الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / مخالفة النظام العام / الكتب / الحماية الدولية لأحكام التحكيم الاجنبية / مخالفة النظام العام

  • الاسم

    د. هشام إسماعيل
  • تاريخ النشر

    2012-01-01
  • اسم دار النشر

    دار النهضة العربية
  • عدد الصفحات

    1141
  • رقم الصفحة

    813

التفاصيل طباعة نسخ

مخالفة النظام العام

    تنتهج معظم الدول، وفي سبيل تلبية إحتياجات المتعاملين في مجال التجارة الدولية، منهجاً متحرراً تجاه التحكيم، إلا أنه على الرغم من ذلك، مازالت هناك قيود ترد على هذه الحرية تتمثل في أن التحكيم لا يُمكن أن يكون وسيلةً لمخالفة النظام العام، ولذلك يُعد النظام العام بمثابة حائط الصد الأخير أمام إستقلال التحكيم الدولى.  

    وبهذا المفهوم، يُمثل النظام العام أمراً محورياً فى قانون التحكيم لأنه يُمكن من خلال القواعد التي تحكم القابلية للتحكيم، أن يُقيد حرية الأطراف فى إبرام اتفاق تحكيم.

   ولذلك يُعتبر النظام العام في مجال التحكيم التجارى الدولى بمثابة سلاح ذو حدين، إذ يوصف في الواقع بأنه ذلك الجزء المحدد للنظام العام للدولة، حيث تتمثل مهمته الأساسية في كونه يعمل بمثابة الحارس الذي يُحافظ على: "الأُسس والمعتقدات الأخلاقية الراسخة أو السياسات المتبعة في ساحة القضاء» .

   ومن هذا المنطلق، يُمكن أن يُعد نافعاً كأداة تُستخدم كدرع واق ضد تطبيق القانون الأجنبي، أو تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية التي تتضمن حلولاً غير مرغوب بها من قبل محاكم تلك الدولة، كما يُمكن أن يُشكل سلاحاً خطيراً فى أيدى من يرغبون فى الحد من حركة أو نهائية تلك الأحكام، ولذلك يكتسب النظام العام مدلولاً خاصاً في مجال المعاملات الدولية باعتباره يُمثل إستثناءاً على تطبيق القانون الأجنبي.

   ولهذا إعتبره البعض بمثابة "شرط النجاة Escape Clause ، أو "صمام الأمان Safety Valve " في إتفاقية نيويورك، وبهذا المعنى، تم إستخدام تعبير "النظام العام ، كما الدولى" فى القرار عن النظام العام كعقبة فى سبيل الإعتراف بأحكام التحكيم الدولية ٢٨٣٤ ، إعتمدته مؤسسة القانون الدولى في تقريريها الصادرين عن كل من مؤتمرى لندن في عـــام ، ونيودلهي فى عام ۲۰۰۲ . 

   وعلى الرغم من القبول الواسع لمفهوم النظام العام، إلا أن هذا المفهوم مازال مبهماً وعصياً على التعريف، بحيثُ أن يختلف من دولة لأخرى، والمشكلة هنا تكمن في أن إعمال الدفع بالنظام العام عن طريق المحاكم الوطنية، يترك المجال واسعاً أمام تباين الممارسات الوطنية في هــذا الصدد ، في ضوء غياب مُفهوم واضح ومُحدد للنظام العام.

   وقد قامت إتفاقية نيويورك لعام ۱۹۵۸ بتقنين النظام العام فى المادة الخامسة(۲)(ب)، حيث أشارت إليه صراحةً كسبب لرفض الإعتراف والتنفيذ، ومع ذلك، فإنه يُشكل أيضاً أساساً لإعمال نصوص أخرى في الإتفاقية على نحو ماسيتضح فيما بعد. 

مفهوم النظام العام

  يعتمد تحليل الدور الذى ينهض به النظام العام فى إتفاقية نيويورك، على تحديد المقصود بــه أولاً، وفى هذا السياق، فإنه لا يُمكن من الناحية النظرية تحديد طبيعة القواعد التي ترتبط بالنظام العام، لأن محتوى النظام العام يُعد نسبياً إلى حد كبير، ويعتمد على المفاهيم والأفكار الوطنية السائدة لدى كُل دولة على حدة  ، والتى تعطى له معان مختلفة.

   وبديلاً عن ذلك، فإننا سوف نستهل هذا المطلب بمحاولة إلقاء نظرة مبدئية على النظام العام في إطار القانون النموذجى UNCITRAL، وقوانين التحكيم الوطنية، وكذلك في القضاء المقارن (الفرع الأول، ثم نلى ذلك، بالتمييز بين النظام العام الإجرائى والنظام العام الموضوعى، وتحديد مفهوم النظام العام المحلى والنظام العام الدولى من خلال عرض مستويات النظام العام (الفرع الثاني) وسوف نتبع ذلك بتحليل دور قواعد التطبيق الفوري (الفرع الثالث) ثم نتطرق إلى عرض مفهوم النظام العام المتخطى لحدود الدولة الفرع الرابع، ومن ثم سوف نختتم هذا المطلب بعرض موجز لتوصيات جمعية القانون الدولى حول هذا الموضوع الفرع الخامس).

النظام العام - نظرة مبدئية

  غالباً ما ينظر إلى مفهوم النظام العام باعتباره مفهوماً غامضاً ويستحيل تعريفه، حيث أنه يختلف من دولة لأخرى بحسب نظرتها إليه، وهو ما يؤدى إلى عدم اليقين وعدم القابلية للتنبؤ، مما يُشجع الطرف الخاسر على مُعارضة تنفيذ حكم التحكيم إستناداً إليه، حيث قد يصادفه الحظ أو علـــى الأقل يؤخره لليوم المحتوم الذى ينبغى عليه فيه السداد . 

  ففي النظام الإنجلوسكسوني ، يكون للنظام العام معنى أضيق نطاق نسبياً، حيث يُشير إلى "مسائل الآداب العامة والصحة والسلامة والرعاية الاجتماعية، وماشابه ذلك» ۲۸٤٥ ، ، ووفقاً للعرف القانوني السائد في معظم دول القارة الأوروبية، يُشير النظام العام إلى نطاق أوسع للمسائل القضائية، وهو النطاق الذى يتضمن مخالفة العدالة الإجرائية .

  ولذلك يُعد مفهوم النظام العام من "المفاهيم المتغيرة بصفة خاصـــة بـــإختلاف الزمـــان والمكان ، لإرتباطه بالأفكار السائدة فى وقت مُعين بمجتمع الدولة، فهو يستمد جُزءاً مــن محتوياته من العادات والتقاليد المحيطة به ، وبالتالي فإنه يصعب تعريفه، وعلى الجانب الآخر، فإنه من المقبول بشكل عام، القول بأن المبادىء والأفكار الأساسية فقط لأى نظام قانوني معين يمكن إعتبارها جزءاً من النظام العام، ومن منظور رؤية الدولة تُشكل هذه المبادىء والأفكار متطلبات أساسية للنظام العام، ولهذا السبب تخلقُ عائقاً أمام التعبير الحر عن إرادة الأطراف. 

  وفى إطار هذا التباين حول مفهوم النظام العام، فإنه يحسُن عرض موقف القانون النموذجي والقانون والقضاء المقارن من هذا المفهوم.

(أ) في القانون النموذجي UNCITRAL

   في أثناء المناقشات المتعلقة بالمادة ٣٤(٢) (ب) (ii) من القانون النموذجي UNCITRAL، عبر وفد المملكة المتحدة عن قلقه من كون النظام العام" - كما هو مفهوم في دول القانون العرفى - قد لا يستوعب كافة حالات الظُّلم الإجرائي "، وذكر الوفد مثالاً على ذلك أحكام التحكيم التى قد يشوبها الغش أو الفساد أو الأدلة الملفقة ، كما ثارت الشكوك بشأن إستيعاب هذا المفهوم لشروط المساواة فى المعاملة المادة (۱۸) وإتاحة الفرصة التامة للأطراف في عرض مواقفهم (المادتين۱۸ ، ۳٤ (۲) (أ) (ii) من القانون النموذجى UNCITRAL لهذه المواقف جميعاً.

  وقد ركزت المناقشات على الإختلاف القائم بين مفهوم النظام العام في كل من دول القانون العرفى ودول القانون المدنى، وعليه، فقد قررت اللجنة المشكلة لإعداد مشروع القانون النموذجي لعام ١٩٨٥ في تقريرها ألا تتوسع فى قائمة أُسس البطلان ، وفى النهاية، صدرت المادة ٣٤(٢) من القانون النموذجي متضمنةً أسباب بطلان حكم التحكيم على نهج المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك، كما جاءت المادة ٣٦ من القانون النموذجى هى الأخرى، على غرار المادة الخامسة من الإتفاقية. 

(ب) في قوانين التحكيم الوطنية

   تباينت إلى حد كبير المصطلحات المستخدمة فى الإشارة إلى "النظام العام في التشريعات الوطنية من النص على "النظام العام الدولى" صراحةً ، إلى الإشارة إلى المعايير الوطنية» ،

   وعلى سبيل المثال، تحيل التشريعات الإجرائية، وقوانين التحكيم فى كُل من فرنسا والبرتغال والجزائر إلى "مبادىء النظام العام الدولى، وهو ما يُعد تحسيناً للصياغة المستخدمة بشأن النظام العام في إتفاقية نيويورك. 

  في حين تكتفى دول أخرى مثل أُستراليا ، ولبنان  والأردن مثلاً بالإشارة إلى النظام العام فقط، بينما تشير دول غيرها مثل نيوزيلندا إلى "النظام العام في نيوزيلندا، كما تشير بعض الدول إلى "النظام العام والآداب، ومنها على سبيل المثال: اليابان ، وليبيا وسلطنة عُمان  وقطر ، أما الإمارات العربية المتحدة واليمن فتشير كُل منهما إلى النظام العام والشريعة الإسلامية. 

   كما أخذت كل من أستراليا، ونيوزيلندا، وكذلك الهند وزیمبابوی في تشريعاتهم بالتفسير الذي كانت قد تبنته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجارى الدولى UNCITRAL في تقريرها – سالف الإشارة إليه - بالنسبة لمعنى النظام العام، وهو ماجاء كأثر لإهتمام وفد المملكة المتحدة حول إحتمال ألا يستوعب النظام العام كافة حالات الظُّلم الإجرائي – كما سلف البيان. 

   وقد حاول التقرير الذي أسفر عن إجتماع لجنة التحكيم التجارى الدولى بمؤتمر لندن للتحكيم التجارى الدولى لعام ۲۰۰۰ ، التوصل إلى تعريف للنظام العام بالإشارة إلى "مُخالفة المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة" ، إلا أن دراسة القوانين الوطنية تكشف عن أن الغالبية العظمى منها تُحيل إلى النظام العام الوطنى والآداب ، بينما يُحيل بعضها إلى النظام العام الدولى " ، كما أن البعض منها يُميز بين النظام العام المنطبق على المعاملات المحلية، بينما يُميز البعض الآخر بين النظام العام المنطبق على المعاملات الدولية .

(ج) في القضاء المقارن : 

  قديماً، وصف أحد القضاة الإنجليز . Burrough j في عام 1428 النظام العام بأنه: "... جواد جامح، ومتى امتطيته، فإنك لاتدرى إلى أين سيحْمِلُك، ربما يبتعد بك عن الطريق الصحيح، وقد لايخطأ طريقه أبداً، ولكنهُ في مَوَاضِعَ أُخرى قد يُسقطك ، في حين قال قاضي إنجليزى آخر (Lord Denning) رداً على مُلاحظات سلفه الجليل بأنه: "مع وجود رَجُل جيد في المكان المناسب { مُمتطياً صهْوَةً جَوَاد مُسْرَج .... يُمكن السيطرة على الجواد الجامح . 

   وإستكمالاً لذلك التعبير المجازى الذى إستخدمه القاضي الإنجليزى Burrough، رأى بعض الفقه أن: "المروج الخضراء الواسعة تبدو مُغرية للجواد الجامح للعدو فيها بوجــه خــاص في فرنسا، وعلى نحو أقل إغراء وجاذبية في المناطق الجبلية بسويسرا ".

   كما وصف مجلس اللوردات الإنجليزى فى عام ١٨٥٣ النظام العام بأنه: "ذلك المبدأ القانوني الذي يتعلق بعدم إمكانية القيام بتصرف يُضر بالصالح العام، أو يكون ضد المصلحة العامة كما عرفته المحكمة العليا البلجيكية بقولها : يرتبط بالنظام العام ويُشكل جزء منه أى تشريع يهتم بالمصالح الأساسية للدولة أو الشعب على نطاق واسع أو أى تشريع يُحدد، في قانون خاص، المتطلبات القانونية الأساسية التى يقوم عليها النظام الإقتصادى أو الأخلاقي للمجتمع. 

   كما حاولت بعض المحاكم حديثاً وضع تعريف شامل لمفهوم النظام العام، ومنها على سبيل المثال، محكمة إستئناف القاهرة حين أشارت إلى أن النظام العام: يشمل القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد سواء من الناحية السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية التي تتعلق بالوضع الطبيعى المادى والمعنوى لمجتمع منظم وتعلو فيه مصلحة الأفراد».

   وغنى عن البيان أن المبادئ الجوهرية للنظام العام تتضمن التزامات موضوعية وأُخرى إجرائية، وعلى سبيل المثال، تُعتبر مُتطلبات قواعد المحاكمة العادلة فى معظم النظم القانونية التي تُطبق القانون المدنى جُزءاً من النظام العام" في حين أنها لا تعتبر كذلك فى النظام القانوني الأمريكي، إلا أنها ترد في العديد من النصوص التشريعية المتعلقة بإتباع قواعد الإجراءات القانونية السليمة 

   ووفقاً لإتفاقية نيويورك، تندرج مُخالفة النظام العام، وعدم إحترام قواعد المحاكمة العادلة ضمن أسباب رفض الاعتراف بأحكام التحكيم وتنفيذها ، إلا أنه إتضح أن التعريف المقبول للنظام العام على الصعيد الدولى، هو ذلك المستمد من المعايير الإقتصادية والقانونية والأخلاقية والسياسية والإجتماعية الأساسية لكُل دولة أو المجتمع المتخطى للحدود الوطنية.

  على الرغم من أن الخط الفاصل بين النظام العام الموضوعى والنظام العام الإجرائي ما يكون غامضاً، إلا أنه مع ذلك يتعين توضيح الإختلاف بينهما. 

   ففي لغة التحكيم، يختص النظام العام الموضوعى بالوقائع الخاصة بحكم التحكيم، بينما يتعلق النظام العام الإجرائي بكيفية توصل هيئة التحكيم إلى هذا الحكم؟ ، وهذا يعنى من الناحية العملية أن المحاكم المختصة بتنفيذ أو إبطال حكم التحكيم، يُمكنها أن تواجه مسألة النظام العـــام الموضوعي إذا ماعرض عليها - على سبيل المثال - حكماً تحكيمياً يتضمن تعويضات تأديبية على نحو يخالف النظام العام الوطنى .

  وعلى الجانب الآخر، يُمكن للمحكمة أن تواجه مسألة النظام العام الإجرائي، إذا ما نازع المدعى عليه فى أن حكم التحكيم الصادر لصالح المدعى كان قد إستند بشكل أساسي على دليل تم تقديمه بعد إنتهاء جلسات التحكيم دون أن تتم دعوة المدعى عليه للرد على هذا الدليل ففي هذه الحالة، يُمكن مُطالبة المحكمة بفحص ومُراجعة وقائع الدعوى بشكل عرضي، وبذلك يمكنها أن تُجرى فحصاً لمسألة النظام العام إستناداً إلى هذه المخالفة الإجرائية .

التمييز بين مفهوم النظام العام الوطني والنظام العام الدولى: 

   يعتبر النظام العام في إطار القانون الدولى الخاص، وباعتباره يخضع لتفسير كل من السلطتين التشريعية والقضائية لكل دولة، صمام الأمان بحيث يسمح للمحاكم الوطنية في الدول المختلفة بعدم تطبيق نصوص القانون الأجنبى الواجب التطبيق وفقاً لقواعد تنازع القوانين الخاصة بها ، لمخالفة مضمون نصوص هذا القانون للمبادىء المعمول بها على الصعيد العالمي، أو للأسس الجوهرية للنظم السياسية والإجتماعية لدولة ما ، فيكون رد فعل هذه المحاكم متمثلاً في رفضها  تطبيق هذا القانون وإستبداله بقانون القاضي .

   وكما أشارت محكمة النقض الفرنسية فى حكمها الشهير الصادر فى قضية Lautour  إلى أن : " مبادئ العدالة العالمية تُعتبر من وجهة النظر الفرنسية ذات قيمة دولية مطلقة، وبالتالي يمكن للنظام العام - وفقاً لمفهوم القانون الدولى الخاص - أن يكون سلاحاً يُمكن الدولة من مُمارسة دورها الطبيعى على صعيد العلاقات الدولية باعتبارها الوصى على النظام العام الوطنى، ومن يلتزمون به على الصعيد الداخلى.

   أما النظام العام الدولى، فهو ذو طبيعة مُختلفة، ويُقصد به النظام العام الذي تطبقه محاكم الدولة على أحكام التحكيم الأجنبية وليست الوطنية ويجب أن يُفهم في حدود أضيق من النظام العام الوطنى، وبالتالي فليست كل قاعدة فى القانون تنتمى إلى النظام العام الوطنى، تُعد بالضرورة جزءاً من النظام العام الدولى ، فهو وإن كان من صُنع الدولة، إلا أنه يتألف من القواعــــد المذكورة في الإتفاقيات الدولية النافذة التي صدقت عليها، وبالتالي فلايستطيع الأطراف الإنتقاص منها باعتبارها جزءاً من النظام العام الدولى لتلك الدولة.

   ولذلك، يُمكن رفض تنفيذ حكم تحكيم إذا كان مُخالفاً للنظام العام الدولى، إستناداً لنص المادة الخامسة (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك، وهذا ما أكدته أيضاً مؤسسة القانون الدولى من أنـــه " لا ينبغي على المحكم مهما كانت الظروف تجاهل مبادىء النظام العام الدولى التي يوجد عليها إجماع واسع من المجتمع الدولى» ، إلا أن هذا لا يعني أن المحكم الدولي يحمى النظــام العـــام الوطنى أو القيم والمبادىء ،الوطنية لصعوبة إرساء وتحديد هذه المبادىء ، ومع ذلك فإنه لا يمكن إنكار بعضها مثل إدانة الفساد وتعاطى المخدرات والتمييز العنصرى.

  ويعتبر نطاق النظام العام محدود نسبياً، بالنظر إلى السمات الأساسية التى تميز التقاليد والأعراف التي تُشكل النظام العام، وفضلاً عن ذلك، تعتبر مُعظم النظم القانونية أن نطاق النظام العام يجب أن يكون مُقيداً بشكل أكبر على المستوى الدولى، وعلى ذلك، كان من اللازم التمييز بين النظام العام الوطنى والنظام العام الدولى.

 وعلى الرغم من ذلك، فإن الإعتراف بالتفرقة بين النظام العام المحلى والنظام العام الدولى لا يتم بشكل صريح فى كافة الأحكام القضائية، ولذلك، ينبغى تفسير النظام العام باعتباره سبباً لرفض التنفيذ طبقاً للمادة الخامسة (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك، تفسيراً صارماً بحيث لا يشمل كافة القواعد الآمرة فى قانون دولة التنفيذ.

  يرتب رتبط مفهوم النظام العام بشكل وثيق بمفهوم ،آخر هو مفهوم "قواعد التطبيق الفورى “Lois De Police ، وهو ما يطرح التساؤل عما إذا كان كلا المفهومين يُعبران عن مصطلحين متطابقين أم أنهما يختلفان عن بعضهما إختلافاً كبيراً، ويُعتبر مفهوم "قواعد التطبيق الفورى“: محورياً في جميع نظم القانون الدولى الخاص .

   ولذلك، فعندما يتم إعتبار إحدى القواعد من "قواعد التطبيق الفورى»، فإن ذلك يعنى أن المحاكم سوف تتحايل على الطريقة التقليدية لإعمال قاعدة التنازع لتحديد القانون واجب التطبيق ، وعلى ذلك، فإن قواعد التطبيق الفورى تُحدد مجال التطبيق الخاص بها مما يؤدى إلى إقبال المحاكم على تطبيقها "بصفة فورية وعاجلة دون الإشارة المسبقة لقواعد تنازع القوانين، وهو ما يُعلل تسميتها بقواعد التطبيق الفورى.

   ويوجد تمييز واضح في إطار القانون الدولي الخاص بين الدور الذي يلعبه كل من النظام العام أو بطريقة أكثر تحديداً النظام العام (الدولى وقواعد التطبيق الفورى، إذ يتمثل أثر النظام العام في منع تطبيق القانون الأجنبي الذي قد يتم تطبيقه بشكل مُعتاد نتيجة لتطبيق قواعد تنازع القوانين، نظراً لأن هذا القانون يتعارض مع المبادىء الأساسية للدولة المعنية، بينما تسرى قواعد التطبيـــق الفورى – على النقيض من ذلك - قبل تحديد قانون آخر واجب التطبيق بموجب قاعدة تنازع القوانين " ، وبمعنى آخر، تُشكل قواعد التطبيق الفورى في القانون الدولي الخاص، طريقةً بديلة - يُطلق عليها الطريقة الأحادية الجانب أو المفردة - للطريقة التقليدية لإختيار القانون الواجب التطبيق، فى حالة تنازع القوانين .

   ويُمكن أن تلعب قواعد التطبيق الفورى دوراً مؤثراً فى الرقابة على أحكام التحكيم الأجنبية، على أساس تطبيق مبدأ النظام العام، وبعبارة أخرى، يُمكن النظر إلى قواعد التطبيق الفوري على أنها تشكل جزءاً من النظام العام الدولى، وهذا هو الوضع فى النظام القانوني الألماني، حيث أن البادي أنه ينحو تجاه تضمين قواعد التطبيق الفورى فى النظام العام " ، وعلى نفس النهج، تشير المادة ٥٩٥ (٦) من قانون الإجراءات المدنية النمساوى لقواعد تُعرف بأنها قواعد تطبيـق فوری .

كما يرى البعض فى فرنسا أن: "مُخالفة إحدى قواعد التطبيق الفورى تعد سبباً لبطلان حكم التحكيم بالنظر إلى مضمونه ؛ وهذا ما يجعل من الممكن دمج هذه الآلية (قواعد التطبيق الفورى) في المراجعة القضائية لبيان مدى مُطابقة حكم التحكيم للنظام العام .

  بينما يذهب البعض الآخر – على خلاف ذلك إلى إستبعاد تضمين قواعد التطبيق الفورى في النظام العام، تأسيساً على أن مُخالفة إحدى هذه القواعد سوف يؤدى فقط إلى الخضوع لجزاء في ظل الدفع بالنظام العام، إذا أمكن إثبات أن النص المعنى يتضمن مبادىء أساسية يُمكن إعتبارها تنتمى إلى النظام العام .

 

مفهوم النظام العام المتخطى للحدود الوطنية

  من المستقر عليه أنه لا يوجد تعريف مُعترف به للنظام العام المتخطى للحدود الوطنية، حيث لم يتفق أحد على كينونة هذا النظام، والدور الذى ينبغى أن يضطلع به فى التحكيم ، وعندما إستخدم Pierre Lalive هذا التعبير لأول مرة إستشعر أنه مُضطر إلى إضافة مايراه مُعادلاً للنظام العام المتخطى للحدود الوطنية، ألا وهو تعبير النظام العام الدولى الحقيقى ، بمعنى نظام عام ليس على نفس نسق النظام العام الدولى التقليدى الخالص، وإنما نظام عام دولى حقيقى من خلال مصدره ومحتوياته التي توضح  ذلك. 

  إلا أن البروفيسور Martin Hunter إقترح بدلاً من تعبير "النظام العام المتخطى للحدود الوطنية Transnational Public Policy إطلاق تعبير «فوقومی“ - Supra National ، وإذا كان النظام العام يتغير بتغير إيمان ومُعتقدات الشعوب، فقد أدى ذلك ب Alan Redfern للقول بأن تعبير النظام العام الدولى الحقيقى الذى أطلقه Pierre Lalive "ربما يكون قد أقيم على رمال أقل تحركاً». 

  ويُعتبر النظام العام المتخطى للحدود الوطنية، في الواقع، أداةً ضرورية لاغنى عنها في التحكيم الدولي، لأن المحكم الدولى - خلافاً للقاضى - ليس عضواً في دولة معينة، حتى في تلك الدولة التي يتخذ مجلساً لإجراءات التحكيم، كما أنه ليس من السهل ولا من المقبول بالنسبة إليه أن يعتمد على النظام العام لدولة مُعينة، بل يحتاج أن يكون لديه النظام العام الخاص به ، إلا أنه مع ذلك لا يجوز له فى أى حالة الإخلال بمبادىء النظام العام الدولى التي أجمعت عليها غالبيـــة المجتمع الدولى

    ويؤدى النظام العام المتخطى للحدود الوطنية ذات الوظيفة التي يؤديها النظام العام للدولة، أو النظام العام الدولى الحقيقى : فهو يلغى الإتفاقات أو القواعد أو القرارات التي يكون من شأنها أن تتعارض مع قيم أو مصالح جوهرية معينة، وهو بهذه المثابة ليس جزءاً من نظام قانونى محدد، يتعين على المحكم الدولى التمسك به، ولكنه يُعتبر وسيلة تسمح له بتجريد عقد مــا مــن قوتــه الإلزامية، أو إستبعاد القانون الذى إختاره الأطراف من التطبيق، إذا ماجاء منافياً للقيم الجوهرية، وفقاً لرأى يشترك فيه مُجتمع الرجال، ويؤيده المشرعين المحليين أو الدوليين. .

  وبهذا المفهوم، فإن قواعد النظام العام المتخطى للحدود الوطنية ليست قواعد جامدة صماء، بل تتخذ في معظم الأحوال شكل مبادىء أو مُجرد سياسات ،ولذلك، فإن دور المحكم غالباً مايكون دقيقاً في رسم الخط الفاصل الذى يسمح من خلاله بتدخل النظام العام المتخطى للحدود الوطنية في التأثير على حكم التحكيم المزمع إصداره . 

  وفى هذا السياق، يرى Jacob Dolinger، أن النظام العام المتخطى للحدود الوطنية هـو أحد النظم التي تضع مبادىء عالمية في المجالات المختلفة للقانون الدولى والعلاقات الدولية لخدمة المصالح العليا للمجتمع الدولي والمصالح العامة للإنسانية بأسرها، وهى المصالح التي تكون في مرتبة أعلى من مصالح الدول، كُل على حدة، أو حتى التي تتعارض مع تلك المصالح الشخصية للدول .

   وتتجلى الأهمية العظمى لمفهوم النظام العام المتخطى للحدود الوطنية، حين يواجه الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه خطر البطلان أمام أى محكمة وطنية للدولة، حيث أن هذا المفهوم للنظام العام يُركز على ضرورة إحالة حكم التحكيم لأحد الضوابط التي تقوم على مفاهيم هي في الأصل ذات طابع دولى .

  ويحذر Alan Redfern من أن "شيطان النظام العام والقانون الإلزامي يكمنان في تفاصيله ... وأن الإشارة العامة من جانب المحكمين إلى النظام العام المتخطى للحدود الوطنية، دون الإشارة إلى قواعد وطنية مُحددة والإختيار المقبول للإطار القانونى في إطار تطبيقها، تحمل مخاطرة في أنها تبدو طريقاً بديلاً سهلاً بعيداً عن التحليل الدقيق“ .

   وعلى الرغم من ذلك، فإن كُل من مفهومى النظام العام المتخطى للحدود الوطنية والنظــــام العام الدولى الحقيقى، يتسمان بملامح مُشتركة حيث أنهما يتفقان حول فكرة إحتواء النظام العام على المبادىء المعترف بها بصفة عامة من جانب جميع الأمم .

   وتشير المحاكم أحياناً إلى هذا النظام العام الدولى الحقيقى، وعلى سبيل المثال، فقد وضعت المحكمة الفيدرالية السويسرية فى الإعتبار المفهوم العالمى للنظام العام والذي بموجبه سيكون حكم التحكيم متعارضاً مع النظام العام، إذا كان يُخالف المبادىء الأخلاقية أو القانونية الأساسية المعترف بها في جميع الدول المتحضرة.

  وفي رأينا، أن هذا السجال فى الآراء يُعد نظرياً إلى حد ما، إذ أنه لا يمكن في الواقع، لأى شخص التشكيك فى حقيقة أن أى دولة سوف تعترف بحكم التحكيم الأجنبى و/أو تنفذه إذا لم يكن يتعارض مع النظام العام الدولى لهذه الدولة، أو على الأقل – ومن منظور محدود – مع النظام العام الخاص بها، وهذا لا يعنى أن المبادىء المتفق عليها على نطاق واسع لايمكن أن توضع في الإعتبار من جانب محاكم تلك الدولة، بل على العكس فإن المحكمة المختصة في أي دولة سوف تعطى الفاعلية والنفاذ لأى مبدأ قد يُشكل جزءاً مما يُطلق عليه النظام العام المتخطى للحدود الوطنية، عندما يُمكن إعتبار هذا المبدأ جُزءاً من النظام العام الدولى لهذه الدولة.

  ولذلك، يُمكن تعريف النظام العام المتخطى للحدود الوطنية، بأنه مجموعة المبادىء القانونية التي لا تنتمى إلى قانون دولة معينة، والتي تتضمن قواعد أساسية مُستمدة من القانون الطبيعي ومبادىء العدالة والأخلاق المقبولة من الأمم المتحضرة، والتي قد يعتمدُ عليها المحكم الدولى كعائق التنفيذ عقد تجارى دولى - أو بصورة أقل مُباشرة كعقبة ضد تطبيق قانون الدولة الواجب التطبيق عادةً على مثل هذا العقد.

 

 

توصيات مؤسسة القانون الدولى

  تعد التوصيات الصادرة في عام ۲۰۰۲ عن مؤسسة القانون الدولى ، بشأن: "النظام العام كمانع لتنفيذ أحكام التحكيم الدولية ، مُحاولة أخرى لتوضيح وتحديد إتجاه دولى عـــام بــشـأن تعريف ومفهوم النظام العام وتتبلور الفكرة الأساسية وراء هذه التوصيات في ضرورة حماية وتدعيم حكم التحكيم التجارى الدولى فى مرحلة الإعتراف به أو تنفيذه، فيما عدا تلك الحالات الإستثنائية التي يجىء فيها ذلك الحكم مُخالفاً للنظام العام الدولى .

   وتشير هذه التوصيات إلى النظام العام الدولى، حيث أوضحت معنى نظرياً مُجرداً لمفهوم النظام العام، وذلك حين أوردت في التوصية رقم ۱(ج) م أنه يُحدد: "مجموعة المبادئ والقواعد المعترف بها من جانب الدولة، والتي بحكم طبيعتها قد تمنع الإعتراف بحكم التحكيم الصادر في سياق التحكيم التجارى الدولى عندما يكون الإعتراف بهذا الحكم أو تنفيذه من شأنه أن يترتب عليه مخالفة تلك المبادىء أو القواعد، بسبب الإجراءات التي صدر هذا الحكم وفقاً لها النظام العام الدولى الإجرائي) أو مُحتوياته النظام العام الدولى الموضوعى. 

  ووفقاً للتوصية ۱ (د) : " يتضمن النظام العام الدولى لأى دولة (۱) المبادىء الأساسية المتعلقة بالعدالة أو الأخلاق التي تسعى الدولة لحمايتها، حتى وإن لم تكن معنية بذلك مباشرة ، (٢) القواعد التي ترمي إلى خدمة المصالح السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية الأساسية للدولة (وهى ما يُطلق عليها "قواعد التطبيق الفورى" أو "قواعد النظام العام") ، (۳) واجب الدولة في إحترام إلتزاماتها تجاه الدول الأخرى أو المنظمات الدولية .

  وفيما يتعلق بالمبادئ الأساسية، فقد أوضحت التوصيات أن المبادىء التي ينبغي على المحكمة أخذها في الإعتبار هي تلك: "التي تُعتبر أساسية فى إطار نظامها القانونى وليس في سياق القانون الذى يحكم العقد، أو قانون مكان تنفيذ العقد، أو قانون مقر التحكيم .

   وبشأن قواعد التطبيق الفورى، فقد نصت التوصيات على أنه يجب على المحكمة أن ترفض الإعتراف بحكم التحكيم أو ترفض تنفيذه فقط عندما يكون : (١) الموضوع محل النزاع يقع ضمن نطاق هذه القواعد ؛ (۲) الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه قد يؤثر سلباً، وبشكل واضح على المصالح السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية الأساسية للدولة، والتى تحميها هذه القواعد .

دور النظام العام في ضوء إتفاقية نيويورك 

   على الرغم من أن الإشارة إلى النظام العام قد جاءت صريحة في نص الفقرة الثانية من المادة الخامسة من إتفاقية نيويورك، على نحو ماجرت به عباراته من أنه : "يجوز ... رفض الإعتراف بحكم التحكيم ورفض تنفيذه إذا تبين للسُلطة المختصة فى الدولة التي يطلب فيها الإعتراف بحكـــم التحكيم وتنفيذه، أن: ….(ب) الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه يتعارض مع النظام العام لتلك الدولة» .

   إلا أن الإشارة إلى النظام العام قد وردت ضمناً في نصوص أخرى من الإتفاقية، وفي الواقع، فإن الإعتراف باتفاق التحكيم وفقاً للمادة (۲) من الإتفاقية، وكذلك الإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، وفقاً للشروط العديدة الواردة فى المادة (٥)(۱) من الإتفاقية يرتبط بمسألة النظام العام، وهو أمر لا يدعو للدهشة لأن مفهوم النظام العام يُعد واسع النطاق بحيث أنه يُشكل أساساً للكثير من المتطلبات الأساسية في التحكيم الدولى .

أولاً : النظام العام والمادة (۲) من إتفاقية نيويورك: 

   تنص المادة (۲) من الإتفاقية على الشروط التي ينبغى على محاكم الدول المتعاقدة بموجبها الإعتراف بإتفاق التحكيم، ويتمثل أحد هذه الشروط - على النحو الواردة بالفقرة (1) من هذه المادة – في أن يكون الإتفاق: "يتصل بموضوع يُمكن تسويته عن طريق التحكيم، ويُشار إلى هذا الشرط على أنه : ”شرط القابلية للتحكيم“.

   وبموجب الفقرة (۳) من هذه المادة تلتزم المحكمة في أية دولة مُتعاقدة: "عندما يُعرض عليها نزاع في مسألة أبرم الطرفان بشأنها إتفاقاً بالمعنى المستخدم في هذه المادة، أن تحيل الطرفين إلى التحكيم بناء على طلب أيهما، ما لم يتبين لها أن هذا الإتفاق لاغ وباطل أو غير منفذ أو غير قابل للتنفيذ، وبذلك تُعتبر أيضاً قابلية النزاع  للتحكيم شرطاً يجب أن يكون متوافراً أمام المحكمة حتى تكون ملزمة بإحالة النزاع  المعنى إلى التحكيم، حتى وإن لم يتم النص على ذلك صراحةً في المادة (۳) ۲.

   وفى الواقع، فإنه يُمكن إستخلاص هذا الشرط ضمنياً عند الإشارة في هذه الفقرة إلى أي إتفاق بالمعنى المستخدم في هذه المادة “ ؛ أى بمعنى أن تكون الخلافات محل هذا الإتفاق "تتصل بموضوع يمكن تسويته عن طريق التحكيم “، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يمكن إستنباط "شروط القابلية للتحكيم من كلمتى "لاغ وباطل الواردتين بعجز الفقرة (۳) من المادة (۲) من الإتفاقية .

   وبذلك يتضح أن القابلية للتحكيم ترتبط بالنظام العام، وأن النظام العام كما هو مذكور في المادة (۲) من الإتفاقية يُمكن أن يُشكل عائقا بموجب القانون الواجب التطبيق، أمام قابلية النزاع  للتحكيم. 

 وفقاً لهذا النص، يجوز رفض الإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه، إذا أثبت الطرف المطلوب التنفيذ ضده: أن طرفي الإتفاق المشار إليه في المادة الثانية كانا بمقتضى القانون المنطبق عليهما، في حالة من حالات إنعدام الأهلية، أو كان الإتفاق المذكور غير صحيح بمقتضى القانون الذي أخضع له الطرفان الإتفاق، أو إذا لم يكن هناك ما يُشير إلى ذلك، بمقتضى قانون البلد الذي صدر فيه " ويمكن قراءة شرط النظام العام من بين سطور شرط صحة إتفاق التحكيم.

  وفى بعض الحالات، يُمكن أيضاً قراءة النظام العام من بين سطور شرط الأهلية، وبصفة خاصة فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان يجوز للهيئات العامة إبرام اتفاقات تحكيم - من عدمه. وفي هذا السياق، يبدو أن هناك إجماع عام على أن الهيئات العامة فى النظام الدولى تمتلك القدرة على إبرام إتفاقيات تحكيم، وأن هذا المبدأ ينتمى إلى "النظام العام المتخطى الحدود الوطنية ، إلا أنه مع ذلك، توجد بعض العوامل التى يُمكن أن تصب في صالح إعتبار هذه المسألة أحد الموضوعات المتعلقة بالأهلية، إذ تتناول المادة (۲) من الإتفاقية الأوروبية بشأن التحكيم التجاري الدولي لعام ١٩٦١- في نسختها الفرنسية على سبيل المثال، هذا الموضوع تحت عنوان "الأهلية». 

  وعلى أي الأحوال، يُمكن القول بأن هناك إجماع دولى من حيث المبدأ ، علـى وجـود قاعدة موضوعية في القانون الدولي، أو فى أحد مبادئ النظام العام، أو في النظام العام المتخطى للحدود الوطنية تمنع أى هيئة عامة من الإحتجاج بقانون دولتها للإدعاء بأنها لا تستطيع إبرام إتفاق تحكيم دولى على الرغم من أنها قد وقعته بالفعل. 

- المادة ٥ (۱) (ب)

    يجوز رفض الإعتراف بحكم التحكيم وتنفيذه عندما يكون الطرف الذي يحتج ضده بالحكم لم يُخطر على الوجه الصحيح بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم أو كان لأي سبب آخر غير قادر على عرض قضيته “، و يُشير هذا النص إلى قواعد المحاكمة العادلة التى يتعين إتباعها، بما مؤداه أنه يجب أن يكون كل طرف قادراً على عرض قضيته بالكامل والإستجابة لجميع طلبات الحضور المرسلة على النحو السليم، وهذا المبدأ الأساسى المشار إليه هنا على أنه "مبدأ المحاكمة العادلة وإحترام حقوق الدفاع، يُجسد أبرز المفاهيم الأساسية للعدل الطبيعى والإجراءات القانونية السليمة، وهو مما يتصل أيضاً بالنظام العام . 

  ووفقاً لرأى البعض، فقد تقلصت إلى حد كبير القواعد القانونية الآمرة بشأن إجراءات التحكيم في قوانين التحكيم الحديثة بحيث تتوافر الفرصة للأطراف فى مُعاملتهم على قدم المساواة من قبل هيئة التحكيم، ويحصل كُل طرف على فرصة مُناسبة لعرض قضيته ؟ ، بحيث تؤثر هذه القواعد على إجراءات التحكيم الدولية عند تطبيق قانون التحكيم في مقر التحكيم، في حالة عدم إتفاق الأطراف على القانون الواجب التطبيق على الإجراءات كما قد تلعب هذه القواعد دوراً مؤثراً فيما يتعلق بأسباب بطلان حكم التحكيم في الدولة مقر التحكيم، أو فيما يتعلق بأسباب رفض الإعتراف بحكم التحكيم الأجنبى وتنفيذه فى الدولة التى يُسعى للتنفيذ فيها . 

- المادة ٥(۱) (د) 

تنص المادة (٥(۱) (د) على أنه يجوز رفض التنفيذ إذا أثبت الطرف المعارض للتنفيذ : " أن تشكيل هيئة التحكيم أو أن إجراءات التحكيم لم تكن وفقاً لإتفاق الطرفين أو لم تكن، في حالة عدم وجود مثل هذا الإتفاق، وفقاً لقانون البلد الذي جرى فيه التحكيم، وتبرز المادة ٥ (١) (د) الحقيقــــة البديهية المتمثلة فى أن إجراءات التحكيم، بما في ذلك تشكيل هيئة التحكيم، تُعد – في المقام الأول - نتاجاً لإتفاق الأطراف ، وأنه في حالة عدم وجود هذا الإتفاق فقط، سوف تتحدد ملامح هذه الإجراءات وفقاً للمتطلبات المنصوص عليها في قانون دولة التحكيم ".

وبالإضافة إلى ذلك، فإنه إذا كان النظام العام يُعتبر أحد أسباب رفض الإعتراف والتنفيذ في إتفاقية نيويورك، وهى التي تُشير على وجه التحديد إلى النظام العام لدولة التنفيذ " ، ومن ثم، يجوز حينئذ أن تُطبق المتطلبات الإجرائية الأساسية فى قانون هذه الدولة على إجراءات التحكيم الخاصة بالأطراف.

  كما يصعب على الصعيد الإجرائي، تصور أن أي مُخالفة تتعلق بالنظام العام تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها، لن تستوعب أياً من الحالات الواردة في الأسباب المذكورة في المادة ٥(١)(ب) و المادة ٥(١)(د) – بمعنى العدالة بين الطرفين والإلتزام بالإجراءات التي حددها الأطراف في الإتفاق المبرم بينهما، أو السارية بموجب قانون التحكيم المعنى.

ثالثاً: النظام العام والمادة ٥(۲) من الإتفاقية 

   تنص المادة ٥ (۲) على إثنين من الأسباب التي يجوز للمحكمة من تلقاء نفسها، الإستناد إليهما، في رفض الإعتراف بحكم التحكيم ورفض تنفيذه، وهما: عدم قابلية موضوع النزاع  للتحكيم، ومُخالفة النظام العام. 

- المادة ٥ (٢) (أ):

  بموجب المادة ٥ (٢) (أ) يجوز أيضاً لمحكمة التنفيذ رفض الإعتراف بحكم التحكيم ورفـــض تنفيذه إذا تبين لها أنه : "لا يُمكن تسوية موضوع النزاع  بالتحكيم طبقاً لقانون تلك الدولة»، وكما هو مذكور سلفاً فيما يتعلق بالمادة ۲ (۳)، فإن القابلية للتحكيم ترتبط بالنظام العام. 

- المادة ٥ (۲) (ب)

   تنص المادة ٥ (٢)(ب) على أنه يجوز أيضاً لمحكمة التنفيذ رفض الإعتراف بحكم التحكيم ورفض تنفيذه إذا تبين لها: "أن الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه يُخالف النظام العام لتلك الدولة، وبذلك تمنح المادة ٢/٥ (ب) للمحكمة سُلطة رفض تنفيذ حكم التحكيم لهذا السبب من تلقاء نفسها وبالطبع يُمكن أن تكون المسائل المرتبطة بالنظام العام الدولي الواقعة في نطاق هذا السبب إما موضوعية أو إجرائية.

نطاق المراجعة القضائية للنظام العام فى ضوء إتفاقية نيويورك

  يُعتبر تحديد دور ونطاق المراجعة القضائية لأحكام التحكيم لبيان توافقها مع النظام العام وفقاً لإتفاقية نيويورك من الأمور شديدة الصعوبة والأهمية فى آن واحد، إذ يُفيد تقصى موقف المحاكم الوطنية على إختلافها وتنوعها من تفسير مبدأ النظام العام فى تحديد معالم وإتجاهات هذا القضاء بشأن هذا المبدأ، وفى بيان ما إذا كان هناك موقف موحد ومتناغم فى تفسير نصوص الإتفاقية بالنسبة لهذا المبدأ، أم أن الأمر على خلاف ذلك، وأن هناك فرق وشيّع ومذاهب مختلفة في سياق هذا التفسير .

   كما جاء النص الإنجليزى للإتفاقية مُستخدماً فى الفقرتين (۱)، (۲) من المادة الخامسة، كلمة يجوز، مما يعني أ أن محكمة التنفيذ تملك السلطة التقديرية فى إصدار قرارها، وبالتالي، فإنها لاتكون ملزمة برفض الإعتراف بحكم التحكيم الأجنبى وتنفيذه، حتى وإن توافرت أحد الأسباب المشار إليها في تلك المادة، وهو مايتماشى مع الهدف الأساسى للإتفاقية وهو تيسير الإعتراف بأحكـام التحكيم الأجنبية وتنفيذها.

  وبالإضافة إلى ماتقدم، فلايجوز للمحكمة المختصة بمراجعة حكم التحكيم أن تعيد النظر في وقائع الدعوى ، وهذا الحظر مرده ببساطة أن الخطأ فى الوقائع أو القانون من جانب هيئة التحكيم لا يندرج ضمن أسباب رفض الإعتراف أو التنفيذ الواردة على سبيل الحصر، وبالتالى يجب النظر إلي هذا القيد : " فى ضوء ماهو مُقرر فى التحكيم التجارى الدولى من أنه ينبغى على المحكمة الوطنية ألا تتدخل فى جوهر عملية التحكيم ، وفضلاً عن ذلك، فإن إتاحة الفرصة لإعادة فحص النزاع السابق إحالته إلى التحكيم على أساس من المراجعة الموضوعية، قد يؤثر سلباً على الميزة التي تتمتع بها هذه الوسيلة من وسائل تسوية المنازعات.

  ولذلك فإننا سوف نفحص المدى الذى يُمكن أن تصل إليه المحاكم الوطنية في ممارسة مُراجعتها لبيان مدى إتفاق حكم التحكيم مع النظام العام (الفرع الأول)، ثم نلى ذلك، بتناول مسألة ما إذا كان يجوز الإعتراف بحكم التحكيم الذى يُخالف النظام العام أو تنفيذه جزئياً (الفرع الثاني).

نطاق المراجعة القضائية للنظام العام

   يُعتبر نطاق سُلطة المحاكم في رفض الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذ لمخالفته للنظام العام أمراً بالغ الصعوبة، وعلى الجانب الآخر، فإن دعم مفهوم النظام العام يُعد من أهم أولويات الدول وبالتالي، فإنه من غير المقبول أن يكون التحكيم وسيلة للتحايل على قواعد النظام العام.

   ومن الواضح أن المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم في دول القانون المدني، تقتصر فقط على مُخالفة قواعد النظام العام، ولا تنص قوانين التحكيم في هذه الدول صراحةً على إستبعاد المراجعة الموضوعية، باستثناء قانون التحكيم لمقاطعة كويبيك الكندية الذي ينص على ما يلي: "لاتستطيع المحكمة فحص الوقائع“.

 كما ينص القانون المصري الجديد لعام ۱۹۹٤ في المادة ٥٣ منه بشأن الأحوال التي تُقبل فيها دعوى بطلان حكم التحكيم على أنه : "(د) إذا إستبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذى إتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع. 

   وفي دول القانون العرفى توجد دائماً مُراجعة من جانب المحاكم للوقائع، على الرغم من أن هذه المراجعة آخذة في التراجع تدريجياً، إذ أنه وفقاً لقانون التحكيم الإنجليزي لعام ١٩٩٦، مازالت هناك أيضاً مُراجعة من جانب المحكمة لأي مسألة تتعلق بالقانون (الإنجليزي)، وفضلاً عن ذلك، فما تزال المحاكم فى بعض دول القانون العرفى التى يسرى بها النظام القديم تملك سلطة إصدار حكم بطلان حكم التحكيم بسبب الخطأ الظاهر" فى تطبيق القانون أو في الوقائع في حكم التحكيم ، كما يلجأ الأطراف إلى إستخدام هذا الإجراء أو إساءة إستخدامه .

  ولم يتطرق قانون التحكيم الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الموضوع، إلا أن المحاكم توافق على البطلان في حالة "الإهمال الظاهر للقانون ، وهو ما يؤدى إلى توسيع نطاق المراجعة بحيث لا تقتصر على فحص مُخالفة قواعد النظام العام، باعتبار أنه يصعب تحديد نطاق هذا السبب.

   ويُشير البعض ، إلى أنه من غير المتوقع أن يختفى هذا التباين الظاهر بين مفهوم التحكيم في دول القانون المدنى ودول القانون العرفى على الرغم من تقارب كلا المفهومين، كما يتضح من التطور الذي حدث بانجلترا منذ صدور قانون التحكيم لعام ۱۹۵۰ ، وحتى صدور قانون التحكيم لعام ۱۹۹٦ ، ومن خلال تبنى دول القانون العرفى كذلك للقانون النموذجي. 

   وعلى هذا الأساس، يتضح أنه هناك إتجاهين للمراجعة القضائية للنظام العام في الأنظمـة القانونية المقارنة، الأول: هو المراجعة على نطاق واسع لحكم التحكيم، والثاني: هو المراجعة المحدودة لهذا الحكم، وبين هذين الإتجاهين، تُوجد هناك آراء مؤيدة ومعارضة لكل منهما، ولذلك سوف نناقش كلا الاتجاهين في مُحاولة لعرض الحلول، ثم تتبع ذلك بتقييم هذين الإتجاهين والبحث عن موقف وسط بينهما لنطاق هذه المراجعة.

   وهذا هو ما إتجهت إليه محكمة النقض الفرنسية في قضية République Arab d'Egypt v. Southern Pacific Properties حيث قررت أنه : " إذا كان دور محكمة الإستئناف الموضح فى المادتين ۱۵۰۲ و ۱۵۰٤ من قانون الإجراءات المدنية الجديد، يقتصر على فحص الأسباب الواردة فى هذين النصين ومن ثم فلا توجد قيود على سُلطة المحكمة في فحص المسائل القانونية والوقائع، وجميع الظروف المرتبطة بالأسباب التي تم الإستناد عليها". 

   وقد لاحظ البعض أن مؤيدى المراجعة القضائية المحدودة يَقْبَلُونَ المراجعة القضائية على نطاق واسع التي أيدتها محكمة النقض الفرنسية، عندما يكون إختصاص المحكمين محل خلاف ، وأن هذه المخالفة لحظر مُراجعة الوقائع قد تكون مبررة بضرورة إحترام رغبة الطرفين، ووفقاً لذلك، فلا يُمكن السماح بتجاهل رغبة الدولة فى ضرورة إحترام مبادىء وقواعد النظام العام الخاص بها في أراضيها. كما ذهبت محكمة إستئناف باريس فى حكمها الصادر في قضية European Gas Turbine -Westman ، فى ذات الإتجاه حيث قررت أن مُراجعتها يجب أن تتضمن: "في الواقع والقانون، جميع العناصر التي تتيح لها فُرصة التحقق من تطبيق قاعدة النظام العام من عــــدم تطبيقها، وذلك ضمن أشياء أخرى تقوم المحكمة بمراجعتها، فإذا جاءت النتيجة إيجابية يتم الإنتقال إلى فحص صحة الإتفاق.

  وإعتبر Jean-Baptiste Racine أن المراجعة القضائية لأحكام التحكيم يجب أن تكون شاملة نظراً للنطاق الواسع للقابلية للتحكيم وبمعنى آخر فإن مُراجعة النظام العام تُعتبر قــــد إنتقلت من إتفاق التحكيم إلى حكم التحكيم " "، وأنه يجب إقرار نفس المنهج بالنسبة للمراجعة القضائية على أسباب النظام العام .

  كما شایع هذا الإتجاه نحو المراجعة القضائية على نطاق واسع، بعضاً من الفقه الأمريكي، حيث رأى Thomas E. Carbonneau أن علاج المفهوم الواسع والممتد للقابلية للتحكيم يتطلب شكلاً من أشكال المراجعة للوقائع“ ، بينما أكد William W. Park على أن : "تكلفة المراجعة القضائية لمحتويات أحكام التحكيم على الأقل لمعرفة مدى توافقها مع النظام العام، هي نفس تكلفة إحالة النزاع للتحكيم.  

   كما لقيت المراجعة القضائية على نطاق واسع لأحكام التحكيم فيما يتعلق بالنظام العام، قبولاً من جانب المحكمة الإبتدائية في لاهاى فى حكمها الصادر فى ٢٧ مايو ٢٠٠٤، ومن محكمة إستئناف لاهاي في حكمها الصادر فى ٢٤ مارس ۲۰۰۵ ، فى قضية MDI v. Van.Raalte.

   وتوجز وقائع هذه القضية، في أنه بتاريخ ٧ سبتمبر ۱۹۹۰ أبرمت شركة Marketing (Displays International Inc. (MDI الأمريكية، ومالكها Sarkisian. إتفاقاً مع شركة VR Van Raalte Reclame B.Van Raate الهولندية، لإستخدام براءات الإختراع والعلامات التجارية والأسماء التجارية والمعرفة الفنية، وقد حصلت Van Raalte بموجب هذا الإتفاق علي تصريح حصري يتضمن تصنيع وبيع لوحات MDI الإعلانية السريعة التغيير المصنوعة من الألومنيوم في دول إتحاد Benelux . ، وإذ نشأ النزاع بين الأطراف، قامت MDI في أبريل ۱۹۹۸ بإنهاء الإتفاق، ثم بدأت في إتخاذ إجراءات التحكيم أمام الإتحاد الأمريكي للتحكيم إعمالاً لشرط التحكيم الوارد به حيث شاركت Van Raalte فقط في المراحل الأولية من الدعوي - والتي إنتهت بصدور ثلاثة أحكام ضدها .

  وعندما حاولت MDI تنفيذ الأحكام الأمريكية ضد الشركة الهولندية في لاهاي، رفض رئيس محكمة لاهاي الإبتدائية طلب MDI مُقرراً أن تنفيذ هذه الأحكام يُعد مخالفاً للنظـــام العـــام الهولندي، وتعللت المحكمة فى ذلك بأن الإتفاق جاء مُخالفاً للمادة ۸۱(۱) من المعاهدة التي تنشئ الإتحاد الأوروبي ”، والتي تحظر كافة الإتفاقات التي تُقيد أو تضُر بالمنافسة داخل السوق المشتركة لأنها تنشئ حدوداً إقليمية في ظل وجود تبادل مُتواز للمعلومات، على غرار إتفاقات ترخيص أخرى مشابة مرخص بها في دول أخري.

 

   وذكرت المحكمة أن هذا الإتفاق لايُستثنى من هذا الحظر إعمالاً للإعفاء التام الوارد في اللائحة رقم ٩٦/٢٤٠ ، حيث أن هذه اللائحة قد استبعدت تطبيق الإعفاء عندما يُلزم الإتفاق صاحب الترخيص بالتنازل جزئياً أو كلياً عن حقوق مانح الترخيص لصالح التطوير أو تطبيقات حديثة في تكنولوجيا الترخيص، وقد وجدت المحكمة أن المادة (۳) من إتفاق السرية وعدم الإفشاء - التي نصت علي أن أية تحسينات ينبغي الكشف عنها في الحال وتصبح مملوكة لـ MDI - كانت تتضمن ذلك. 

    وأضافت المحكمة أخيراً أن ذلك الجزء من الإتفاق الذي جاء مُخالفاً للمادة ۸۱(۱) من معاهدة الإتحاد الأوروبي يؤدى إلى بطلان الإتفاق كُله طالما أنه يُشكل جوهر الإتفاق، كما أنه لا يُمكن أن تظل بقية الإتفاق بدونه وخلصت المحكمة من ذلك إلى أن الإعتراف بأحكام التحكيم الأمريكية وتنفيذها سوف يُخالف النظام العام الهولندي، ولذلك ينبغي رفضه في ظل المادة الخامسة (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك ،۱۹۵۸ ، وقد أيدت محكمة الإستئناف هذا الحكم مقررةً أن الإعتراف بأحكام التحكيم الثلاثة ،وتنفيذها من شأنه أن يكون على خلاف النظام العام بالمعنى المقصود فى المادة الخامسة (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك.

   وفى هولندا، إعتنقت المحكمة العليا في مستهل حكمها الصادر بتاريخ ۷ نوفمبر ١٩٧٥ إتجاهاً أكثر تقييداً، عندما قررت أن إصدار تفسير مُختلف لإتفاق التحكيم يُخالف التفسير الذي أوضحه المحكمون للإنفاق، يؤدى إلى القول بأن محكمة الإستئناف قد تجاوزت إختصاصها بشأن التنفيذ، بيد أن المحكمة العليا عدلت في سياق حكمها عن هذا الرأى سريعاً، وعادت إلى توسيع نطاق الرقابة القضائية، فلم تستبعد تماماً إمكانية إجراء نوع من المراجعة للحكم، بل على العكس أجازتها بالقول أنه : "قد يكون ذلك مُختلفاً إذا وجد قاضى التنفيذ أنه عند تحديد الوقائع التي إستند عليها الحكم، أن المحكمون قد تصرفوا بطريقة تنم عن إهمال، ولهذا السبب سيكون تنفيذ حكـــم التحكيم مُخالفاً للنظام العام للدولة التي يطلب فيها التنفيذ .

  وقد رفضت المحاكم الأمريكية - في غالبيتها - المحاولات التي بذلت المعارضة التنفيذ طبقاً لنص المادة الخامسة (٢) (ب) من الإتفاقية، حيث إستلزمت هذه الأحكام ضرورة أن يُخالف حكم التحكيم : " المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة ، وتستند هذه الأحكام في الواقع على أساس قوى، هو أن الأطراف الذين يسعون إلى مُقاومة التنفيذ، ينبغى عليهم أن يُقدموا الدليل على قيام عقبة قانونية واضحة تحول دون التنفيذ.

   وتعتبر قضية Parsons&Whittemore Overseas Co., Inc. vSociété General De L'industrie Du Papier (RAKTA) ،إحدى القضايا البارزة المتعلقة بالنظام العام الأمريكي، حيث قررت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية، أنه يجب تفسير الدفع بالنظام العام بشكل محدود ، خشية أن يُصبح "ثغرة رئيسية للتهرب من آلية إتفاقيـــة نيويورك للتنفيذ ، وفى سبيل ذلك ميزت المحكمة بين النظام العام الوطنى والنظام العام الدولى، وإرتأت أن المادة الخامسة (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك: "لا تعنى تكريس تقلبات السياسات الدولية تحت عنوان "النظام العام ".

 وبالإشارة إلى "الإنحياز العام للتنفيذ فى الإتفاقية» ، ومع مُلاحظة أن “التوسع في تفسير الدفع سوف يُفسد الجهود الأساسية للإتفاقية الرامية إلى إزالة العقبات الحالية التى تحول دون التنفيذ » ، قررت المحكمة أن الإعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها ، يجب رفضه إستناداً إلى النظام العام فقط، عندما يُخالف التنفيذ المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة في دولة التنفيذ»، لأن تفسير الدفع بالنظام العام باعتباره يحمى المصالح السياسية الوطنية سوف يُقوض من قيمة إتفاقية نيويورك ، وخلصت إلى رفض كافة دفوع Parsons ، وتأييد حكم التحكيم.

   وقد تكرر هذا الرأى بشكل واضح، في قضية National Oil Corp. . . . Libyan Sun Oil Company ، والتي صدر فيها حكم تحكيم فى ظل قواعد غرفة التجارة الدولية بباريس، لصالح مؤسسة حكومية مملوكة بالكامل للحكومة الليبية وهى شركة البترول الوطنية) ضد شريكتها الأمريكية (وهى شركة Sun الأمريكية)، حيث رفضت المحكمة المحلية بولاية Delaware الأمريكية الدفع بالنظام العام المبدى من شركة البترول الأمريكية التي تخلت عـــــن تنفيذ عقد للتنقيب عن البترول وإستخراجه فى ليبيا فى إمتثال مزعوم للعقوبات الأمريكية المفروضة على ليبيا، والتي حظرت إستخدام جوازات سفر أمريكية في السفر إلى ليبيا وقيدت من واردات البترول وصادراته بين كلا الدولتين.

  ومثلما كان الحال في قضية Parsons ، قررت هيئة التحكيم أن هذه الظروف لاتشكل قـوة قاهرة، وتبعاً لذلك رفضت المحكمة الأمريكية الطعن المقام من الشركة الأمريكية إستناداً إلى السياسة الأمريكية المضادة للإرهاب، مُقررةً أن الولايات المتحدة لاتزال تعترف بحكومة ليبيا، ولم تعلن عليها الحرب وأعطتها الإذن لإقامة دعوى لتأكيد حكم التحكيم، وأكدت المحكمة على أن "تفسير الدفع بالنظام العام، باعتباره وسيلة صارمة لحماية المصالح السياسية الوطنية سوف يقوض بشكل خطير مزايـــا إتفاقية نيويورك، وهذا النص لم يكن الهدف من وراءه تكريس تقلبات السياسة الدولية، تحت عنوان النظام العام“، وأن : "النظام العام والسياسة الأجنبية ليسا مترادفين».

  وفى ذات الإتجاه، وفي قضية 3035MGM Productions Group Inc. v. Aeroflot Russian Airlines ، وعلى الرغم من إتفاقها مع هيئة التحكيم في أن عقد الإستشارة المبرم مع Aeroflot لايُخالف قواعد الحظر الإقتصادى الأمريكي المفروض على الصفقات التي تكون إيران طرفاً فيها .. قررت الدائرة الثانية بمحكمة الإستئناف الأمريكية بأنها سوف تنفذ حكم التحكيم حتي  إذا كان مُخالفاً لقواعد الحظر الإقتصادى الأمريكي المفروضة على الصفقات التي تكون إيران طرفاً فيها. 

   كما أوضحت المحكمة أنه حتى إذا قامت بمراجعة النتائج التي توصلت إليها هيئة التحكيم، وهو مالا ترغب فى القيام به، فإنه من غير المؤكد أن العقد قد جاء مُخالفاً للحظر الإقتصادي، وواصلت القول بأنه حتى مع قيام هذا الإدعاء فإن: "Aeroflot لم تقنع المحكمة بأن الدفع بالنظام العام يُدعم قضيتها، ولذلك رفضت المحكمة هذا الدفع. 

   وبالإشارة إلى معيار Parsons أكدت المحكمة الإستئنافية على أن: "حجج النظام العام - مثل تلك المقدمة فى هذه القضية ينبغى قبولها بشيء من الحذر، حتى لا نعوق تنفيذ أحكام التحكيم الأمريكية بواسطة محاكم الدول الأخرى، واستطردت قائلةً بأنها: "لم تقتنع .. بأن الإتفاق يُخالف المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة في دولتنا.

  إلا أن إحالة المحكمة فى قضية Aeroflot للمعيار الذى إتخذته نظيرتها في قضية Parsons وهو "المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة تُعتبر غير مقبولة على الإطلاق، ذلك أنه ووفقاً لما جاء بتقرير مؤسسة القانون الدولى، فإن هناك إختلاف جوهرى بين النظام العام في شكل: "المـبداً الجوهرى الذى يتعلق بالعدالة أو الأخلاق الذى ترغب الدولة فى حمايته، حتى عندما لاتكون معنية بشكل مباشر، من ناحية والقواعد التي تهدف إلى خدمة المصالح السياسية والإجتماعية والإقتصادية الجوهرية فى الدولة، أو قواعد التطبيق الضرورى“، أو قواعد النظام العام، مــن ناحية أخرى.

   وفي حالة وجود قاعدة من هذه الفئة الأخيرة مثل العقوبات المفروضة على إيران، فإن الإحالة الغامضة إلى: " المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة لا توفر أى إرشادات، فضلاً عما تُجسده هذه القاعدة من سيادة حكم خاص عن المعاملات التجارية صاغه صانعى السياسة الداخلية بالدولة من خلال جعل الدولة معنية بشكل مُباشر ! ، كما أن القضايا اللاحقة التي سارت على نهج قضية Parsons لم تُقدم هي الأخرى أى مُساعدة حقيقية في تبيان معيار واضح ومحدد للنظام العام في مواجهة النصوص التشريعية الصريحة التى تتعلق بأمور تُمس الدولة المشرعة بشكل مباشر. 

   وخلافاً للحكم السابق الصادر في قضية Aeroflot، وفي العام التالي مباشرةً، وفي قضية Kashani v. Tsann Kuen China Enterprise Co ،التي جاءت مشتملة على نفس قواعد الحظر الإقتصادى الأمريكي التى كانت مطروحة فى قضية Aeroflot، إعتبرت إحدى المحاكم الإبتدائية الأمريكية في حكم موجز لها، بأن كل من العقد وتنفيذه كانا: "غير قانونيين، وضد النظام العام لمخالفة العقد للأوامر التنفيذية الرئاسية الأمريكية، واللوائح المطبقة، والتي تحظر – من دون ترخيص – على أى ' شخص أمريكي الإشتراك فى أى معاملة تجارية – سواء بشكل مباشر أو غير مباشر – تتناول أو تتعلق بتصدير أو بيع أو توريد السلع والتكنولوجيا والخدمات إلى إيران أو حكومة إيران، أو إلى إستثمار، في أو تمويل مثل هذه المعاملات، وقضت المحكمة بأن هذا العقد وفقاً لقانون كاليفورنيا، يُعتبر غير نافذ، وعند طرح النزاع على الدائرة الرابعة بمحكمة إستئناف كاليفورنيا، أيدت قرار المحكمة الإبتدائية فيما تضمنه من أن قانون كاليفورنيا يحظر تنفيذ العقد.

   وهكذا يبين مدى التناقض الحاد الذي وقعت فيه كل من محكمتي Aeroflot و Kashani في النتيجة التى خلصت إليها فى نزاعين متشابهين ، لتعلقهما بمدى مشروعية العقود المبرمة في ظل العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وتنفيذها فيها. 

   ففى حين ذهبت المحكمة الأولى إلى أنه ينبغى أخذ حجة النظام العام بشيء من الحذر، حتى لا نعوق تنفيذ أحكام التحكيم الأمريكية بواسطة محاكم الدول الأخرى، وأن الإتفاق لا يُخالف المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة فى أمريكا، رغم إقرار المحكمة بمخالفته لأوامر السلطة التنفيذية والنظام الأساسى لمكتب مُراقبة الأصول الأجنبية، إلا أنها رأت أن ذلك كله لا يرقى إلى مرتبة مخالفة النظام العام الذى يُبرر رفض التنفيذ حتى ولو تعارض حكم التحكيم مع إعتبارات السياسية الخارجية للدولة، ذهبت المحكمة الثانية على خلاف ذلك إلى إعتماد التفرقة بين النظامين العام الوطنى والدولى، وتفسيرها لصالح قيام المحكمة الوطنية برفض تنفيذ عقد – رغم تماثله مــــع العقد الأول لتعلقه ببيع سلع لإيران – مُعتبرةً إياه غير قانونى على أساس مخالفته للعقوبـــات المفروضة على الأخيرة.

  ولاشك في أن هذه النتيجة تتصادم مع معيار مُخالفة "المفاهيم الأساسية للأخلاق والعدالة» في دولة التنفيذ الذي إعتنقته المحكمة الأمريكية فى قضية Parsons، والذى يُحتم النظر إلى معيار النظام العام على نحو ضيق كما أن هذه النتيجة تأباها العدالة الدولية، والتي لم تكن تحول دون تنفيذ العقد، مما يؤكد على التفاوت الحاد بين أحكام القضاء - حتى بداخل النظام القانوني الواحد بشأن المسألة الواحدة.

   وإذا كانت قضايا Parsons و Sun و Aeroflot تقدمن دليلاً على إحترام النتائج التى تسفر عنها عمليات التحكيم الدولية، وعلى الصرامة التي تتبعها المحاكم الوطنية – في الغالب – في تنفيذ إتفاقات التحكيم الدولية وأحكام التحكيم الأجنبية، إلا أن هذا الإحترام وتلك الصرامة، ربما لا نجدها في قضايا أخرى، عندما يتطلب الأمر من الدولة المنفذة التضحية بمصالحها الجوهرية على نحو ماحدث في قضية Kashani، وهو ما يؤكد على وجود إزدواجية في المعايير المتبعة في دولة أو دول التنفيذ، مما يستوجب من النظم القانونية المحلية ضرورة البحث عن معيار متميز للنظام العام الدولى.

  وفي إنجلترا، أعطت محكمة الإستئناف فى إنجلترا وويلز قضية  Soleimany v. Soleimany ، لقاضي التنفيذ سلطة واسعة فى إعمال الرقابة القضائية على حكم التحكيم لتبيان مدى مخالفته للنظام العام، حيث تصدت المحكمة الإنجليزية برئاسة القاضي Waller للدفع بالنظام العام الذى كان قد أثاره الطاعن في التنفيذ وأجابته إليه، وأرست مبدأ جدير بالإهتمام والتقدير، وهو أن: "تنفيذ حكم إنجليزى ... قائم على عقد إنجليزى أُبرم بشكل غير قانونى يُعــــد مخالفاً للنظام العام، ورأت المحكمة أن النظام العام لن يُسمح للأطراف بتجاوز العملية القضائية، من خلال إستخدام التحكيم لإخفاء عقدهم غير القانونى ورفضت بالتالى تنفيذ حكــم التحكيم .

   وعلى الجانب الآخر ، تبنت بعض المحاكم الإنجليزية منهجاً عملياً مُتخذةً في سبيل ذلك موقفاً نفعياً بحتاً، عندما رفضت التقيد بالقواعد الصارمة للمُراجعة القضائية بشأن أسباب النظام العام.. وعلى سبيل المثال، وفى قضية شركة . Westacre ، - التي جاءت مُشابهة لقضية  Northrop -، رفضت المحكمة الإبتدائية ومن بعدها محكمة الإستئناف في إنجلترا وويلز،  الدفع المبدى من الشركة اليوغسلافية بأن تنفيذ الإتفاق الذى ينطوى على شراء النفوذ الشخصي سوف يكون مُخالفاً للنظام العام، وذكرت المحكمة الإبتدائية أن هذا الإتفاق وإن كان يُعد غير قانونى فى ظل القانون السويسرى (القانون الواجب التطبيق على التحكيم) ، إلا أن القانون الإنجليزي- في حقيقة الأمر - يسمح للمحكمة بأن تُنفذ إتفاقاً مُخالفاً للنظام العام في مكان تنفيذ العقد، طالما أن تنفيذ الإتفاق لايُعد مخالفاً للنظام العام فى القانون الواجب التطبيق، أو للنظام العام الإنجليزي .

  إلا أن المحكمة وبعد أن وازنت بين هذين النظامين مالت إلى ترجيح النظام العام الأخير، على حساب الفساد الذى يجسده بوضوح الإتفاق موضوع حكم التحكيم، والذي لا يمكن بأي حال إلا أن يكون ماساً بأي من النظام العام الإنجليزي، أو الأوروبي، أو الدولى، وأمرت بالتنفيذ رغــــم حقيقة أن حكم التحكيم يُخالف النظام العام المحلى فى إنجلترا (باعتبارها مكان التنفيذ)، وفى الكويت باعتبارها مكان آداء العقد والقانون السويسرى (باعتباره القانون الواجب التطبيق على العقد).

وبذلك أن المحكمة قد سعت بهذا المنطق إلى الموازنة بين نقيضين لا يلتقيان، ولايمكن يتضح بالتالى الجمع أو الموائمة بينهما، وكأنها فى النهاية تسعى إلى تنفيذ حكم التحكيم مهما كان الأمر، ومهما كلف العدالة الدولية من تبعات وأعباء، حتى ولو جاء قرار التنفيذ مخالفاً للمبادئ العامة للأخلاق التي اجتمعت الشعوب المتمدينة عليها، بزعم أن ذلك التنفيذ يُرجح النظام العام لعــدم تشجيع الفساد، رغم أن الصورة التى يطويها ذلك الإتفاق لاتقل خطورة عن الأفعال التي عددتها المحكمة وهى فى سبيل المقارنة بينهما، وكأن المحكمة بذلك تُشرع للفساد وتسبغ عليه من عندها شرعية غير مقبولة لاتجد لها أساساً فى أى نظام قانوني في دول العالم الحر.

   وغنى عن البيان أن إقرار مثل هذه المبادىء المنعزلة من قبل المحاكم الوطنية ،ومع تزايــــد عدد المعاملات التجارية الدولية والأخذ بالسوابق القضائية المماثلة لهذا المبدأ، قد بات يُهدد القدرة على التنبؤ في مجال التحكيم الدولى، فضلاً عن إنعكاسات هذه المبادىء على الثقة التي أولاهـا المتعاقدون للتحكيم في مجال التجارة الدولية. 

   كما تُثير مُلابسات هذه القضية الإنتباه لكونها تبدو وكأنها تدعو أطراف التحكيم إلى التسوق بين المحاكم، ومن قبل التسوق لإختيار القانون الملائم لتطبيقه على صفقة تجارية قد تكون غيرُ شرعية أو غير نافذة في : دولة آداء العقد أو تنفيذ الحكم، أو الدولة المطبق قانونها على التحكيم، أو الدولة التي جرى التحكيم فيها، والسعى لتنفيذ مثل هذه الأحكام في دولة تتبنى نظـــام دول القانون العرفى والتي تتبع منهج القضاء الإنجليزي في هذه القضية.

   وجدير بالإشارة، أن المعيار الإنجليزى للنظام العام يستمد أصوله من قضية D.S.TV. Rakoil، وفى هذه الأخيرة كانت هيئة التحكيم قد طبقت المبادىء الشائعة في التحكيم الدولى في مجال إمتيازات إستخراج البترول، عندما وجدت أن إتفاق التحكيم قد خلا من تحديد القانون الواجب التطبيق، وفى مرحلة التنفيذ دفعت Rakoil بأن إستخدام هيئة التحكيم "البعض المبادىء القانونية المقبولة على الصعيد الدولى، والتى قد يصعُب تعريفها فضلاً عن أنها غير محددة، بدلاً قانون دولة بعينها يُخالف النظام العام الإنجليزي.

   إلا أن المحكمة رفضت هذا الدفع، وقررت أن قيام هيئة التحكيم بالإشارة إلى القاسم المشترك بين المبادىء التي تقوم عليها القوانين من مختلف الأمم والتي تحكم العلاقات العقدية“، لا يخالف النظام العام الإنجليزى، خاصةً عندما تُتاح للأطراف الفرصة لتحديد النظام القانوني الواجب التطبيق ولكنهم لايستغلونها وفضلاً عن ذلك، فقد رأت المحكمة أن الأطراف قد قصدوا إلى إنشاء حقوق وإلتزامات نافذة قانوناً، ولذلك فإن الإتفاق يُعد واضحاً بشكل كاف كما يُعـــد نافذاً، ولم تتبدى به عدم شرعية يُمكن أن تضر بالصالح العام  .

وهكذا يبين أن المعيار الإنجليزى للنظام العام، والمأخوذ من قضية .D.S.T يُفسر النظام العام عند تقييم الدفع به كنظيره الأمريكى فى قضية Parsons في أضيق الحدود ،إلا أنه مع ذلك يُعد أقل غموضاً من المعيار الأمريكي، لعدم تحديده لماهية الضرر الذى يمكن إعتباره ماساً بالصالح العام أو النظام العام على نحو جلى وواضح ومن ثم يُعتبر المعيار الإنجليزي في هذه القضية علـــى وجه التحديد، وفى القضايا الإنجليزية الأخرى التي سارت على نهجه معياراً صارماً، في ضوء التفرقة التي تبنتها المحكمة الإنجليزية فى هذه القضية بين النظام العام والنظام العام الوطني الإنجليزي.

   وترتيباً على ذلك، لا يُعتبر مخالفاً للنظام العام الإنجليزى إذا ما أمرت هيئة التحكيم بتنفيذ عقد لايُخالف النظام العام المحلى فى ظل القانون الواجب التطبيق على العقد أو قانون مكانه، حتى لو كان النظام العام الوطنى الإنجليزى يتبنى وجهة نظر مختلفة.

    وفي أستراليا، إعتبرت المحكمة العليا في New South Wales برئاسة القاضي /McDougall ، في قضية Corvetina، أن منهج المراجعة وإعتماداً على السلطة التقديرية، يختلف بحسب كُل قضية على حدة، حيث قررت أنه إستناداً إلى المبادئ القانونية الأسترالية والإنجليزية، يجوز للمدعي عليه أن يُثير من حيث المبدأ الدفع بالنظام العام خلال إجراءات التنفيذ، عندما تكون مسألة النظام العام قد أثيرت من قبل بالفعل ورفضها المحكمين.

   وأكدت المحكمة بشكل مفرط، على أن: "السلطة التقديرية المنصوص عليها (في أستراليا) في القسم ۸ (۷) (ب) من القانون ، تُعد واسعة النطاق، كما يجوز أيضاً ... بالإضافة إلى ذلك، أن تكون سُلطة تقديرية عامة ، ومن ثم فإنه يحق للمحكمة المنشود أمامها التنفيذ – في ظــل نصوص هذا القسم - : "تطبيق معايير النظام العام الخاصة بها فيما يتعلق بحكم التحكيم، ولذلك ففي بعض الحالات سوف تكون المراجعة المطلوبة محدودة ولن تتضمن فحصاً تفصيلياً للمسائل الواقعية، وفي حالات أخري يجوز أن تتضمن المراجعة فحصاً تفصيلياً للمسائل الواقعية. 

   وفى بلجيكا، تميل المحاكم إلى إجراء مراجعة قضائية واقعية وفعلية فيما يتعلق بالنظـــام العـــام ضماناً لعدم مخالفة أحكام التحكيم لمتطلبات النظام العام .

   وأخيراً، فقد تناولت محكمة العدل الأوروبية فى قرارها الشهير الصادر في قضية Eco Swiss، إثنين من الخلافات الذين تم إحالتهما للمحكمة العليا فى هولندا، في إطار دعوى أُقيمت بغرض القضاء ببطلان حكم التحكيم " ، وقد لاحظت المحكمة الأوروبية في البداية أنه: "ليس في صالح الإجراءات التحكيمية الفعالة أن تتم مُراجعة أحكام التحكيم فى نطاق محدود وأنه يجب أن يكون بطلان أو رفض الإعتراف بحكم التحكيم مُمكناً فى حالات إستثنائية فقط"، وأضافت المحكمة مُقررةً أنه : " على الرغم من ذلك، فإنه ووفقاً للمادة ۳ (ز) من الإتفاقية الأوروبية أصبحت الآن بعد التعديل المادة ۳ (۱) (ز) من الإتفاقية الأوروبية، تُشكل المادة ٨١ من الإتفاقية الأوروبية (حالياً المادة ٨٥ ) شرطاً أساسياً يُعتبر ضرورياً لإنجاز المهام الموكولة للمجموعة الأوروبية، وبصفة خاصة تنظيم السوق الداخلي .

وأردفت المحكمة مقررةً أنه: ويترتب على ذلك، أنه عندما تتطلب القواعد المحلية للإجراءات أى محكمة وطنية الموافقة على طلب بطلان حكم تحكيم إذا كان هذا الطلب يستند إلى عدم مراعاة القواعد الوطنية للنظام العام فإنه يجب عليها أن تقضى بالبطلان عندما تجد أنه يستند على عدم مراعاة الإلتزام بالحظر المنصوص عليه فى المادة ۸۱ (۱) من الإتفاقية الأوروبية ( حالياً المادة من85 (1) ).

     ووفقاً للمحكمة الأوروبية، فإن هذه النتيجة التي خلصت إليها لا تتعارض مع أحكام المادة الخامسة (۱) (ج) (هـ)، (۲) (ب) من إتفاقية نيويورك ، ويتفقُ الشراح على أن قرار المحكمة يُفيد أن قانون المنافسة الأوروبي يرتبط بالنظام العام الدولى.

   وبالتالي، تكون المحكمة قد بحثت فيما إذا كان قانون المجموعة الأوروبية يُطالب المحاكم الوطنية بالإمتناع عن تطبيق القواعد المحلية للإجراءات والتي بموجبها يُصبح حكم التحكيم، الذي لا يتم تقديم طلب بطلانه خلال الفترة الزمنية المحددة البالغة ثلاثة شهور، حائزاً لحجية الشيء المقضى به .

 وعلى خلاف الرأى المتقدم لمحكمة العدل الأوروبية، قضت المحكمة الفيدرالية العليا الألمانية بأنه لا يُعد مخالفاً للنظام العام الألمانى أن ينص القانون الشخصي المطبق على الطرف المتعاقد في إتفاق التحكيم على "الإحتكار الأجنبي في مجال التجارة الخارجية ذلك الإحتكار الذي يقتضي حرمان أي أشخاص آخرين خارج إطار هذا الإحتكار من الصفة القانونية التي تمكنهم من إبرام عقود في مجال التجارة الخارجية.

   وعلى نحو مماثل، قررت المحكمة الإتحادية السويسرية أنه : " في الواقع، يبدو أن هناك شكاً في أن أحكام قانون المنافسة – الوطني أو الأوروبي - تعتبر جزءاً من المبادئ القانونية الجوهرية أو الأخلاقية المعترف بها في الدول المتحضرة إلى الحد الذي ينبغى فيه أن يُنظر إلى كل إنتهاك لهذه المبادئ على أنه يُمثل مُخالفة للنظام العام". 

   كما توصلت ذات المحكمة مؤخراً إلى نتيجة مُشابهة، حيث قررت أنه: "لا ترتبط أحكام قوانين المنافسة أياً كان مُحتواها بالقيم الأساسية المعترف بها على نطاق واسع والتي يجب أن تتواجد في أى نظام قانونى وفقاً للمفاهيم السائدة فى سويسرا، وبالتالى فإن مُخالفة هذا النص لا تقع ضمن نطاق المادة ۱۹۰ (۲) (هـ) من القانون الدولى الخاص.... 

ثانياً المراجعة القضائية المحدودة: 

   على النقيض من المراجعة القضائية على نطاق واسع التي تم التعرض لها فيما سبق، تتبع بعض المحاكم الوطنية الأخرى، وبداخل ذات الأنظمة القانونية السالف الإشارة إليها، نهجاً مغايراً تماماً لذلك، وهذا النهج، يُطلق عليه المراجعة القضائية المحدودة ووفقاً لهذا النهج، فإنه يحظر إتخاذ أى شكل من أشكال إعادة النظر فى الوقائع الخاصة بالنزاع محل التحكيم حتى في حالة وجود مخالفة للنظام العام. 

   وقد دافع مؤيدو المراجعة القضائية المحدودة" عن مستويات مُتباينةً من المراجعة القضائية المحدودة، فقد رأى Albert Jan Van Den Berg أن : " التأكد من أن المحكم قد أخطأ في تفسير الوقائع أو القانون لا يُعد من أسباب رفض التنفيذ وفقاً لإتفاقية نيويورك، ولا ينبغى أن يُغير من ذلك الإدعاء بأن المحكم (المحكمين) قد إرتكب أخطاء أكثر فداحة في تسبيب حكم التحكيم، على سبيل المثال، عندما يكون التسبيب متعارضاً مع الحكم أو أن التفسير ذاته يتعارض مع نفسه  وحتى المراجعة الهامشية على وقائع حكم التحكيم يجب إعتبارها مُستبعدة بموجب الإتفاقية، وبذلك فلا يُمكن إدراجها تحت شرط النظام العام .

   بينما ذهب Yves Derains إلى أنه يجب أن تكون المراجعة القضائية من جانب المحكمة مقصورة على تحديد ما إذا كانت قاعدة النظام العام الواجبة التطبيق قد أُخذت في الإعتبار من جانب المحكمين أم لا وأنه بصرف النظر على مدى تطبيق قاعدة النظام العام، وكيفية وطريقة هذا التطبيق، فإنه لا يُمكن إعادة فحص حكم المحكمين من جانب قاضى التنفيذ .

   فى حين إعتنق Andreas F.Lowenfeld الرأى بأنه إذا كان "التحكيم يُخفف من الأعباء التي تثقل كاهل المحاكم فى أعمالها الأساسية فإنه سوف يفقد هذه الميزة إذا كان على المحاكم القيام بمراجعة نتائج هذا التحكيم ، كما أكد البعض الآخر على هذا المعنى بالقول أن "ثقة الأطراف في قابلية تنفيذ أحكام التحكيم دون المراجعة القضائية للوقائع، هي بطبيعة الحال مما يجعـــل نـظــام التحكيم الدولى فى المقام الأول بديلاً جذاباً عن التقاضى المحلي .

   وفي ذات الإتجاه يرى Donald Francis Donovan ضرورة الحد من نطاق الرقابة القضائية على أحكام التحكيم مُعللاً ذلك بأنه: "إذا إستطاع الطرف المعارض للتنفيذ إستناداً إلى مبدأ النظام العام إعادة التقاضى بشأن مسألة القابلية للتحكيم تحت مسمى الإشراف القضائي على النظام العام، فإن فعالية عملية التحكيم سوف يتم إضعافها بشكل كبير، وبإيجاز، فإنه إذا كان الإدعاء أو الدفاع أو الخلاف قابل للتحكيم، فإنه ينبغى السماح للمحكمين في النهاية بأن يفصل فيه، حتى إذا ماكان هذا النهج يؤدى بالضرورة إلى مخاطر التطبيق الخاطىء، ومن ثم عدم تنفيذ المبدأ الذى يُثير الدفع .

   كما عبرت المحكمة العليا الأمريكية عن النهج المتمثل في المراجعة القضائية المحدودة، في قضية  Scherk v. Alberto-Culver ،حين قامت المحكمة بتنفيذ اتفاق دولى بالإحالة إلى التحكيم حول نزاع ناشيء عن غش فى سندات مالية رغم الدفع بعدم قابليته للتحكيم في ظــــل قانون التحكيم المحلى فى ذلك الوقت، وذلك بقولها أنه: "لقد كان الهدف من الإتفاقية والغرض الأساسي من وراء إقرار وتنفيذ أمريكا لها، هو تشجيع الإعتراف باتفاقات التحكيم التجارية الواردة فى العقود الدولية ،وتنفيذها وتوحيد المعايير التى يجب مراعاتها فى إتفاقات التحكيم وكذلك معايير تنفيذ أحكام التحكيم فى الدول الموقعة، وأكدت المحكمة على أهمية التحكيم في الإتفاقات الدولية في تحقيق النظام والقدرة على التنبؤ .

  وعلى نحو مماثل إعترفت المحكمة العُليا فى الولايات المتحدة في قضية Mitsubish في  حكمها بقابلية التحكيم فى المنازعات التى تتصل بقوانين منع الإحتكار، على الرغم من أن العقد يحكمه القانون السويسري وبصرف النظر عن حقيقة أن ذلك يتعلق بالنظام العام، مُقررةً أن ذلك ينشأ توازناً بين المصلحة القومية في تنفيذ قوانين منع الإحتكار، وبين السياسة المتبعة لصالح تنفيذ إتفاقات التحكيم.

   وأضافت قائلةً أنه: "طالما أن التقاضي قد يؤثر على السبب القانوني للدعوى أمام محكمــة التحكيم، فإن القانون سوف يستمر فى القيام بوظيفته الإصلاحية والعلاجية، وأردفت مقررةً أن مراجعة أحكام التحكيم فيما يتعلق بالنظام العام تُعد ،مُمكنة، مؤكدةً على أن: "المحاكم المحلية في الولايات المتحدة فى مرحلة تنفيذ الحكم سوف يكون لديها الفرصة لضمان أن المصلحة القانونية في تنفيذ قوانين منع الإحتكار قد تحققت.

   وبذلك يتضح أن المحكمة العليا الأمريكية قد قصرت المراجعة على التحقق من مُراعاة توافر المصلحة القانونية فى تنفيذ قانون منع الإحتكار، وأوضحت المحكمة فى هذا الصدد أنها تعتزم إتباع أسلوب المراجعة المحدودة لحكم التحكيم .

   كما أخذت بهذا النهج العديد من أحكام المحاكم الأمريكية، ففى قضية Northrop .Corp. v. Triad Int'l Mktg.S.A إتبعت الدائرة التاسعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية مبدأ الرقابة القضائية المحدودة عند تقييم الدفع بالنظام العام وأمرت بتنفيذ حكم التحكيم وكان Northrop (وهو) مورد أسلحة (أمريكي) قد أبرم إتفاقاً للتسويق مع Triad  ( وهي مؤسسة تسويق مالية دولية فى ليختنشتاين)، تضمن النص على قيام الأخيرة بالعمل على إبـرام عقود لبيع المعدات الحربية إلى القوات الجوية السعودية مقابل عمولة على نسبة المبيعات، وبعد أن نجحت Triad بالفعل في إبرام العقود لصالح Northrop، أصدرت المملكة العربية السعودية قراراً حظرت بموجبه سداد أية عمولات على عقود الأسلحة ، فأوقف Northrop ســـــداد العمولات إلى Triad ، مما حدا بالأخيرة لإتخاذ إجراءات التحكيم وفقاً للشرط الوارد بالإتفاق ، حيث أصدرت هيئة التحكيم حكماً لصالحها.

وعندما تقدمت Triad بطلب لتأكيد هذا الحكم دفع Northrop بطلان إتفاق التسويق ضوء القسم ١٥١١ من القانون المدنى فى كاليفورنيا ، نظراً لأن القرار السعودي قد تضمن النص على إعتبار أن سداد العمولات يُعد غير قانونى وبالتالي، يأتي تنفيذ كل من إتفاق وحكـــم التحكيم بسداد العمولات مُخالفاً للنظام العام .

  إلا أن المحكمة الأمريكية رفضت كافة الحجج المبداة من Northrop، مقررةً أنه على الرغم من أن القانون السعودى يحظر سداد العمولات، إلا أن القانون المعنى هنا هو قانون كاليفورنيا، حيث أن الأطراف قد إختاروا هذا القانون ليكون هو الواجب التطبيق على التحكيم، ولأن Northrop لم يُقدم أية أدلة على أن قانون كاليفورنيا يحظر سداد العمولات، ومن ثم، فلا محل في هذا السياق لتطبيق النظام العام فى كاليفورنيا ، وخلصت المحكمة إلى أن تنفيذ حكم التحكيم لا يخالف النظام العام الأمريكي.

  وعلى نحو مشابه، وفي قضية .Fine v. Bear, Stearns&Co., Inc ، ذكرت المحكمة المحلية بجنوب ولاية نيويورك الأمريكية، أنه : " من المستقر عليه تماماً أن سلطة المحكمة في القضاء بطلان حكم التحكيم يجب أن تكون محدودة للغاية، لأن المراجعة الفضائية الموسعة لأحكام التحكيم من شاقا أن تقوض القاضي الفعال الذي يسعى التحكيم إلى تحقيقه .....". 

   كما قدمت الدائرة الرابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية فى قضية . Remmey .Paine Webber,Inc ، وصفاً أكثر شمولاً للنهج العام الذى تتبعه بعض المحاكم الأمريكية، من حيث النطاق المحدود للرقابة التي تمارسها المحاكم على أحكام التحكيم من أجل تشجيع اللجوء إلى التحكيم كبديل عن التقاضي " .

  كما أقرت الدائرة العاشرة بمحكمة الإستئناف الأمريكية في قضية .Gerald E Bow&Mary Bown v. Amoco Pipeline Co بأن مراجعة المحاكم الفيدرالية الأحكام التحكيم تعد محدودة للغاية، حيث أنه لا يجوز للمحاكم وقفاً للقانون الفيدرالي الأمريكي للتحكيم FAA ،إبطال التحكيم إلا في حالات استثنائية مثل الغش والفساد، وسوء سلوك الحكم أو عند تجاوز المحكمين لسلطاقم، كما ذهبت المحكمة إلى أن الأطراف لا يجوز لهم تغيير النظام القضائي عن طريق إتفاق أو عقد خاص.

 ويجيء هذا الحكم الذى لا يجيز للأطراف الإتفاق على توسيع نطاق مراجعة حكم التحكيم مخالفاً لأحكام أخرى صادرة من ذات الحكمة، آخرها الحكم الصادر من الدائرة الثالثة بمحكمة الإستئناف الأمريكية في عام ۲۰۰۱ في قضية Roadway Package System Inc" Kayser، والتي فسرت القانون الفيدرالي الأمريكي للتحكيم FAA على أنه يمنح الأطراف سلطة الإتفاق على توسيع مجالات مراجعة حكم التحكيم بواسطة القضاء الوطن، بحيث لانتقيد بالأسباب الواردة على سبيل الحصر في القانون الفيدرالي الأمريكي. 

   وعلى نفس النهج في إتباع أسلوب المراجعة المحدودة لحكم التحكيم، وبالإشارة إلى الحكم الصادر من المحكمة العليا الأمريكية في قضية Mitsubishi قررت الدائرة السابعة بمحكمة الإستئناف الأمريكية فى قضية Baxter Int'l Inc. v. Abbott Laboratories أن شركة Mitsubishi لم تقر بأنه بمجرد إنتهاء التحكيم، فإن الحاكم الفيدرالية سوف تلقى بالنتيجة التي توصل إليها التحكيم في سلة المهملات وأن القاضي بشأن قضايا منع الاحتكار سوف يبدأ من جديد، وقد يكون ذلك أسلوباً آخر للقول بأن قضايا منع الإحتكار غير قابلة للتحكيم"، وأكدت الحكمة على أنه إذا كان مايهم هنا هو بحث ما إذا كانت هيئة التحكيم مختصة بالنظر في قضايا منع الاحتكار وأصدرت بالفعل قراراً بشأنها، فإن "التأكد من ذلك يعد كل البعد عن نطاق المراجعة القانونية لدينا".

   وبالمثل، وقضت محكمة استئناف Koblent الألمانية" في إحدى القضايا، الدفع المبدى من المدعى عليه لمخالفة النظام العام تأسيساً على أن المدعى قد خالف التزامه، من خلال قيامه بتقديم معلومات كاذبة وبيانات غير صحيحة في التحكيم، حيث قررت المحكمة أن الحكم قد فصل في هذه الأمور، وبالتالي فلا يجوز لمحكمة التنفيذ إعادة النظر في حكمه بشأن الوقائع، وأضافت قائلة أنه حتى إذا كان زعم المدعى عليه صحيحاً - فإن هذه المخالفة الخطيرة لا تبرر رفض التنفيذ إستعداداً إلى أسس النظام العام الواردة في المادة ٢ (ب) من إتفاقية نيويورك .

   كما عبرت محكمة استئناف القاهرة عن هذا النهج في العديد من أحكامها """، حيث قررت أن" تعيب قضاء التحكيم عن طريق إدعاءات تتعلق بفهم واقع الدعوى ومستنداتها وحكم القانون فيها .. هو مما يخرج عن أسباب البطلان التي حددها القانون على سبيل الحصر"، و "لايجوز التوسع فيها أو القياس عليها، وأن المشرع قد فتح الباب أمام المحكوم ضده لإقامة دعوى ببطلان حكم التحكيم الأسباب حددها على سبيل الحصر، ومؤدى ذلك أن هذه الدعوى لاتتسع لإعادة النظر في موضوع النزاع أو تعييب ماقضى به حكم التحكيم في شأنه، فلاتمتد سُلطة القاضي فيها إلى مراجعة الحكم المذكور وتقدير مُلائمته أو مراقبة حسن تقدير المحكمين وصواب أو خطأ إجتهادهم سواء في فهم الواقع وتكييفه أو في تفسير القانون وتطبيقه.

وفى إطار قيام هذه المحكمة بشرح ضوابط ونطاق رقابة قاضى البطلان، فيما يتعلق بمخالفة النظام العام، أشارت في أحد أحكامها إلى أنه: "من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن رقابة محكمة الإستئناف لحكم التحكيم فيما يتعلق بتطبيق الفقرة الثانية من المادة (٥٣) من قانون التحكيم تنصرف إلى الحل الذى قضى به الحكم حسماً للتزاع، ومن ثم فلا يسوغ الحكم بالبطلان إلا إذا تضمن ذلك الحل مايُخالف النظام العام" .

   كما عبرت مجموعة أخرى من أحكام المحاكم الفرنسية عن تقييد المراجعة القضائية وقصرها على تحديد مدى توافق الحل الذى انتهى إليه المحكمين مع النظام العام بشأن تسوية المسائل محل النزاع، وعلى سبيل المثال، أكدت محكمة إستئناف باريس فى العديد من أحكامها على أن: "رقابة محكمة الإستئناف فيما يتعلق بالنظام العام، يجب أن تتعلق بالحل الذى تم التوصل إليه بشأن النزاع بحيث يكون بطلان حكم التحكيم ممكناً، فقط عندما يكون هذا الحل يُخالف النظام العام " أو أن: "تقييم النظام العام الدولى يجب أن يكون واقعياً، وأن رقابة المحكمة يجب ألا تتعلق بتقييم الحكمين لحقوق الأطراف فيما يتعلق بقواعد النظام العام المثارة، وإنما بقرار حل النزاع . 

   كما رفضت محكمة إستئناف باريس فى أحد أحكامها الذى تم تأييده مؤخراً من جانب محكمة النقض الفرنسية طلب بطلان حكم تحكيم بدعوى مخالفته القانون . المنافسة الأوروبي، وذكرت المحكمة بشكل مقتضب أن المحكمين قد درسوا القضية وقرروا عدم وجود مُخالفة للقانون. 

  وقد إنتهجت المحكمة العليا في سنغافورة في قضية Hainan Machinery Import ،and Export Corp. v. Donald & McArthy Pte Ltd نفس الأسلوب، حيث رفضت المحكمة برئاسة القاضى Judith Prakash الدفع بمخالفة النظام العام المبدى في أثناء إجراءات تنفيذ حكم التحكيم الأجنبى، حيث ذكر القاضى أنه : من وجهة نظرى لا يتطلب النظام العام أن ترفض هذه المحكمة تنفيذ حكم التحكيم الذى حصل المدعين عليه، سيما وأنه لم يكن هناك إدعاء بعدم المشروعية أو الإحتيال، ومن ثم فلن يُضر التنفيذ بالمصلحة العامة .

   كما أخذت محكمة ألبرتا الملكية فى قضية ...Karaha Bodas Company, LLC  Perusahaan Pertambangan Minyak Dan Gas Buomi Negara، بمفهوم ضيق للنظام العام، وفى هذه القضية كانت هيئة التحكيم قد أصدرت حكماً نهائياً لصالح KBC، ألزمت فيه المدعى عليهما بسداد مبلغ إجمالي قدره ١٦٦,٦٥٤,٩٢ ٢٦١ دولار أمريكي إلى KBC، وبعد ذلك توالت صدور أحكام متعددة للمحاكم الوطنية فيما يتعلق بهذا الحكم. 

   حيث سعت Pertamina إلى إقامة دعوى ببطلان حكم التحكيم أمام القضاء السويسرى، إنتهت بصدور حكم المحكمة العليا السويسرية فى أغسطس ۲۰۰۱ برفضها ، فلجأت Pertamina في ١٤ مارس ۲۰۰۲ ، إلى إقامة دعوى أخرى ببطلان الحكم أمام المحكمة المركزية بجاكرتا إندونيسيا  - ، فأجابتها الأخيرة إلى ذلك بحكمها الصادر فى ٢٧ أغسطس ۲۰۰۲، قبل أن تقضى المحكمة العليا الأندونيسية بعد ذلك في نوفمبر ۲۰۰٤ بالغاء حكم محكمة جاكرتا. 

    فسعت KBC بعد ذلك، إلى تنفيذ حكم التحكيم السويسرى فى عدة دول، حيث حصلت في ٢٧ مارس ۲۰۰۳ على التنفيذ من المحكمة العليا فى هونج كونج، كما سعت كذلك إلى طلب  التنفيذ في كندا، حيث وافقتها عليه محكمة ألبرتا الملكية برئاسة القاضي / W.Breitkreuz و رفضت الدفع المبدى من المدعى عليهما بأن تنفيذ حكم التحكيم من شأنه أن يُخالف النظام العام، لأنه ومن خلال تقرير المحكمين بأن المدعى عليهما مسئولان عن الإخلال بالعقد، فإن ذلك یعنی ضمناً أنه ينبغى عليهما إنجاز عقدى التشغيل المشترك وشراء الطاقة، بغض النظر عن القانون الأندونيسي، أى القرارات الرئاسية التى تُرجأ المشروع، كما أشارت المحكمة إلى نصوص العقدين والتي تضمنت النص على أن KBC سوف تُعفى فقط من التنفيذ فى حالة وقوع حدث يتعلق بالحكومة أو القوة القاهرة. 

   كما رفضت المحكمة أيضاً الدفع بالنظام العام المؤسس على أن KBC- وبسوء نية لم تكشف عن أنها تمتلك بوليصة تأمين ضد المخاطر السياسية، وذكرت المحكمة - رداً على ذلك أن هيئة التحكيم قد تناولت هذه المسألة أثناء التحكيم، حيث أعطت الفرصة للمدعى عليهما لمتابعة أقوال الشهود بشأن بوليصة التأمين وإتفقت المحكمة فى ذلك مع ماورد بحكم الدائرة الخامسة الأمريكية من أن إخفاق KBC في تقديم الدليل على بوليصة التأمين ضد المخاطر السياسية مع أن حكم Pertamina المقدم لا يتناول الموضوع، لايُشكل إنتهاكاً للنظام العام .

   وفى بعض القضايا الأخرى المعروضة على المحاكم الوطنية، إقتصرت المراجعة القضائية على المخالفات المؤثرة الواضحة الملموسة فقط للنظام العام ، ففى قضية Matra v. Alkan على سبيل المثال، قررت محكمة استئناف باريس أن صدور حكم التحكيم النهائي بمنح تعويضات للمدعى عن الأضرار التي لحقت به لايعد مخالفاً للنظام العام ، وفى نفس الاتجاه، رفضت ذات المحكمة بوضوح إمكانية مُراجعة الوصف الذى أسبغه المحكمين على العقد، حتى وإن كان تطبيق قاعدة النظام العام قد يتوقف على هذا الوصف .

   وقد بدأت المحكمة تحليلها بالإشارة إلى قرار محكمة العدل الأوروبية الصادر في قضية شركة ECO Swiss، مؤكدةً على أن قانون المنافسة الأوروبي، وبشكل أكثر تحديداً نص المادة ٨١ من الإتفاقية الأوروبية، ينتمى إلى النظام العام الدولى، ولذلك وافقت المحكمة على إتباع موقف محكمة العدل الأوروبية، مُقررةً أن مُخالفة هذا النص تؤدى إلى بطلان حكم التحكيم، إلا أنها أضافت أن محكمة العدل الأوروبية قد إعترفت للدول الأعضاء بقدر مُعين من الإستقلال فيما يخص الإجراءات. 

  وفى إطار تحديد نطاق مُراجعة حكم التحكيم إرتأت المحكمة الفرنسية، أن السبب المتعلق بمخالفة النظام العام والوارد فى المادة ۱۵۰۲ (۵) من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد يمكن إثارته بنجاح، فقط : بافتراض أن تنفيذ حكم التحكيم قد ينتهك بشكل غير مقبول النظام  القانونى لدينا، ويجب أن يكون الإنتهاك عبارة عن مُخالفة واضحة لقاعدة قانونية تعتبر جوهرية أو لأحد المبادىء الأساسية، واستطردت قائلةً أن حقيقة أن الأطراف لم يُثيروا مخالفة النظام العام أمام المحكمين لاتحول بينهم وبين إثارة هذه المسألة أمام المحكمة، حيث أن: "نطاق الرقابة القضائية المتعلقة باحترام القواعد الآمرة الأوروبية ينبغى ألا يتأثر بموقف الأطراف. 

   إلا أن المحكمة على الجانب الآخر أوضحت أن مُخالفة النظام العام ... يجب أن تكون صارخة ومؤثرة وملموسة، بحيث يجوز لقاضى البطلان أن يقوم فى إطار سُلطته التقديرية، بإجراء تقييم للوقائع والقانون، وتحليل كافة العناصر الواردة في حكم التحكيم المراد مُراجعته من جانبه، ولكن لا يجوز له إتخاذ قرار بشأن وقائع نزاع مُعقد لم يتم الطعن فيها أو الحكم فيه من قبل أى محكم، فيما يتعلق بمجرد إحتمال عدم قانونية بعض النصوص العقدية، ولا يوجد هناك مايدعو للسماح لشركة Thales بالاستفادة من هذه الثغرات في إطار الدفاع عن مصالحها أمام المحكمين، سواء إختيارياً أو بأي طريقة أُخرى .

 بيد أنه في قرارين صدرا مؤخراً في كُل من فرنسا وبلجيكا في قضية Snf v. Cytec Industrie ، قامت المحاكم فى كلا الدولتين بتطبيق معايير مُختلفة عند قيامها بمراجعة نفس حكم التحكيم مما أفضى إلى نتائج متباينة تماماً، إذ أنه على الرغم من الإعتراف بحكم التحكيم الصادر في هذه القضية وتنفيذه في فرنسا في ٢٣ مارس ۲۰۰٦ ( قضية SNF الفرنسية ) ، فقد قضى في بلجيكا في ۸ مارس ۲۰۰۷ ببطلان هذا الحكم وكذا حكم التحكيم الجزئي السابق  عليه، تأسيساً على مُخالفة المادة ۸۱ من إتفاقية الإتحاد الأوروبي (قضية SNF البلجيكية). 

    وكانت محكمة إستئناف باريس قد قضت في حكمها الصادر بتاريخ 23 مارس 2006 برفض الطعن المقام من شركة SNF، مُشيرةً على نحو خاص إلى الإعتراف المحدود بالحجة المستندة إلى المادة ۸۲ ، حيث لاحظت المحكمة أن هيئة التحكيم قد تناولت بشكل كامل مسألة ما إذا كان عقد عام ١٩٩٣ يُخالف المادتين ۸۱ و ۸۲ ، وتوصلت الهيئة إلى أن هذا العقد لا يُخالف بالفعل المادة ۸۱ ، وأنه نظراً لأن شركة SNF قد طالبت هيئة التحكيم الحكم لها بتعويض عن الأضرار التى لحقت بها، وقد فصلت هيئة التحكيم فى هذا الطلب برفضه على أساس عدم وجود مخالفة واضحة وفعلية ومؤثرة للنظام العام الدولي، ومن ثم فلا يوجد سبب لأن يحل رأى محكمة الإستئناف محل رأى هيئة التحكيم " .

   وفى غضون ذلك، تقدمت شركة SNF في مايو ۲۰۰۵ بطلب لإبطال حكمي التحكيم المذكورين أمام محكمة بروكسل الإبتدائية، بزعم مُخالفة هيئة التحكيم لقوانين المنافسة الخاصة بالإتحاد الأوروبي، وإستشهاداً بحكم محكمة العدل الأوروبية الصادر في قضية شركة Eco Swiss قررت محكمة بروكسل الإبتدائية أنه: "ليس من واجب هذه المحكمة مُراجعة الوقائع الخاصة بهذه القضية التي تم عرضها على التحكيم، ولكن بدلاً ذلك من ينبغي عليها من خلال قراءة الحكم التحقق مما إذا كانت هيئة التحكيم في إطار تقديرها للوقائع التي تم عرضها عليها (وبصرف النظر عن تقييم هذه المحكمة لهذه الوقائع والذي قد يكون مختلفاً تماماً وفي إطار تطبيقها للقانون على هذه الوقائع مثل تلك التي تم تقديرها قد خالفت أو لم تخالف المادتين ۸۱ و ۸۲ من إتفاقية الإتحاد الأوروبي واللتين تتضمنان قواعد النظام العام. 

   وبتطبيق هذا المعيار للمراجعة على حكمى التحكيم أيدت محكمة بروكسل الإبتدائية – بعد إجراء مراجعة مُفصلة نسبياً للإعتبارات المعنية ذات الصلة - ما توصلت إليه هيئة التحكيم بشأن المادة ۸۲ من أن شركة Cytec لم تكن في وضع مُسيطر.

    وعلى الجانب الآخر، وفيما يتعلق بالمادة ۸۱ وجدت محكمة بروكسل الإبتدائية أن تفسير هيئة التحكيم كان مُناقضاً لنفسه، حيث كانت الأخيرة قد توصلت إلى أن عقد ١٩٩٣ -وبسبب مدته الطويلة - قد أدى إلى تقييد المنافسة بالمخالفة للمادة ۸۱ ، إلا أنها وجدت في نفس الوقت أنه حتى في حالة عدم وجود عقد ۱۹۹۳، كان من الممكن لشركة SNF في أي حالة أن تشترى نفس الكميات من مادة الأكريلاميد من شركة Cytec وبأسعار أعلى ، وترتيباً على ذلك خلصت المحكمة إلى أن حكمى التحكيم المذكورين يُخالفان المادة ۸۱ "طالما أنهما يُعطيان حلاً للتراع، وبذلك فإنهما يُمنحان أثراً لعقد رغم الحكم عليه بأنه مُقيد للمنافسة.

   وبذلك يتضح أن المحاكم الفرنسية تتبع في الغالب نهجاً ينحو تجاه المراجعة الظاهرية لأحكــام التحكيم، حيث أن الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه هما فقط اللذان  يتم فيهما مُراجعة مدى توافق الحكم مع النظام العام الدولي عندما يكون الأطراف قد أثاروا الحجج الخاصة بقانون المنافسة في إطار سير إجراءات التحكيم نفسها.

وفضلاً عن ذلك، فإن المحاكم الفرنسية لن تتدخل لإلغاء حكم تحكيم على أساس أحـــد الأسباب المرتبطة بقانون المنافسة، إلا إذا كان الحكم نفسه يُشكل: "مُخالفة صارخة وحقيقيـــة وملموسة للنظام العام الدولي “ ، وقد تم إتباع هذا المعيار للمُراجعة فيما يتعلق بتوافق أحكــام التحكيم الدولية مع النظام العام الدولي من قبل كلاً من محكمة النقض الفرنسية ومحكمة إستئناف باريس منذ عام ۱۹۹۱ .

   إلا أن محكمة بروكسل الإبتدائية إتخذت نهجاً مُغايراً لذلك في قضية شركة SNF، حين قامت المحكمة المذكورة بإجراء تحليل مُفصل لتسبيب هيئة التحكيم فيما يتعلق بتفسير وتطبيق المادتين ٨١ و ۸۲، وتوصلت بذلك إلى نتيجة مفادها أنه على الرغم من أن هيئة التحكيم قد طبقت المادة ٨١ لإبطال عقد عام ۱۹۹۳ ، فإنها قامت رغماً عن ذلك بمخالفة المادة ٨١ عندما أخفقت في الحكم بالتعويضات اللازمة عن الأضرار لأحد الأطراف. 

   وإذا كانت مُراجعة تسبيب أحكام التحكيم من قبل المحاكم البلجيكية، لاتمثل إتجاهاً جديداً في السوابق القضائية البلجيكية فيما يتعلق بتفسير المادة ۱۷۰٤ (۲) (أ) من القانون القضائي البلجيكي" ، إلا أن نهج محكمة بروكسل الإبتدائية مع ذلك يعكس نهجاً مغايراً لنهج باقى الحاكم الوطنية في مستوى المراجعة المطلوبة لأحكام التحكيم الأجنبية ٣١٣٠، والمدى الذي يُمكن أو يجب أن تبلغه تلك المحاكم في مُراجعتها لوقائع القضايا المرتبطة بقانون المنافسة لتحديد ما إذا كان حكم التحكيم يُخالف المادتين ۸۱، ۸۲ من إتفاقية الإتحاد الأوروبى  من عدمه .

   والواضح أن غالبية الفقه تتفق على أن مُراجعة أحكام التحكيم من قبل المحاكم الوطنية لا ينبغى أن تكون مُراجعة واسعة النطاق وغير محدودة لوقائع القضية، لمجرد أن هناك إدعاء بمخالفة النظام العام الدولي، ويبدو أن هذا المنهج المحدود الذي إعتمدته المحاكم الفرنسية في مراجعة أحكام التحكيم التي تتناول قضايا منع الإحتكار يتماشى مع الإتجاه العالمي في هذا السياق، حيث إعتنقت محاكم دول أوروبية أخرى منهج المراجعة المحدودة أو شبه المعدومة لأحكام التحكيم الدولي فيما يتعلق بتوافقها مع قواعد منع الإحتكار باعتبارها تتعلق بالنظام العام الدولي".

  ويتضح من العرض سالف الذكر أن المحاكم الوطنية على إختلافها يُمكنها أن تتعامل بشكل أساسي مع نفس حكم التحكيم بطرق وأساليب ،مُتباينة وذلك عند قيامها بمراجعة مدى توافق هذا الحكم مع مبادئ النظام العام الدولي، وبصفة خاصة المحاكم الوطنية الأوروبية فيما يتعلق بالمادة ۸۱ من إتفاقية الإتحاد الأوروبي، وهذا الوضع يدفعنا للبحث عن منهج متوازن بين كلا الإتجاهين. 

ثالثاً: الموازنة بين إتجاهي المراجعة القضائية:

   لاشك في أن التباين الواضح بين منهجى المراجعة القضائية بشأن النظام العام – وعلى نحـــو ما سبق بيانه، وما أسفر عنه ذلك من إنعدام التناسق بين قرارات وأحكام المحاكم الوطنية ، يؤدى بنا إلى التساؤل عما إذا كان إيجاد منهج مُتوازن فى هذا الشأن، يُعيد إلى العدالة الدولية توازنها وصوابها والثقة التى أولاها إياها أطراف التحكيم، يُعد فى هذا المجال أمراً عصى المنال، أم أنه من اليسير تحقيقه من خلال إتباع بعض الضوابط التي تكفل تحقيق مثل هذا التناسق. 

  وإذا كان البعض يُفسر المراجعة الشكلية لأحكام التحكيم بشأن النظام العام في المجمل على أنها تعد تعبيراً عن عدم التدخل فى عملية التحكيم، طالما أن الخصوم قد إختاروها كآلية للفصل فيما ينشأ بينهم من منازعات ، إلا أن الشكل الذى يؤيده هذا الجانب من الفقه للمراجعــة القضائية يُعد مغالى فيه إلى حد كبير، باعتباره يؤدى إلى إلغاء المراجعة الفعلية لأسباب البطلان الخاصة بالنظام العام وإستبدالها بمراجعة "ظاهر حكم التحكيم فقط » ،وهذا الوضع أفضي في كثير من الأحيان إلى إسباغ الحماية على بعض أحكام التحكيم دون فحصها فعلياً للتحقـــق مــــن صحة تطبيق مبدأ النظام العام .

   وقد عبر Derains أبرز المؤيدين للمُراجعة القضائية المحدودة صراحةً عن رأيه في هذا الصدد قائلاً: "من خلال رفض مُراجعة التفسير الذى أعطاه المحكمين لإتفاق الأطراف، وبالنظر إلى العناصر الواقعية والقانونية التى أخذها المحكمون في الإعتبار، فإن المحاكم الفرنسية تحجم بشكل متعمد عن التحقق من تطبيق قاعدة النظام العام الواجبة التطبيق على نحو صحيح علــى وقــائع القضية .

   وفى نفس الإتجاه، تساءل William W Park - وبحق - تعليقاً على موقف المحكمة العليا بالولايات المتحدة في قضية Mitsubishi، عن فاعلية تلك المراجعة الشكلية لظاهر الحكم، قائلاً أنه: "إذا كان من المتوقع أن تكون "النظرة الثانية (المراجعة) ... هي ببساطة عبارة عن فحص آلى لظاهر حكم التحكيم لمعرفة ما إذا كان المحكم قد ذكر قانون Sherman في كل شيء من عدمه، فإنه يُمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كانت تلك النظرة الثانية (المراجعة) سوف توفر آلية فعالة للرقابة القضائية".

وفى ضوء ذلك، نرى أن المراجعة الفعلية الحقيقية لحكم التحكيم تعتبر أمراً ضرورياً وهاماً وهو ما يتطلب أن تكون فعالة ومؤثرة  ، باعتبار أن مُخالفة النظام العام تُعد أحد أسباب رفض الإعتراف بحكم التحكيم أو تنفيذه، وهو مالا يمكن أن يتحقق من خلال المراجعة الشكلية لظاهر الحكم فقط، وبالتالي، فلا يُمكن قبول القيود التي تحد من فاعلية هذه المراجعة، وتجعل منها مجرد إجراءاً روتينياً خالصاً، فتغدو بذلك عديمة القيمة والأثر.

  وفى هذا السياق، فلايمكن قبول مبدأ إعادة النظر فى الوصف الذى أسبغه المحكمون على الإتفاق، مالم يكون هذا الوصف قد إنطوى على إحتيال أو فساد، ففى هذه الحالة فقط، يجــب السماح للمحكمة بإعادة النظر فى ذلك الوصف، ولذلك فنحن نتفق مع مؤيدى المراجعة القضائية على نطاق واسع فى أنه لا يوجد سبب أو مُبرر قوى لجعل سُلطة المحكمة بشأن التحقق من إختصاص المحكمين أكثر أهمية من سلطة المحكمة فيما يتعلق بمراجعة إستيفاء متطلبات الإلتزام بالنظام العام .

   وأخيراً، فإن عدم إثارة مُخالفة النظام العام أمام هيئة التحكيم سواء من الأطراف أو من الهيئة ذاتها، لا يحول دون قيام قاضى التنفيذ لاحقاً بإجراء المراجعة الشاملة لحكم التحكيم لبيان مــــدى تحقق الإلتزام بالنظام العام "، وبمعنى آخر فإن سقوط الحق في إبداء الدفع بالنظام العام وما يوجبه إعمال مبدأ حُسن النية أو مفهوم التنازل، لا يُمكن أن يحول دون مراجعة إستيفاء متطلبات النظام العام، وهذا المعنى قد أيدته إتفاقية نيويورك، إذ لا يحتاج الدفع بمخالفة النظام العام إلى إثارته من قبل أحد الطرفين، وإنما يُمكن للمحكمة أن تعرض له من تلقاء نفسها، على خلاف الأسباب الأخرى الواردة فى المادة الخامسة.

  والخلاصة أن إتفاقية نيويورك قد وازنت بين حقوق كافة الأطراف، فهي لم تبرم لحماية حقوق المدعين فقط، بل أيضاً للحفاظ على حقوق المدعى عليهم الإجرائية والموضوعية والتي قد تكون قــــد أهدرت حقاً أثناء سير عملية التحكيم، بحيث تكون المراجعة القضائية في هذه الحالة بمثابة دعم لا العملية التحكيم وليست سبيلاً للتدخل فيها، ويتمثل دورها فى ضمان سلامة الإجراءات الأساسية للتحكيم. 

   والقول بغير ذلك معناه منح الإعتراف والتنفيذ الحكم التحكيم مهما كان الأمر، ولذلك تأتى الأسباب المحدودة لرفض الإعتراف والتنفيذ فى هذه الإتفاقية من أجل تفادى أحكام التحكــ الصادمة، فى الأحوال التى يكون فيها المحكمون على سبيل المثال، قد تجاهلوا بشكل صارخ نصوصاً صريحة وجلية في العقد بما يوجب فى هذه الحالة رفض الإعتراف بهذه الأحكام أو تنفيذها، حتى لاتصير النصوص التي تُحثُ هيئة التحكيم على مُراعاة أحكام العقد بلا معنى أ أو حتى مضللة.

الإعتراف أو التنفيذ الجزئى لحكم التحكيم فيما لا يخالف فيه النظام العام

   لم تنص المادة ٥ (۲) صراحةً على الإعتراف أو التنفيذ الجزئى لحكم التحكيم فيما لايُخالف النظام العام على غرار ما يسمح به الشطر الثانى من المادة (۱٥) (ج) إذا كان من الممكن "فصل أحكام التحكيم المتعلقة بالمسائل التي تخضع للتحكيم عن المسائل التي لا تخضع له “، ولذلك فإن التساؤل المطروح عما إذا كانت المادة (٥(۲) من الإتفاقية تسمح بمثل هذا الإعتراف أو التنفيذ الجزئي .

   وقد أجابت على ذلك المحكمة المحلية بشمال ولاية جورجيا الأمريكية، وذلك في قضية Laminoirs-Trefileries-Cableries de Lens,S.A. v Southwire .Co ، حين رفضت المحكمة تنفيذ جُزء من حكم التحكيم الذى يتضمن معدل فائدة إضافية كجزاء عن التأخير فى السداد تزيد إلى خمسة بالمائة فى العام بعد شهرين من تاريخ الإخطار بالحكم، إعمالاً للقانون الفرنسي المطبق على النزاع، لتعارضه مع النظام العام .

   كما أخذت بهذا الحل المحكمة العليا في هونج كونج برئاسة القاضي | Kaplan، في حكمها الصادر في قضية .J. J. Agro Industries(P)Ltd. V. Texuna Int'l Ltd ، حين سمحت بالتنفيذ الجزئى لحكم التحكيم فيما لايُخالف النظام العام، قياساً على ماهو مقرر في المادة ٥ (۱) (ج)، ومن وجهة نظر المحكمة سيكون مُنافياً للعقل ألا . تنفيذ حكم التحكيم بأكمله يتم بسبب الطعن على جزء منه. 

   وعلى خلاف ذلك، قضت المحكمة العليا في بومباي في قضية Renusagar بأن حكم التحكيم الصادر وفقاً لغرفة التجارة الدولية بشأن الفائدة المركبة كتعويض عن الأضرار للتأخر في سداد المطالبة الخاصة بفائدة مُستقطعة لم يكن مخالفاً للنظام العام الهندي.

الممارسة العملية لأسباب رفض الإعتراف والتنفيذ المتصلة بالنظام العام

   يتم تفسير النظام العام باعتباره سبباً لرفض التنفيذ طبقاً للمادة الخامسة (٢)(ب) من إتفاقيـــة نيويورك تفسيراً صارماً، ولذلك فإنه يتم فى الغالب رفض هذا الدفع، بحيث تأتى حالات رفض التنفيذ بالنسبة للقضايا المعلن عنها لمخالفة النظام العام فيها قليلة بشكل ملحوظ، إلا أن هـذه النسبة المحدودة، وعلى نحو ماتقدم وماسيلى بيانه تعكس مع ذلك إختلافاً واضحاً في التفسير، وسوف نحاول فى الفقرات التالية أن تسلط الضوء على ذلك بإيجاز من خلال دراسة وتحليل الأمثلة المستمدة من السوابق القضائية المتعلقة ببعض أسباب رفض الإعتراف والتنفيذ، مثل مُخالفة قواعد المحاكمة العادلة والقابلية للتحكيم، وأمثلة أخرى تتعلق بمخالفة النظام العام، مع الإحالة إلى ما عرضناه سلفاً بالتفصيل ضمن التعليق على الأسباب الأخرى لرفض الإعتراف والتنفيذ. 

أولاً: مخالفة قواعد المحاكمة العادلة

  تقع مخالفة قواعد المحاكمة العادلة أيضاً ضمن نطاق النص المتعلق بالنظام العـــام الـــوارد في المادة الخامسة (۲) (ب) حتى وإن أدرجت فى نص المادة الخامسة (۱) (ب)، وبالتالي فإن الإستناد على مخالفة النظام العام في هذه الحالة يُمكن أيضاً أن يكون بموجب المادة الخامسة (۲)(ب) من الإنفاقية ، وبالفعل فقد عُرض على المحاكم في العديد من القضايا ، الدفع بمخالفة قواعد المحاكمة العادلة مصحوباً بالدفع بمخالفة النظام العام.

 أن إجراءات التحكيم قد نظمت بطريقة تعتمدُ على إتاحة المناقشة الشفهية فقط في الوقت الذى لم يتم فيه تبادل أى مُستندات ؛ وثانيهما: أن أحد الطرفين قدم بياناً مكتوبـاً بعــــد السماح له أخيراً بتسليم مُستندات جديدة، دون أن تُتاح للطرف الآخر فرصة التعليق على تلك المستندات شفهياً أو كتابةً وقد أيدت محكمة استئناف لاهاى هذا القرار، ورفضت الإعتراض عليه بأن المحكمة الإبتدائية لم تأخذ فى إعتبارها ما إذا كانت هيئة التحكيم ستتخذ قراراً مختلفاً فيما لو لم تكن قواعد المحاكمة العادلة قد تم مُخالفتها، وقد رأت محكمة الإستئناف أن الإجابة على هذا السؤال كان يتطلب منها مُراجعة القضية التى جاءت وقائعها صحيحة.

  كما أشار القاضى / Mason في حكمه الصادر في قضية . Hebei Import & Export Corp. v. Polytek Engineering Company Ltd، إلى أنه قد أصبح من المألوف إثارة السبب الوارد في المادة الخامسة (۱) (ب) – المتعلق بالمخالفات الإجرائية، من السبب المتعلق بالنظام العام المادة الخامسة (۲)((ب))، وإرتأى أنه لا يوجد سبب يحول دون إتباع هذا النهج، إلا أنه إذا  سعي أحد الأطراف لإثارة السبب الوارد بالمادة الخامسة (۱)(ب) تحت ستار النظام العام، فإنه ينبغي عليه أن يتحمل عبء إثباته فى حين يجوز لمحكمة التنفيذ في ظل المادة الخامسة (۲) (ب) إثارة هذه المسألة من تلقاء نفسها .

   ويتضح من دراسة السوابق القضائية فى هذا الصدد، أن مُخالفة قواعد المحاكمة العادلة تلعب دوراً مؤثراً في حكم التحكيم، إلا أن المحاكم في نفس الوقت تقصر هذه المخالفة على الحالات المؤثرة والخطيرة فقط، كما ذهبت المحاكم إلى أبعد من ذلك حين أكدت في كثير من الأحيان على أن مخالفة المبادىء الأجنبية الخاصة بالإجراءات القانونية السليمة لا تُشكل بالضرورة إنتهاكاً الشروط المحاكمة العادلة وفقاً لقانون دولة القاضي.

ثانياً: القابلية للتحكيم 

  تعد القابلية للتحكيم جُزءاً من النظام العام، وقد تم تمديد نطاق قابلية الموضوعات للتحكيم بصفة مستمرة، من خلال توسيع نطاق الموضوعات التى تُعتبر قابلة للتحكيم فيها، وذلك لجعل الإعتراض على التنفيذ من خلال هذا الدفع فى أضيق الحدود، وعلى سبيل المثال، في القرارات التي صدرت عن المحكمة العليا الأمريكية إعتبرت أن الدعاوى التي تخضع لقانون الأوراق المالية الفيدرالي ، وقانون مُكافحة الإحتكار تخضع للتسوية بطريق التحكيم، كما توصلت المحاكم الأمريكية إلى أن كل من منازعات حقوق التأليف والإفلاس "، تكون قابلة للتحكيم فيها.

    ومع ذلك، فلايوجد تناغم بين قوانين الدول ومُمارسات المحاكم الوطنية بالنسبة للمجالات  الجديدة التي أصبح من الجائز التحكيم فيها، ولذلك فقد صدرت بعض الأحكام برفض الإعتراف بحكم التحكيم أو رفض تنفيذه بموجب إتفاقية نيويورك على أساس عدم قابلية النزاع للتحكيم، وذلك بسبب إختلاف مفهوم "القابلية للتحكيم بحسب المعايير المحلية المتبعة من دولة لأخرى، فضلاً عن عدم وجود تناغم عالمى بالنسبة لكيفية تحديد القانون الواجب التطبيـق علــي قابليـــة التحكيم فى مثل هذه المنازعات.

  الخلاصة على الرغم من هتاف العديد لإتفاقية نيويورك ، إلا أن البعض قد أخذ عليها بأنها تقدم للمدعى عليه الخاسر من خلال الدفع بمخالفة النظام العام فرصة ثانية لإحباط التنفيذ ،  بينما رأى فيه البعض الآخر صمام أمان ضرورى، وذلك على الرغم من سعى واضعى الإتفاقية إلى الحد من نطاقه قدر الإمكان ".

   ولا جدال في أنه في ضوء غياب مفهوم واضح ومُحدد للنظام العام، فإن التباين الواضح بشأن نطاق المراجعة القضائية لحكم التحكيم لبيان مدى توافقه مع مبادئ النظام العام الدولي، وكذا التضارب الحاصل فيما يتعلق بتفسير المحاكم الوطنية لهذا المفهوم، وما أسفر عنه ذلك من إنعدام التناسق بين القرارات والأحكام الصادرة فى هذا الشأن، على نحو ما تقدم بيانه، ماقد يُشجع الطرف الخاسر على التعويل على النظام العام للإعتراض على التنفيذ، أو على الأقل لتعطيله. 

  ولذلك يبدو السبيل للسيطرة على الجواد الجامح في تحقيق توافق دولى حول مفهوم النظام العام، بحيث يمكن فى هذه الحالة إستخدام الدفع به كسلاح أخير لمواجهة إنعدام الإشتراك القانوني بين القوانين الوطنية المختلفة ، وقصره على حالات الإنتهاك الصارخ للمبادىء الأساسية في الدولة ، وكذا تبنى مُقترح إنشاء محكمة دولية لأحكام التحكيم تتبع قواعد موحدة للتطبيق والتفسير، وهذا الإقتراح يبدو خطوةً عظيمة بالنسبة للدول التي ترغب في ممارسة سيادتها. 

  وعلى الرغم مما أشرنا إليه سلفاً، أن أسباب رفض الإعتراف والتنفيذ الواردة في المادة الخامسة من الإتفاقية قد جاءت على سبيل الحصر، وبالتالى فلا يُمكن الإستناد إلى أى أسباب قانونية أخرى، فقد خرجت بعض أحكام القضاء المقارن على هذه القاعدة، وإبتكرت أسباب أخرى لرفض الإعتراف والتنفيذ لم يرد النص عليها في الإتفاقية على نحو قد يؤثر على فعالية هذه الآلية الدولية في تحقيق أهدافها.