الأثر المترتب على مخالفة القانون أو القواعد الاتفاقية :
يثور التساؤل عن الأثر المترتب على عدم تطبيق المحكم للقانون الذي اتفق عليه الأطراف لحكم المسائل الإجرائية .
كقاعدة عامة يلتزم المحكم أو المحكمون أساسا بالإجراءات الاتفاقية ، وهي الإجراءات والأوضاع والمواعيد التي يتفق عليها المحتكمون لتسير علـى هـديها هيئة التحكيم أثناء فصلها في النزاع المعروض عليها . فاتفاق الأطراف هو سـيد ألإجراءات ، وليس لهيئة التحكيم الإخلال بتطبيق هذه الإجراءات ، وإن كان لهـا التشاور مع الأطراف من أجل إقرار تغيير أو تكملة الإجراءات الاتفاقية لـضمان وضع تنظيم إجرائي يثمر عدالة وسرعة وقرارا غير مكلف للنزاع . إن عدم مراعاة هذه الإجراءات الاتفاقية الواردة في عقد التحكيم ، أو في عقد لاحق ، يرتب إجازة طلب بطلان حكم التحكيم ، أو طلب رفض الاعتـراف بالحكم وعدم تنفيذه. وذلك على التفصيل الآتي :
أولا: بطلان حكم التحكيم :
لقد نصت قوانين التحكيم الحديثة على بطلان حكم التحكيم إذا بنـي علـى إجراءات غير تلك المتفق عليها . فهو ما نص عليه قـانون المرافعـات المدنيـة الفرنسي لسنة ١٩٨١ في المادة 1504 من " أن الحكم التحكيمـي الـصادر فـي فرنسا في التحكيم الدولي يقبل الطعن بطريق الإبطال في الحـالات المنصوص عليها في المادة ١٥٠٢ . " ، وقد جاء من ضمن هذه الحالات المذكورة فـي المادة ١٥٠٢ حالة " ... 3- إذا فصل المحكم في النـزاع دون التقيـد بالمهمـة التحكيمية التي عهد إليه بها ... ، " وهو ما نص عليه قانون التحكيم الإنكليـزي لسنة ١٩٩٦ في المادة ٢/٦٨ من أن " يقبل الطعن بـالحكم التحكيمـي لمخالفـة جوهرية في الحالات التالية ... (ج) إذا لم تدر المحكمة الإجراءات وفقا لاتفاقيـة الأطراف " .
وهو ما أخذ به قانون التحكيم المصري لسنة ١٩٩٤ في المادة 1/53 : " لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية : ... (ز) إذا وقع بطـلان في حكم التحكيم ، أو كانت إجراءات التحكيم باطلة بطلانا أثر في الحكم " . وهـو ما جاء في قانون التحكيم الأردني لسنة ٢٠٠١ المادة 49/أ من أنـه " لا تقبـل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في أي من الحالات التالية : ... (۷) إذا لـم تـراع هيئة التحكيم الشروط الواجب توافرها في الحكم على نحو أثر فـي مـضمونه أو استند الحكم على إجراءات تحكيم باطلة أثرت في مضمونه " .
وأخيرا ، فهذا ما نص عليه نموذج قانون التحكيم التجاري الـدولي لـسنة 1985 في المادة ٢/٣٤ : " لا يجوز للمحكمة المسماة في المادة 6 أن تلغـي أي قرار تحكيم إلا إذا : (أ) قدم الطرف الطالب الإلغاء دليلا يثبت ... (4) أن تشكيل هيئة التحكيم أو الإجراء المتبع في التحكيم كان مخالف لاتفاق الطرفين ...
على ضوء النصوص التشريعية السابق ذكرها ، فإننـا نـلاحـظ - بمناسبة إجراءات التحكيم – أن بعضها جعل من مخالفة الإجراءات الاتفاقية سببا لبطلان حكم التحكيم ، وبعضها جعل من تجاوز المحكم للمهمة التحكيمية المعهود بها إليه أيضا سببا للبطلان ، وذلك على أساس أن عدم تقيد المحكم بالإجراءات التي طلب الأطراف منه إتباعها ، أو إغفال نص من النصوص الإجرائية المختارة يمكن تفسيره على أنه إغفال أو تجاوز من المحكم للمهمة المنوط به القيام بها . –
أما فيما يتعلق بالمخالفة الإجرائية والتي تستتبع بطلان حكم التحكيم فهي لا تتحقق إلا إذا لم تتحقق الغاية من الإجراء ، بحيث يكون العيب الذي شاب الإجراء قد انعكس على الحكم ، فالإجراء لابد أن يكون جوهريا بحيث يترتب على مخالفته ضررا لأحد أطراف التحكيم ، أو لهما معا ، أي عدم تحقق الغاية التـي قـصدها الأطراف المحتكمون مما اتفقوا عليه وذلك كعدم إصدار حكم التحكيم في الميعـاد المتفق عليه بين الأطراف المحتكمين ، أو كعدم تحرير المحكم محضرا للإثبـات متضمنا كل ما يدور في جلسات التحكيم المختلفة من وقائع وأحداث تتعلق بـسير إجراءات خصومة التحكيم رغم اتفاق الأطراف على ذلك .
وتقضي المادة ٢٤ من قانون أصول المحاكمات المدنيـة الأردنـي بأنـه " يكون الإجراء باطلا إذا نص القانون على بطلانه أو إذا شابه عيب جوهري ترتب عليه ضرر للخصم ولا يحكم بالبطلان رغم النص عليـه إذا لـم يترتـب علـى الإجراء ضرر بالخصم " . فنص القانون على تريب البطلان على عـدم صـحة الإجراء يجعل أن الأصل هو عدم تحقق الغاية من الإجراء لعدم اتخاذ الإجراء أو لعدم صحته . ولكن متى ثبت تحقق الغاية من الإجراء فلا يترتب البطلان كجزاء رغم عدم إتباع الإجراء أو عدم صحته .
وبصدد هذا الموضوع فقد انتهت محكمة النقض الفرنسية ، الدائرة الثانيـة المدنية ، في حكمها الصادر بتاريخ ١٩٨٠/٥/30 ، إلى أن فيه مخالفـة المحكـم للاتفاقات الإجرائية للأطراف مخالفة للقانون ذاته الذي أجـاز للأطـراف سـلطة تنظيم الإجراءات وتحديد السلطة الإجرائية للمحكم
ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس في هذا الاتجاه في حكمها الذي أصدرته في قضية (Sofidif) في ١٩٨٦/١٢/١٩ ، إذ قدرت محكمة الاستئناف بمـا أن الأطراف قد اتفقوا في وثيقة المهمة أن على المحكمـين الفـصـل فـي موضـوع المنازعة ، فإن حكم التحكيم الذي أغفل مثل ذلك الترتيب الذي وضعه الأطـراف وقام بالفصل في مسألتي الاختصاص والموضوع في ذات الوقت يتعين إبطالـه إلا أن محكمة النقض الفرنسية قضت ببطلان الحكم المتقدم في حكمها الصادر في ۱۹۸۸/۳/۸ ، وذلك استنادا إلى أنه لا يوجد شرط صريح ومحدد في وثيقة المهمة يفرض على المحكمين الفصل بحكمين متميزين ومتتابعين في كل من الموضـوع ولاختصاص . وهو ما يتيح القول بأن محكمة النقض الفرنسي تقول بطريق غيـر مباشر بأنه لو وجد هذا الشرط صريحا ومحددا لتعين إبطال حكم التحكيم لمخالفته للاتفاقات الإجرائية .
ثانيا: رفض تنفيذ حكم التحكيم:
نشير في هذا الصدد إلى اتفاقية نيويورك للاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها وذلك باعتبارها الأوسع انتشارا . لقد نصت اتفاقية نيويورك في المادة 1/5 على أنه " لا يجوز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي صـدر عليه الحكم إلا إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة فـي البلـد المطلـوب إليهـا الاعتراف والتنفيذ على : .... (د) أن تشكيل هيئة التحكيم أو إجـراءات التحكـيم مخالف لما اتفق عليه الأطراف ...
وهذا ما أخذت به الاتفاقية الأوروبية للتحكيم التجاري الدولي 1961 وذلك في المادة ١/٩/د . أي أن هاتين الاتفاقيتين تجيزان رفض تنفيـذ حكـم التحكـيم الأجنبي إذا ما أثبت الطرف المحكوم عليه أن حكم التحكيم قـد صـدر رغـم أن تشكيل هيئة التحكيم أو الإجراءات كانت على خلاف اتفاق الأطراف ، أمـا فيمـا يتعلق بالمخالفة الإجرائية التي تستتبع إمكان رفض تنفيذ الحكم الصادر ، فهـي لا تتحقق إلا إذا لم تتحقق الغاية من الإجراء ، وذلك على التفصيل السابق عرضه .
ومثال رفض تنفيذ حكم التحكيم بسبب مخالفة الإجراءات الاتفاقية للأطراف ، هو رفض محكمة استئناف بازل بسويسرا تنفيذ حكم تحكيمي صادر فـي نـزاع حول عقد بيع تم بين بائع سويسري ومشتري ألمـاني يتضمن شـرط تحكيم بمقتضاه اتفق الأطراف على أن يتم التحكيم وفقا لقواعد هيئة مبادلات هـامبورج لبائعي السلع ، وقد تأسس الرفض على أن التحكيم الذي أجرته هيئة التحكيم فـي المرحلتين : ( الأولى تحديد مدى جودة البضائع والثانية تقدير الأضرار والتكاليف ) يخالف ما ورد بنظام التحكيم المذكور ( هيئة مبادلات هامبورج ) وبالتالي تكون إجراءات التحكيم مخالفة لما اتفق عليه الطرفان ، الأمر الذي يجيز رفض التنفيـذ استنادا إلى المادة 1/5/د من اتفاقية نيويورك .
يبقى أن نشير إلى أن هناك مراكز تحكيم تفرض تطبيق القواعد الإجرائيـة المنصوص عليها في لوائحها ووفقا لهذه المراكز فإنه بمجرد عرض النزاع أمامها ، فإن هذا يعني قبول أطرافه للقواعد الإجرائية الواردة في لوائحها ، ومن ثم فـإن القواعد الإجرائية المنصوص عليها في هـذه اللـوائح تعـد ملزمـة للأطـراف وللمحكمين على نفس النحو كما لو كان الأطراف أنفسهم قد قبلـوا وضـع هـذه القواعد الإجرائية ، وحتى ولو كان الأطراف قد اتفقوا على إجراءات غير متفقـة أو مخالفة للقواعد الإجرائية الواردة في لوائح هذه المراكز .
فالتجاء أطراف عقد التحكيم لهذه المراكز للفصل في النزاع بينهم يتضمن كما يبدو في لوائح هذه المراكز - شرط الإذعان للقواعد الإجرائية المقررة فـي لائحة التحكيم لهذه المراكز . وإن كانت هذه المراكـز تفسح لإرادة الأطـراف المجال للاتفاق على بعض المسائل الإجرائية ، كاختيار هيئة التحكـيم أو كمكـان التحكيم أو لغته أو الإجراءات الوقتية والتحفظية ... ، وذلك بحسب المدى الـذي تفسحه لائحة كل مركز من هذه المراكز لاتفاق الأطراف .
وفي تفسير وتبرير هذا الإذعان أو الالتزام بالقواعد الإجرائية التي تتضمنها لوائح هذه المراكز ، فإن القائمون عليها يرون أنه لا يوجد ما يجبر الأطراف على الرجوع إلى هذه المراكز لحل خلافاتهم بطريق التحكيم ما لم يكـن هنـاك ثقـة واقتناع بنظام المركز وقبول مسبق للقواعد الإجرائية التي تحكم سير الخـصومات التحكيمية لديه . حتى أصبح هذا النوع من التحكيم يتمتع – على حد تعبير البعض - بقانون مستقل الإجراءات
المادة ١/١٥ من نظام تحكيم غرفة التجارة الدوليـة لـسنة ۱۹۹۸ من أنه " القواعد الواجبة التطبيق على الإجراءات أمام المحكم هـي تلك المستمدة من هذا النظام وعند عدم معالجتها لأمر معين ، فالقواعد التـي يحـدها الأطراف وعند عدم تحقق ذلك فتلك التي يحددها المحكم سواء أحالت إلى قـانون إجرائي وطني يطبق على التحكيم أو لم تحل إليه .
كذلك فإن هناك مراكز تحكيم أخرى تطبق ما اتفق عليه الأطراف وتجعـل لقواعدها صفة احتياطية فلوائح هذه المراكز تجعل لاتفاق الأطراف بصدد المسائل الإجرائية – الأولوية في التطبيق لحكم إجراءات سير المنازعة المعروضة أمـام محكميها ، وفي حال تعذر مثل هذا الاتفاق أو قصوره تكون للقواعد المستمدة من لوائحها دورها في حكم أو تكملة المسائل الإجرائية.
أما في حالة ظهور مسألة إجرائية لا يحكمها اتفاق الأطراف ولا تعالجهـا لائحة المركز ، فإن هذه المسألة تترك لتقدير المحكمين يحددونها وفقا لما يرونـه مناسبا .
وفي هذا الاتجاه يذهب نظام الهيئة الأمريكية للتحكيم AAA ، حيث تنص المادة الأولى منه على أنه " عندما يتفق الأطراف كتابة على إحالة نزاعاتهم إلـى التحكيم بناء على هذا النظام للتحكيم التجاري الدولي ، يتم التحكيم وفقا لهذا النظام كما هو مطبق في تاريخ بدء التحكيم مع مراعاة التعديلات التي قد يتفـق عليهـا الأطراف كتابة " . وهو ما تنص عليه المادة 14 من نظام تحكيم محكمـة لنـدن للتحكيم الدولي LCIA من أنه " 1) يمكن للأطراف الاتفاق على سير الإجـراءات التحكيمية ، ويشجعون على القيام بذلك ... 2) ما لم يتفق الأطراف على خـلاف ذلك وفقا للمادة ١/١٤ يكون للمحكمة التحكيمية أوسع الصلاحيات الاستنسابية وفقا لأحكام القانون المطبق لتتمكن من تنفيذ واجباتها العامة " . كذلك تنص المادة 44 من نظام مركز واشنطن المنبثق عن اتفاقية البنك الدولي بشأن تـسوية منازعـات الاستثمار بين الدول ومواطني الدولة الأخرى على أنه " تجرى إجراءات التحكـيم وفقا لأحكام هذا القسم ووفقا لقواعد التحكيم السارية في تاريخ اتفاق الطرفين على التحكيم إلا إذا اتفقا على غير ذلك .