكى، تُصدق المحكمة على أي حكم تحكيم أجنبى: "إلا إذا إكتشفت توافر أحد أسس رفض أو إرجاء الإعتراف أو التنفيذ للحكم الواردة في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك " ، ولما كانت الأسباب الواردة في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك قد وردت على سبيل الحصر، وبالتالي، يتضح أن "الإهمال الواضح للقانون“، الا بعد أساساً مقبولاً لرفض الإعتراف أو التنفيذ في ظل الإتفاقية.

   وعلى هذا الأساس، سوف نعرض لمفهوم هذا المبدأ، والظروف التي قد تشكل إهمالا واضحاً للقانون، والعلاقة بين هذا الدفع وإتفاقية نيويورك، وسوف تخصص لكل منهم مطلباً مستقلاً .

أ- مفهوم مبدأ الإهمال الواضح للقانون

   كما ذكرنا، يُعد الإهمال الواضح للقانون من الأسباب غير التشريعية المعروفة لبطلان أحكام التحكيم في القانون العرفي ، حيث أنه كثيراً ما يعول عليه بصورة أكبر من الأسباب الأخري للمنازعة في تنفيذ هذه الأحكام باعتباره يُعبر عن إختلاف الأطراف مع المحكم في تطبيقه للقانون. كما يثير هذا السبب قدراً كبيراً من الجدل حول مضمونه ،وبالتالي، فلايزال وضع تعريف دقيق للإهمال الواضح للقانون أمراً مُحيراً، فى ضوء أن المحاكم الأمريكية لم تتفق بعد علي معني واضح له، لأنها حين تقضى به، فإنها بذلك تحثُ . علي القضاء ببطلان أحكام التحكيم، كما أنه قد يتطور ليقوم بدور جديد في الرقابة على هذه الأحكام، وبالتالي، فإنها تقوض النظام الفيدرالي الأمريكي المؤيد للتحكيم ".

  وفى هذا السياق، أشارت المحكمة المحلية لجنوب ولاية نيويورك الأمريكية فى قضية Fine Bear, Stearns&Co., Inc ، إلى أن الإهمال الواضح للقانون" يتحقق عندما يكون خطأ الحكم "يمكن إدراكه بسهولة وعلى الفور من الرجل المعتاد المؤهل للعمل كمحكم، إلا أن إيراد معيار الحكم المعتاد في إطار تحديد مفهوم هذا المبدأ يُمكن أن يُسهم في جعل الأمر أكثر تعقيداً، في ضوء أن هذا المفهوم يُعد غامضاً بالفعل، كما أن الحكم الصادر بإعمال هذا السبب يـصـدر بالإحالة الي الممارسة التحكيمية، دون الإستناد إلى المعايير القضائية فى هذا الصدد .

  وعلى نحو مُماثل، أعطت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية، في قضية Merrill Lynch, Pierce, Fenner&Smith, Inc. v. Jack Bobker ، تعريفاً واسعاً للإهمال الواضح للقانون، مُقررةً أنه : على الرغم من أنه لا يمكن تعريف حدود هذا الأساس، إلا أنه من من الواضح أنه يعني أكثر من مجرد خطأ أو سوء فهم للقانون .. إذ لابد وأن يكون هذا الخطأ جلياً وقابلاً لإدراكه بسهولة وعلى الفور من قبل الشخص المعتاد المؤهل للعمل كمحكم، علاوة علي ذلك، يعنى مُصطلح تجاهل أن يعترف المحكم بشكل واضح بوجود المبدأ القانوني، إلا أنـــه يُقرر أن يتجاهله، أو لا يعيره إهتماماً .

  وفي قضية. Baravati v. Josephthal,Lyon&Ross, Inc أوردت الدائرة السابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية تقييماً أكثر أهمية ودقة لمبدأ "الإهمال الواضح للقانون، حين قررت أن: "المبدأ هو القول الفصل ؛ عندما لايجد أحداً أساساً لقضيته فتكون النتيجة مختلفة... وقد نشأ هذا المبدأ في قضية Wilkov Swan وهي قضية إنتقدتها المحكمة العليا في بادئ الأمر لعدم الثقة فى التحكيم وقصرتها علي أضيق نطاق مُمكن ومن ثم، فقد أبطلت الحكم لتجعل من العدم أساساً غير تشريعي لإبطال أحكام التحكيم، ويعكس المبدأ المقرر في Wilko أن عدم الثقة في التحكيم تحديداً كانت مثاراً لإنتقاد المحكمة ... في حكمها الصادر في قضية Shearson/American ، لانستطيع أن نفهم الحاجة إلي المبدأ ، ولا الدور الذي يلعبه في المراجعة القضائية للتحكيم فإذا كان المقصود هو التهرب من مُراجعة الأخطاء الواضحة بالحكم من خلال الباب الخلفي، فإن ذلك لا يتسقُ في مُجمله مع قانون التحكيم الحديث، أما إذا كان المقصود أن يكون مرادفاً للمبدأ التشريعي الذي يُشبهه إلى حد قريب – سواء تجاوز المحكمين سلطاتهم أم لا - فإنه بذلك يُعد مُربكاً وزائداً عن الحاجة. 

   وفي قضية Wallace v. Buttar ، قررت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية، ، أنه يُمكن القضاء ببطلان أحكام التحكيم إستناداً إلى: "الإهمال الواضح للأدلة ، وفي تطور آخر مغاير .. قررت المحكمة العليا فى جورجيا في قضية Progressive Data Systems, Inc. v. Jefferson Randolph أنه لا يُمكن القضاء ببطلان حكم التحكيم إستناداً إلي الإهمال الواضح للقانون" في ظل قانون ولاية جورجيا، حيث أنه لا يمكن القضاء ببطلان أحكام التحكيم إلا على أساس من الأسس الأربعة التشريعية الواردة في قانون التحكيم بجورجيا، بيد أنه قبيل مُضى عام من تاريخ صدور هذا الحكم، قام المشرع في ولاية جورجيا بتقنين الإهمال الواضح للقانون، بحيث أضحت ولاية جورجيا الأمريكية هى الولاية القضائية الوحيدة التي تجعل من هذا الأساس سبباً قانونياً للقضاء ببطلان حكم التحكيم.

الظروف التي قد تشكل إهمالاً واضحاً للقانون 

  تحدد آراء بعض المحاكم الظروف التي يُمكن أن تشكل إهمالاً واضحاً للقانون مــن قبــل المحكمين، ففي قضية Lincoln Nat'l Life Inc. co v. Payne رفضت الدائرة الثامنة بمحكمة الإستئناف الأمريكية مجموعةً متنوعة من الحالات قائلةً أنها لا تستوفى معياراً محدداً للتطبيق.

  ووفقاً لرأى للمحكمة فلا يمكن إعتبار هيئة التحكيم قد أهملت القانون بصورة واضحة إذا ما أصدرت حكماً مُقتضباً " رافضةً بالتالى توضيحه أو إذا لم تقم بشرح المسائل التي فصلت فيها الواردة في ذلك الحكم، والقول بغير ذلك من شأنه أن يُقوض بشكل غير صحيح حسن سير عملية التحكيم"، وذكرت المحكمة أنه : "إذا كان الحكم .. قد ذكر القانون معترفاً بأنه يُصدر حكماً على خلاف هذا القانون، وقال أنه كان يفعل ذلك لأنه يعتقد بأن القانون جائر، فإن هذا يعد بمثابة حالة إهمال واضح". 

   وعلى الجانب الآخر، وفي قضية Shaad v. Susquehanna Capital Group كان الطرف الخاسر للتحكيم قد نازع فى أن هيئة التحكيم قد تجاوزت سلطتها عندما قامت بتطبيق إحدي قواعد الإتحاد الوطني لسماسرة الأوراق المالية NASD ، والتي لا تسري على مثل هذا النوع من النزاع. 

   إلا أن المحكمة المحلية لجنوب ولاية نيويورك الأمريكية، رفضت هذا الدفع مقررة: أن هذه القواعد الواجبة السريان تُخول المحكم تفسير وتحديد مدى تطبيق كافة النصوص"، وأن "هذه التفسيرات .. لا بد وأن تكون نهائية ومُلزمة للطرفين“ ، وأن طرفى هذه القضية كانا قد إتفقا علي أن تفسير هيئة التحكيم لقانون التحكيم في الإتحاد الوطني لسماسرة الأوراق المالية يكون نهائياً، ، ومن ثم فإنهما يكونا مُلزمين بالحكم، حتي لو كانت هيئة التحكيم قد أخطأت في تفسير وتطبيق القانون.

   وعلى نحو مماثل، قررت الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية في قضية China .Nat'l Metal Products Import/Export Co. v. Apex Digital, Inc، أن الأطراف عندما إتفقوا علي التحكيم أمام المجلس الصيني للتحكيم التجاري الدولي CIETAC، كانوا قد طلبوا من المجلس "تطبيق أو تفسير مدي قابلية تطبيق قواعده الخاصة ومن ثم فإن هذا الطرف يُعد مُلتزماً بالأحكام الصادرة وفقا لقواعد هذا المجلس.

 

د.  الدفع بالإهمال الواضح بالقانون واتفاقية نيويورك

  كما قررنا من قبل، فإن أسباب رفض الإعتراف أو التنفيذ الواردة فى المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك جاءت على سبيل الحصر، وبالتالي يتضح أن "الإهمال الواضح للقانون لايعد سبباً مقبولاً لرفض الإعتراف أو التنفيذ في ظل الإتفاقية.

  وعلى هذا الأساس، وفي قضية .Parsons&Whittemore Overseas Co.Incv vSociet Generale De L'Industrie Du Papier(Rakta ... ، رفضت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية الدفع المبدى من Overseas بأن المحكمين قد تصرفوا ياهمال واضح للقانون، مقررةً أنه حتى مع إفتراض وجود مثل هذا الدفع في إطار الإتفاقية، فإن ذلك يتطلــب مراجعة قضائية شاملة، وبالتالي إحباط الهدف من التحكيم. .

   وقد وجدت المحكمة أنه على الرغم من أن المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك لاتعترف بهذا الدفع، إلا أن القسم التاسع من الفصل العاشر من قانون التحكيم الفيدرالي الأمريكي يُفسر على أنه يُنشأ دفعاً ضمنياً لمعارضة التنفيذ، ويتمثل في صدور حكم التحكيم مشوباً بإهمال واضح للقانون، حتى عندما يكون التنفيذ منشوداً في ظل إتفاقية نيويورك.

  كما يؤكد الحكم الصادر في قضية Brandeis Intsel, Ltd. v. Calabrian Chemical Corp بشكل مقنع على أن هذا المبدأ لا يُمكن أن يُطبق بالفعل علي أي حكم يكون خاضعاً لإتفاقية نيويورك، حيث رأت المحكمة فى هذه القضية أن "عدم الإعتداد الواضح" يُعد نتاجاً للقانون المحلى بحيث لا يرقى إلى مستوى مُخالفة النظام العام على النحو المعنى في العبارة الواردة في المادة الخامسة من الإتفاقية، وأن هذا الدفع غير متاح فى المادة الخامسة من الإتفاقية أو بأي طريقة أخرى للطرف ... الذي يطلب بطلان حكم التحكيم الصادر من محكمين أجانب وبناء على قانون أجنبي

   وفى هذه القضية كانت شركة Brandeis - وهى شركة بريطانية - قد سعت بموجب القسم ۲۰۳ من قانون التحكيم الفيدرالي إلى إتخاذ إجراءات التصديق على حكم التحكيم الصادر لصالحها ضد شركة Calabrian ، في عملية تحكيم تمت من جانب بورصة المعادن في لندن ؛ وقد إدعت شركة Calabrian بأن حكم التحكيم يعيبه عدم إعتداد واضح“ بقانون بيع البضائع الإنجليزي لعام ۱۹۷۹ الساري حالياً .

   إلا أن المحكمة المحلية لجنوب ولاية نيويورك الأمريكية قررت أن الدفع بالإهمال الواضح للقانون يقتصر على الفصل الأول من قانون التحكيم الفيدرالي، وغير مُتاح بالنسبة للدعاوى الواردة في الفصل الثاني بشأن تنفيذ أحكام التحكيم التي تقع في نطاق إتفاقية نيويورك.

   

 

  

   كما أكدت الدائرة السادسة بمحكمة الإستئناف الأمريكية فى قضية . .C Corp&3291 Erwin Behr GmbH & Co., K.G على أن الأسباب المدرجة في المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك لرفض الإعتراف بحكم التحكيم واردة على سبيل الحصر، ولا تتضمن النظام العــام الأمريكي المتمثل في "الإهمال الواضح بالقانون".

  وعلى الجانب الآخر، إعترفت بعض المحاكم الأمريكية بهذا المبدأ كأساس للقضاء ببطلان حكم التحكيم الخاضع لإتفاقية نيويورك فى الولايات المتحدة، إذا كانت هناك أدلة قوية تتعارض مع الإستنتاجات التي توصل إليها المحكم، ولم يُقدم الأخير تفسيراً لحكمه ،

   كما قررت الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية فى قضية Lapina v ، إعادة الدعوى إلى المحكمة المحلية لإجراء المراجعة للوقائع والقانون، بناءً علـــى الإدعاء المبدى من شركة Kyocera بأن المحكمين قد توصلوا إلى نتائج قانونية خاطئة ولا تستند إلى أدلة ملموسة، كما أن شرط التحكيم الوارد فى العقد يُجيز للمحكمة إجراء المراجعة Kyocera والتصحيح. 

   وكان العقد محل هذه الدعوى ينطوى على علاقة معقدة بين شركة Lapina (وهي شركة منشأة في كاليفورنيا تعمل فى مجال تصميم وتسويق نوع خاص من مشغل أقراص أجهزة الكمبيوتر، وبين شركة Kyocera (شركة يابانية تختص بصناعة هذا الجهاز بموجب تصريح من الطرف الثالث) وهى شركة Prudential-Bache ، التي كان من المفترض أن تقوم بتمويل المشروع، وفى أعقاب نشأة العديد من الخلافات بين الطرفين لجأت LaPina إلى إقامة دعوى مدنية ضد شركة Kyocera أمام المحكمة المحلية بالمنطقة الشمالية لولاية كاليفورنيا الأمريكية، فتمسکت Kyocera بإعمال مُقتضى شرط التحكيم الوارد في العقد، فأجابتها المحكمة لذلك، وقضت بإلزام الأطراف باللجوء إلى التحكيم. 

    وكان العقد المذكور يتضمن تطبيق قانون كاليفورنيا، وكذلك إجراء التحكيم وفقاً لقواعد التوفيق والتحكيم فى غرفة التجارة الدولية وقانون التحكيم الفيدرالى، وعقب عرض النزاع على التحكيم أصدرت هيئته حكماً لصالح Lapina ، ثم تقدمت الأخيرة إلى المحكمة المذكورة بطلـــب التصديق على هذا الحكم، إلا أن Kyocera نازعت في ذلك مُقررةً أن المحكمين قد توصلوا إلى نتائج قانونية خاطئة لاتستند إلى أدلة ملموسة، كما أن شرط التحكيم الوارد في العقد يُجيز للمحكمة إجراء المراجعة والتصحيح، طالبةً من الأخيرة إصدار أمرها بتعديل الحكم، أو ببطلانه. إلا أن المحكمة المحلية برئاسة القاضى Ingram رفضت طلب Kyocerat على أساس أنها غير مختصة به، حيث أن إختصاصها مُحدد بنصوص القانون الفيدرالى ولايمكنها التوسع في نطاق هذا الإختصاص من خلال العقد.




 وأضافت أنه : " لا يمكن تدمير دور المحاكم الفيدرالية لخدمة المصالح الخاصة حسب أهواء الأطراف المتعاقدة»، كما أن "هناك عقبةً أكثر خطورة تحول دون صحة شرط المراجعة القضائية لشرط التحكيم، تكمن في النظام العام. 

   وأردفت المحكمة قائلةً أن: "المراجعة القضائية لهذه الإجراءات... لانتوافق ببساطة مع الفوائد التي يراها هؤلاء الذين يفضلون اللجوء للتحكيم كوسيلة فعالة بديلة لتسوية المنازعات"، وخلصت المحكمة إلى التصديق على حكم التحكيم. 

   إلا أنه عند عرض النزاع على الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية ، قضت بإلغاء القرار الصادر من المحكمة المحلية بالتصديق على حكم التحكيم، مقررة أنه في غياب أي مـــن الشروط العقدية الخاصة بالمراجعة القضائية، فلا يوجد في أعمال المحكمين من شيء يُبرر للمحكمة القيام بتعديل أو إلغاء الحكم . 

   وأضافت المحكمة قائلةً أن الدعوى "لا تندرج بدقة ضمن معالم القواعد المعتادة، حيث أن الأطراف كانا قد تعاقدا على مُضاعفة الرقابة القضائية على حكم المحكمين عندما وافقا على أن المراجعة ستكون للأخطاء التى تقع في الوقائع أو القانون“. 

   واستطردت المحكمة مُقررةً: "أننا نري أنه يجب علينا أن نحترم ذلك الإتفاق، وعلينا ألا تغفله بقصر مُراجعتنا علي الأسس المبينة في قانون التحكيم الفيدرالى FAA، ولإرساء المبدأ الذي يُعزز رأينا، فإن ذلك لا يحتاج سوى النظر إلي أحكام المحكمة العليا التي تُطبق وتفسر قانون التحكيم الفيدرالي FAA، حيث توضح تلك الأحكام أن الغرض الأساسي من قانون التحكيم الفيدرالى FAA هو ضمان تنفيذ الإتفاقات الخاصة بالإحالة إلى التحكيم، ووفقاً لشروط هذه الإتفاقات“، وتبعاً لذلك، قررت المحكمة إعادة الدعوى إلى المحكمة المحلية لإجراء المراجعة للوقائع والقانون التي تسبق لها أن إمتنعت عن القيام بها .

  ويُعزز الحكم الأخير من فكرة السماح للأطراف بابتداع المعايير الخاصة بهم في المراجعة القضائية لأحكام التحكيم، مُقدمين إياها على الحماية الكبرى التى يُمكن أن تقدمها لهم المحاكم الوطنية، إلا أن المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم، وكما هو الحال في قضية هذا LaPina vKyocera، يمكنها أن تؤدى فى الواقع إلى إطالة أمد النزاع بماينتفى معه عامل السرعة الذي يعد واحداً من أهم المزايا التى يتمتع بها نظام التحكيم، فضلاً عن زيادة تكلفة التقاضي

   ولذلك، فإن قيام أى محكمة فى الولايات المتحدة الأمريكية، أو في غيرها، بإجراء مراجعة موضوعية لحكم التحكيم إعتماداً على الأسباب التي تبنتها الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية في قضية Lapina يُمكن أن يعد مُناهضاً لأهداف الإتفاقية، التي ترمي إلى تأييد التنفيذ من خلال حصر الأسباب المبررة لرفض الإعتراف والتنفيذ. 

4- حصانة الدولة 

  وإذا كانت الممارسات العملية تُشير إلى إمكانية إثارة مسألة حصانة الدولة في أثناء إجراءات التنفيذ، ومن ثم فإن إتفاقية نيويورك تشتمل علي ثغرةً هامة بشأن مبدأ حصانة الدولة، حيث لا يُعتبر هذا المانع ضمن الأسباب المحدودة الواردة على سبيل الحصر لرفض تنفيذ أحكام التحكيم.

 

مشكلة حصانة الدولة تعتبر ثغرة في إتفاقية نيويورك:

   من المؤكد أن التحكيمات المختلطة التى تجرى بين أطراف خاصة من جانب، والدول ذات السيادة أو جهات تابعة للدولة أو ما شابه ذلك، من جانب آخر، لا تخضع في بعض الأحيان لإتفاقية نيويورك، عندما تكون مثلُ هذه التحكيمات تتضمن مصالح حكومية خاصة أو أمور ذات أبعاد سياسية، حتى وإن كان من الواضح أنها قد نشأت في سياق معاملات تجارية.

  ويبرر البعض أسباب هذا التجاهل الحصانة الدولة، مُقرراً أنه: "عندما تخضع أي دولـــة للتحكيم، يكون إستقلال الأطراف هو المبدأُ الحَاكِمُ ويتم تنظيم جميع المناقشات على أساس في الأوقات التي تتسم بأنها أكثر طموحاً من الإعتماد على الحقائق أن الأطراف متساوون ويحكم الإتفاق فقط العلاقة فيما بينهم، وعلى ذلك تضع عملية التحكيم حدود المناقشة، حيث أنه عندما يتجاوز المرء إلى ما هو أبعد من دعوى الطعن على صحة حكم التحكيم، فإن الموضوع لم يعد يرتبط بالتحكيم وإنما أصبح الأمر مُتعلقاً بالتنفيذ القضائي لأوامر المحكمة“.

    ولذلك يُمكن القول أن إتفاقية نيويورك تشتمل علي ثغرةً هامة بشأن مبدأ حصانة الدولة، حيث لا يعتبر هذا المانع ضمن الأسباب المحدودة الواردة على سبيل الحصر لرفض تنفيذ أحكام التحكيم، ولا تضمن بالتالى النص علي أية وسائل للتعامل مع الإشكاليات التي يمكن أن يثيرهــا هذا المبدأ ، على الرغم من أن الممارسات العملية تُشير إلى أن هذه المسألة يمكن إثارتها في أثناء إجراءات التنفيذ، وهو ما يُمكن معه للمحاكم الوطنية فى بعض الدول أن تستغل هذه الثغرة لرفض تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، فى ضوء أنه لا توجد هناك حدود واضحة لنطاق تطبيق هذا المبدأ.

   وبناء على ما تقدم، سوف نعرض لمبدأ حصانة الدولة ضد الإجراءات القضائية، وضد إجراءات التنفيذ، ومدى إستقلال الكيانات القانونية للدولة، وكذا التنازل عن الحصانة ضد التنفيذ، وسوف نفرد لكل موضوع من هذه الموضوعات مطلباً مستقلاً.

  

أ. حصانة الدولة ضد الإجراءات القضائية

  فالقضاء الوطنى للدولة الأجنبية، لا يملك السلطة في تقدير الأعمال الصادرة عن الدولة الأجنبية أو السُلطة فى تحديد الآثار القانونية المترتبة عليها على أساس قيام المساواة القانونية بين الدول أعضاء الجماعة الدولية، فالحصانة القضائية بذلك يتحدد نطاقها بجميع المسائل والإجراءات حتى صدور الحكم.

   ومع ذلك تتباين مواقف العديد من الدول تجاه الحصانة ضد التنفيذ ،ففي حين تتخذ دول القانون العرفى تقليدياً جانب الحصانة المطلقة من تنفيذ حكم التحكيم، حتى عندما يتم رفض الحصانة ضد الإختصاص ، إلا أن التشريعات المطبقة في بعض دول القانون العرفي تنص على عدم أحقية الدول فى الحصول على الحصانة ضد التنفيذ ،عندما يتم إستخدام ممتلكاتها في أنشطة تجارية، وقد يقتصر ذلك على الأصول المستخدمة في النشاط التجاري الذي قامت على أساسه الدعوى .

   وفيما يتعلق بدول القانون المدنى، تأخذ فرنسا بمفهوم الحصانة المقيدة بشأن الإختصاص، إلا أنها مُطلقة بشأن التنفيذ ، ومع ذلك فقد تبنت المحاكم البلجيكية والهولندية وضع الحصانة المقيدة ضد التنفيذ .

   ففي قضية Sapphire International Petroleum Ltd. v. National (Iranian Oil Company (NI.O.G، قضت محكمة استئناف لاهاى بإلغاء القرار الصادر برفض تنفيذ حكم التحكيم الصادر ضد الحكومة الإيرانية إستناداً إلى مبدأ حصانة الدولة، مُشيرةً إلى أنه على فرض أن شركة Sapphire تمتلكها وتشرف عليها الحكومة الإيرانية، وأن هدفها إكتشاف وإستغلال البترول ومصادر الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى تطوير صناعة البترول في إيران، فإن هذه الشركة تتمتع بوجود قانونى مُستقل، وأن أموالها مُنفصلة عن الذمة المالية للدولة، كما أن نصوص الإتفاق المبرم بينها وبين الدولة يتفق مع طبيعة القانون الخاص، ومن ثم، فإن نشاط الشركة كان باعتبارها شخص خاص وليس كسلطة سيادية، مؤكدةً على أن حكم التحكيم يعتبر نافذاً بطبيعته، وأنه إذا لم تشكل الحصانة عائقاً في سبيل الإختصاص، فإنها لايمكن أن تشكل مـــــن حيث المبدأ عائقاً أمام التنفيذ "

   وقد إتبعت المحكمة الدستورية الألمانية هذا النهج، عندما لجأت إليها بعض الشركات البريطانية للحجز على الحسابات البنكية التى تحتفظ بها الشركة الإيرانية لدى البنوك الألمانية، حيث دفعت هذه الشركة الطلبات المقدمة لتوقيع الحجز على أموالها بتمتعها بالحصانة ضد التنفيذ عليها، نظراً لإستخدام هذه الحسابات فى أغراض خاصة بالدولة نفسها، كما أنها تقوم بتحويل عائدات البترول التي تعتبر هذه الحسابات جزءاً منها إلى الخزانة العامة الإيرانية.

   وقد رفضت المحكمة الدستورية هذا الدفع " مؤيدة بذلك قضاء محكمة إستئناف فرانكفورت في هذا الصدد على أساس أن لهذه الشركة كيان قانونى مُستقل، كما أنها قد ارتبطت باتفاقات ذات طبيعة تجارية، ومن ثم فلايجوز لها التمسك فى منازعتها بالحصانة السيادية، فضلاً عن أن هذه الحسابات مملوكة للشركة المذكورة وقت طلب توقيع الحجز عليها، وبالتالي، فإن مسألة أيلولة عائدات البترول التى تمثلها هذه الحسابات إلى الخزانة العامة الإيرانية في وقت لاحق لايُغير شيئاً من التكييف المتقدم على النحو الذى إقتنتعت به المحكمة وخلصت إليه في حكمها.

   وعلى نحو مماثل، ذهبت محكمة السين المدنية في قضية  Corporacion Del Cabre Societe Broden Copper Corp ، إلى رفض الدفع بالحصانة القضائية المبــدى مـــن الشركة الشيلية للنحاس، تأسيساً على أن الأخيرة تقوم فى حدود مُهمتها المتخصصة بأعمال تتصل بتطوير إنتاج وتسويق النحاس الشيلى ومستخرجاته، وأن لها فى ذلك شخصية قانونية مستقلة حتى ولو كانت تعمل فى هذا المجال نيابةً عن الدولة ومن ثم فإن ماتقوم به تعتبر أعمال ذات طبيعة تجارية، وهو مجال لايجوز الإحتجاج فيه بالحصانة القضائية.

   وفى عام ۱۹۸۸ ، تم تعديل قانون التحكيم الفيدرالي وقانون الحصانات السيادية الأجنبية FSIA فيما يتعلق بتنفيذ إتفاقات وأحكام التحكيم التي تتضمن دول أجنبية أو جهات تابعة للدولة ، حيث تم إضافة قسم جديد برقم (۱٥) إلى قانون التحكيم الفيدرالي، ينص على أنه لا ينبغى رفض تنفيذ إتفاقات وأحكام التحكيم على أساس مبدأ حصانة الدولة.

   كما تم تعديل قانون الحصانات السيادية الأجنبية " باستبعاد حصانة الدول الأجنبية مــن إختصاص المحاكم الأمريكية عند نظر دعاوى تنفيذ إتفاق تحكيم أو حكم تحكيم إذا: (أ) جــرى التحكيم أو كان مُصرحاً أن يجرى في الولايات المتحدة، أو (ب) كان أو يجوز أن يكون إتفـــاق التحكيم محكوماً بإتفاقية أو إتفاق دولي آخر ساري المفعول بالنسبة للولايات المتحدة يدعو إلى الإعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها، أو (ج) كان يُمكن أن يتم تقديم المطالبة الأساسية – فيما عدا إتفاق التحكيم في الولايات المتحدة، أو تم التنازل عن الحصانة.

 وأخيراً، فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية القائمة على أحكام التحكيم، فقد تم النص على أن ممتلكات الدولة الأجنبية "المستخدمة في نشاط تجارى في الولايات المتحدة لن تتمتع بالحصانة من التنفيذ إذا كان حكم المحكمة يستند على أمر آخر يُصدق على حكم التحكيم الصادر ضد الدولة الأجنبية، شريطة ألا تكون إجراءات التنفيذ أو التنفيذ ذاتُه مُتعارضاً مع أي شرط يرد في إتفاق التحكيم وفى إنجلترا، ووفقاً للمادة الأولى من قانون الحصانات السيادية الإنجليزي لسنة ۱۹۷۸ SIA فإنه: "عندما تتفق دولة ما كتابةً على إخضاع منازعة ما ناشئةً أو يُمكن أن تنشأ، للتحكيم، فإنه لايمكن لهذه الدولة أن تتمسك بحصانتها أمام المحاكم البريطانية المرتبطة بهذا التحكيم“، وطبقاً للمادة الرابعة من  ذات القانون، فإنه يجوز التنفيذ علي مُمتلكات الدولة التي تستخدم، أو المقصود إستخدامها للأغراض التجارية.

   كما تنص الفقرة الأولى من المادة الثانية عشر من الإتفاقية الأوروبية لحصانة الدولة لعـــام ECSI ۱۹۷۲ على أنه: "إذا وافقت دولة متعاقدة كتابةً على إخضاع منازعة ما نشأت، أو يُمكن أن تنشأ عن علاقة تجارية أو مدنية للتحكيم، فإن هذه الدولة لايمكنها التمسك بالحصانة القضائية أمام قضاء دولة مُتعاقدة أخرى يتم التحكيم على إقليمها أو بموجب قانونها، أو إذا نظرت أمام محاكمها مسألة تتعلق (أ) بصحة أو تفسير إتفاق التحكيم، (ب) بإجراءات التحكيم، (ج) بإبطال حكم التحكيم الصادر فى هذا الشأن، مالم ينص إتفاق التحكيم على غير ذلك. 

   وفيما يتعلق بحصانة الدولة ضد التنفيذ، فلم تقم الإتفاقية الأوروبية لحصانة الدولة لعـــام ۱۹۷۲ ECSI بتقنين الممارسة العرفية المتبعة بالنسبة لهذا الموضوع، بل إستنت في المادة ٢٠(۱) منها قاعدة تقوم على التوفيق بين إتجاهات الدول التي تُطبق قاعدة الحصانة المطلقة مــن إجراءات التنفيذ، والدول التي تسمح بمثل هذه الإجراءات، ولكن بشروط معينة، وبهذا "تمزج الإتفاقية بين إلتزام الدول بتفعيل الأحكام مع القاعدة التي لا تسمح بالتنفيذ .

   ومع ذلك، يُمكن طبقاً للمادة ٢٤ من الإتفاقية إتخاذ إجراءات التنفيذ ضد الممتلكات المستخدمة بصفة مطلقة في الأنشطة الصناعية والتجارية بين الدول التي قامت فقط بالإعلان عن ذلك إختيارياً، وبمقتضى الأحكام المتعلقة بتلك الأنشطة. 

    كما نصت إتفاقية الأمم المتحدة بشأن الحصانات القضائية للدول وممتلكاتها لعام ٢٠٠٤ UNSCI ، في المادة ۱۰(۱) على إستثناء المنازعات التجارية التي أخضعتها للتحكيم مـــن الحصانة القضائية للدولة، حيث جرى نصها على أنه: "إذا شاركت الدولة في أي معاملة تجارية مع شخص أجنبي طبيعي أو إعتباري، وإستناداً إلى القواعد واجبة التطبيق في القانون الدولي الخاص، فإنه لا يمكن للدولة في الخلافات المتعلقة بهذه المعاملة التجارية والتى تقع في نطاق إختصاص محكمة دولة أخرى، الإستناد على الحصانة من الإختصاص في أي دعوى تنشأ عن هذه المعاملة التجارية». 

   كما نصت المادة ١٧ من الإتفاقية على أنه: "إذا أبرمت الدولة إتفاقاً مكتوباً مع شخص أجنبي طبيعي أو إعتبارى على إحالة خلافات متعلقة بمعاملة تجارية إلى التحكيم، فإنه لايمكن لهذه الدولة الإستناد إلى الحصانة من الإختصاص أمام محكمة دولة أخرى والتي تكون مُختصة بأي طريقة أخرى في أي دعوى ترتبط بما يلي: (أ) صحة وتفسير أو تطبيق إتفاق التحكيم ؛ أو (ب) إجراءات التحكيم أو (ج) تأكيد أو بطلان حكم التحكيم ؛ وذلك مالم يُنص إتفاق التحكيم على خلاف ذلك“.

حصانة الدولة ضد إجراءات التنفيذ

  تتمتع الدول الأجنبية بحصانة ضد إجراءات التنفيذ بشروط أكثر صرامة من تلك المتصلة بتطبيق حصانتها القضائية، ومن وجهة نظر عملية يُمكن أن يكون التنفيذ أكثر صعوبة من الحصول على الحكم ذاته، وتهدف هذه الحصانة إلى عدم خضوع الأموال المملوكة للدولة للتنفيذ عليها من قبل دائنيها، والإعتراف بهذا المبدأ قد يؤدى الى منح الدولة إمتيازاً كبيراً عندما تمتنع من تلقاء نفسها عن تنفيذ التزاماتها .

   وعلى هذا النحو، تتعلق الحصانة ضد إجراءات التنفيذ بطرق التنفيذ ووسائله والتي بطبيعتها لامجال لها إلا بعد صدور الحكم إلا أنه عندما يتم التنفيذ فإنه يجرى فى الواقع على أموال وقيم تابعة للدولة، وبالتالي، فهو يمس سيادتها مباشرةً، ولذلك فإن حسن التعامل الدبلوماسي المتبادل بين الدول يُلزم القاضى الوطنى بأن يُدقق النظر فى الظروف التى تؤدى إلى مثل هذا الإجراء، ويجب ألا ننسى أن الدولة وحفاظاً على سيادتها - تكون حريصة على ألا تأخذ على نفسها تعهدات تجارية بحتة. 

   ومع ذلك، فإن إمعان النظر في الممارسة العملية لمبدأ حصانة الدولة ضد إجراءات التنفيذ، أن هناك تبايناً شديداً في تطبيقات المحاكم الوطنية لهذا المبدأ، بحيث أنه لا يُطبق ضد الدول بصورة متماثلة، أو وفقاً لنظام موحد. 

   وعلى سبيل المثال، وفى قضية شركة LIAMCO ضد الحكومة الليبية " ، وبعد أن حصلت شركة LIAMCO على حكم التحكيم الصادر فى ١٢ أبريل ١٩٧٧، وعلى الإعتراف به في فرنسا، أقامت دعوى قضائية مصادرة الأموال الخاصة بالحكومة الليبية والمودعة لدى البنوك الفرنسية، فتقدمت ليبيا بطلب لإلغاء أوامر الحجز التى توقيعها على أموالها، كما تدخل النائب العام الفرنسى فى الدعوى مُقرراً بأنه طبقاً لأنصار المذهب المطلق فى مُمارسة الحصانة، فإنه لايمكن إتخاذ إجراءات الحجز على الأموال التي تخص الجمهورية الليبية.

  وفى قضية EURODIF ، وعندما تقدمت كــل مـــن الـشـركتين الفرنسيتين EURODIF و S.O.F.I.D.I.F لرئيس المحكمة التجارية بباريس بطلب لتوقيع الحجز التحفظى على أموال هيئة الطاقة النووية الموجودة تحت يد C.E.A بصفتها ضامنة في الوفاء بها ،تحصلت هاتين الشركتين بتاريخ ٢٤ أكتوبر ۱۹۷۷ على أمر بتوقيع الحجز التحفظي، إلا أن الحكومة الإيرانية تقدمت بطلب لرفعه إلى محكمة استئناف باريس.

  وقد ذهبت محكمة إستئناف باريس فى قضاءها الصادر في هذا الطلب بتاريخ ٢١ أبريل ١٩٨٢، إلى إلغاء أمر الحجز على الأموال لعدم ثبوت أنها كانت مخصصة للأغراض التجارية، إذ البين أن مبلغ المليار دولار المدفوع إلى هيئة الطاقة النووية C.E.A قد أُستخدم فعلاً في تمويل بناء المصنع في Tricastin ، ومن ثم تتمتع الدولة الإيرانية بسيادة مطلقة في تقدير كيفية استخدامها للأموال التي تداين بهما، كُل من هيئة الطاقة النووية والدولة الفرنسية، إنطلاقاً من حقها السيادي في ممارسة شئونها الدولية.

   ومن ثم فإن دين الدولة الإيرانية يتعلق بأموال عامة ويتمتع بالحصانة ضد إجراءات التنفيذ، وأن إتفاق الأطراف على الخضوع للتحكيم طبقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية، وأن يعملوا على نفاذ حكم التحكيم الصادر عنها لايعد بمثابة تنازل من جانب إيران عن حقها في الحصانة التى تعفيها من توقيع الحجز على أموالها وممتلكاتها .

   كما أكدت المحكمة على أنه ليس من الضرورى بحث مسألة ما إذا كانت مساهمة الدولة الإيرانية في عملية إنتاج وتخصيب اليورانيوم المخصب التي تعهدت بها، تتسم بطابع تجارى يخضعها إلى قواعد القانون الخاص.

  وقد استهلت المحكمة قضائها بالقول بأن الحصانة التي تتمتع بها الدولة الأجنبية ضد إجراءات التنفيذ مقررةً كمبدأ عام، بالنظر إلى المبادىء السائدة في القانون الدولى الخاص والمنظمة لموضوع الحصانات التي تتمتع بها الدول الأجنبية، إلا أن هذه الحصانة يُمكن إستبعادها إستثناءاً، وذلك إذا كانت الأموال المطلوب توقيع الحجز عليها مُخصصة للنشاط الإقتصادي أو التجارى تتعلق بالقانون الخاص الذى يستند إلى الطلب ،القضائى وأن محكمة استئناف باريس قد تغاضت عن بحث طبيعة هذا النشاط من أجل الفصل فى موضوع الحصانة ضد إجراءات التنفيذ، مما أدى إلى إغفالها الأساس القانوني لقضائها، ولذلك إنتهت المحكمة إلى نقض الحكم.

وفي قضية Creighton ، وعندما حكم على دولة قطر بمديونية لشركة Creighton الأمريكية، من خلال حكمى تحكيم نهائيين صادرين من غرفة التجارة الدولية، سعت الشركة المذكورة في إتخاذ إجراءات للحصول على هذه الديون فقضت محكمة الإستئناف لصالح دولــة قطر، بتطبيق حقها فى الحصانة ضد التنفيذ، وبإعادة أصول دولة قطر التى تم الحجز عليها في فرنسا ، قبل أن تُقرر محكمة النقض الفرنسية أن التنازل عن الحصانة ضد التنفيذ يمكن أن يُستنتج من قبول الدولة عن طريق توقيعها على شرط التحكيم - للصفة التنفيذية لحكــم التحكيم، تأسيساً على أن إلتزام الدولة الموقعة على شرط التحكيم بتنفيذ الحكم بموجب المادة(٢٤) من قواعد تحكيم غرفة التجارة الدولية ICC ينطوى على تنازل من الدولة عن حصانتها ضد التنفيذ.

   وتطبيقاً للنص المشار إليه، وكذلك إلى مبادىء القانون الدولى المنظمة لحصانة الدولة الأجنبية، أكدت الغرفة المدنية الأولى لمحكمة النقض الفرنسية ** للمرة الأولى على مبدأ جديد مؤداه أن قبول الدولة أثناء إبرام العقد التجارى شرط التحكيم وفق بنود النص المعنى، يعنى التخلي الصريح عن التمتع بأى حق يكون ذى صلة بالحصانة ضد التنفيذ، وبهذا تكون الغرفة المدنية قد رأت باستنادها على قواعد حسن النية التى يجب أن تتوافر فى العلاقات التجارية الدولية، أن التنفيذ الفورى" يتضمن ألا تأخذ الدولة التي قبلت هذا الشرط أى إجراء يعوق هذا التنفيذ 

   ويُمثل الحكم الصادر في قضية Creighton خروجاً جذرياً على السوابق القضائية الفرنسية المستقرة منذ فترة زمنية طويلة، ولذلك فقد أثار جدلاً كبيراً حول المبادىء التي أُقيمت عليها الأحكام الصادرة من القضاء الفرنسى فى قضية Eurodif - سالفة البيان – وفي قضية .S.E.E.E بشأن هذه المسألة، كما أثار أيضاً ضجةً هائلة وثورة غضب عارمة لدى هؤلاء اللذين يتشبثون بفكرة الفصل بين الحصانتين (الحصانة القضائية والحصانة ضد التنفيذ في نظامين مستقلين، مما يضفى مرة أخرى بعضاً من الغموض حول مفهوم مبدأ إحترام سيادة الدولة، وأثره على مبدأ فاعلية أحكام التحكيم، ولذلك فقد جاءت آراء الفقه الفرنسى بالنسبة لهذا الحكم متباينة.

  بيد أنه عندما سعت شركة Creighton لتنفيذ هذا الحكم أمام القضاء الأمريكي، رفضت محكمة إستئناف كولومبيا ذلك ، حيث وجدت أن قطر لم توقع على إتفاقية نيويورك، ولذلك قررت الآتي: "نحن لا نعتقد بأنّ موافقة قطر على إجراء التحكيم في إحدى الدولة الموقعة على الإتفاقية، بدون إظهار المزيد، يدل على النية اللازمة للتنازل عن حصانتها السيادية في الولايات المتحدة

  وفي قضية LETCO ضد حكومة ليبيريا ٣٣٥٧ ، رفضت المحكمة المحلية بجنوب ولاية نيويورك الأمريكية الطلب المقدم من حكومة ليبيريا لإبطال القرار الصادر بمنح الإعتراف والتنفيذ لحكم التحكيم الصادر ضدها، تأسيساً على أنه إستناداً للدفع بالحصانة المطلقة للدولة ذات السيادة من إجراءات التنفيذ، تم إبطال الأمر الصادر بتوقيع الحجز على أصولها وممتلكاتها أو أموالها (رسوم تسجيل السفن، وضرائب ورسوم حمولة السفن التي يتم تحصيلها بواسطة الوكيل عن دولة ليبيريا) في الولايات المتحدة.

    وقد دفعت ليبيريا بأن الأموال والممتلكات كانت تابعة لسلطة الدولة العليا، ولم تكن تستخدم في أنشطة تجارية ، وبذلك فهى تدخل فى إطار الحصانة ضد التنفيذ، وتكون بالتالى مُعفاة من توقيع الحجز عليها، وقد إعترفت شركة LETCO بأن رسوم تسجيل السفن، وضرائب ورسوم حمولة السفن، هى أموال مستحقة لدولة ليبيريا. 

  إلا أن LETCO أكدت على أن هناك حصة من هذه الأموال بعضها كان محتجزاً لنفقات التشغيل والمصروفات الإدارية، والبعض الآخر كان مُحتجزاً للأرباح التي جاءت عن طريــق المواطنين الأمريكيين الذين أدوا خدمات في سبيل تحصيل تلك الأموال من مصادرها المختلفة، وأن الحصة الثانية تعكس حجم الأنشطة التجارية فى ظل قانون الحصانات والإعفاءات المطلقة للدول الأجنبية ذات السيادة FSIA.

  إلا أن القاضي المعروض عليه النزاع، لم يكن مقتنعاً بتلك المبارزة في الحجج بين الطرفين، رغم ما بدا له منها من مهارة وبراعة فى عرضها، وقد إنتهى الأمر لديه بالموافقة على الطلب المقدم مـــــن ليبيريا لإلغاء الأمر الصادر بتوقيع الحجز على هذه الأموال، إلا أنه لم تتم الموافقة على إلغاء الحجز على أى أموال تؤول إلى ليبيريا والتي تُستخدم في الأنشطة التجارية . 

  وبالإضافة للقرارات الصادرة عن المحكمة المحلية بجنوب ولاية نيويورك الأمريكية، فقد أقامت شركة LETCO دعوى أخرى أمام المحكمة المحلية لولاية كولومبيا الأمريكية، لتنفيذ حكم التحكيم الصادر عن مركز ICSID على الحسابات المصرفية المستخدمة في آداء أعمال ومهام السفارة الليبيرية مثل المراسم والاحتفالات الرسمية وكذلك حسابات البنك المركزى، إلا أن هذه الدعوى أيضاً قد باءت بالفشل. 

حيث قررت المحكمة فى هذه الدعوى أنه طبقاً لإتفاقية فيينا لشئون الحصانة الدبلوماسية VCDI لا يجوز توقيع الحجز والمصادرة على الحسابات البنكية الخاصة بالسفارة (أينما تكون هذه الحسابات بالولايات المتحدة، والتى أستخدمت أو خصصت بغرض الإستخدام في مهام وأغراض البعثة الدبلوماسية) نظراً لما تتمتع به هذه الحسابات من حصانة تستثنيها من ذلك.

 وأضافت المحكمة أن: "الحسابات المصرفية موضع الخلاف، تم تخصيصها لإنجاز الأعمال والوظائف العامة أو الحكومية المتعلقة بالسفارة، مثل دفع الأجور والمرتبات المستحقة للهيئة الدبلوماسية، والمصروفات الجارية والمنوعة اللازمة للأنشطة والفعاليات الديبلوماسية والقنصلية، التي لابد منها لتحقيق الآداء الفعال والمتميز للسفارة، وأنه من الأمور المسلم بها لديها، أن هناك حصة من الأموال المودعة بهذه الحسابات مُخصصة لبعض الأنشطة والمهام التجارية اللازمة لسير العمل بالسفارة، مثل شراء السلع والبضائع، أو الإستعانة بمختلف الخدمات من شركات ومؤسسات خاصة، وبالتالى فلا يجب أن تكون هذه الحصة من الأموال من الحسابات المصرفية معفاة من الحجز والمصادرة،. 

   إلا أن المحكمة ناقضت هذا الرأى، بقولها أنه : "بناء على التعريف الدقيق والمحدد لمفهـوم النشاط التجاري، فإن الأموال التى تُستخدم فى الأنشطة التجارية التكميلية المساعدة أو العرضية الطارئة لن تؤدى إلى فقدان الحساب المصرفي بأكمله لغطاء أو حماية الحصانة المطلقة» ، وخلصت من ذلك إلى رفض إصدار الأمر بشأن إدعاء LETCO ..

استقلال الكيانات القانونية للدولة 

  تملك الدول الحرية المطلقة فى إنشاء العديد من الكيانات القانونية التي تراها مناسبة لإدارة أنشطتها التجارية، وتدار معظم هذه الأنشطة الخاصة بالدول من الناحية العملية، من خلال كيانات تختلف حيث طبيعتها القانونية، إلا أن لديها الأصول المالية الخاصة بها، كما تتمتع بالاستقلال في ادارتها وفقاً للقوانين المنظمة لها، ولذلك، فإنه عندما يُطلب من المحاكم القضاء بتوقيع الحجز على أصول كيان مُعين للوفاء بالديون المستحقة على الدولة نجد أن هذه الأصول ليست في متناول دائنى الدولة لأنها تخص كياناً مستقلاً عن الدولة المدينة. 

   كما أن تعدد هذه الكيانات وإختلافها وقيام الدولة بتقسيم الأنشطة التجارية الخاصة بها على هذه الكيانات، يؤدى إلى حرمان دائني الدولة فعلياً من إسترداد مديونياتهم، حيث أن الأصول - وبخلاف تلك الغير قابلة للحجز عليها - هي إما محمية عن طريق حصانة الدولة من التنفيذ، أو لأنها مملوكة لكيان قانونى يختلف عن المدين.

   ولذلك، فإنه من الملاحظ أن بعض السوابق القضائية الفرنسية تتجه إلى رفض مسئولية هذه الكيانات القانونية عن مديونية الدولة، ففى قضية شركة Benvenuti&Bonfant ضد حكومة الكونغو، وعندما رفضت حكومة الكونغو آداء التعويض المقضى به من محكمة تحكيم مركز ICSID لصالح شركة Benvenuti&Bonfant تعويضاً عن قيمة الأسهم التي شاركت بما في شركة Plasco، تقدمت شركة Benvenuti&Bonfant بطلب إلى محكمة باريس الإبتدائية للإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه على الأصول المالية المملوكة لدولة الكونغو في فرنسا، وبتاريخ ٢٣ ديسمبر١٩٨٠ ، أمر رئيس المحكمة المذكورة بالإعتراف بحكم التحكيم"، إلا أنه أورد تحفظاً عليه جاء به: "نحن نحكم بأنه لايمكن - بناءاً على حكم التحكيم المذكور – إتخاذ أي إجراء بتوقيع الحجز، ولاحتى أى إجراء تحفُظى على أى أصول أو ممتلكات موجودة في فرنسا دون تفويض سابق“، مما مفاده - في نظر المحكمة - إستبعاد أي أثر لهذا الحكم في التنفيذ على ممتلكات الكونغو الموجودة في فرنسا، دون الحصول على إذن سابق من حكومة الكونغو. 

  بيد أن شركة Benvenuti&Bonfant إعترضت على التحفظ الوارد بالأمر، أمام رئيس المحكمة الذى أصدره، فأصدر بتاريخ ۱۳ يناير ۱۹۸۱ أمراً برفض تعديل أو إلغاء هذا التحفظ الذي ضمنه الأمر السابق مُقرراً أنه من المستحيل في مرحلة التنفيذ الأولية التمييز بين ممتلكات الكونغو المستخدمة لأغراض سيادية، وغيرها من الممتلكات المستخدمة لأنشطة تجارية ، مُشيراً إلى أن حكم ICSID لايشتمل على أى شىء يتعارض مع القانون والنظام العام، وهكذا تكون المحكمة قد أدمجت معيار النظام العام فى فكرتها بشأن تنفيذ الحكم كما يتضح أن رئيس المحكمة الإبتدائية الفرنسية قد حقق بقراره المشار إليه، نوعاً من المفارقة تكمن في أنه في نفـــس الوقت الذى منح فيه الإعتراف لحكم التحكيم، قام بتجريد ذلك الحكم من أى مدلول أو قيمة على المستوى العملى ".

  وفي قضية Letelier v. Chile ، رفضت الدائرة الثانية بمحكمة الاستئناف الأمريكية معاملة ممتلكات شركة الطيران التابعة للدولة على أنها مُتاحة للوفاء بحكم قضائي يتضمن تعويضات عن أضرار غير تجارية صادرة ضد الدولة، بينما قررت المحكمة الأمريكيـة العليـا في قضية Bancec "، أن الهيئة التابعة لبنك تجارى أجنبي ترتبط بشكل وثيق في أنشطتها بالدولة التي أنشأتها للسماح  بممتلكات الدولة من أجل الوفاء بالمطالبة غير المسددة والمستحقة لأي دائن للبنك التجاري.

  وإذا كانت القضايا السابقة تُظهر أن فاعلية أحكام التحكيم وحصانة الدولـة مــن التنفيذ وإستقلال الكيانات القانونية للدولة هي مبادىء لايمكن التوفيق بينها، ومع ذلك فقـد عـدلت محكمة إستئناف باريس فى أربع قرارات صادرة في عامی 2003، 2004من موقفها التقليدى تجاه الكيانات القانونية للدولة، وسمحت بتنفيذ أحكام التحكيم أو القرارات القضائية ضد الدولة على أصول تابعة لإحدى الشركات الوطنية والتى تخضع لرقابة كاملة لتلك الدولة. 

وكانت الثلاثة قضايا الأولى تخص جمهورية الكونغو، بينما تخص القضية الرابعة جمهورية الكاميرون، وكان تنفيذ أحكام التحكيم يقع على أصول الشركة الوطنية للبترول في الكونغو (Société nationale des pétroles du Congo (SNPC، وأصول إحدى الشركات الوطنية في الكاميرون (Société nationale des hydrocarbures ( SNH، على التوالى.

   ففي قضايا SNPC قررت محكمة استئناف باريس أنه : "إذا كان الإشراف، أو حتى السيطرة من جانب الدولة يُمارس على الشخص الإعتبارى من خلال مُدرائه وكانت المصلحة العامــة المرجوة للوظيفة المسندة إليه، لا تكفى عادةً لإعتبار الشركة أداةً رسمية تابعة للدولـــة بمايــــتتبع إندماجها في الدولة، فإن الكيان في القضية هنا كان فى الواقع شخصاً قانونياً خيالياً، وبالتالي، فهو أداة تابعة لجمهورية الكونغو .

وقد أقامت المحكمة قضائها على أساس من أن : ۱- أعضاء مجلس ادارة الشركة هم في المقام الأول ممثلين لأجهزة الدولة ومُعينين بموجب قرارات صادرة من الدولة ٢- أن الشركة كانت تحت رقابة صارمة من وزير المواد الهيدروكربونية الذى يملك سلطة دائمة في الإدارة والرقابة على الشركة وخاصة لضمان تطبيق سياسات وقوانين وتعليمات الحكومة على الشركة، والموافقة على برامج الإستثمار والإشراف على تنفيذها، والإشراف على توزيع الأرباح وسياسة شئون الموظفين التي تحكمها إتفاق المفاوضات الجماعية بشأن المواد الهيدروكربونية، وحتى إكتساب الفوائد المشتركة وإنشاء الفروع والوكالات أو المكاتب الفرعية"، 3- الشركة كانت تحت السيطرة الإقتصادية والمالية للدولة ولديوان المحاسبات . 

   وفي قضية SNH إستدلت محكمة إستئناف باريس فى قرارها الصادر بتاريخ ٢٢ يناير ٢٠٠٤ على أنه: "على الرغم من أنه من المؤكد أن SNH تمتلك أصولاً مُستقلة خاصة بها تشتمل علـــى عقارات وأوراق مالية، إلا أنه نتيجةً لعدة عوامل يتضح أن الشركة مستقلة قانونياً ومالياً مــــن خلال ملكيتها لأصولها الخاصة بها، وبدون مُمتلكات حقيقية أو إستقلال كاف لكي تأخذ الشركة قراراتها الخاصة بها بنفسها، لا يمكن إعتبارها مُتمتعة بالإستقلال القانونى أو الحقيقى عـن دولــة الكاميرون بما يُمكن أن يُسمى كياناً قانونياً مستقلاً".

  إن حقيقة قيام محكمة إستئناف باريس باللجوء الى أفكار أدوات الدولة stateinstrumentality ، والكيان القانونى الخيالي "fietitious legal entity" في إطار بحثها لمدى إستقلال الكيانات القانونية للدولة يؤدى إلى جعل هذا الإستثناء محدود النطاق نسبياً، ذلك أنه عندما يتضح أن الشركة مملوكة للدولة وتفتقر إلى الإستقلال الكامل، حينئذ، يمكن لدائني الدولة الحجز على أصول هذه الشركة.

   أما إذا كانت الدولة تمتلك بالفعل جميع أسهم الشركة أو تسيطر علي الشركة، فإنه لا يكفى - وفقاً للسوابق القضائية الفرنسية الحالية السماح لدائنى الحكومة بالتغلب على العقبة التي أوجدتها الدولة، والتي ينتظم قانونها الأنشطة المسموح بها للكيانات القانونية المستقلة . 

التنازل عن الحصانة ضد التنفيذ

   لا يعتبر مبدأ حصانة الدولة من التنفيذ قاعدة إلزامية، حيث تتمتع الدولة بالحرية المطلقة في التنازل عن حقها في الحصانة من تنفيذ الحجز على الأموال والممتلكات التابعة لها، لذلك فقد تجازف بعض المحاكم الوطنية عندما ترى أن إتفاق التحكيم ينطوى ضمناً على تنازل عن مثل هذه الحصانة، حتى لاتستطيع الدولة أن ترفض تنفيذ حكم التحكيم الصادر ضدها .

   وعلى خلاف قضاءها السالف ، إتخذت المحكمة هذه المرة موقفاً مغايراً، حيــث قـضـت بتاريخ ٥ ديسمبر ۱۹۸۹ بالغاء حكم المحكمة الإبتدائية ، على أساس أن: "قبول الدولة لعرض النزاع أمام هيئة التحكيم المنعقدة تحت مظلة المركز الدولى لتسوية منازعات الإستثمار، لايفيــــد تنازلها كمبدأ عام عن حقها فى التمسك بالحصانة ضد إجراءات التنفيذ، إلا أنه يُمكن إستبعاد هذه الحصانة إذا كانت الدولة قد قامت بتخصيص الأموال المطلوب التنفيذ عليها لنشاط إقتصادي أو تجارى من أنشطة القانون الخاص، ولما كانت الشركة المدعية في واقع الحال لم تقم بإثبات أن الأموال التي سبق التنفيذ عليها تدخل في إطار هذه الطائفة، فإن تنفيذ الحكم يتعارض مع النظام العام الدولى.

  وخلصت المحكمة إلى أن حكومة السنغال لم تتنازل عن حصانتها، مما يتعين معه وفقاً لقانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد رفض الإعتراف والإلتزام بهذا الحكم.

    ويؤخذ على محكمة إستئناف باريس أنها قد خلطت بين الإعتراف بحكم التحكيم وإعفاء الدول الأعضاء فى إتفاقية واشنطن من التنفيذ وأساءت فهم وإدراك نصوص الفصل السادس من الباب الرابع من هذه الإتفاقية والتي أكدت على التزام كل دولة مُتعاقدة في الإتفاقية بالإعتراف بالحكم الصادر وفقاً لها باعتباره مُلزماً وتنفيذ الإلتزمات المالية التى يقضى بها كما لو كان حكماً نمائياً صادراً من محاكمها، وفقاً لقواعد تنفيذ الأحكام فى الدولة المطلوب تنفيذ الحكــم علـــى إقليمها .

   وعندما طعن على الحكم الإستئنافي أمام محكمة النقض الفرنسية ، قضت بتاريخ ١١ يونيو ۱۹۹۱ بالغاء حكم محكمة إستئناف باريس، وتأييد حكم المحكمة الإبتدائية بباريس، والمتضمن الإعتراف بحكم التحكيم .

   حيث رأت المحكمة أن إتفاقية ICSID قد وضعت الأسس لنظام مُبسط ومستقل للإعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها، ليتم بذلك إقصاء ذلك النظام المنصوص عليه في قانون الإجراءات المدنية في الجزء المتعلق بالتحكيم الدولى، وقد ضمنت إتفاقية ICSID نظامها هذا في كـــل مـــن المادتين ٥٤،٥٣ .

  وأكدت المحكمة على أن إدراج الدولة الأجنبية لشرط التحكيم فى أحد العقود، يفيد تنازلهــــا عن الحصانة القضائية والخضوع لقضاء المحكمين، وموافقتها على منح الإعتراف لحكم التحكيم، لأن الأمر بالتنفيذ لا يُعتبر وسيلة من وسائل التنفيذ تُمس الحصانة ضد إجراءات التنفيذ، وأن إلتزام الدول الأطراف في إتفاقية واشنطن بالإعتراف بأحكام التحكيم الصادرة في إطارها وتنفيذها، لا ينتقص من القانون النافذ في أية دولة طرف فيها بشأن حصانتها أو حصانة أية دولة أجنبية من التنفيذ.

   وبذلك يتضح أن محكمة النقض الفرنسية قد أكدت فى هذه القضية على أن قبول الدولــة الأجنبية للتحكيم طبقاً لإتفاقية ICSID يُفيد قبولها لأن يكون حكم التحكيم الصادر بناءاً على هذا التحكيم مشمولاً بالأمر بالتنفيذ، والذى لايعد فى حد ذاته الإجراء التنفيذى الذي تنشأ عنه المنازعات المتعلقة بحصانة الدولة  من التنفيذ ، وهو مايُشير إلى رفض هذه المحكمة لفكرة الحصانة ضد إجراءات التنفيذ، مالم تكن الأموال المحجوز عليها تتعلق بأعمال سيادية أو عامة.

  وعلى خلاف النهج المتقدم، يُلاحظ أن البعض الآخر من هذه المحاكم يُعارض بشدة تنفيــــذ حكم التحكيم ضد الأصول المخصصة لأنشطة الدولة، والمثال الواضح على هذه المعارضة للتنفيذ يُمكن أن نجدها في قضية NOGA، وفى قضية Republic of Cameroon v. Winslow Bank & Trust، فقد حاولت محكمة إستئناف باريس بعد فترة قصيرة من صدور حكم محكمة النقض الفرنسية في قضية Creighton التخفيف من آثار هذا الحكم، وكانت هذه المرة في قضية Noga " ، والتي تتعلق بالحجز على ممتلكات دبلوماسية . 

   وفى هذه القضية كانت الشركة السويسرية Noga قد أبرمت فى فرنسا عقدي إقراض مـــع حكومة الإتحاد الروسى، وكان هذين العقدين يتضمنان شرطى تحكيم ، ينص إحداهما على تخلـــى الطرفين عن أى طعن ضد حكم التحكيم، وتنازل المقترض (حكومة الإتحاد الروسي ) عــــن "أى حق في الحصانة يتعلق بتنفيذ حكم التحكيم الصادر ضده بموجب العقد الحالى»، كما ينص ثانيهما، على أن المقترض لا يستطيع التمسك بالحصانة ضد التنفيذ، أو التنفيذ الجبرى، أو الحجز، أو أى إجراءات قضائية أخرى تتصل بالتزاماته المنصوص عليها في هذا العقد. 

   وفي ظل هذين الشرطين، أصدر معهد التحكيم بغرفة تجارة إستكهولم حكمين منفصلين قابلين للتنفيذ في فرنسا، تأمر فيهما حكومة الإتحاد الروسى بأن تدفع لشركة Noga مبلغاً يربو على سبعة وعشرون مليون دولار أمريكي، وعلى هذا الأساس، أمرت المحكمة الإبتدائية بباريس بالتنفيذ ، ثم قامت الشركة المذكورة بالحجز على أموال مودعة في حسابات الأخيرة لدى بنك BCEN-Eurobank، بما فى ذلك ما يتعلق بسفارتها وتمثيلها التجاري في فرنسا. 

  وعندما كان يتوجب على محكمة إستئناف باريس الفصل فيما إذا كان تنازل الحكومة عن الحصانة يمتد ليشمل الحجز على الحسابات البنكية الخاصة بسفارتها وبالبعثة الدائمة للإتحاد الروسي لدى اليونسكو والمكتب التجارى الروسى فى فرنسا، فقد جاء رد المحكمة في حكمها الصادر بتاريخ ١٠ أغسطس ۲۰۰۰ بالرفض، وأمرت بالتالى برفع الحجز .

وخلافاً لما سبق أن أبدته في حكمها الصادر في قضية Qwinzy c. Republique du Congo، فقد إعتبرت محكمة إستئناف باريس أن إتفاقية فيينا المبرمة فى ١٨ أبريل ١٩٦١ بشأن العلاقات الدبلوماسية والتي تنص على حماية الأموال المخصصة لعمل البعثة الدبلوماسية لابد وأن تطبق في هذه الحالة، وبناء على ذلك، تكون الأموال المودعة فى الحسابات المصرفية المفتوحة باسم سفارة لمتطلبات نشاطها في الخدمة العامة في الدولة المستضيفة تشكل جزءاً من نظام مُحدد مـــــن الحصانات الدبلوماسية، وبالتالى فإنها تكون غير قابلة للمساس بها .

   ویعنی هذا الرأى الأخير للمحكمة أن الجدل القانونى حول مبدأ الحصانة ضد التنفيذ يتحول شيئاً فشيئاً نحو عدم المساس بأموال الدولة، ففى حين إتجهت محكمة النقض الفرنسية في الحكـــم الأول إلى إيراد إستثناء على القاعدة المتعلقة بحصانة الدولة لصالح تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، عادت محكمة إستئناف باريس فى الحكم الثانى مرة أخرى إلى المبدأ وهو حصانة الدولة ضد التنفيذ. 

    وفى قضية Republic of Cameroon v. Winslow Bank & Trust ، لم يكن موضوع التنازل عن الحصانات في هذه القضية أقل إتساعاً من القضية السابقة، حيث أن التنازل  الذي يرد في إتفاقات القروض - وكما هو الحال فى مُعظم الأحيان - يتضمن كافة أنواع الحصانات التي: يحق للمُقترض فى هذه القضية : جمهورية (الكاميرون) أن يحتج بها لنفسه أو لأصوله، أو أى حصانة أخرى قد تكون لديه“.

   وأضافت أن: "الشرط المعتاد في إتفاقات القروض الدولية التي توافق الدولة بمقتضاها على أن تتنازل عن حصانتها من التنفيذ على جميع أصولها مهما كانت الأغراض المخصصة لها، لايُشكل تنازلاً عن حصانتها من التنفيذ.

  ويعكس هذا الحكم، مُعارضة بعض المحاكم بصفة عامة السماح بتنفيذ ديون خاصـــة علـــى الأصول المخصصة للأنشطة الدبلوماسية التي تعتبر جوهر نشاط سلطة الدولة، ولذلك، يبدو النهج الذي سلكته محكمة النقض الفرنسية من حيث الإعتراف بالتنازل الضمني للدولة عن حصانتها من التنفيذ من أجل ضمان فاعلية أحكام التحكيم مُبرراً من الناحية النظرية البحتة، إلا أنه غير كاف الناحية العملية لوضع حد للوضع الذي يظل فيه الحكم القابل للتنفيذ غير فعال، حتى تختـــار الدولة أن تُنفذه.

الخلاصة:

  تبدو الحصانة من التنفيذ للوهلة الأولى حجر عثرة في سبيل تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية الخاضعة لإتفاقية نيويورك، نظراً لصمت الإتفاقية عن مُعالجة هذه الإشكالية الهامة، وبالتالي، تخضع إجراءات التنفيذ ضد الدولة للقواعد الوطنية الخاصة بالحصانة، حيث أنه في حالات كثيرة يكون الحجز على الأموال العامة المملوكة للدولة أمراً غير مسموح به، بينما يكون الأمر مختلفاً بالنسبة لماهو مملوك من أموال للهيئات والمؤسسات العامة، سيما إذا كانت تلك الأموال يتم إستغلالها في أنشطة تجارية.

  ولذلك فإن أحكام التحكيم الخاضعة للإتفاقية – كغيرها من أحكام التحكيم الأخـــرى، يمكن أن تخضع لمعالجات مختلفة في الدول المتعاقدة، وهو مايؤدى إلى عدم وجود إتـسـاق دولى بالنسبة لتنفيذ هذه الأحكام في ظل تباين الرؤى والآراء، والإفتقار إلى وجود إجماع دولى بالنسبة  لمفهوم ونطاق الحصانة ضد التنفيذ.

   والواضح أن مبدأ حصانة الدولة ضد إجراءات التنفيذ يشهد نمواً وتطوراً ملحوظاً في أغلب مراكز أسواق المال الرائدة فى العالم، والتى يُرجح وجود أموال وأرصدة بمــا للـدول الأجنبيــة، وبالتالي فلم يعد مبدأ الحصانة ضد إجراءات التنفيذ يُطبق ضد الدول بصورة موحدة، ولاشك أن هذا الوضع يُشكل إخلالاً بمبدأ المساواة في التقاضي على المستوى الدولى، إذ أنه يخلق وضعاً يدفع بالمستثمر الأجنبى الصادر لصالحه حكم التحكيم، إلى إختيار قضاته عن طريق إنتقاء المحكمة التى تلائمه وفقاً لمعايير مُعينة أبرزها ما يوفره قانونها من مزايا تعكس تقييداً لمفهوم ونطاق الحصانة، سعياً  للتنفيذ من خلالها، من خلال مايطلق عليه بظاهرة تسوق المحاكم“.

    وعلى أى الأحوال، فإن الملاحظ أن نصوص إتفاقية نيويورك لم تتعرض على الإطلاق المسألة الحصانة ضد تنفيذ أحكام التحكيم الصادرة في ظل الإتفاقية، بل تركتها نهباً للقوانين الخاصة بكل دولة يطلب إليها تنفيذ الحكم على إقليمها، مما ترتب عليه إختلاف المعاملة التي يلقاها الحكم من المحاكم الوطنية من دولة لأخرى من الدول الأعضاء في الإتفاقية عند التقدم إليها بطلـب للإعتراف به وتنفيذه .

   والدليل على ذلك أن المحاكم الفرنسية – على سبيل المثال – وعلى الرغم من قبولها وإقرارها لتطبيق مبدأ الحصانة القضائية، بحيث يؤدى إلى إعفاء الدول من الخضوع للإجراءات القضائية، فإنها مازالت تتردد فى مشاركة العديد من الدول فى تطبيق هذا المبدأ الديكتاتوري التعسفي، الذي أصبح سائداً بصورة آخذة فى التزايد والتفاقم لإعفاء الدول من توقيع الحجز على أموالهــا وممتلكاتها .

   ولا شك فى أن هذا يُمثل قصوراً فى نصوص الإتفاقية، قد يترتب عليه القضاء على أية قيمـة عملية لحكم التحكيم الصادر في إطار الإتفاقية، وذلك بجعل أمر الإعتراف به وتنفيذه، مرهونـــاً بعدم تعارضه مع مبدأ حصانة الدولة ضد التنفيذ، ولذلك، فإنه ومن خلال ما هو سائد من إلقاء عبء الإثبات على عاتق المدعى وهو المستثمر) في إجراءات التنفيذ، لم يتحقق – في غالب الأحوال - النجاح في التغلب على مبدأ الحصانة.

    مما يتعين معه إعادة النظر فى هذا الموضوع عند وضع إتفاقية جديدة للإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، من خلال تضمينها نصاً واضحاً ومُحايداً بأن الحكم الخاضع للإتفاقية يكون صالحاً للإعتراف به وتنفيذه فى كافة الدول الأعضاء فيها، دون أى إعتراض يتعلق بالحصانة، أما بالنسبة للدول غير الأعضاء، فلابد من تقديمهم أدلةً إضافية على إلتزامهم بالإعتراف والتنفيذ، وبتنازلهم عن الدفع بالحصانة.