إن مفهوم الخطأ في فقه الشريعة الإسلامية - وفقا لما ينادي به الباحث - ينقسم إلى نوعين مختلفين ومتميزين هما الخطأ الموضوعي والخطأ الإجرائي ، ويقصد اصطلاح الخطأ في ذاته الانحراف عن مسلك الإنسان الطبيعي السوي ، او هو مخالفة مفترضات الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتي تستلزم إحقاق الحق ونبذ الظلم ، هذه المخالفة وذلك الانحراف قد يتحققان في مجال القواعد الموضوعية في الشريعة الإسلامية وهي تلك التي تقرر الحقوق وتنشيء الالتزامات على الخاضعين الأحكام هذه الشريعة وهنا نكن بصدد خطأ موضوعي ، وقد يحدث هذا الخلل في المجال القواعد الإجرائية الخادمة للقواعد الموضوعية فنكن بصدد خطأ إجرائي.
وسوف نعرض لفكرة الخطأ الإجرائي في نقطتين نعرض في الأولى منهما لتحديد ماهية هذا الخطأ من خلال استقراء كتابات الفقه الإسلامي ، وفي النقطة الثانية نحاول إجراء مقارنة بين الخطأ الإجرائي و الخطأ الموضوعي لتحديد السمة المميزة للخطأ الإجرائي وبيان الذاتية المستقلة له وذلك على النحو التالي:
أولا : ماهية الخطأ الإجرائي:
بالطبع لم تعرض كتابات الفقه الإسلامي القديم منها والمعاصر لتحديد ماهية الخطأ الإجرائي ، ذلك أنها - على نحو ما ذكرنا- لم تستعمل مثل هذا اللفظ ، ولكن هذا لا يعني أن هذه الكتابات لم تعرف فكرة الخطأ الإجرائي ، بل إنها - وعلى نحو ما سنوضح بعد قليل - تحدثت بصورة تفصيلية عن كل الأخطاء التي يتصور وقوعها أثناء سير إجراءات الفصل في المنازعات ، بيد أنها لم تعمد إلى تكوين نظرية مستقلة وقائمة بذاتها ، كما أنها لم تستعمل الاصطلاحات التي يعمد الباحث إلى استعمالها محاولا من خلالها تجسيد نظرية مستقلة للخصومة القضائية والمسئولية الإجرائية على السواء.
ومن خلال تتبع كتابات الفقه الإسلامي في باب القضاء حول ما يتعين على القاضي ومعاونيه والخصوم تجنبه توصلا إلى حسم النزاعات والفصل في
النزاع.
ومن هذا يستفاد أن الخصومة القضائية بكل إجراءاتها تنحصر في د الأشخاص ولا تتعداهم إلى غيرهم ؛ ولذا فكل امتناع أو عمل يصدر عن غ هؤلاء لا يمكن وصفه بالخطأ الإجرائي حتى لو وقع أثناء نظر الخصومة القضائية ولذا فلو دخل أحد الناس على القاضي حال نظر نزاع ما وأتي من الأقوال أو الأفعال ما عطل سير الإجراءات وأذهب السكينة والاستقرار من ساحة القضاء فلا يوصف مسلكه بالخطأ الإجرائي لأنه صدر ممن ليس من أشخاص الخصومة.
كذلك وعلى ذات النحو فكل ما يأتيه القاضي من أمور خارج نطاق الخصومات المعروضة عليه والتي يتولى أمر الفصل فيها لا يوصف بالخطأ الإجرائي ولو انطوت هذه الأمور على إتيان ما لا يجوز اتيانه أو امتناع عن ما يلزم القيام به ، وذات القول يصدق في شأن أعوان القاضي والخصوم سواء بسواء.
ومن هذا نستطيع تحديد النطاق الشخصي والموضوعي للخطأ الإجرائي ، بأن الفعل أو الامتناع كي يوصف بوصف الخطأ الإجرائي يتعين أن يصدر أو يقع من أحد أشخاص الخصومة وأن يتعلق بإجراءات هذه الخصومة.
ثم إن الفعل أو الامتناع الذي يقع من أحد أشخاص الخصومة ويتعلق بإجراءاتها كي يوصف بالخطأ الإجرائي يجب أن يتولد عنه أثر ما ، هذا الأثر هو الذي دفع إلى وضع المبادئ التي تفرض الالتزامات الإجرائية على أشخاص الخصومة ، ويتمثل هذا الأثر في " الحيلولة دون إيصال الحق لصاحبه أو عرقلة هذا الوصول ".
ذلك أن الشارع الحكيم لم يكن ليفرض الأحكام عبثا أو إثقالا على كاهل الناس دون حكمة تشريعية ، تنزه سبحانه وتعالى عن ذلك وعلا جل شأنه علوا كبيرا، كما أن فقهاء الشريعة الإسلامية حين تمعنوا في الأدلة الشرعية وأصولها واستنبطوا أحكام الأقضية والفصل في الخصومات لم يعرضوا للواجبات الملقاة على كاهل
القائمين على أمر الخصومة القضائية والمشتركين فيها إلا مع تأكيد وتوضيح ما أدى إليه الالتزام بهذه الواجبات من نتائج تتمثل في إظهار وجه الحق في النزاع توصلا إلى إنزال حكم الشرع على ما يتولى القضاء الفصل فيه من خصومات بما يحقق العدالة والتي بها وحدها تستقيم الحياة. .
فحين فرض على القاضي ضرورة التسوية بين الخصوم فإن هذا الفرض والايجاب لم يكن غاية في ذاته بل هو وسيلة لتحقيق غاية أسمي بدونها لا يستقيم شأن القضاء ، يتضح ذلك من رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري والتي أصدر فيها أمره بالتسوية بين الخصوم ووضح الحكمة من هذه التسوية فقال رضي الله عنه وأرضاه " واس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وفي قضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، فالمساواة وسيلة لتحقيق غاية تكمن في تحقيق الطمأنينة في نفوس المتقاضين وتنحية الأهواء وتجنيب كل الاعتبارات سوی اعتبار واحد هو توخي الحق والعدل.
وهذا يجعل المظلوم يوقن بأن ضعفه وهوانه وقلة شأنه أمور لن تمنعه من اقتضاء حقه ، كما أن ذلك يؤكد للظالم أن منزلته السامية أو رتبته العالية أو سلطانه القوي أمور لن تعفيه من رد المظالم لأهلها ، ولا تستقيم عدالة أبدا إلا بتحقق الأمرين معا.
وهكذا فإن المتأمل في كل الواجبات الإجرائية المفروضة على أي من المشتركين في الخصومة القضائية يجدها سواء تمثلت في ضرورة إتيان أمر ما أو كف عن مسلك معین تهدف في مجملها إما إلى إمداد الخصومة القضائية بمتطلبات اقامتها على المنهج القويم المقرر لها وتحقيق أهدافها ، وإما تجنيب هذه الخصومة معوقات سيرها وأسباب فشلها ، وفي الحالتين فإن هذه الواجبات تعمل على إيجاد المناخ المناسب وتهيئة المنهج الملائم لأن تؤتي الخصومة القضائية ثمارها المرجوة من إحقاق حق ورفع ظلم وإقامة العدالة على وجهها الأمثل.
وما دامت جميع الالتزامات الإجرائية المقررة تهدف إلى ضمان تمكين اصاحب الحق من اقتضاء حقه في وقت ملائم ، أي تحقيق أمرين معا الأول دی إيصال الحق لصاحبه والأخذ على يد الظالم ، والثاني هو أن يتم هذا الأخذ يتحقق ذلك الإيصال في وقت مناسب وملائم ، ذلك أن العدالة البطيئة هي و الظل سواء ، أو على الأقل هي أحد دروب الظلم ، إذا كان ذلك كذلك فإن الإخلال بالالتزام الإجرائي يجب ألا يوصف بأنه خطأ إجرائي إلا إذا فوت الغاية التي من أجلها سن الالتزام وتقرر ؛ ولذا فإن هذا الإخلال لا يعد خطأ إجرائيا إلا إذا منو وصول الحق لصاحبه أو عطل هذا الوصول وعرقله ، فهو في حالة المنع يعد من دروب أكل أموال الناس بالباطل ، وفي حالة التعطيل يعد من قبيل حرمان صاحب الحق من عدالة سريعة تشبع حاجته وتروي ظمأه ، والأمر في الحالتين تعطيل الشرع الله.
وهكذا يستفاد أن مجرد الانحراف عن القاعدة الإجرائية لا يكفي لتحقق الخطأ الإجرائي ، لأن كل قاعدة إجرائية تهدف إلى تحقيق غاية محددة فيجب أن يؤدي الانحراف عنها - كي يوصف بأنه خطأ إجرائي - إلى تفويت هذه الغاية ، وهذا يثير تساؤلا أراه مهما يتمثل في مدى استلزام إثبات الضرر والمتمثل في تفويت الغاية التي تهدف القاعدة المخالفة إلى تحقيقها كي يثبت تحقق الخطأ الإجرائي بما يؤدي إلى قيام مسئولية إجرائية وما تستتبعه من توقيع جزاء إجرائي؟
بداية تجدر الإشارة إلى أهمية التمييز بين مدى استلزام إثبات الانحراف في مسلك الشخص - من قاض أو أحد معاونيه أو خصم - وبين مدى استلزام إثبات تحقق ضرر ترتب على الانحراف المذكور ، ذلك أن الانحراف بلا شك لايفترض فعلى من يتمسك بتحقق الانحراف أن يثبته ، فالرشوة في حق القاضي لا تفترض ، كما أن اللدد في شأن الخصم لا يفترض ، بل يجب أن تقوم علامات وأمارات تقطع بوجود الانحراف وأن يثبت تحقق هذا الانحراف عن القاعدة الإجرائية فعلا ، وهذا أمر يخرج عن نطاق السؤال الذي نحن بصدد الإجابة عليه.
فالسؤال هو إذا ما ثبت الانحراف عن القاعدة الإجرائية المنظمة الأمر من أمور الخصومة القضائية هل يلزم إثبات تحقق ضرر إجرائي ترتب على هذا الانحراف أم لا؟
إن الإجابة على هذا السؤال هي من الأهمية بمكان ، ذلك أن القول بأن ثبوت الانحراف وحده يكفي لتحقق الخطأ الإجرائي دون حاجة إلى إثبات الضرر الإجرائي المذكور يعني أن مجرد ثبوت الانحراف الإجرائي يقيم المسئولية الإجرائية للمنحرف بما يستتبعه ذلك من توقيع الجزاء الإجرائي المناسب ، بينما يؤدي القول بضرورة إثبات الضرر إلى عكس ذلك.
وفي الإجابة على هذا التساؤل قد يقال بأنه متى كانت جميع القواعد الإجرائية المنظمة للخصومة القضائية وضعت وقررت لتحقيق غايات محددة ، وأن هذه الغايات تؤدي في نهاية المطاف إلى إنزال حكم الشرع في النزاع المعروض وأداء الحقوق لأصحابها ورفع الظلم في وقت مناسب و معقول فإن أي انحراف عن إحدى هذه القواعد يعني في ذات الوقت وبذات القدر تفويت الغاية المتوخاة من هذه القاعدة وهو ما يقطع بتحقق ضرر إجرائي ؛ ولذا يكفي مجرد إثبات الانحراف الإجرائي كي يثبت وقوع الخطأ الإجرائي ، وبذلك يكون الضرر مفترض دائما بقرينة شرعية لا تقبل إثبات العكس.
ولكني أعتقد في عدم دقة هذا القول ، فبالرغم من عدم وجود إجابة صريحة وواضحة لهذا السؤال في كتب الفقه الإسلامي ، إلا إن مطالعة هذه الكتب تجعل الباحث يميز بين مجالين للانحراف عن القواعد الإجرائية المنظمة للخصومة القضائية على النحو التالي :
المجال الأول : إذا كانت القواعد الإجرائية تفرض أمورا الامتناع عنها مؤثم شرعا أو تمنع مسلكا إتيانه محرم شرعا ، فهنا يعد الانحراف الإجرائي في ذاته مؤثما لتنافيه مع مقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئها المقررة ، وفي هذا الفرض بعد الانحراف في ذاته قاطعا على تحقق ضرر يجب جبره ومؤكدا على تحقق خطأ المجال الثاني : إذا كانت القواعد الإجرائية المنظمة للخصومة القضائية تمنع مورا إتيانها بحسب الأصل مشروع أو تفرض أمورا الكف عنها بحسب الأصل لاح و غير ممنوع، فإن مجرد الانحراف عن القاعدة الإجرائية لا يعني قيام الخطأ الإجرائي في حق المنحرف إذ إن الضرر لا يفترض تحققه في هذا الفرض.
وسبب هذه المفارقة وهذا الاختلاف أن الانحراف في المجال الثاني ينطوي على مسلك هو في ذاته مباح ومشروع خارج الخصومة القضائية وإنما لحقه الحظر والمنع داخل هذه الخصومة لما قد يؤديه من تفويت الغاية التي تتوخي القاعدة الإجرائية تحقيقها ؛ ولذا فمن المنطقي أن يختلف الحكم عما هو مقرر في المجال الأول ، بأن يلزم لاعتبار الانحراف خطأ إجرائيا أن يثبت أن هذا الانحراف رتب ضررا ، ولا شك أن هذا الضرر يتمثل في تفويت الغاية المرجو تحقيقها من القاعدة الإجرائية التي خولفت.