أوضحنا في المطلب السابق أن المشرع عقد الاختصاص بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم لمحكمة ثاني درجة للمحكم المختصة أصلا بنظر الدعوى في غير حالات التحكيم التجاري الدولي. ومن ثم، فتختص محكمة القضاء الإداري أو المحكمة الإدارية العليا - طبقاً لقيمة العقد الإداري محل التحكيم - بنظر دعوى البطلان المتعلقة بالتحكيم في منازعات العقود الإدارية.
وبهذا الصدد يُثار التساؤل حول سلطة المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان.. هل يقتصر دورها على مجرد القضاء ببطلان حكم التحكيم أو صحته، ومن ثم رفض الدعوى وكفى، أو يتعدى ذلك إلى معاودة النظر والترجيح في هذا الحكم من كافة جوانبه الواقعية والقانونية؟ وفي حالة ما إذا قضت ببطلان حكم التحكيم هل يمكنها التصدي للفصل في موضوع النزاع أم لا؟
وقد ساير القضاء المصري الاتجاه الفقهي السابق حيث ذهبت محكمة النقض المصرية في أحد أحكامها إلى القول بأن الحكم الطعين إذا كان قد قضى ببطلان حكم المحكمين على سند من خطأ الأخير في احتساب مدة التقادم اللازمة للتملك بالتقادم الطويل، ولم يفطن إلى أن المشرع حدد أسباب بطلان حكم المحكمين وأوردها على سبيل الحصر .. ولما كان استخلاص توافر مدة التقادم من سلطة هيئة التحكيم وتتعلق بفهم الواقع في النزاع المطروح، وكان المشرع لم يجعل خطأ حكم المحكمين في استخلاص وقائع النزاع من الأسباب التي تجيز طلب إبطال الحكم، فإن الحكم المطعون فيه إذ قضى ببطلان حكم المحكمين الخطأ في احتساب مدة التقادم فإنه يكون معيباً .
وقد أكدت محكمة استئناف القاهرة، بأحد أحكامها، المعاني السابقة بقولها.... " ... إن المشرع قد فتح الباب أمام المحكوم ضده لإقامة دعوى بطلان حكم التحكيم لأسباب حددها على سبيل الحصر، ومؤدى ذلك أن تلك الدعوى لا تتسع لإعادة النظر في موضوع النزاع أو تعيب ما قضى به حكـــم التحكيم في شأنه، فلا تمتد سلطة القاضي فيها إلى مراجعة الحكم المذكور وتقدير ملاءمته أو مراقبة حسن تقدير المحكمين وصواب أو خطأ اجتهادهم في فهم الواقع وتكييفه، أو في تفسير القانون وتطبيقه ... وفي حكم آخر، حديث نسبيا بتاريخ 2006/2/7 ، أكدت ذات المحكمة أن النعي على حكم التحكيم بالقصور في التسبيب ومخالفة القانون بمقولة انتفاء توافر شرائط المسئولية التقصيرية لكون أرض النزاع مملوكة للدولة وتعد أموالا عامة لا يجوز تملكها بالتقادم، فإن هذا النعي إن صح أن يكون سببا للطعن على الحكم . إن كان يجوز الطعن عليه بغير دعوى البطلان، فإنه لا يصح أن يكون سبباً الطعن بالبطلان ذلك أن الخطأ في تطبيق القانون والقصور في التسبيب ليسا من أسباب البطلان التي أوردها المشرع في المادة ٥٣ من قانون التحكيم رقم ٢٧ لسنة ١٩٩٤ على سبيل الحصر .
بيد أننا لا نساير النظر الفقهي والقضائي السابق على إطلاقه بصدد الخطأ في تطبيق القانون أو تفسيره أو تأويله، ذلك أن الخطأ في تطبيق القانون أو تفسيره أو تأويله وإن كان لا يعد من قبيل أسباب دعوى البطلان التي أوردها المشرع على سبيل الحصر في المادة ٥٣ من قانون التحكيم، إلا أنه يتعين ملاحظة أن المسخ أو إهمال المحكم في تطبيق القانون أو تشويهه لنصوصه يعادل استبعاد القانون واجب التطبيق على موضوع النزاع بحيث يمكن اعتباره من بين الأسباب التي تجيز رفع دعوى البطلان، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن دعوى البطلان وإن كانت طريقاً خاصاً للطعن في أحكام التحكيم، وأن المحكمة المختصة بنظرها لا تعد محكمة استئنافية لهيئة التحكيم بحيث لا تنتقل إليها خصوصية التحكيم بحالتها، ومن ثم فلا يكون لها سلطة تقدير واقعات النزاع وإبداء الرأي القانوني بشأنها أو معاودة النظر والترجيح فيما فصل فيه حكم التحكيم.. إلا أن كل ذلك لا ينفى حق المحكمة في أن تفحص بعمق - وهي بصدد فحص أسباب الطعن بالبطلان - المسائل الواقعية والقانونية التي من شأنها استظهار وجه الطعن والتي لا يمكن بدونها الفصل في دعوى البطلان.. وعليه فإننا نهيب بالمشرع المصري أن يتدخل لتعديل أسباب الطعن بالبطلان بإضافة حالات الخطأ في تطبيق القانون أو تفسيره أو تأويله لتشمل عيوب الحكم الإجرائية والموضوعية على السواء بما يكفل رقابة قضائية فعالة على أحكام التحكيم بما يتيح للمحكمة التي تنظر دعوى البطلان معاودة النظر والترجيح فيما فصل فيه حكم التحكيم في ضوء ظروف وملابسات النزاع، وإنزال حكم القانون عليها لاسيما في التحكيم بالقانون، دون التحكيم طبقاً لقواعد العدل والإنصاف، ونقترح أن يكون هذا التعديل بإضافة فقرة ثالثة للمادة ٥٣ من قانون التحكيم نصها كالتالي: " يجوز الطعن بالبطلان إذا كان مبنى الطعن مخالفة حكم التحكيم للقانون أو الخطأ في تطبيقه أو تفسيره، ما لم تكن هيئة التحكيم مفوضة بالحكم طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف، كما يجوز الطعن بالبطلان إذا كان حكم التحكيم متعارضاً مع حكم قضائي نهائي أو مع حكم تحكيم نهائي آخر صدر بين الخصوم أنفسهم فــي ذات موضوع النزاع.
ومن ثم فإننا نهيب بالمشرع المصري أن يتدخل لتعديل نص المادة ٥٤ من قانون التحكيم بإضافة فقرة ثالثة لها بما يسمح للمحكمة التي تنظر دعوى البطلان بالتصدي للفصل في موضوع النزاع في الحدود التي كانت متاحة للمحكمين وهو ما يتفق والفلسفة التي يقوم عليها التحكيم تدعيماً لفاعليته وفاعلية الرقابة القضائية عبر مراحله المختلفة.. ونقترح أن يكون نص تلك الفقرة على النحو التالي... إذا قضت المحكمة ببطلان الحكم التحكيم وجب عليها الفصل في موضوع النزاع في الحدود التي كان يملكها المحكم أو هيئة التحكيم - ما لم يتفق الأطراف على غير ذلك".
بيد أن تداعى المنطق يطرح بإلحاح تساؤلاً آخر حول مدى جواز الطعن في الحكم الصادر في دعوى البطلان في منازعات العقود الإدارية؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل نرى أن المشرع المصري لم يكن موفقا بشأن عقد الاختصاص بنظر دعوى البطلان لمحكمة الدرجة الثابتة للمحكمة المختصة أصلا بنظر النزاع لاسيما في منازعات العقود الإدارية لأنه يُفضى لمشكلة قانونية ستتعصى على الحل خاصة وأن محكمة الدرجة الثانية تكون في كثير من الأحوال - بالنظر لقيمة العقد الإداري محل التحكيم المحكمة الإدارية العليا التي لا تخضع أحكامها للطعن عليها.. ومن ثم، فكان يتعين على المشرع المصري في تنظيمه لمواد قانون التحكيم أن يُراعى هذا الأمر ولا يخضعه للأحكام العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، وإنما يأخذ بحكم مغاير يراعى خصوصية المنازعات الإدارية بأن يعقد الاختصاص بنظر دعاوى البطلان الخاصة بها لمحكمة القضاء الإداري، على أن يكون الاختصاص لمحكمة القضاء الإداري بالقاهرة بالنسبة للتحكيم في منازعات العقود الإدارية ذات الطابع الدولي أو لأي محكمة قضاء إداري أخرى يختارها الأطراف، ولمحكمة القضاء الإداري المختصة مكانياً بالنسبة لمنازعات العقود الإدارية الداخلية.. وبهذا الحل يمكن القضاء على المعضلة القانونية التي لم يفطن إليها المشرع في قانون التحكيم الحالي.
وفيما يتعلق بالإجابة على التساؤل الذي طرحناه فإننا نرى خضوع الأحكام الصادرة من محكمة القضاء الإداري في دعاوى بطلان أحكام التحكيم للطعن عليها أمام المحكمة الإدارية العليا، وليس ذلك طعناً في حكم التحكيم ذاته بالمخالفة لنص المادة ٥٢ من قانون التحكيم وإنما طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري بشأن دعوى البطلان المرفوعة ضد هذا الحكم.. أما بالنسبة للأحكام الصادرة من المحكمة الإدارية العليا حال اختصاصها بنظر دعوى البطلان فلا يمكن الطعن فيها بأي طريق من طرق الطعن، شأنها في ذلك شأن الأحكام الصادرة من محكمة النقض.. الأمر الذي يتعين معه تدخل المشرع لتعديل المادة ٥٤ من قانون التحكيم المصري رقم ٢٧ لسنة ۱۹۹٤ بإضافة فقرة ثالثة لها نصها كالتالي : (۳) وبالنسبة للتحكيم في المنازعات الإدارية ينعقد الاختصاص بنظر دعوى البطلان للمحكمة المختصة أصلاً بنظر الدعوى، على أن تختص محكمة القضاء الإداري بالقاهرة بنظر تلك الدعوى بالنسبة للعقود الإدارية ذات الطابع الدولي أو أي محكمة قضاء إداري أخرى يختارها الخصوم، وتختص محكمة القضاء الإداري المختصة مكانياً بنظرها بالنسبة للعقود الإدارية الداخلية.