إن من أدق المهمات التي تمنح للمحكمين هي مهمة التفويض بالصلح، حيث يطلق للمحكـم العنان –بعيداً عن القواعد القانونية- في إسقاط ما يراه غير عادل من طلبات المحتكمين وصولاً إلى حل عادل تراعي فيه مصلحة الطرفين، إلا أنه دائماً يلتزم الضمانات الأساسية للتقاضي. فإذا ما منح الأطراف المحكم مهمة التفويض بالصلح، فيجب عليه أن يلتزم تلك المهمة فـي فـصله النزاع، فلا يلجأ إلى القواعد القانونية، بل يدور في فلك قواعد العدالـة، إلا إذا كانـت القواعـد القانونية أكثر عدالة من قواعد العدالة ذاتها، فعندئذ تطبق قواعد القانون، وإذا خالف المحكم مهمة التفويض بالصلح، تعرض حكمه للبطلان لتجاوزه المهمة التي منحت له، إلا أن مسألة مراجعـة قاضي البطلان لاحترام المحكم بالصلح مهمته، ليست باليسيرة بل في غاية الصعوبة، إذ كيـف يتأكد قاضي البطلان من احترام المحكم مهمة التفويض بالصلح؟
إن مراجعة قاضي البطلان لاحترام المحكم المفوض بالصلح مهمته لا تثير أي مشاكل عندما يكون تجاوز المحكم مهمته واضحاً، بأن طبق قاعدة قانونية، ولم يشر في حكمه إلى العدالـة أو التفويض بالصلح، فإنه بذلك يكون تجاوز سلطته وفصل كمحكم بالقانون. ولكن المـشكلة تثـار عندما يفصل المحكم وفق قواعد القانون ويشير في حكمه إلى كلمة العدالة، فهل معنى ذلك أن المحكم احترم مهمته كمفوض بالصلح وطبق القواعد القانونية الأكثر عدالة من قواعـد العدالـة ذاتها، أم أن الإشارة بكلمة العدالة في الحكم لا تكفي كدليل لإحترام المحكم المفـوض بالـصلح مهمته، فهل الإشارة إلى كلمة العدالة في الحكم تنم عن أن المحكم المفوض بالصلح لم يتجـاوز مهمته التي منحها الأطراف له.
في الحقيقة إن مراجعة حكم المحكم المفوض بالصلح لا تكون صعبة بخصوص احترام المحكم بالصلح قواعد النظام العام واحترامه حقوق الدفاع، وخاصة مبدأ المواجهة وتسبيب حكمه، فكل هذه الأمور يستطيع قاضي البطلان مراجعتها بسهولة، حيـث إن الالتزامـات السابقة يلتزم بها كل المحكمين بمن فيهم المحكم المفوض بالصلح، فيجـب علـى قاض البطلان أن يتحقق منها، لأنها جميعها من النظام العام الإجرائي، وتلك أمور يسيرة يمكـن للقاضي أن يتحقق من وجودها وتحقيقها، ولكن الصعوبة تكمن في الحل الذي اتخذه المحكم، هل امتثل المحكم للعدالة في حله أم تجاوزها، وبالتالي تجاوز سـلطته التـي منحهـا لـه الأطراف؟
فالمحكم قد يفصل في النزاع المعروض عليه، وفق قاعدة قانونية، لأنها هي الأكثر عدالـة، ولكن كيف نتحقق من أن الحل الذي يتبناه المحكم – في تطبيقه لقاعدة قانونية – هو الحل الأكثر عدالة، وبالتالي امتثل لإرادة الأطراف وفصل كمفوض بالصلح .
استقر القضاء الفرنسي على أنه يجب على قاضي البطلان أن يجري مراجعة شكلية لحك المحكم المفوض بالصلح ببيان ما إذا كان المحكم بالصلح احترم المهمة التي منحها له الأطـراف من عدمه، فغياب الإشارة الصريحة لكلمة العدالة في حكم التحكيم تعيب الحكم وتجعله بـاطلاً، فكان قضاء محكمة النقض الفرنسية في 15 فبراير 2001 أول الأحكام التي أشارت صراحة إلى ضرورة الإشارة إلى كلمة العدالة أو التفويض بالصلح للدلالة على احتـرام المحكـم بالـصلح مهمته، وتبعته بعد ذلك أحكام عديدة من القضاء الفرنسي تؤكد على المراجعة الشكلية لحك المحكم المفوض بالصلح، فقضت محكمة النقض الفرنسية في 10 يوليو 2003 بأنه "يجب علـى القاضي أن يجري مراجعة شكلية لاحترام مهمة المحكم المفوض بالصلح، فيجب أن يشير المحكم في حكمه لكلمة العدالة"، وكذلك محكمة باريس في 3 يونيو 2004، حيث قضت بأن "في حالة المحكمين سلطة التفويض بالصلح، فإن الخصوم يعفون المحكم من تطبيق قواعد القانون دون أن يحرموا المحكم الرجوع إلى تلك القواعد، طالما أنها ستكون الأكثر عدالة لحل النزاع، ويجب منح لیا على المحكم أن يشير في منطوق حكمه إلى أنه مفوض بالصلح وراعي اعتبارات العدالة".
وكذلك قضت محكمة باريس في 10 مايو 2007، بأن "احترام المحكم مهمته بـالتفويض بالصلح لا يظهر إلا من خلال شكل الحكم، بالإشارة في الحكم إلى أن المحكـم امتثـل لـسلطة التفويض بالصلح، وما هذا إلا احتراماً لإرادة الخصوم، وحيث في الدعوى الماثلة محكمة التحكيم لم تشر صراحة إلى أنها فصلت مع التفويض بالصلح، فمراجعة الحل الذي اتخذته محكمة التحكيم ومطابقته لقواعد العدالة، يتطلب مراجعة موضوع النزاع، وهذا ممنوع على قاضي البطلان".
وكذلك قضت محكمة باريس في 11 أكتوبر 2007، بأن "المحكم يكـون احتـرم مهمتـه كمفوض بالصلح إذا أشار في حكمه إلى أنه فصل وفقاً للعدالة".
وكان قد سبق تلك الأحكام حكم مماثل لمحكمة النقض الفرنسية فـي 18 أكتوبر 2001، استقرت فيه على ضرورة المراجعة الشكلية لاحترام المحكم المفوض بالصلح مهمته، فاستبعاد المحكم المفوض بالصلح قواعد القانون وتطبيق قواعد العدالة، لا يكفي لاحترامه مهمته، بل يجب عليه أن يشير في حكمه إلى أنه امتثل للعدالة، أي يذكر كلمة العدالة في الحكم حتـى لا يبطـل حكمه، مما يعني أن المحكم المفوض بالصلح – على حد تعبير الأستاذ Jarrosson يجب عليه القضاء على "عدم العدالة" éliminer l'inéquité، وأن يعود للعدالة باعتبارها السلطة الممنوحة له، وعليه أيضاً واجب وهو الإشارة إلى العدالة في حكمه، وإلا تعـرض حكمـه للـبطلان ، فالمحكم بالصلح ليس سلطة فحسب، بل هناك واجب عليه أيضاً، فيجب على المحكـم المفـوض بالصلح أن يقوم بالإثنين معاً، فإذا قام بأحدهما دون الآخر تعرض حكمه للـبطلان، فـإذا طبـق بالفعل قواعد العدالة، ولكنه لم يشر في حكمه إلى كلمة العدالة فيكون حكمه باطلاً لتجاوزه المهمة التي منحت له من الخصوم.
هذا الاتجاه السابق للقضاء الفرنسي لم يخالفه إلا حكمان فقط، الأول حكم لمحكمة النقض الفرنسية في 8 يوليو 2004، حيث قضت بأن "غياب الإشارة الصريحة لكلمة العدالة في الحكم لا لی يعيبه، فيكفي أن الحكم يظهر منه أو يكشف عن "Témoigne" ou révèle" أن المحكم امتثل للعدالة16"، والثاني للمحكمة نفسها في 28 نوفمبر 2007، حيث تكرر الاتجاه الـسابق نفـسه فمحكمه النقض نظرت إلى الأدلة التي ساقها المحكم في حكمه، دون أي اعتبار لكلمة العدالة في الحكم من عدمه ، هذه الشكلية لم تكن ضرورية لدى محكمة استئناف باريس عندما قررت أن غياب الإشارة إلى العدالة لا يتيح الحق في بطلان حكم التحكيم، لأنه واضح من الأسباب التـي بينها المحكم في حكمه أن حكمه مؤسس على العدالة.
تعرض تواتر القضاء الفرنسي للنقض:
بعد أن عرضنا موقف القضاء الفرنسي المتواتر على ضرورة توافر كلمة العدالة - التمسك بالشكلية – في حكم التحكيم للإطمئنان إلى أن المحكم احترم مهمته وفصل كمفـوض بالـصلح، نوضح أن هذا القضاء لم يسلم من النقض، فبعض الفقه تعجب من كون الشكلية تكـون هـي الفيصل لمراجعة احترام المحكم مهمته! على أساس أن البحث عن كلمة شكلية في حكم التحكيم، لا نضمن من خلال وجودها أن حكم التحكيم صدر وفقاً للعدالة21، ومن ناحية أخـرى، نتيجـة لتطلب شكلية بعينها في حكم التحكيم، تنتج منها كثرة دعاوى البطلان ضـد حـكـم التحكـيم ، فالشكلية المفرطة لا تدل بعينها على أن المحكم امتثل لقواعد العدالة، بل تـؤدي إلـى المساس باستقلال التحكيم عن طريق التوسع في سلطة قاضي البطلان من خلال مراجعـة شـكل حكـم التحكيم.
إلا أن بعض الفقه أيد ما ذهب إليه القضاء الفرنسي، من أن القاضي لكي يتأكد مـن كـون المحكم بالصلح احترم مهمته وفصل وفقاً للعدالة، يكون ذلك من خلال إدراج كلمـة العدالـة أو mission amiable composition، وبرر التفويض بالصلح في الحكم référé a l'équité ou الأستاذ Loic couteller ذلك بأنه حفاظاً على استقلال التحكيم من تدخل قاضي الدولة في حكم التحكيم، فيقلل من مراجعة القاضي لحكم التحكيم .
وذهب الأستاذ Ch. Jarrosson إلى ضرورة المراجعة الشكلية لإبعاد قاضي البطلان عـن موضوع حكم التحكيم، فتبـدو المراجعـة الـشكلية هـي الحـل الوحيـد لمراجعـة عمـل المحكم ، حيث يمتنع على قاضي البطلان إعادة النظر في موضوع الحكم ، فقاضي الـبطلان ليس له إلا التمسك بالكلمة السحرية في حكم التحكيم "mot magique"وهي كلمة العدالة بعيداً عن موضوع حكم التحكيم المحظور عليه الاقتراب منه.
وذهب الأستاذ Lourent Jaeger إلى أن مراجعة مهمة المحكم المفوض بالـصلح تثيـر صعوبات عملية، فلا تكون سهلة في غياب إشارة صريحة في حكم التحكيم، لإثبات أن المحكم فصل كمفوض بالصلح، فمن الصعب إثبات الأدلة على أن المحكم تجاوز مهمته، ولا يكون ذلـك سهلاً، إلا في حالة واحدة كون المحكم قال صراحة أنه رفض تطبيق العدالة – وهذا غير محتمل، كما أن العدالة مفهوم متغير، يصعب حصره في معنى واحد، فمن الوهم مراجعة تطبيق المحكـم له، نظراً لذاتية العدالة، فالتحقق من أن المحكم لا يطبق قواعد القانون، لا يتحقق إلا من خـلال الإشارة إلى كلمة العدالة في حكمه".
وذهب أيضاً الأستاذ Marie-claire Rivier إلى ضرورة المراجعة الشكلية على أسـاس أن "عدم وجود أطار شكلي نعرف من خلاله أن المحكم التزم الفصل وفقاً للعدالة من عدمه، ولن يستطيع أحد أن يدخل في ضمير المحكم ليعرف الأسباب الحقيقية التي توصل بها إلى قـراراه، ويضيف "أنه من الملاحظ أن المحكمين عادة يكونون قانونيين ويتجهون إلى التدليل بالقانون عند تسبيب حكمهم، هم أنفسهم عندما يكونون مفوضون بالصلح فيصدرون حكمهم وفقاً للعدالـة دون أن يتبعوا شكلاً معيناً عند تحرير حكمهم، إلا أنهم قد يصوغون حكمهم في إطار قانوني، ممـا يعرض حكمهم للبطلان"، على سبيل المثال، حكم محكمة استئناف باريس" في مادة تحكيم دولية، حيث فصل المحكم بالقانون واعترض المدعى عليه بسبب أن محكمة التحكيم تملك سلطة الفصل، وفقاً لاعتبارات العدالة، ومع ذلك صدر الحكم في صياغته، وكأنه صدر وفقاً لقواعـد القـانون، وكانت صياغة الحكم تدل على أن المحكم فصل وفقاً لقواعد القانون، وليس العدالة، وقد أوضحت محكمة الاستئناف "أنه من خلال البحث في أسباب حكم التحكيم، فإن المحكم لم يحكم بإسم العدالة أو التفويض بالصلح، فمحكمة الاستئناف بحثت عن الكلمة السحرية وهي كلمة العدالة أو التفويض بالصلح وصياغة الحكم دون البحث عن النية الحقيقية للمحكمين.
وذهـب الأستـاذ E. Loquin إلى أنه ليـس المقصود أن نتحقق من أن المحكم استبعد الظلم عن الخصوم، بل هل استخدم سلطته بالفعل كمفوض بالـصلح مـن عدمـه، دون تقـدير لنتائج استخدام هذه السلطة؟ أي هل الحل عـادل أم لا؟ فالأسـتاذ Loquin يريـد أن يعـرف هل المحكم استخدم سلطته كمفوض بالصلح أم لا بصرف النظر عن الحل الذي اتخـذه المحكـم كونه عادلاً أم لا، حيث أن قاضي البطلان ليس من سلطته مراجعـة صـحة أسـباب حكـم التحكيم .
ومن ناحية أخرى، يرى الأستاذ E. Loquin أن صعوبة المراجعة تظهر عنـدمـا يمــنـح المحكم سلطة التفويض بالصلح، وأنه تجاوز مهمته وفصل وفقاً لقواعد القانون، فـالمنطقي أن نراجع إذا كان المحكم فصل جيداً بالعدالة أم لا، فالشكلية قد تكون الحل الأمثل، ويرى الأسـتاذ Loquin أن أحكام القضاء التي قبلت شكلية المراجعة هي مقبولة على أساس "أنها وفقـت بـين مبدأين أساسيين في قانون التحكيم، وهما مراجعة احترام المحكم مهمته وعدم وجـود مراجعـة لصحة أسباب حكم التحكيم عن طريق قاضي البطلان.
ويذهب البعض في تبرير المراجعة الشكلية لاحترام المحكم بالصلح مهمته إلى أنه "عندما يستبدل القاضي بالمحكم في تطبيق العدالة، وذلك بإرادة الخصوم - عندما يمنحون المحكم سلطة التفويض بالصلح فتفصل محكمة الاستئناف هي الأخرى كمفوضة بالصلح – وتبعاً للأثر الناقـل للاستئناف، فإن قاضي الاستئناف يستطيع أن يراجع موضوع الحكم، أما عنـدمـا يكـون قـرار المحكمة غير قابل للاستئناف، فلا يتاح إلا البطلان، فيمتنع القاضي من نظر موضـوع الحكـم وفي هذه الحالة نرى أن الشكلية هامة، حيث لا نستطيع أن نعرف من مراجعة الموضوع، هـل المحكم امتثل لمهمته كمفوض بالصلح من عدمه؟ فالقاضي لا يستبدل بـالمحكم إلا فـي حالـة الاستئناف فقط، أما في حالة البطلان فلا يستبدل القاضي بالمحكم، لأن قاضي البطلان ممنـوع من نظر موضوع الحكم عكس قاضي الاستئناف – تبعاً للأثر الناقل للاستئناف لـه نظـر موضوع الحكم، فمراجعة قاضي البطلان لموضوع حكم المحكم المفوض بالصلح غير شـرعية، حيث أن القاضي غير ملزم بالفصل في العدالة، عكس قاضي الاستئناف الملزم بالفـصـل فـي العدالة. ، هـذا
ويعود الأستاذ Ch. Jarrosson، مرة أخرى في تبريره للالتزام بالشكلية فـي مراجعـة مهمة المحكم المفوض بالصلح إلى فلسفة التحكيم بالصلح ذاتها، فيقول "ولئن كـان صـحيحاً أنّ نقول إن من واجب المحكم المفوض بالصلح أن يقضي على عدم العدالة (الظلم)، ولكن مع هـ الالتزام واجب آخر، وهو أن يشير المحكم المفوض بالصلح في حكمه إلى التفويض بالصلح الذي منحه له الخصوم، والذي يعطيه حرية أكبر في الفصل في النزاع، ومنحـه خيـارات إضـافية لا تكون للمحكم بالقانون، لأن نطاق سلطات المحكمين بالصلح أوسـع مـن نطـاق المحكمـين بالقانون".
إن مراجعة مهمة المحكم المفوض بالصلح ليست سهلة، فالأمر في غاية الصعوبة، فبعض الفقه رأى أن المراجعة الشكلية لمهمة المحكم بالصلح – عن طريـق الإشـارة لكلمـة العدالـة والتفويض بالصلح في الحكم – هي أفضل من المراجعة الموضـوعية للحكـم - عـن طـريـق مراجعة موضوع حكم التحكيم، وهل الحل بالفعل كان عادلاً أم لا؟ وهل المحكم استخدم سـلطته بالفعل من عدمه؟ – وفي اعتقادي أن التفريق بين التحكيم بالقانون والتحكيم بالصلح على أسـاس الإشارة للدلالات في الحكم لا يكفي، فاستخدام العدالة ليس حكراً على المحكم المفوض بالـصلح - الذي قد يطبق القواعد القانونية أن كانت أكثر عدالة – فالمحكم بالقانون قد يستخدم العدالـة لتبرير قاعدة قانونية، فالتمييز بين التحكيم بالصلح والقانون يكاد ينعدم، بل على الأقـل قـد يختلط ولا نعرف هل فصل المحكم كمفوض بالصلح أو كمحكم بالقـانون، كمـا أن اشـتراط الشكلية للعدالة على احترام المحكم بالصلح مهمته قد تكون دون جـدوى، فقـد يحكـم المحكـم بالصلح وفق قواعد القانون، وفي نهاية حكمه أدرج كلمة العدالة أو التفويض بالصلح، فهل معنى ذلك أنه التزم حدود سلطته؟ فالإجابة تكون بالنفي، وعلى العكس قد يكون المحكم بالصلح قـضى بالفعل وفق قواعد العدالة، ولكنه لم يتذكر أن يدرج الكلمة السحرية (كلمة العدالة) فـي حكمـه فهل معنى ذلك أن حكمه باطل؟ الإجابة تكون بالنفي أيضاً، بالإضافة إلى أن الشكلية المفرطة في حكم التحكيم قد تقودنا إلى صدور العديد من أحكام البطلان لأحكام التحكيم التي خلت من كلمـة العدالة أو التفويض بالصلح، وفي هذا إهدار للتحكيم ذاته، إلا أنه، مـن ناحيـة أخـرى، فـإن المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم أمر محظور على قاضي البطلان، فقاضي البطلان يراقـب إجراءات التحكيم، وليس موضوع حكم التحكيم، وإن كان الأمر أسهل أمام قاضي الاستئناف تبعاً للأثر الناقل للاستئناف – يستطيع القاضي فحص موضوع الحكـم ومعرفـة هـل المحكـم استخدم سلطته بالصلح أم تجاوزها؟ كما أنه يصعب الدخول في ضمير القاضـي لمعرفـة هـل توصل إلى حكمه وفقا للعدالة من عدمه؟ فالعدالة أمر متغير وذاتي يختلف من شخص لآخر، فقد تكون العدالة من وجهة نظر المحكم في تطبيق شيء معين، ويختلف هذا الشيء من وجهة نظـر قاضي البطلان فيبطل حكم المحكم، فالمراجعة الموضوعية قد تقودنا أيضاً إلى المزيد من أحكام بطلان أحكام التحكيم لاختلاف العدالة بين المحكم والقاضي، وأمام ذاتية العدالـة، فإننـا نقتـرح إعطاء لوضع الصلاحية أطراف النزاع معايير محددة يلتزمها المحكم، إما عن طريق وضـع التفويض بالصلح في أطار نظام قانوني معين أو الرجوع لبعض المفاهيم الواسـعة للعدالـة أو وضع مجموعة من المعايير المحددة لتوجيه المحكمين بالصلح في حلهم للنزاع، وفي هذه الحالـة - إذا التزم المحكم هذه المعايير – يكون حكمه وفقاً للعدالة، وعلى قاضي الـبطلان أن يراعـي لی التزام المحكم تلك المعايير من عدمه دون الخوض في موضوع حكم التحكيم، ودون البحث عـن كلمة العدالة أو التفويض بالصلح في حكم التحكيم، حيث إن اشتراط أدراج المحكم كلمة العدالـة حتى تكون مهمته روعيت، أمر غير مرغوب فيه، لأن هذه الشكلية المفرطة قد تقودنـا إلـى نهاية نظام التحكيم، وخاصة التفويض بالصلح الذي قد ينشوه عن طريـق قاض الـبطلان فالإشارة إلى كلمة العدالة لا يفيد على الإطلاق أن المحكم التزم العدالة، هذا ما دعا إليه الأسـتاذ Thomas clay إلى القول إن اشتراط كلمة العدالة لا يعني أن المحكم استخدم كل شـيء عـن العدالة.
إضافة إلى السابق، نتساءل: لماذا نتشدد مع المحكم المفوض بالصلح ولا نتشدد مع القاضي فالقاض سلطة المفوض بالصلح؟ – حيث يجوز للخصوم منح القاضي سلطة التفويض بالصلح – فللقاضي التخفيف من آثار العقد مثل المحكم بالصلح، فقضي – تطبيقاً للسلطة التي منحها الخصوم للقاضي بالتفويض بالصلح – "أن الحد من آثار الشرط الجزائي هو مجرد رخصة للقاضي، وليس عليـه التزام تسبيب قراره عندما يطبق اتفاق الخصوم، ولا يطبق الشرط الجزائي، مطالب بتسبيب قراره إن لم يأخذ بالشرط الجزائي وطبق اتفاق التحكيم، فلماذا التشدد مع المحكم بالصلح واشتراط الشكلية في حكمه بإدراج كلمة العدالة أو التفويض بالصلح في حكمـه؟ فعلـى سبيل المثال، قضت محكمة النقض الفرنسية في 18 فبراير 2001 بأنـه إذا قـضى المحكم بالصلح في طلب إلغاء الديون باستبعاد تطبيق قواعد القانون عليه دون أن يشير في حكمه إلـى كلمة العدالة، فإن حكمه يكون باطلاً، فالمحكم قد استبعد تطبيق قاعـدة التقـادم وحجيـة الأمـر المقضي حيث العدالة تكمن في استبعادهما من وجهة نظره، فهو لم يشر إلى كلمة العدالة فـي الحكم، فإن المحكمة أبطلت الحكم لمجرد تطلب الشكلية48، عكس حكم محكمة النقض بخصوص استبعاد القاضي لتطبيق الشرط الجزائي وتطبيق اتفاق الخصوم، فلماذا هذا التشدد المحكـم المفوض بالصلح الذي يعد أنه الأقرب إلى جوهر التحكيم؟