تنص المادة ٢٥٣ من قانون التحكيم المصرى على أنه " وتقضى المحكمة التي تنظر دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية ".
وأول ما يلاحظ على هذه المادة أنها تعطى للمحكمة التي تنظر دعوى البطلان ، وهي محكمة الاستئناف أن تقضى من تلقاء نفسها البطلان إذا كان الحكم يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية ، وذلك حتى إذا كانــت دعوى البطلان المرفوعة أمامها ، تستند على سبب آخر من الأسباب الواردة في المادة ١٥٣ بفقراتها المتعددة ، وحتى لو كان هذا السبب المدعى به ، غير متحقق في واقعة الحال . فيحق للمحكمة أن تقضى ببطلان حكم التحكيم لمخالفته للنظام العام في مصر ، استنادا إلى هذا السبب وحده .
ومما يلاحظ على هذه المادة أيضاً أنها أشارت إلى فكرة النظام العام فهـــل يقصد بذلك أن أى مخالفة للنظام العام الداخلي في مصر تؤدى إلى إهدار حكـــم التحكيم أم أن فكرة النظام العام يقصد بها فكرة النظام العام الدولي المتعارف على إعمالها في إطار العلاقات الخاصة الدولية وليس مجرد فكرة النظام العام الداخلي؟ يبدو لنا أن عدم ذكر المشرع المصرى للفظ الدولي بجانب فكــــرة النظــــام العام ترجع إلى أن قانون التحكيم المصرى الجديد لا يعالج فقط التحكيم التجـــاري الدولي ولكنه يسرى أيضا على التحكيم الداخلى ، دون تفرقة بين النصوص التــى تخص كل من النوعين من أنواع التحكيم . ولعل هذه من أبرز الانتقادات التــ يمكن أن توجه إلى هذا القانون الذى كان حرى به أن يقرر لكل من النوعين مـــــن أنواع التحكيم ، القواعد الخاصة والذاتية به . وفى ضوء هذه الحقيقة فإنه يبدو من المفهوم عدم إقران المشرع المصرى لفكرة النظام العام بلفظ الدولي .
ويقترب من نص المادة ٥٣ ٢ من قانون التحكيم المصرى الجديد من نص المادة ١٥٠٢ - ٥ من قانون المرافعات الفرنسي الجديد إذ تنص المادة المذكورة من قانون المرافعات الفرنسي الجديد والمصاغة أصلاً لتنظيم الرقابة على إصدار الأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي على أنه يرفض لاعتراف بالأحكــام التحكيمية أو تنفيذها إذا كانت مخالفة للنظام العام الدولى . والإحالة " إلــى هـذا النص من قبل المادة ١٥٠٤ الخاصة بحالات بطلان الحكم التحكيمي تتضمن أن الحكم التحكيمي الصادر في فرنسا يمكن القضاء ببطلانه إذا كان مخالفاً للنظـام العام الدولى ، وفقاً للمفهوم المتعارف على هذه الفكرة في إطار القانون الدولي الخاص .
ولعله مما تجدر الإشارة إليه أن مفهوم النظام العام الذي يتعين إخضاع الحكم التحكيمى لرقابته هو ذلك القائم وقت ممارسة الرقابة على الحكم . والقاعدة المماثلة لهذا المبدأ والتي تنطبق على الأحكام الأجنبية يطلق عليها مبدأ وقتيــة النظام العام . ومن هنا فإنه قد يحدث أن يكون الحكم التحكيمي متوافقاً مع المفهوم الوطني للنظام العام الدولى لحظة صدوره بينما يعتبر ضد النظام العام في اللحظة التي يطلب فيها إصدار الأمر بتنفيذه .
ومطابقة الحكم التحكيمى للنظام العام الدولى تعنى بحث مطابقة هذا الحكم من ناحية الإجراءات وأيضاً من ناحية الموضوع .
ويتحقق التعارض بين حكم التحكيم والنظام العام فى مصر في صورتين :
الصورة الأولى: يكون مصدر التعارض مع النظــام العــام نـابعـا مـن الإجراءات التي اتبعت في إصدار حكم التحكيم وانتهاكها لحقوق الدفاع .
سبق أن أشرنا إلى أن المشرع المصرى قد جعل من عدم احترام حقوق الدفاع وعدم احترام مبدأ المواجهة والمساواة بين الأطراف سببا من أسباب الطعن عليه بالبطلان . ونص فى المادة ٢٦ من قانون التحكيم على أنه : " يعامل طرفا التحكيم على قدم المساواة ويهيأ لكل منهما فرصة متكافئة وكاملة لعرض دعـــــواه ". ومن هنا فإن أي مساس بهذه المبادئ يعد سبباً موجباً للبطلان في حالة تمسك أحد الأطراف به .
ومع ذلك فإنه إذا لم يتمسك أحد الأطراف بانتهاك أي من هذه المبادئ فإن محكمة الاستئناف يمكنها أن تقضى ببطلان حكم التحكيم لانتهاكه هـذه المبادئ المتقدمة والتي تعد من صميم فكرة النظام العام الإجرائي في مصر.
وعلى العكس من ذلك ، فإن مبدأ المساواة بين الأطراف يفترض أن تكون الفرصة قد تهيأت لكل طرف في أن يعين محكمه .
· أما الصورة الثانية: التى يتحقق فيها التعارض بين حكم التحكيم والنظام العام في مصر فيها تتعلق بتعارض مضمون هذا الحكم مع فكرة النظام العام .
ولكي يكون الحكم التحكيمي محلا للقضاء ببطلانه أو رفض إصدار الأمر بتنفيذه فإنه يجب أن يصطدم هذا الحكم في النتيجة المادية الملموسة التي يرتبهـا، لحظه قيام القاضي بفحصه ، مع المبادئ الأساسية السائدة في القانون الوطني والمطبقة في إطار العلاقات الدولية .
ولعله من أهم المسائل التي تتعارض مع النظام العام الدولى وفقاً للمفهـوم السائد في العديد من الدول وليس وفقاً لمفهوم النظام العام الدولي في فرنسا أو في مشكلة الفساد والرشوة .
حكم محكمة استئناف باريس الصادر في ١٠ سبتمبر ١٩٩٣ في قضية شركة Alsthom ضد شركة Westman :
في 11 ديسمبر ۱۹۸۵ أبرمت الشركة الفرنسية alsthom Turbines، والتي كانت ترغب في المشاركة فى المناقصة الخاصة بمشروع بتروكيميائي Arak ، والذى كان المقاول فيه شركة إيرانية مع الشركة الانجليزية Westman بهدف تسهيل إختيارها المسبق في المشروع . ولقد حددت مهمة شركة Westman في العقد المذكور في عبارات فضفاضة حيث حدد دورها بأن تقدم لشركة Alsthom أكبر قدر ممكن من المعلومات وأن تمدها بالمقترحات وكل النصائح المفيدة من أجل الفوز بالتعاقد في أفضل شروط ممكنة وأن تقدم أيضاً لها كل المساعدة التي يتوقع تقديمها .
وبالمقابل لهذه الالتزامات الواقعة على شركة Westman ، فإنه كان من الطبيعي أن ينص على أن تتلقى شركة Westman عمولة يتم تحديدها بشكل لاحق من خلال اتفاق جديد يبرم بين الأطراف ، شريطة أن تغطى هذه العمولة كل النفقات ، أياً كانت طبيعتها ، والتى تم إنفاقها بواسطة هذه الشركة .
ولقد نص أيضاً على أن هذه العمولة لن تكون مستحقة ، سواء بشكل كلي أو جزئى إلا إذا تم رسو العطاء على شركة Alsthom في المدة المحددة . ولمــا كان هذا الشرط الأخير قد تحقق نظراً لإبرام شركة Alsthom فـــي ۱۲ مارس ۱۹۸۹ لعقد توريد توربينات الغاز مع المشروع المذكور ، فإن شركة Westman طالبت شركة Alsthom بالوفاء بالعمولة التي يتضمنها العقد المبرم بينهما والحق في الحصول عليها والتي حددتها أولاً بمبلغ ٦% ثم بعد ذلك بمبلغ %3 من مجموع المبالغ التى سيتم دفعها لشركة Alsthom بواسطة المشروع .
ونظراً لرفض شركة Alsthom دفع العمولة المتفق عليها فإن شركة Westman شرعت فى اتخاذ إجراءات التحكيم أمام غرفة التجارة الدولية في باريس إعمالاً لشرط التحكيم الوارد في العقد المبرم بينهما ، والذي ينص على أن كل منازعة تنشأ عن هذا الاتفاق يتم حسمها بشكل نهائى وفقاً لقواعد المصالحة والتحكيم الخاصة بغرفة التجارة الدولية بباريس بواسطة ثلاثة محكمين يتم تعيينهم وفقاً لقواعدها . ولقد قبلت شركة Alsthom المشاركة في التحكيم .
ولقد تمسكت شركة Alsthom أمام محكمة التحكيم بشكل أصلى أن العقد محل المنازعة يتعين القضاء ببطلانه بسبب عدم مشروعية سببه . فالمهمة الحقيقة التي كان منوطاً بشركة Westman القيام بها تتلخص في استعمال كل الوسائل من أجل التأثير على المقاول ، فى اختياره لمن ترسو عليه المناقصة. واحتياطيا إدعت شركة Alsthom أن شركة Westman لم تمارس أي نشاط ، وبالتالي فإنه لا يحق لها المطالبة بأية مبالغ أياً ما كانت بناءً على العقد الذي لم تقم بتنفيذه.
والواقع أن هذه الطلبات التي تمسكت بها شركة Alsthom لم تجد أي صدى لها أمام هيئة التحكيم التي انتهت في حكمها الصادر في ۲۱ مارس ۱۹۹۲ إلى القضاء بأن شركة Alsthom ملزمة بدفع عمولة لشركة Westman تقــــدر بنسبة 4% من قيمة الصفة المبرمة بينها وبين الشركة صاحبة المشروع .
ولقد قامت شركة Alsthom ، التي أصبحت تسمى الشركة الأوروبية (.Gas Turbin (E.G.T ، نتيجة للتغيير الذي لحق باسمها ، بالطعن بالبطلان على حكم التحكيم المذكور أمام محكمة استئناف باريس طبقاً لنص المادة ١٥٠٢- ٥، ١٥٠٤ من قانون المرافعات الفرنسي الجديد ، والتي تعطي الحق للقضاء الفرنسي بالحكم بالبطلان على حكم التحكيم إذا خالف النظام العام الدولى .
ولتأييد الطعن بالبطلان ذهبت الشركة المذكورة إلى أن تنفيذ هذا الحكم يتعارض مع النظام العام الدولى إذ أنه يعترف بآثار عقد سببه ومحله منصبا على استغلال النفوذ وتقديم الرشوة ويعترف بالغش والتدليس الذى قامت به شركة Westman والذي ظهرت إدانتها به فى مواجهة محكمة التحكيم وشركة .E.G.T أثناء إجراءات التحكيم.
ولقد تعرضت محكمة استئناف باريس لكل من الحجج المذكورة التي استندت إليها شركة E.G.T لتأكيد إدعائها بطلب بطلان حكم التحكيم الصادر في ۲۱ مارس ۱۹۹۲.
ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس إلى رفض الشق الأول الذي تمسكت به شركة .E.G.T القائم على بطلان العقد المبرم فى ۱۱ ديسمبر ١٩٨٥، باعتباره عقدا ينصب محله وسببه على استغلال النفوذ وتقديم الرشوة ، وبناء على ذلك الرفض قررت عدم مخالفة حكم التحكيم الذى قضى بصحة هذا العقد وترتيبه لآثاره لفكرة النظام العام الدولي في فرنسا .
ولقد سببت محكمة استئناف باريس قضائها المتقدم ، بأن استغلال النفوذ المدعى بممارسته لا يوجد أدنى دليل عليه فى الأوراق المقدمة من الأطراف ولـــم يتم إثباته .
والواقع أنه كان يتعين على محكمة استئناف باريس أن تكون لديها الجرأة الكافية لتقضى ببطلان العقد المبرم بين شركة Westman وشركة Alsthon لعدم مشروعية سببه ومحله ، وبالتالي تقضى ببطلان حكم التحكيم ، إلا أنها ، بدلاً من أن تسلك هذا المسلك قررت بطلان حكم التحكيم بناء على سبب آخر وهو الغش والتدليس الذى وقع من شركة Westman أثناء إجراءات التحكيم وهـو السبب الثاني الذي كانت شركة .E.G.T. قد تمسكت به أمام محكمة استئناف باريس للطعن بالبطلان.
ولقد ذهبت محكمة استئناف باريس إلى أن هذا الغش الذي ارتكبته شركة Westman أثناء إجراءات التحكيم كان له تأثير حاسم على تقدير محكمة التحكيم لمبلغ العمولة المستحقة للشركة . ومن هنا فإن نصوص حكم التحكيم المتعلقة بهذا الشأن تعد مخالفة للنظام العام الدولى ويتعين إبطالها إعمالاً لنص المادتين 1502- 5 و 1504 من قانون المرافعات المدنية الفرنسي الجديد.
وإذا كان قضاء محكمة استئناف باريس يدين الفساد والرشوة لمخالفتهم للنظام العام الدولى فى فرنسا وإن كانت هذه الإدانة قد ظهرت في واقعة الحــــال بشكل ضمني فإن القضاء السويسري الذي سنعرض له الآن قد يستخلص منــــه نتيجة مخالفة للنتيجة المتقدمة أو بمعنى أخر يفهم من ثناياه أنه يشجع الفساد والرشوة ، بشكل صريح . ولعل في Hilarton ضد ، التي سنعرض لها الأن ما يفيد فى إلقاء الضوء على هذه الحقيقة.
قضية Hilmarton ضد OTV :
أبرمت الشركة الفرنسية OTV ، والتي كانت ترغب في المشاركة فـــــي ظل أفضل الشروط في مناقصة دعت إليها السلطات الجزائرية من أجل دراســـــة وتنفيذ مجموعة من الأجهزة بغرض تدعيم مدينة الجزائر في عام ١٩٨٠ ، مع شركة Hilmarton اتفاق تتعهد فيه هذه الشركة الأخيرة بمهمة تقديم الاستشارات الاقتصادية والضرائبية وتقوم بالتنسيق فى النطاق الإدارى بين المشاركين علــى تنفيذ المشروع وذلك مقابل مبلغ حدد بـ ٤% من القيمة الإجمالية للصفقة .
ولقد نص فى العقد على تطبيق أعمال أحكام القانون السويسرى ونص أيضا على أن جميع المنازعات الناشئة عن العقد سيتم الفصل فيها وفقاً للتحكيم ووفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية بباريس والذى يعقد جلساته في جنيف ووفقـــاً لأحكام مقاطعة جنيف .
ولقد نص فى العقد على شرط واقف إذ لا يبدأ سريان أحكامه إلا من لحظة توقيع شركة OTV على عقد توريد الأجهزة التي تتنافس هذه الشركة فـــــي المناقصة للفوز به . ولما كان هذا الشرط المذكور قد تحقق في عام ۱۹۸۳ ، فإن شركة Hilmarton حصلت في عام ١٩٨٤ على مبلغ يعادل تقريباً نصف الاتعاب المستحقة لها من شركة OTV . ولقد رفضت شركة OTV أن تدفع النصف الآخر المتبقى الذي طالبت به شركة Hilmarton في العام التالي .
· ويعزو سبب هذا الرفض إلى الأخطاء التى ارتكبتها شركة Hilmarton بالمخالفة للعقد الذي يربط بينها وبين OTV والذى أدى إلى خلق مصاعب متعددة للشركة مع عملائها . ولقد أدت التدخلات المتنوعة من قبل شركة OTV إلى تحاشى بعض هذه المصاعب عن طريق دفع المقابل الضروري الذي يتعين أخذه في الحسبان من أجل تعديل العقد بين Hilmarton و OTV .
وعلى الرغم من قبول شركة Hilmarton كمبدأ عام ، أن يؤخذ بعين الاعتبار المبالغ التى قامت شركة OTV بدفعها إلى الممثلين المحليين ، فإن الأطراف لم تتوصل إلى حل للخلاف الناشئ بينهم ، ولذلك قامـــت شــركة Hilmarton بإعمال شرط التحكيم وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية والذي عينت محكماً محامياً في جنيف . ولقد تمسكت الشركة المدعى عليهــا بـبطلان العقد لمخالفته القانون الجزائري الصادر في ۱۱ فبراير ۱۹۷۸ و الخاص باحتكار الدولة الجزائرية لقطاع التجارية الخارجية ، والذى يحظر اللجوء إلى الوسطاء والسماسرة .
ولقد أصدر المحكم حكمه في ۱۲۹ أغسطس ۱۹۸۸، ولقد لاحظ أولاً أنه لا يوجد أدنى أثر لتنفيذ فعلى للعقد محل المنازعة بواسطة Hilmarton ، وللمهمة الملقاة على عاتقها كمستشار منسق لتلك المهمة المستخلصة من العقد الموقع عــام .۱۹۸۰
ولقد استخلص المحكم من التصريحات والأقوال التي أدليـــت أمامه والمتعارضة أحياناً ، أن شركة Hilmarton مارست نشاطاً قريباً من نشاط الاستخبارات التجارية والتى تتسم بطابع سرى والشبيه بالتجسس الاقتصادي وبهذه المثابة فإن المهمة الملقاة على عاتق شركة Hilmarton تتلخص في ممارسة النفوذ لدى السلطات الجزائرية، من أجل تفصيل العرض المقدم من شركة OTV على العروض الأخرى المنافسة ، وذلك مقابل مبالغ يتم دفعها لهذه السلطات . ولقد حرص المحكم على أن يشير إلى أنه على الرغم من وجود بعض القرائن المقلقة ، فإنه من غير الثابت قيام شركة Hilmarton فعلاً بتقديم الرشاوى
للسلطات الجزائرية .
ولقد ذهب المحكم إلى أن العقد المبرم بين كل من شركتي OTV Hilmarton يخالف القانون الجزائرى الصادر فى ۱۱ فبراير ۱۹۷۸ والذى يحارب استغلال النفوذ ، وهو هدف يتفق فيه القانون الجزائرى مع غالبية القوانين الأوروبية ، وبهذه المثابة فإن العقد محل المنازعة يخالف النظام العام العابر للدول L'ordre public transnational ، ويخالف الآداب العامة وفقاً للقانون السويسرى الذى يحكم العقد Lex contractus .
والواقع أن حكم التحكيم المذكور قد لقى مصيرين مختلفين . فمن ناحية قامت الشركة Hilmarton بالطعن بالبطلان على هذا الحكم أمام المحاكم السويسرية زاعمة أنه حكم يتسم بالتحكم arbitraire وفقا لمفهوم المــادة ٣٦- ف من contonal concordat inter ، والتي كانت واجبة التطبيق ، إذ أن القانون الدولي الخاص السويسرى الجديد لم يكن قد دخل بعد في مرحلة النفاذ ، إذ بدأ العمل به ابتداءاً من أول يناير ۱۹۸۹.
ولقد حاز هذا الطعن قبولاً لدى محكمة جنيف ، وأصدرت قضاءها بإلغاء حكم التحكيم . ولقد أيدت المحكمة الفيدرالية السويسرية هذا القضاء عندما طعن فيه أمامها من قبل شركة OTV.
وإذا كان هذا هو المصير الأول الذي واجهه حكم التحكيم المذكور فـــي سويسرا ، فإنه في فرنسا أصدر رئيس المحكمة الجزئية في ۲۷ فبراير ۱۹۹۰ الأمر بتنفيذه ، وفى ۱۹ ديسمبر ۱۹۹۱ ، أيدت محكمة استئناف باريس هذا الأمر. وما يعنينا في هذا الشأن هو التعرض للمصير الأول الذي لاقاه حكـم التحكيم المذكور ، والمتمثل فى البطلان الذى قضى به القضاء السويسرى . فما الأساس الذي بنى عليه هذا القضاء بطلان حكم التحكيم؟
أسباب بطلان حكم التحكيم الصادر في قضية Hilmarton :
أسست محكمة جنيف قضاءها ببطلان حكم التحكيم المذكور أعلاه بناء على نص المادة ٣٦ - ف من قانون التحكيم السويسرى والتي تنص على يمكن الطعن على حكم التحكيم بالبطلان إذا كان متسماً بالتحكمية وذلك إذا قام على تقرير يخالف الواقع على نحو ما هو ثابت في الأوراق أو إذا كان يشكل مخالفة واضحة للقانون أو العدالة .
إذ ذهب القضاء السويسرى إلى أن المحكم قد خالف مخالفة واضحة القانون السويسرى المختار من قبل الأطراف بتقريره أن الاتفاق القائم بينهم غير أخلاقي إعمالاً لنص المادة ۲۰ فقرة 1 من قانون الالتزامات السويسرى . وللوصول إلى هذه النتيجة ، فإن القضاء السويسرى ذهب إلى إعادة تكييف الوقائع التي سبق للمحكم تكييفها . ولقد سبق أن أشرنا إلى أن المحكم لاحظ أنه لم يثبــت رسمياً وبشكل قاطع أن شركة Hilmarton قامت بتقديم الرشوه إلى السلطات الجزائرية وذلك على الرغم من عدم نقص القرائن الدالة على ذلك في واقعة الحال. فعلاوة على إخفاء العملية الحقيقة المتفق عليها بين الأطراف خلف اتفاق المساعدة القانونية والضرائبية ، فإن المقابل المرتفع جداً بالإضافة إلى طرق حساب هذا المقابل المستحق لشركة Hilmaton ، والتي تعد بصفة عامة قرائن على وجود الفساد ، فإن حكم التحكيم تضمن أيضاً شهادة أحد الشهود التي تقط بأن الخدمات المقدمة من قبل شركة Hilmarton للأشخاص المعنية الجزائرية لم تكن فوق الشبهات .
ونشير إلى أن مفهوم النظام العام الذى يتعين على هيئة التحكيم أن تراعيه يشمل مختلف أبعاد هذا المفهوم الموضوعية والإجرائية ، فالنظام العام لا يقتصر فقط على الجوانب الموضوعية ولكنه يتناول الضمانات الإجرائية التي تعــــد مراعتها من المسائل الجوهرية فى أى نظام للتقاضي بحيث يكون إهدارها موجباً لبطلان الحكم
ويراعى في هذا الصدد أن قضاء المحكمة بالبطلان استناداً على سلطتها المقررة في النص يظهر أكثر ما يظهر حين يكون القانون الواجب التطبيق على التحكيم خصوصاً على موضوعه ، هو قانون أخر غير القانون المصرى ، ففـ هذه الحالة يحتمل أن يتضمن هذا القانون ما يخالف النظام العام في مصر أو أن يكون موضوع النزاع مما لا يجوز الصلح فيه وتستعمل المحكمة أيضا سلطتها في القضاء ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن تطبيق قاعدة اتفاقية مخالفة للنظام العام في مصر.
مدى إمكانية الرجوع على حكم التحكيم لسبب آخر غير الأسباب الواردة في قانون التحكيم:
حدد المشرع المصرى حالات الطعن بالبطلان على حكم التحكيم تعـــداداً شاملاً على نحو يستحيل معه الطعن عليها بالبطلان لسبب غير هذه الأسباب الواردة على سبيل الحصر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المشرع المصرى نص صراحة في المادة ٥٢-١ على أنه : لا تقبل أحكام التحكيم تصدر طبقاً لأحكام هذا القانون الطعن فيها بأى طريق من طرق الطعـن المنصوص عليها فى قانون المرافعات المدنية والتجارية ".
هناك طريقين لمواجهة حالات الغش
الطريق الأول : هو الطعن بالبطلان على حكم التحكيم الصادر بناء علــى غش من أحد الخصوم . وذلك على اعتبار أن الغش يدخل في إطار فكرة النظام العام الدولى وليس على اعتبار أنه سبب مستقل من أسباب الطعن بالبطلان .
والواقع أن هذا الحل يتسم بطابعه العملي وببساطته ويتمشى مع نصوص القانون وذلك جرياً على أخذ فكرة النظام العام الدولي في مفهومها الواسع .
أما الطريق الثاني: فهو الطريق الاستثنائى الذي وضعته محكمة النقض الفرنسية على الرغم من مخالفته لنصوص القانون وأسندته إلى فكرة المبادئ العامة للقانون التي تحكم التحكيم . ويتلخص هذا الحل في إمكانية قيام محكمة التحكيم بمراجعة الحكم وسحبه إذا كان منطويا على غش . ويتطلب هذا الحل أن تكون محكمة التحكيم ما زالت قائمة أو من الممكن دعوتها للانعقاد.