إن مخالفة حكم التحكيم ذاته للنظام العام في مصر وكذلك الأردن يكون موجباً لأن تحكم المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان، ببطلان حكم التحكيم مـن تلقاء نفسها، حتـى لـو لم يطلب منهـا ذلـك أحـد الخـصوم، فمثلاً قـد يتضح للمحكمة المختصة، وفقاً لأحكام قانون التحكيم المصري، أن حكم التحكيم متضمن ما يخالف النظام العام في مصر، دون أن يكون المدعي قد تنبه إلى ذلك، ودون أن يكون قد استند إلى ذلك في طلب البطلان، إذ يمكن أن يستند في طلب البطلان إلى سبب آخر من الأسباب الواردة في المادة (1/53) من قانون التحكيم، ويمكن أن يكون السبب المدعى بـه غير متحقق في واقع الحال، وبالرغم مـن ذلـك فإنـه يحـق للمحكمة أن تقضي ببطلان حكم التحكيم لتضمنه مـا يخـالف النظـام الـعـام في مصر، حتى لو كان هناك اتفاق بين الأطراف على مخالفة النظام العام، إذ أن ذلك لن يكون مانعاً من أن تحكم المحكمة ببطلان حكم التحكيم من تلقاء نفسها.
ويتماشى هـذا القـول مـع الفقرة الثانيـة مـن المادة الخامسة من اتفاقية نيويورك (1958)، بشأن الاعتراف وتنفيـذ أحكـام المحكمين الأجنبية، والتي تؤكـد حـق المحكمة المختصة في الدولة المطلوب تنفيذ حكم التحكيم فيهـا أن تـرفـض هـذا التنفيذ، إذا تبين لها أن الاعتراف بحكم التحكيم، أو تنفيذه يتعارض مع النظام العام في هذه الدولة.
وهذا ما أقرته المادة (4/34/ب/2) من القانون النموذجي، والتي تنص على إلغاء حكم التحكيم: "إذا وجدت المحكمة: أن قرار التحكيم يتعارض مع السياسة العامة لهذه الدولة"، أي الدولة المطلوب تنفيذ الحكم فيها.
ويتعين أن نأخذ في اعتبارنا بأنـه يجـب أن يكـون هـنـاك دعـوى بطـلان مرفوعـة بالفعل أمام المحكمة المختصة، حتى تقضي ببطلان حكم التحكيم، إذا رأت أن هـذا الحكم يتضمن ما يخالف النظام العام"، مما يعني أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي ببطلان حكم التحكيم بناء على طلب من النيابة العامة، أو من تلقاء نفسها، دون أن يكون هناك دعوى بطلان مرفوعة من أحد الخصوم.
على اننا نستطيع أن نسوق بعض التعاريف لفكرة النظام العام، فقد ذهب جانب مـن الفقـه إلى أنه يقصد بالنظام العام في دولـة مـا : "مجموعـة الأصـول والقيم التي تشكل كيانها المعنوي، وترسـم صـورة الحياة الإنسانية المثلى فيهـا وحركتهـا نحـو تحقيق أهدافها، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية أو خلقيـه وهـي بهذه المثابة مبادئ وقيم تفرض نفسها على مختلف أنواع العلاقات القانونية في الدولة، وجـودا وأثراً عالياً في صورة قواعد قانونية آمرة تحكم هذه العلاقة، والمظهر العملي لهذه القواعد والوظيفة التي تؤديها هو بطلان كل عمل إرادي يأتيه المخاطب بها بالمخالفة لها، عقـداً كان هذا العمل أو عملاً منفرداً مـن ناحيـة وعـدم جـواز النزول عن الحقوق والمراكز القانونية التي يقررها بعض منهم قبل البعض الأخر من ناحية أخرى".
وذهب جانب آخر" إلى أنه يقصد بالنظام العام: "أداء التنظيمات الأساسية، التي لاغنى عنها لأفراد المجتمع للدور المنوط بها بشكل يحقق الهدف من وجودها".
وعرفها قسم آخر بأن قواعد النظام العام: "هي القواعد التي يقصد بها تحقيق لمصلحة عامة - سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على، مصلحة الأفراد".
وقـد تـصدت محكمة استئناف القاهرة لبيـان نطـاق فـكـرة النظـام العـام بقولها : "إن فكرة النظام العام هي من الاتساع، بحيث تشمل الكثير من القواعد التي ترمي إلى تحقيق المصلحة العامة للبلاد سـواء من الناحية السياسية أو الاجتماعيـة أو الاقتصادية والتي تعلو على صالح الأفراد".
وقد حددت محكمة النقض المصرية نطـاق فكرة النظام العام بقولها إن: "مناط استبعاد أحكام القانون الأجنبي الواجب التطبيق وفقا للمادة 28 من القانون المدني ـ وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة ــ هـو أن تكون هذه الأحكام مخالفة للنظام العام في مصر أي متعارضة مع الأسس الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو الخلقية في الدولة مما يتعلق بالمصلحة العليا للمجتمع".
من هذه التعاريف لفكرة النظام العام تظهر مدى صعوبة تحديد هذه الفكرة ، لكونها متغيرة غير ثابتة لا يكتب لها الاستقرار في حدود معينة؛ بل هي فكرة ـ دائماً في تطور وتغير مستمرين.
ولنا أن نستعرض بعض الحالات التي يظهر فيها حالة تضمن حكم التحكيم ما يخالف النظام العام، ومنها صدور حكم تحكيم يقوم على أسباب عنصرية، أساسها التمييز في اللون أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو صدور الحكم مبنيا على تجارة غير مشروعه، مثل تجارة الرقيق، والأسلحة المحظورة، والممنوعات، أو حكم التحكيم المبني على المسائل التي تقوم في جوهرها على الرشوة والفساد والاستغلال والتخريب.
أما المشرع الكويتي فلم يضمن المادة (186) من قانون المرافعات، والمتعلقة بأسباب بطلان حكم التحكيم نصاً يفيد ببطلان حكم التحكيم إذا خالف قاعدة متعلقة بالنظام العام، ومع ذلك؛ فإن البعض يرى بأنه لا جدال في اعتبار حالة مخالفة حكم التحكيم للنظام العام إحدى الحالات التي تجيز للمحكوم عليـه رفـع دعـوى البطلان، وإن البطلان لا يزول في هذه الحالة إذا نزل عنـه صـراحة أو ضمنا مـن شـرع لمصلحته لأنه يتعلق بالنظام العام (المادة 20 مرافعات كويتي).
أما موقف المشرع الفرنسي فقد عبر عنه صراحة في نص المادة (6/1484) مـن قانون المرافعات، والتي تتعلـق بـالتحكيم الداخلي، حيـث نـصـت علـى جـواز قيـام المحكوم عليه بحكم تحكيم رفع دعـوى البطلان "إذا خالف المحكم قاعدة متعلقة بالنظام العام".
وفيما يتعلق بقانون التحكيم الدولي في فرنسا، فهو يبطل القرار التحكيمي، ويرفض تنفيذه، أو الاعتراف به إذا كان هذا التنفيذ أو هذا الاعتراف مخالفا للنظام العام الدولي، وذلك وفقا لنص المادة (1502/ 5) من قانون المرافعات.
وعليـه فـإن علـى المحكمة المختصة وفقاً لأحكـام قـانون التحكيم المصري ، وكذلك قانون التحكيم الأردني. ألا تقضي ببطلان حكم التحكيم، إلا فيما تضمنه من مخالفة للنظام العام، وهذا يعني أن القضاء بالبطلان ينحصر فقط في ذلك الجـزء من الحكم، الذي تضمن مخالفة للنظام العام، ولا ينسحب البطلان إلى الأجزاء الأخرى، وهذا يتطلب بطبيعة الحال أن يكون فصل الجزء الباطل عن الجزء الصحيح ممكنا.
وقد أخذت محكمة النقض المصرية بالتنفيذ الجزئي لحكم التحكيم فيما لا يخالف النظام العام، ما دام أنه يمكن الفصل بين أجزاء الحكم، حيث إنها لم تقرر منع تنفيذ حكم التحكيم، إلا في حدود مـا قـضـي بـه متجاوزاً الحد الأقصى لسعر الفائدة، فإذا ما تضمن الحكم القضاء بفوائد تأخيرية لصالح أحد المحتكمين بسعر يزيد عن الحد الأقصى المحدد قانوناً، فعندئذ يعد الحكم باطلاً في الحدود التي قضى بها بفائدة تزيد عن الحد القانوني، ولا يمتد البطلان إلى ما غير ذلك.
أما إذا كانت أجـزاء الحكـم لا يمكـن الفـصل فيما بينهـا نتيجـة للارتبـاط الوثيق، أو نتيجـة لتساند الأجـزاء لبعضها البعض، فـإن هـذا الحكـم يعـد بـاطلاً في مجموعه، ولا يمكن تنفيذه لاحتوائه على موضوعات تتعلق بعدم القابلية للتحكيم.
ولا يخلو من الفائدة استحضار ما تم ذكـره وهـو وجـوب مراعاة إن كل قاعدة آمرة ليست بالضرورة متعلقة بالنظام العام، ولكن العكس صحيح أي أن كل قاعدة متعلقة بالنظام العام هي قاعدة آمرة، وعلى ذلك فإنه لا يكفي للقضاء ببطلان حكم التحكيم أن يتضمن هذا الحكم مخالفة لقاعدة قانونية آمرة، بل يجب أن تتعلـق هـذه القاعدة بالنظام العام.
ويقصد بالنظام العام الذي يتعين إخضاع الحكم التحكيمي لرقابته؛ ذلك الذي يكون قائما وقت ممارسة الرقابة على الحكم، ومن هنا قد يحدث أن يكون حكم التحكيم متوافقاً مع النظام العام لحظة صدوره بينما يعتبر ضد النظام العام لحظة إصدار الأمر بتنفيذه.