إن مخالفة حكم التحكيم ذاته للنظام العام في مصر وكذلك الأردن يكون موجبا لأن تحكم المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان، ببطلان حكم التحكيم من تلقاء نفسها، حتى لو لم يطلب منها ذلك أحد الخصوم ، فمثلا قد يتضح للمحكمة المختصة، وفقاً لأحكام قانون التحكيم المصري، أن حكم التحكيم متضمن ما يخالف النظام العام في مصر، دون أن يكون المدعي قد تنبه إلى ذلك، ودون أن يكون قد استند إلى ذلك في طلب البطلان، إذ يمكن أن يستند في طلب البطلان إلى سبب آخر من الأسباب الواردة في المادة (1/53) من قانون التحكيم، ويمكن أن يكون السبب المدعي به غير متحقق في واقع الحال، وبالرغم من ذلك فإنه يحق للمحكمة أن تقضي ببطلان حكم التحكيم لتضمنه ما يخالف النظام العام في مصر.
ويتعين أن نأخذ في اعتبارنا بأنه يجب أن يكون هناك دعوى بطلان مرفوعة بالفعل أمام المحكمة المختصة، حتى تقضي ببطلان حكم التحكيم، إذا رأت أن هذا الحكم يتضمن ما يخالف النظام العام، مما يعني أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي ببطلان حكم التحكيم بناء على طلب من النيابة العامة، أو من تلقاء نفسها. دون أن يكون هناك دعوى بطلان مرفوعة من أحد الخصوم.
على أننا نستطيع أن نسوق بعض التعاريف لفكرة النظام العام، فقد ذهب جانب من الفقه إلى أنه يقصد بالنظام العام في دولة ما: "مجموعة الأصول والقيم التي تشكل كيانها المعنوي، وترسم صورة الحياة الإنسانية المثلى فيها وحركتها نحو تحقيق أهدافها، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو خلقيه وهي بهذه المثابة مبادئ وقيم تفرض نفسها على مختلف أنواع العلاقات القانونية في الدولة، وجودا وأثراً عالياً في صورة قواعد قانونية آمرة تحكم هذه العلاقة، والمظهر العملي لهذه القواعد والوظيفة التي تؤديها هو بطلان كل عمل إرادي يأتيه المخاطب بها بالمخالفة لها، عقدا كان هذا العمل أو عملا منفردا من ناحية وعدم جواز النزول عن الحقوق والمراكز القانونية التي يقررها بعض منهم قبل البعض الأخر من ناحية أخرى".
وذهب جانب آخر، إلى أنه يقصد بالنظام العام: "أداء التنظيمات الأساسية، التي لاغنى عنها لأفراد المجتمع للدور المنوط بها بشكل يحقق الهدف من وجودها".
وعرفها قسم آخر، بأن قواعد النظام العام: "هي القواعد التي يقصد بها تحقيق المصلحة عامة - سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد".
وقد تصدت محكمة استئناف القاهرة لبيان نطاق فكرة النظام العام بقولها: "إن فكرة النظام العام هي من الاتساع، بحيث تشمل الكثير من القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية والتي تعلو على صالح الأفراد"..
ولنا أن نستعرض بعض الحالات التي يظهر فيها حالة تضمن حكم التحكيم ما يخالف النظام العام، ومنها صدور حكم تحكيم يقوم على أسباب عنصرية، أساسها التمييز في اللون أو الجنس، أو اللغة، أو الدين. أو صدور الحكم مبنيا على تجارة غير مشروعه، مثل تجارة الرقيق، والأسلحة المحظورة، والممنوعات، أو حكم التحكيم المبني على المسائل التي تقوم في جوهرها على الرشوة والفساد والاستغلال والتخريب.
أما المشرع الكويتي فلم يضمن المادة (186) من قانون المرافعات، والمتعلقة بأسباب بطلان حكم التحكيم نصا يفيد ببطلان حكم التحكيم إذا خالف قاعدة متعلقة بالنظام العام، ومع ذلك، فإن البعض يرى بأنه لا جدال في اعتبار حالة مخالفة حكم التحكيم للنظام العام إحدى الحالات التي تجيز للمحكوم عليه رفع دعوى البطلان، وإن البطلان لا يزول في هذه الحالة إذا نزل عنه صراحة أو ضمنً من شرع لمصلحته لأنه يتعلق بالنظام العام. (المادة 20 مرافعات كويتي).
أما موقف المشرع الفرنسي فقد عبر عنه صراحة في نص المادة (6/1484) من قانون المرافعات، والتي تتعلق بالتحكيم الداخلية، حيث نصت على جواز قيام المحكوم عليه بحكم تحكيم رفع دعوى البطلان "إذا خالف المحكم قاعدة متعلقة بالنظام العام.
وعليه فإن على المحكمة المختصة وفقاً لأحكام قانون التحكيم المصري، وكذلك قانون التحكيم الأردني. ألا تقضي ببطلان حكم التحكيم، إلا فيما تضمنه من مخالفة للنظام العام، وهذا يعني أن القضاء بالبطلان ينحصر فقط عن ذلك الجزء من الحكم، الذي تضمن مخالفة للنظام العام، ولا ينسحب البطلان إلى الأجزاء الأخرى، به وهذا يتطلب بطبيعة الحال أن يكون فصل الجزء الباطل عن الجزء الصحيح ممكناً.
وقد أخذت محكمة النقض المصرية بالتنفيذ الجزئي لحكم التحكيم فيما لا يخالف النظام العام، ما دام أنه يمكن الفصل بين أجزاء الحكم، حيث إنها لم تقرر منع تنفيذ حكم التحكيم، إلا في حدود ما قضي به متجاوزا الحد الأقصى لسعر الفائدة، فإذا ما تضمن الحكم القضاء بفوائد تأخيريه لصالح أحد المحتكمين بسعر يزيد عن الحد الأقصى المحدد قانوناً، فعندئذ يعد الحكم باطلاً في الحدود التي قضى بها بفائدة تزيد عن الحد القانوني، ولا يمتد البطلان إلى ما غير ذلك.
ولا يخلو من الفائدة استحضار ما تم ذكره وهو وجوب مراعاة إن كل قاع آمرة ليست بالضرورة متعلقة بالنظام العام، ولكن العكس صحيح أي أن كل قاعدة متعلقة بالنظام العام هي قاعدة آمرة، وعلى ذلك فإنه لا يكفي للقضاء ببطلان حكم التحكيم أن يتضمن هذا الحكم مخالفة لقاعدة قانونية آمرة، بل يجب أن تتعلق هذه القاعدة بالنظام العام.
ويقصد بالنظام العام الذي يتعين إخضاع الحكم التحكيمي لرقابته؛ ذلك الذي يكون قائما وقت ممارسة الرقابة على الحكم.