الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / طلب البطلان / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 31-32 / بطلان القرار التحكيمي في ضوء الإجتهاد

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد رقم 31-32
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    125

التفاصيل طباعة نسخ

المقدمة:

   إن نظام الطعن في القرارات التحكيمية لم يستقر على أسس واضحة في القانون المقـارن حيث تختلف الآراء وتتباعد المذاهب ولا يوجد حل وحيد لقضية تطرح فكـرة التواصـل بـين نظامين مختلفين يقوم أحدهما على فكرة الطاعة والثاني على إطلاق الحرية الفرديـة. والقـانون اللبناني في مقاربته مشكلة الرقابة القضائية على القرار التحكيمي قد انتهج في المبدأ مسلكاً واسعاً لا يختلف كثيرا عما هو مقرر في شأن الأحكام القضائية فأجاز اعتماد سبيل الإستئناف إلى جانب الطعن في البطلان ولكن الإستئناف قد بقي محصورا في نطاق التحكيم الداخلي وهو يعتبر حتـى في هذه الحالة وسيلة شاذة يستبعدها الأطراف عادة فأصبح البطلان الوسيلة الطبيعية للتظلم مـن العمل التحكيمي وهو في نهجه أشد إحتراماً لمبدأ سلطان الإرادة الذي يقوم عليه التحكـيم علـى إعتباره عدالة بديلة. لقد لعب الإجتهاد في لبنان دوراً مهماً في حصر مفهوم الرقابـة القـضائية هذه، أسوة بما فعله القضاء الفرنسي في تفسير نصوص واحدة، فابتكر نظاماً قائمـاً بذاتـه لـه قواعده الخاصة وهي تختلف بصورة جوهرية عن الأسس المعتمدة للنظر في صحة الإجـراءات القضائية، وخفف من وطأتها حتى أصبحت في أكثر الحالات نوعاً من الرقابة الشكلية.

   إن هذا الطابع التجريدي يبدو واضحاً من خلال استعراض دور قاضي البطلان أثناء نظره في صحة العمل التحكيمي بحد ذاته هذا في مرحلة أولى، ودوره أثناء نظره في صـحة القـرار التحكيمي في مرحلة ثانية، وذلك في ضوء اجتهاد محكمة التمييز اللبنانية.

القسم الأول- الرقابة القضائية المباشرة:

   تتناول هذه الرقابة الإطار القانوني الذي يجري من خلاله العمل التحكيمـي وهـي تتعلـق بأمرين، وجود البند التحكيمي وولاية المحكم.

أولاً- وجود البند التحكيمي:

   التحكيم قضاء خاص يرتكز على الإرادة التعاقدية فيجب على القاضي عند ممارسـة رقابتـه المؤخرة ان يتحقق من وجود هذه الإرادة ومن مدى صحتها في ضوء القواعد القانونية الأمرة التي قد تمنع من اللجوء إلى التحكيم. إن القضاء اللبناني قد تعامل مع هاتين المسألتين بمرونة فائقة.

    أ- ففي ما يتعلق بالشرط التحكيمي لم يفرض اجتهاد محكمة النقض، حتى فـي التحكـيم الداخلي، الدليل الكتابي الكامل، على الرغم من صراحة النص مكتفياً بالشرط الـوارد في ملحق ولو كان غير موقع . كما استنتج من مثول فريق في الإجراءات التحكيميـة دون اعتراض موافقته الضمنية على التعديل الذي طرأ على البند التحكيمي، والذي أدى إلى جعل التحكيم مطلقاً.

   ب- أما في ما خص الموضوع ذاته فلقد أقر الإجتهاد المبادئ الآتية:

     1- إن تفسير البنود الغامضة أو غير الدقيقة يجب أن ينطلق من مبـدأ حـسن النيـة، وبالتالي فهو يجري ضد الفريق الذي قام بوضعها، لأن أعمال النص خيـر مـن إهماله.

     2- يفصل المحكم في الطلبات المتلازمة لأن الولاية القضائية قد استبعدت مما يـؤدي إلى إيلاء المحكم، على إعتبار أنه أصبح القاضي الطبيعي، حق بت كل ما يتلازم مع موضوع النزاع أو ما يرتبط به سبباً، وفي التطرق إلى المسائل الأولية، وهذا بعض ما ورد في القرار رقم 2002/19:

"إن تحديد نطاق الموضوع المشمول بالتحكيم يجب ان ينطلـق مـن تـحليـل نـيـة الفريقين لا من قول يقوم على أن التحكيم قضاء استثنائي فكـان علـى محكمـة الإستئناف ان لا تنظر إلى عقد الإيجار بذاته على أنه جـاء خاليـا مـن أي بنـد تحكيمي إنما كان من واجبها أن تبحث أيضاً في عقد الشركة الـذي استند إليـه المحكمون لبت مدى ولايتهم حتى تتمكن انطلاقاً من وصف متكامل وغير مجتـزاً لإرادة الفريقين من تحديد ما إذا كان بإمكان المحكمين أن يفـصلوا فـي النـزاع المطروح عليهم...".

3- في ما خص الموضوع أيضاً تقتضي الإشارة إلى أن الدعوى ليست عالماً جامـداً بعيداً عن الواقع، إنما هي تتفاعل مع الحياة فموضوع النزاع يبقى قابلا للتطـور، ويحق للأطراف ولو بتصرف ضمني صادر عـنهم توسيع نطـاق الموضـوع المطروح على المحكم؟.

4- أقر إجتهاد محكمة النقض الحق للمحكم في اتخاذ التدابير المؤقتة بما فيهـا الـسلفة المستعجلة دونما حاجة الى نص وارد في العقد، وذلك قبل صدور التعديل الأخير سنة 2002، الذي جاء يكرس هذا الإجتهاد.

   وفي هذا المجال أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن البنود التحكيمية المصاغة بصورة عامة تعطي المحكم ولاية واسعة شبيهة بالولاية القضائية. أما اعتماد هذه الصياغة فقد يرتـد سـلباً علـى الإختصاص التحكيمي.

ثانياً- في صحة البند التحكيمي:

   إن التساهل الواضح نفسه هو سائد أيضاً في كل ما يتعلق بصحة البند التحكيمي حيث أقـر الإجتهاد اللبناني مبدأين: الأول يتعلق بإستقلال الشرط التحكيمي، والثاني بولاية المحكم للفـصل في مدى اختصاصه.

 1- مبدأ استقلال البند التحكيمي:

   هذا المبدأ معمول به في مجال كلا التحكيمين الداخلي والدولي، إنما يبقـى نطـاق تطبيقـه مختلفاً في الحالتين. فهو يعني في المجال الداخلي أن صحة الشرط التحكيمي لا يمكن أن تتـأثر سلباً بمصير العقد الذي يتواجد فيه على اعتبار أنه إتفاق له طابع إجرائي ينسلخ تمامـاً عـن موضوع العقد. أما في الحقل الدولي، فإن هذا الإستقلال لا يعني العقد فقط إنما أيـضاً القـانون. بحيث يرتدي البند التحكيمي صفة القاعدة الموضوعية التي تجيز التحكيم في المطلق، شرط أن لا يتعارض مع النظام العام الدولي لتعلقه بمواد لا تقبل التحكيم بطبيعتها (كالمواد الجزائية أو قضايا الأحوال الشخصية) أو يتعارض مع القوانين الداخلية الأمرة التي تستبعد التحكـيم فـي الدولـة المطلوب تنفيذ القرار التحكيمي فيها. وفي ما خص هذه المسألة بالذات، خطت محكمـة التمييـز اللبنانية خطوة واسعة إذ هي إعتبرت أن القوانين الحمائية اللبنانية لا تستبعد اللجوء إلى التحكـيم الدولي بالضرورة وانه ليس ما يمنع إعطاء الصيغة التنفيذية لقرار تحكيمي صادر في الخـارج طبق الشريعة اللبنانية في نزاع يدور حول التمثيل التجاري حيث أقر القانون حماية خاصة للممثل التجاري اللبناني. فالعبرة هي في أن تتأمن هذه الحماية بالفعل وليس ما يمنع من تنفيذ القرار في لبنان إذا حصل ذلك فعلاً.

   نشير هنا إلى أن مبدأ استقلال البند التحكيمي في الحقل الدولي يبقى محصوراً بكل ما يتعلق بخضوع النزاع للتحكيم وهذا ما أكدته بصراحة ووضوح محكمة التمييزة. الإجتهاد اللبناني لم يكرس إذن انسلاخ البند التحكيمي عن أي قانون. وبالتالي تبقى عيوب الرضى والمسائل المتعلقة بعدم الأهلية محكومة بالقانون الشخصي وفقاً للقواعد المتعلقة بتنازع القوانين؟.

   يبقى أن نشير في هذا المجال إلى أن القانون اللبناني يسمح للدولة باللجوء إلى التحكيم فـى المجالين الداخلي والدولي، وقد وضع تعديل صادر في 29 تموز 2002 حدا للخلاف الذي كـان يدور سابقاً حول هذه المسألة. إن لجوء الإدارة إلى التحكيم الدولي قد يؤدي إلى استبعاد القـانون الإداري اللبناني، وذلك أنه يحق للأطراف في التحكيم الدولي إختيار القاعدة القانونيـة المناسـبة والمبادئ العامة المعتمدة في التجارة الدولية، وبذلك يختلف القانون اللبناني عن القانون الفرنسي الذي يمنع لجوء الإدارة للتحكيم ولا يسمح به إلا ضمن حدود ضيقة، فارضاً في هـذه الحـالات تطبيق القانون الإداري الفرنسي .

    إن قاعدة إستقلال البند التحكيمي إنما تنحصر في الموضوع، وهنالك قاعدة إجرائية أقرهـا القانون اللبناني وهي تتعلق بولاية المحكم للفصل في المنازعات الدائرة حول مدى إختصاصه.

2- سلطة المحكم لبت مدى ولايته:

   إن هدف هذه القاعدة هو تحرير التحكيم من أية رقابة قضائية مسبقة وقد كرسـتها المـادة 785 أ.م.م. في وجهها الإيجابي على الأقل أسوة بما ذهبت إليه التشريعات والأنظمة التحكيميـة عامة وهي تعطي المحكم حق الفصل في ما يثار حول إختصاصه حتى ولو أثيرت هذه المسألة أمام القضاء لاحقاً، ولكن القانون لم يقر هذا المبدأ في وجهه السلبي أي أنه لم يمنع الأطراف من التذرع ببطلان البند التحكيمي أمام القضاء بتاريخ سابق كما فعل المشترع الفرنسي (المادة 1458 أ.م.م.) وهذا ما سار عليه الإجتهاد في لبنان الذي أقر في الوقت نفسه حق المحكم في متابعـة النظر في القضية المعروضة عليه دون تدخل من القضاء لوقف العمل التحكيمي.

   "حيث أن اعتماد هذه القاعدة في فرنسا في وجهها السلبي قد احتاج إلى نص... ولا وجـود لمثل هذا النص في القانون اللبناني الذي يكون قد استبعد المبدأ في وجهه السلبي، وفقا لمـا هو معمول به في القانون المقارن... فيعود بالتالي لمحكمة الدولة... أن تبت صـحة البنـد التحكيمي... توصلا للفصل في مدى إختصاصها للنظر في الموضوع... وهذه المسألة لا تعتبر معترضة بالنسبة لها إنما تكون أولية وهي لا تمنع المحكم من وضع يده على النـزاع ولا يتوقف أي من المرجعين عن متابعة النظر في الدعوى إذ يعود لكل هيئـة قـضائية أن تبت مدى إختصاصها.... "

    إن هذا يعني أن القضاء في لبنان لم يفرق بين العملين القضائي والتحكيمي إنما اعتبر أنهما من طبيعة واحدة، ولم يعط أية أولية للقاضي مانعاً إياه من التدخل في العمل التحكيمي عن طريق إصدار أمر يقضي بوقف السير فيه على غرار ما يجري في الدول الانكلو ساكسونية، حيـث يوجه القاضي أمراً إلى الفرقاء يمنعهم من اللجوء إلى التحكيم تحت طائلة فرض عقوبات جزائية. إن قاعدة عدم التدخل هذه قد كرستها محكمة التمييز في قرار حديث لها .

   هذا ما يتعلق بالرقابة القضائية المباشرة على وجود البند التحكيمي، وقد كشفت عن ليونـة فائقة في التعامل مع التحكيم فكيف تعامل القضاء اللبناني مع المسائل التي يطرحها تعيين المحكم.

3- تعيين المحكم وولايته الزمنية:

   إن شخص المحكم هو محور التحكيم وأساسه، أما عالم القضاء فهو عالم منظم مقفل لا ينظر فيه إلا إلى المؤسسة بحد ذاتها. وإذا كان الإجتهاد الحديث قد تساهل كثيراً فـي مراقبـة العمـل التحكيمي وفي ترك الحرية للأطراف في اللجوء إليه إلا أنه وفي المقابل تشدد في التعامـل مـع مضمون واجب الإعلام الذي فرضه القانون على المحكم وذلك بغية تأمين سلامة العمل التحكيمي الذي يقوم على ثقة الأطراف جميعاً في تجرد المحكم. إن أسباب رد القاضي التي هي أسباب رد المحكم لم تعد كافية بنظر الإجتهاد اللبناني الذي فرض على المحكم واجب إعـلام الأطـراف بتاريخ إستلامه المهمة، بشأن كل الظروف التي يمكن أن تدعوهم إلى الشك في حياده .

"حيث أن المادة 769 أ.م.م. إذ هي فرضت على المحكم إذا قام سبب ردّ فـى شخصه ان يعلم الأطراف إنما تكون قد وضعت قاعدة آمرة هدفها تأمين الحقوق الأساسية للمتقاضين في الحصول على محاكمة عادلة متوازية لا يكون فيها حياد المحكم موضع شك مقبـول فـلا يمكن عن طريق الإستنتاج أو الإستدلال، كما فعلت محكمة الإستئناف ودون الإرتكاز علـى دليل واضح ساطع غير مشكوك فيه أن تستخرج علم المميزة وموافقتها على إيلاء التحكـيم المطلق الأحدي إلى ... وكيل...".

   أما في ما يتعلق بتمديد مهلة التحكيم فلقد أبدى الإجتهاد تساهلاً كبيراً في هذا المجال معتبراً أنه يعود للفرقاء تمديد هذه المهلة ضمناً وإستخراج الموافقة الضمنية هذه ليس فقط مـن الـدلائل الإيجابية إنما أيضاً من سكوتهم إذا كان السكوت محاطاً بظروف معينة (تمييـز غرفـة خامـسة 2003/5/29 رقم 98).

وقد ورد في هذا القرار:

   "حيث أن محكمة الإستئناف قد استبعدت وجود اتفاق ضمني على تمديد مهلة التحكيم انطلاقا من غياب النص الذي يجيز ذلك فتكون بذلك قد خالفت القانون إذ أن الفقرة 2 مـن المـادة 773 أ.م.م. لم تنص على شرط احتفالي خاص لإثبات اتفاق الفرقاء على التمديد فيقتضي ابطال القرار المطعون فيه لهذه الجهة"

   إلا أن البند الذي يمنح المحكم بمقتضاه حق تمديد المهلة يعد باطلاً16 كما أن الاتفاق علـى التمديد يجب أن يحصل قبل انتهاء المدة إذ لا يعود بالإمكان إحياء ما إنقضى 17 إلا عن طريـق اعتماد وسيلة أخرى كفكرة العدول عن التذرع بالبطلان الناتج من ذلك وهذا مبدأ إعتمده وكرسه القضاء اللبناني في إطار الرقابة اللاحقة على القرارات التحكيمية.

القسم الثاني: الرقابة القضائية غير المباشرة:

   إن هذه الرقابة تتناول العمل التحكيمي بحد ذاته أي أنها تطال الإجراءات من جهة والقـرار التحكيمي من جهة أخرى إلا أنه يتعين قبل الدخول في تفاصيلها تحديد الإطار القانوني المرسوم لها.

أولاً- الإطار القانوني للرقابة القضائية على العمل التحكيمي:

   من المعلوم أن الطعن عن طريق الإبطال هو الوسيلة الطبيعية التي يتأمن من خلالها التظلم من القرار التحكيمي ذلك أن الإستئناف هو في المبدأ مستبعدة. والقانون اللبناني قد وضع لهـذا الطعن حدين.

1- الحد الأول:

   إن الطعن لا يتناول القرارات القاضية بإعطاء الصيغة التنفيذية إنما يطال القرار التحكيمـي في ذاته. لقد سعى المشترع من وراء ذلك إلى توحيد وسائل الطعن وإيجاد تواصل بينها وإستبعاد المنازعات الهامشية التي تدور حول صحة وعدم صحة قرار قضائي اعطى الـصيغة التنفيذيـة لقرار تحكيمي لا عيب فيه، وقد تشددت محكمة النقض في مجال تطبيق هذا النص معتبـرة أنـه يتعين على محكمة الإستئناف أن تثير ما يتعلق بهذه القاعدة عفوا (تمييز، غرفة خامـسة، رقـم 143، تاریخ 2001/11/20) كما أكدت أنه لا يجوز لمن قضي بوجهه استئنافاً بـصحة القـرار التحكيمي في معرض الطعن في قرار رفض إعطاء الصيغة التنفيذيـة أن يطعـن فـي القـرار التحكيمي لأن هذه المراجعة تصطدم بقـوة الـشيء المحكـوم بـه (تمييـز، 162، تـاريخ 2001/12/27) وقد جاء في هذا القرار:

  "حيث أن المشترع قد وحد طرق الطعن الموجهة ضد القرار التحكيمي وقرار منح الصيغة التنفيذية فدمج بينها وأخضعها للأصول الإجرائية ذاتها وذلك بهدف إعطاء موضوع اعتبره واحداً حلاً شاملاً وسريعاً فاعتبر أن الطعن في القرار التحكيمي يفيد الطعن بقـرار منحـه الصيغة التنفيذية كما أن الطعن بالقرار الذي رفض منح هذه الصيغة يطرح أمـام محكمـة الإستئناف الأسباب المتعلقة بصحة القرار التحكيمي".

   إذاً الطعن يقتصر على القرار التحكيمي أو القرار الذي رفض منحه الصيغة التنفيذيـة، ولا يجوز الطعن في القرار الذي منح الصيغة التنفيذية لعيب فيه إلا إذا تجاوز حدود السلطة.

2- الحد الثاني:

   الطعن لا يتناول إلا القرارات التحكيمية النهائية، أما التمهيدية منها فهي لا تقبل الطعـن إلا مع القرار النهائي، إلا إذا كانت معجلة التنفيذ، ذلك أن المادة 615 م.م. التي تطبق على الأحكام القضائية تسري أيضاً على التحكيم لعدم وجود نص خاص.

   إن القانون اللبناني يمتاز بهذه القاعدة المهمة على كثير من القوانين التي تجيز الطعن فـي القرارات التمهيدية أو القرارات الفاصلة نهائياً في بعـض المواضـيع أو القـرارات المتعلقـة بالإختصاص. إذا يكون مستبعداً أي طعن موجه ضد الأوامر الصادرة عن المحكمـين. وقـد حسمت محكمة النقض كل جدال يمكن أن يقوم حول هذه المسألة وأعطت القرارات النافذة مفهوماً ضيقاً، رافضة بذلك تجزئة النزاع التحكيمي قبل أن يكون المحكم قد رفع يده نهائياً عن القضية المعروضة عليه (تمييز غرفة خامسة رقم 17 تاريخ 2007/1/31) وقد ورد فيه:

  "وحيث أن محكمة الإستئناف بتأكيدها أن القرارين المطعـون فيهمـا لا يتمتعـان بـصفة التنفيذ المعجل ليكونا قابلين للطعن لم تخالف المادتين 605 فقرة 5 أ، 537 فقرة مـا قبـل الأخيرة طالما أن هذه التدابير لا تتناول أو تطال مـالا أو شخـصاً ولا يمكـن اقتـضاؤها جبراً."

   ولا ريب أن حصر مفهوم القرار النافذ بهذا المعنى الضيق وهو التنفيذ الجبري يؤدي إلـى استبعاد الأوامر التي يصدرها المحكمون على وجه العموم من نطاق الطعن، ويؤدي إلى تحريـر التحكيم من كثير من العقبات المصطنعة .

   هذا هو الإطار الضيق الذي رسمه القانون والإجتهاد للرقابة القضائية على العمل التحكيمي وسنتطرق الآن إلى موضوع هذه الرقابة بالذات وقد لعب الإجتهاد هنا أيـضاً دوراً كبيراً فـ حصرها حتى أصبحت إلى حد ما شبه شكلية.

ثانياً- الإطار المحدود لعمل القضاء الرقابي:

   حدد القانون أسباب البطلان التي يمكن أن تنال من صحة العمل التحكيمي وقد عددها علـى سبيل الحصر ولكن دور القضاء في دعم العمل التحكيمي كان هو الحاسم في النتيجة ذلـك أنـه أعطى هذه الأسباب مفهوماً ضيقاً كما أنه خفف من وطأة نتائجها عن طريق الإلتفاف عليها، وهذا ما يظهر جلياً في مجالي الإجراءات والقرار التحكيمي، وهما محل هذه الرقابة.

1- الإجراءات أولاً:

   إن سبب البطلان الرئيسي هو عدم إحترام حقوق الدفاع، فعلى المحكـم ان يراعـي مبـدأ الوجاهية الذي هو أساس العمل القضائي الذي يقوم به. لقد أكد أن هذا واجب مطلق، ولكنه في الوقت نفسه أبدى ليونة في تفسير معناه، كما أنه أوجد وسائل للتخفيف من حدته.

أ- التفسير اللين:

   إن اعتماد مفهوم ضيق لقاعدة الوجاهية، كان سيؤدي الى إبطال عدد كبير مـن القـرارات التحكيمية، لذلك أظهر الاجتهاد بعض التساهل في مع هذا المبدأ، وذلك من خـلال مـا التعامل يأتي:

- لا يفرض على المحكم أن يضع قيد المناقشة الأسباب القانونية التي سيبني عليها قراره.

- اذا كان واجباً على المحكم في المبدأ أن لا يسند قراره الى نص قانوني دون طرحه على الأطراف، إلا أن هذا لا يمنعه من الإستناد الى أحكام العقد أو الى بعض القواعد التعاقدية على اعتبار أنها موجودة حكماً وبصورة ضمنية في القضية. أما ما هو ممنـوع بتاتـاً على المحكم فهو المساس بمبدأ سيادة الأطراف على النزاع عن طريق الإرتكـاز علـى واقع لم يتذرع به او التستر وراء وصفه بغية ادخال تعديل على الأساس القانوني الـذي حدده المدعي بطلباته.

- إن الإخلال في التعامل مع الأطراف بصورة متوازنة26 والذي يجري الإستناد اليه فـي كثير من دعاوى البطلان لا يأخذ به الإجتهاد الا اذا كان أدى إلى حرمان طرف من حقه في الدفاع وذلك عملاً بالقاعدة ان لا بطلان دون ضرر. ان هذه الفكرة اعتمدها الإجتهاد وسيلة للتخفيف من آثار العيوب المتذرع بها.

ب- الإلتفاف على أسباب البطلان:

   ان الإجتهاد لم يكتف بإعطاء تفسير ضيق لأسباب البطلان، ولكنه ذهب إلى أبعد من ذلـك، فأوجد وسائل لمعالجة هذه الأسباب ونتائجها، وذلك عن طريق وضع القواعد الآتية:

   القاعدة الأولى: يحق للأطراف أن يتنازلوا عن التذرع بأسباب البطلان ولو كان العيب يمس بقاعدة الوجاهية التي تعتبر من النظام العام. وهذا أمر يستبعده الإجتهاد في ما خص الأحكـام القضائية.

   القاعدة الثانية: ان مبدأ لا بطلان دون ضرر يسري على جميـع المخالفـات حـتـى تلـك التي تتعلق بالإنتظام العام وهـذا أمـر لا يقـره القـضـاء عـادة فـي مـا يخـص العيـوب الموضوعية.

  القاعدة الثالثة: مبدأ عدم التناقض Estoppel.

   فرضت محكمة النقض اللبنانية على الفريق الذي يشكو من عيب يطال التحكيم في موضوعه أو اجراءاته واجب التذرع به أثناء المحاكمة التحكيمية تحت طائلة عدم قبوله اذا ما أدلي به فـي ما بعد امام قاضي البطلان، وقد أسست هذه القاعدة الإجرائية على المادة 100 من المجلة التـي وضعت مبدأ عاماً ما زال ساري المفعول، لأنه لا يتعارض مع أحكام قانون الموجبات والعقـود وهو المبدأ القائل: "من سعى الى نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه". راجع تمييز غرفـة خامسة رقم 142 تاريخ 2001/11/20، وقد ورد فيه:

"وحيث ان رئيس مجلس الإدارة يتمتع حتماً بسلطة تمثيل الشركة أمام القضاء العـادي أو التحكيمي وكان بإمكانه بصفته هذه أن يتذرع ببطلان البند التحكيمي كما يفعل حاليا، الا انه وعلى الرغم من ذلك، لم يتمسك به إنما تمادي في السكوت عنه خافيا على الفريق الأخـر امر وجوده على الرغم من وضوح صورته لديه فلم يعد بإمكانه أمام قاضي الـبطلان، ان يطالب به بعد أن جاء التحكيم لغير صالحه، فيرد ادعاؤه بهذا الخصوص لوروده متأخراً لأنه يخرج بكل تأكيد عن حدود حسن النية وذلك تطبيقا للقاعدة العامة الواردة في المجلـة والقائلة بأن من سعى الى نقض ما تم من جهته يكون سعيه مردودا عليه، وهي جزء مـن القانون الوضعي اللبناني اذ انها لا تخالف او تجاوز اية قاعدة أخـرى واردة فـي قـانون الموجبات، إنما هي تكرس مبدأ عاما يمكن تلمس آثاره في هذا القانون بالذات".

   يلاحظ هنا أن الإجتهاد اللبناني قد خطأ في هذا المجال خطوة أوسع من الإجتهاد الفرنسي الذي بني هذه القاعدة على مبدأ التنازل الضمني الواجب الإثبات، لأنه غيـر مفتـرض بقرينـة قاطعة29 إذ أن محكمة التمييز اللبنانية قد فرضت عدم التناقض على أنه مبدأ ملزم، وأسست عليه بعدم القبول، وموقف الإجتهاد اللبناني هذا يتجاوز ايضاً قاعدة الــــ Estoppel المعروفـة دفعا التي تبقى محصورة في نطاق معين .

   القاعدة الرابعة: تحصين القرارات الصادرة عن رئيس المحكمة الإبتدائية والمتخذة في إطار مساندة العمل التحكيمي.

   يتولى رئيس الغرفة الإبتدائية دوراً هاماً في مساعدة أطراف التحكيم، وذلك عن طريق إزالة العقبات التي تعترض تعيين المحكم أو المتعلقة برده او بتمديد المهلة المحددة له، وقد أقر الإجتهاد اللبناني مبدأ هاماً يقول ان هذه القرارات لها حجية الشيء المقضي به نهائياً امام قاضي البطلان بحيث لم يعد من الجائز التذرع بعيوب مفترضة رافقت هذه الأعمال امام قاضـي الـبطلان. ان اعتماد هذه القاعدة يؤدي الى تحصين المرحلة الأولية من التحكيم وذلك عن طريق تطهير القرار التحكيمي ذاته من عيوب كان من الممكن أن تؤدي الى ابطاله.

2- القرارات التحكيمية، ثانيا:

    اذا كانت المادة 799 أ.م.م. قد أجازت الطعن بالإستئناف ضد القرارات التحكيميـة، إلا ان هذه الوسيلة مستبعدة فعلاً من التعامل، اذ يبقى الطعن عن طريق الإبطال هو الوجـه الأساسـي المعتمد حتى في نطاق التحكيم الداخلي. ولا يكون هذا الطعن مقبولا الا في حالات حددها القانون صراً في المادة 800 المتعلقة بالتحكيم الداخلي والمادة 807 التي ترعى التحكيم الدولي. ولقـد لعب الإجتهاد دوراً كبيراً في مساندة العمل التحكيمي بإعطائه تفسيراً ضيقاً لحـالات الـبطلان وبتأكيده على استقلالها بعضها عن بعض، حتى أضحت الرقابة القضائية شبه معدومـة، سـواء تناولت شكل القرار او موضوعه.

أ- في ما خص شكل القرار:

   ان القرار الصادر في إطار تحكيم داخلي يجب أن يشتمل على بعض البيانات الإلزامية التـي حددها القانون وهي تلك التي يجب عادة ان تتواجد في الأحكام القضائية، إلا ان الإجتهاد قد تعامل بليونة فائقة الواجب، ولم يفرض على المحكم ان يصدر قرارات ترتـدي شـكل الأحكـام مع القضائية إنما اشترط أن لا تأتي خالية، مما هو أساسي لإجراء الرقابة في حدها الأدنى .

    وفي ما خص مكان صدور القرار أكد الإجتهاد ان المكان هو مفهوم قانوني اعتمده الفرقاء لممارسة حقهم في طلب ابطال القرار، وليس هو المحل الفعلي الذي صدر فيه .

    أما بالنسبة للمداولة وهي أمر جوهري لأنها تتعلق في الوقت نفسه بحقوق الدفاع وبالنظـام العام الإجرائي، اعتبر القضاء في لبنان ان حصولها مسألة واقع يمكن اثباته بكافـة الطـرق ولا يحتاج الى ذكرها في القرار، مؤكداً في الوقت ذاتـه انـهـا لا تفتـرض حـضور المحكمـين شخصياً. وننتقل الآن الى الرقابة القضائية الجارية على الموضوع.

ب- في ما خص موضوع القرار التحكيمي:

   انطلق الإجتهاد من مبدأ هو أن الطعن بالبطلان يشكل وسيلة استثنائية لا يمكـن أن يـؤدي سلوكها الى إعادة النظر في ما قضى به القرار التحكيمي، وقد وضع حدا للمحاولات التي بـذلها المتضررون للخروج عن المبدأ عن طريق دمج الطعون أو الأسباب أو التوسع فيهـا، فأر قاعدتين في هذا المجال:

أ- القاعدة الأولى: الطعن بالبطلان لا يمكن أن يؤدي بصورة غير مباشرة إلى إعادة فحـص النزاع:

هذه القاعدة لها أوجه ثلاثة:

   الوجه الأول: لا يجوز الخلط بين الطعون أي أنه لا يمكن توسل الإستئناف، اذا كان مقبولاً، كوسيلة لإبطال القرار التحكيمي. وهذا بعض ما ورد في قرار حديث صادر فـي 2007/3/27 عن الغرفة التمييزية الخامسة: .

"حيث أن محكمة الإستئناف قد أرست قرارها.. على المطالب الواردة في خاتمة الإستحضار الإستئنافي، والتي أشارت صراحة الى وجوب فسخ القرار (التحكيمي) في جميع الحـالات مؤكدة ان الأسباب المعتمدة لا تتعلق فقط بحالات البطلان، إنما ترمي أيضاً الى فسخ القرار فتكون قد أرست قرارها (برد الطعن شكلاً) على أساس قانوني صحيح في ضـوء المـادة 804 فقرة 2 أ.م.م. التي فرضت التقيد بوصف معين عند الطعن فـي القـرار التحكيمـي معطوفة على المادة 370 فقرة 3 التي تجعل المحكمة مقيدة بالوصف المتفـق عليـه بـين الفريقين".

   الوجه الثاني: ان أسباب الطعن محصورة ضمن نطاق معين فلا يجوز لطالب الإبطـال ان يتوسل دمجها بعضها ببعض بغية إعطائها معنى واسعا يرفضه القانون، فلا يجوز مـثلا تحـت ستار مخالفة النظام العام النعي على القرار انه فسر القانون تفسيراً خاطئاً35، كما لا يجوز تحت ستار الأخذ على المحكم أنه خرج عن مهمته إعادة النظر بالتفسير الذي أعطاه للبنود التعاقدية. كما أكدت محكمة التمييز أيضاً أن السبب المسند الى عدم تشكيل الهيئة وفقاً للأصول هو سـبب للطعن مستقل عن مخالفة النظام العام .

 وقد ورد في القرار الصادر تحت رقم 2005/4:

"حيث انه لا يجوز تحت ستار الأخذ على المحكم أنه خرج عن حدود المهمة الموكولة إليه، ان يعطي لقاضي البطلان حق اجراء الرقابة على التعليل الذي أسس عليه المحكم قراره لأن وظيفة هذا القضاء تبقى منحصرة في توافر أسباب البطلان كما عددتها المادة 800 حصراً، ويتبين من الرجوع الى القرار الإستئنافي ان المحكم قد طبق أحكام العقد والقانون ولم يسند ما انتهى اليه الى مبادئ الإنصاف ليفصل فيه كمحكم مطلق حتى يؤخذ عليه أنه خرج عـن حدود المهمة الموكولة اليه اما ما تسميه المميزة الخروج عن الشريعة التعاقدية فـلا يعـدو كونه في أسوأ الأحوال تشويها لمعنى البنود التعاقدية وهو لا يشكل فـي نظـر الإجتـهـاد المستقر خروجاً عن حدود المهمة يبرر الإبطال".

كما ورد في القرار الصادر تحت رقم 2002/5:

  "حيث أن مخالفة قواعد النظام العام تعني الخروج عن القواعد الأمـرة الناهيـة المرتبطـة بمصالح المجتمع العليا أما الخطأ في تفسير أو تطبيق المواد 241 و243 و341 موجبـات فهو لا يدخل في هذا المفهوم . وننتقل الى الوجه الثالث من القاعدة وهو الأهم.

   الوجه الثالث: أن ما هو مفروض على المحكم، في التحكيم الداخلي على الأقل، هو تعليـل قراره ليس إلا، حتى يتمكن قاضي البطلان من معرفة ما اذا كان قد خرج عن مهمته أو خـرق حقوق الدفاع. فما هو مطلوب منه، هو فقط وضع التعليل ليس إلا. اذ لا يشكل الخطأ في التعليل أو النقص فيه او التشويه سببا للإبطال. وفي ذلك فرق مهم بين البطلان المقـرر فـي مجـال التحكيم والنقض كطريقة للتظلم من الأحكام القضائية، ذلك أن محكمة النقض تمارس رقابتها على مخالفة القانون كما أنها تدخل في بعض النواحي الواقعية عندما تنظر في التشويه أو في فقـدان الأساس القانوني. وهذا الفرق يظهر جليا عندما تقضي محكمة الإستئناف بإبطال القرار التحكيمي لتنتقل الى فصل النزاع ضمن الحدود المعينة للمحكم، فقرارها هذا له ذات قضائية وهو يخـضع للنقض كأي قرار قضائي آخر .

   ومع  أن التناقض في التعليل هو بمثابة انعدامه كلياً، كما جرى على ذلك اجتهـاد محكمـة النقض، الا انه لا يحق لقاضي البطلان أن يراقب هذا التناقض، لأنه سيؤدي بـه الـى فـحـص الأسباب المعتمدة، مما يعتبر ايضاً تدخلاً منه في التعليل، وهو امر ممنوع عليه أيضاً كمـا هـو ثابت باجتهاد محكمة النقض .

    وفي النتيجة أن الرقابة على مسألة فقدان التعليـل هـي رقابـة شـكلية ليس إلا، ممـا حمل الإجتهاد على الإستغناء عنه في بعض الحالات الخاصـة. إن الطـابع النظـري لعلـم القضاء الرقابي يبدو واضحاً أيضاً من خلال التفسير الضيق الـذي أعطـاه الإجتهـاد لأسـباب البطلان.

ب- القاعدة الثانية: التفسير الضيق لمفهوم أسباب البطلان:

   ان إصرار الإجتهاد على عدم مراقبة تعليل القرار التحكيمي حتى في حد أدنى يؤدي الـى تفريغ بعض أسباب البطلان من مضمونها، وهذا ما حصل في ما يتعلق بحالتين همـا: مخالفـة النظام العام وخروج المحكم عن المهمة الموكولة اليه في نطاق التحكيم المطلق.

الحالة الأولى: مخالفة النظام العام:

   إن مخالفة القواعد الآمرة تشكل سبباً من أسباب ابطال القرار التحكيمي وقد توصل الإجتهاد بعد عناء الى القول إنه يجوز التحكيم في أمور هي من النظام العام، وأنه يعود عندئذ للمحكم أن يطبق القواعد الإلزامية تحت رقابة القضاء اللاحقة. فكان اذا من المفترض أن تكون هذه الرقابة حقيقية لا شكلية ولكن الإجتهاد قد تمشى على غير ذلك عندما اعتبر ان مخالفة النظـام العـام لا تتحقق الا إذا وردت في منطوق القرار، أما اذا قامت في أسبابه فإن القاضي غير معني بها لأنه لا يجري رقابته على التعليل بحد ذاته: العيب المتمثل بعدم إمكانية تملك المرهون من قبل الدائن يجب أن يكون قد ورد في منطوق القرار ومخالفة القاعدة القائلة ان الجزاء يعقـل الحقـوق لا تستقيم الا اذا تجاوزها المحكم عن طريق اهمالها او رفضه الصريح الأخذ بها. إلا اننا نرى ان لا مجال لإعمال هذا التفسير المتسامح عندما يكون الأمر متعلقا بتنفيذ قرار تحكيمي صـدر فـي مسألة لا تخضع للتحكيم بسبب ارتباطها بقاعدة حمائية، اذ يتعين في هذه الحالة كما ذكرنا سابقاً أن يمارس القضاء رقابته الفعلية على القرار التحكيمي حتى يتأكد من أن هذه القاعدة قد طبقـت فعلاً. كما أننا نعتقد أيضاً أن الإجتهاد الإداري لن يبدي الليونة المعهودة في القضاء العدلي اذا ما نظر في صحة قرار تحكيمي صادر في نزاع خاضع للقانون اللبناني، وبالتالي لقواعد القانون الإداري التي غالباً ما ترتدي صفة الإلزام. يبقى أن نشير أخيراً الى أن مفهوم النظام العام الدولي هو أضيق بكثير من مفهوم النظام العام الداخلي. اذا يبقى التساهل هذا محدوداً في بعض الحالات، وهو كذلك في التحكيم المطلق.

الحالة الثانية: خروج المحكم عن مهمته: التحكيم المطلق:

   قد يلجأ المحكم في التحكيم العادي الى التذكير بقواعد الإنصاف دون تطبيقهـا. ان ذلـك لا يؤدي الى ابطال القرار التحكيمي، إذ لا بطلان دون ضرر (تمييز غرفة خامسة رقم 41 تـاريخ 2003/3/11) ونقرأ فيه:

"حيث إن العبرة في تحديد ما اذا كان المحكم قد خرج عن حدود مهمتـه وقـضـى فـي النزاع وفق قواعد الإنصاف ليس للألفاظ التي استعملها انما هي للأسـس التـي ارتكـز عليها فعلا في قراره، فإذا تبين أنه التزم احكام القانون والزم الفريقين بما اتفقا عليه ولـم يستعمل السلطة الممنوحة له في التخفيف أو الحد من الإلتزامات الملقاة عليهما فلا يكون قد خرج عن الوظيفة التي أسندها عقد التحكيم اليه ولا يعيب القرار ساعتئذ وجود إشارة عابرة فيه الى اعتماد قواعد الإنصاف خاصة وأنها وردت في إطار خيار عام مبدئي في تفسير العقد انطلاقا من نية الفريقين الحقيقية وهو أمر تنص عليه المادة 221 موجبـات وعقود".

   أما اذا كان المحكم المعين هو محكم مطلق، فإنه لا يتجاوز حدود سلطته اذا ما قضى في النزاع بمقتضى القانون، لأن الإنصاف لا يجافي بطبيعته القاعدة القانونية، إلا انه يتوجب عليه في هذه الحال ان يسند هذا التطبيق الى اعتبارات تتعلق بالإنصاف هذا ما ذهب إليه اجتهـاد محكمة التمييز الفرنسية الأخير الذي خرجت به عن موقف لها سابق، كان يبدو أقل تشدد ، ولم يلق هذا الموقف الجديد إجماعاً في الفقه. اما موقف الإجتهاد في لبنان فلقد بقي في المبـدأ مستقراً على الإتجاه السابق وما يبرر هذا الإصرار هو أن الرقابة المستحدثة بقيت تتسم بطابع شكلي الى حد بعيد طالما ان دور القاضي يبقى مقتصراً على التحقـق مـن وجـود التعليـل فحسب .

   وطالما أننا نتكلم على الرقابة القضائية المؤخرة على القرارات التحكيمية لا بد من الإشـارة في نهاية هذا البحث إلى مسألة جواز إعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي الذي صدر قـرار بإبطاله أو بقبوله في الخارج.

   إن معاهدة نيويورك التي انضم إليها لبنان تنص على أنه لا يعتـرف بـالقرار التحكيم الصادر في الخارج اذا كان قد أبطل من قبل مرجع قضائي في البلد الذي جرى فيه التحكـيم او في البلد الذي صدر القرار وفقاً لقوانينه، إلا ان معاهدة نيويورك قد كرست قاعدة حفظـت حـق الدول المنضمة اليها في تطبيق قوانينها الداخلية اذا كانت أكثر رعاية من المعاهـدة، والقـانون اللبناني يعتبر في العموم من هذه القوانين لذلك ليس ما يمنع من تطبيق أحكام القانون اللبناني في سبيل إعطاء الصيغة التنفيذية لقرار أبطل في الخارج. أما إذا ردّ طلب الإبطال، فـإن هـذا القرار ليس من شأنه أن يحجب اختصاص المحاكم اللبنانية أو ينال من سلطتها في اجراء رقابتها عليه، وذلك من خلال ما نصت عليه المادة 817 من أسباب حتى ولو استند البطلان الى الأسباب ذاتها.

   هذا ما استقر عليه الإجتهاد في لبنان، ويبقى علينا أن نشير إلى وجود نوع من التساهل في منح القرارات الأجنبية التي لها طابع داخلي بحت، الصيغة التنفيذية وجنوح الـى الأخـذ بعـين الإعتبار الأوصاف التي أعطيت في الخارج للبند وللقرار التحكيمي من قبل المحكمة الأجنبية في إطار رد طلب البطلان. ويمكن التساؤل أليس بالإمكان في هذه الحالة إعطاء الحكم الأجنبـي ذاته الصيغة التنفيذية طالما ان الأمر يبقى محصوراً في الإطار الداخلي وذلك مع مراعاة القواعد المتعلقة بالنظام العام ؟ ان اندماج القرار التحكيمي بالحكم الأجنبي الذي فصل في مسألة صحته ليس في اعتقادنا الشخصي أمراً مستحيلاً، بل هو على العكس مطلوب في التحكيم الداخلي حيـث يخضع القرار التحكيمي احيانا للإستئناف وحيث لا يعقل عندئذ النظر في إعطائه الصيغة التنفيذية بمعزل عن مصيره في بلد المنشأ. ونحن نرى أنه يمكن في هذه الحالة الإعتراف بالحكم الأجنبي الذي فصل في الأمر. ولا ريب أن هذا الحل هو الأعدل وهو الأصوب لأنه يوحد الحلول ويزيل التنازع بينها. أما اذا كان التحكيم متعلقا بالفعل بمصالح التجارة الدولية، فإنه لا مجـال لتفضيل قانون على آخر أو رقابة على أخرى. ان محكمة التمييز الفرنسية لم تقر بوجود محـل لمثـل هكذا تمييز وبقيت مصرة على معاملة جميع القرارات الصادرة في الخارج على الأسـاس ذاتـه رافضة إعطاء هوية معينة لهذه القرارات. ان هذا الإصرار قد أدى بها إلى نتائج غيـر مقبولـة على الإطلاق في الحالات التي كان فيها التحكيم داخلياً. ولم تتح الفرصة أمام محكمة التمييـز اللبنانية لبت هذه المسألة بقرار صريح، لأنه وفي قضية عرضت عليها وكان فيها التحكيم داخلياً لم يطلب منها الإعتراف بالقرار القضائي الذي رد طلب البطلان الذي كان قد وجه ضد القـرار التحكيمي، ولكنها أصرت على التأكيد أن الشيء ممكن، اذ وصفت التحكيم بالــداخلي، وشـددت على أن كلا القانونين الكويتي واللبناني يعترفان بالبند التحكيمي وبالقرار التحكيمي .