إشكالية نطاق رقابة القضاء على أحكام التحكيم من خلال دعوى البطلان تعليقا على حكم محكمة النقض المصرية الصادر بجلسة 2021/6/24 في دعوى بطلان حكم التحكيم الصادر لصالح شركة الخرافي ضد الحكومة الليبية
تمهيد:
أثار حكم التحكيم الصادر في النزاع بين شركة محمد عبد المحسن الخرافي وأولاده للتجارة العامة والمقاولات العامة والمنشآت الصناعية ضد حكومة دولة ليبيا، وما تبعه من نزاع قضائي في دعوى البطلان بمراحلها المختلفة، انتهاء بحكم محكمة النقض المصرية الصادر بجلسة 2021/6/24، زخما قانونيا مهما، نظرا لضخامة المبلغ المقضي به في حكم التحكيم، وما أثاره السند القانوني لهذا التعويض من جدل قانوني، وما يثيره النزاع من إشكالية نطاق التدخل القضائي لرقابة أسباب حكم التحكيم الموضوعية، ما يجعل الأحكام الصادرة في هذا النزاع بمراحله المختلفة محلا للبحث والتحليل الفقهي العميق.
وحينما نتناول هذا التناضل القانوني بين طرفي دعوى البطلان، فإننا نقتصر على تحليل حکمی محكمة استئناف القاهرة الصادر بجلسة 2020/6/3 ، ومحكمة النقض الصادر بجلسة 2021/6/24، وهما الحكمان اللذان فصلا في أسباب دعوی البطلان، ولن نخوض في الأحكام التي سبقتهما بشأن قبول الدعوى والاختصاص بها، لخروج ما تعلق بها من دفوع وحجج قانونية عن نطاق بحثنا في إشكالية نطاق رقابة القضاء على الأسباب الموضوعية لحكم التحكيم .
وعلى ضوء ذلك، فسوف نعرض - فيما يلي - موجز وقائع النزاع وإجراءاته، ونردف ذلك بالتحليل القانوني لحكمي محكمة استئناف القاهرة ومحكمة النقض بشأن دعوى البطلان، سعيا لتحديد موقف القضاء المصري بشأن نطاق التدخل القضائي الرقابة أسباب حكم التحكيم:
أولا: وقائع وإجراءات النزاع.
ثانيا: التحليل القانوني لحكمي محكمة استئناف القاهرة ومحكمة النقض.
ثالثا: التعليق على حكم محكمة النقض . ونعرض ذلك في ثلاثة مطالب متتالية.
المطلب الأول الوقائع والإجراءات
أولا: النزاع التحكيمي: نشأ النزاع بين شركة الخرافي الكويتية والدولة الليبية عن عقد تم إبرامه بتاريخ 2006/6/8 ، تقوم بمقتضاه شركة الخرافي بإنشاء مشروع استثماري سياحي في ليبيا، بناحية شاطئ منطقة تاجوراء، بشعبة طرابلس، ووسم العقد بأنه عقد إيجار قطعة أرض مساحتها 24 هکتار (240000 متر مربع ) مملوكة للدولة الليبية، لغرض إقامة ذلك المشروع وذلك طبقا للقانون الليبي الخاص بتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية، وتضمن العقد أن قيمته الاستثمارية تبلغ 130 مليون دولا أمريكي، على أن يتم تنفيذه خلال سبع سنوات ونصف سنة ، أما مدة الانتفاع (امتياز شركة الخرافي ) فتبلغ تسعون سنة نبدأ من تاريخ استلام الشركة الأرض المشروع، ونص في العقد أيضا على أن تتولى شركة الخرافي مهمة تمويل إقامة المشروع وتشغيله، والتزام الطرف الليبي بأن يسلم الشركة أرض المشروع خالية من كل الشواغل مع ضمان خلوها من العوائق المادية والقانونية طيلة مدة الانتفاع الاستثماري. إلا أن وزیر الاقتصاد الليبي أصدر القرار رقم 203 السنة 2010 بإلغاء الموافقة على الاستثمار الممنوح للشركة على سند من القول بتراخي الشركة عن تنفيذ العقد، وذلك بعد فترة من المناقشات والخلافات بشأن عدم التزام الحكومة الليبية بتسليم الأرض خالية من الشواغل للشركة.
وإذ تضمن عقد النزاع جرى على إنه في حال نشوء أي نزاع بين الطرفين يتعلق بتفسير نصوص العقد أو تنفيذها أثناء سريانه يتم تسويته وديا، وإذا تعذر ذلك يحال النزاع إلى التحكيم وفقا الأحكام الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية الصادرة عام 1980، والتي وقعتها كل من ليبيا والكويت. وعلى إثر إلغاء الاستثمار، واعتمادا على شرط التحكيم المار ذكره، تقدمت شركة الخرافي بطلب تحکیم وفقا للاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية، وتشكلت هيئة تحكيم من ثلاثة أعضاء، وأتفق الأطراف على تطبيق القوانين الليبية على موضوع النزاع بما في ذلك قانون رؤوس الأموال الأجنبية وتعديلاته، وعلى أن تطيق القواعد الإجرائية لمركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري على إجراءات الدعوى، وفي مقره بالقاهرة باعتباره مصر التحكيم فقط، إذ يتم التحكيم بمعرفة هيئة تحكيم حر.
وبتاريخ 2013/3/22، صدر حكم هيئة التحكيم بإلزام الجهات المحتكم ضدها، بالتكافل والتضامن: بأن تدفع إلى شركة الخرافي الكويتية المبالغ الآتية: 30 مليون دولار تعويضا عن الأضرار الأدبية، 5 مليون دولار قيمة الخسائر والمصروفات المت كبدة »، 900 مليون دولار تعويضا عن الكسب الفائت، مليون و940 ألف دولار رسوم ومصاريف التحكيم، أي بإجمالي تسعمائة وستة وثلاثين مليون وتسعمائة وأربعين ألف دولار أمريكي، إضافة إلى فاندة بمعدل %4 سنويا عن إجمالي المبالغ المحكوم بها، ورفض باقي الأقوال والطلبات الأخرى.
ارتكز حكم هينة التحكيم على أن العقد مصدر النزاع (عقدة/ 6/ 2006 ) ليس من العقود الإدارية، بل هومن عقود BOT » الخاضعة للقواعد القانونية المنطقة على العقود المدنية الخاصة، وإنه وفقا للمعايير الدولية والليبية، فالعقد يتضمن مشروعا سياحيا استثماريا ريحا عربيا (أجنبيا)، فيسري في شأنه قواعد القانون الليبي الخاص بتشجيع استثمار رؤوس الأموال الأجنبية، وكذلك قواعد الاتفاقية الموحدة و الاستثمار رؤوس الأموال العربية التي تعد بدورها جزءا لا يتجزأ من التعاقد، كما ذكر الحكم أن موافقة ليبيا على التحكيم وفقا لنظام الاتفاقية، ثابتة في العقد.
وفي سبيل بيان خطأ ومسئولية الحكومة الليبية، وبعد أن أكدت هيئة التحكيم أن العقد يتسم بالطابع الحكومي، ومسئولية الحكومة الليبية عنه، فقد أكدت هيئة التحكيم في حكمها أن الشركة المحكمة لم يكن بإمكانها استصدار التراخيص المتطلبة أو عمل الرسومات والخرائط والتصاميم التفصيلية والجدول الزمني للمشروع لأنها لم تتسلم بالفعل أرض المشروع خالية لتنتفع بها الانتفاع المقصود من التعاقد كما أن الدولة الليبية المضيفة للاستثمار ملزمة – وتابعيها - في كل الأحوال بحماية المستثمر الأجنبي (العربي ) وبأن تصون وتضمن استثماره وعوائده على أراضيها دون معوقات أو موانع، لذلك تكون دولة ليبيا هي المسؤولة وحدها عن عدم مباشرة أعمال المشروع المشترك وتحقيق غاياته التنموية الطموحة، وأن الطرف الليبي أخطأ في فسخ وسحب مشروع التعاقد، وأن استثمار المحتكمة أنهى بشكل تعسفي مماثل للتجميد والتصفية والتدابير الأخرى التي لها نفس الآثار، والتي تحرمها نصوص القانون الليبي وقواعد الاتفاقية الموحدة وهو الأمر الذي يترتب عليه مسؤولية الأجهزة الليبية المحتكم ضدها.
وفي سبيل إثبات الضرر، واستنادا إلى أربعة تقارير خبرة، فذرت هيئة التحكيم التعويض الماريبانه ، عن فسخ العقد وإنهاء الاستثمار، وعن الريح الذي فات المحكمة وحرمانها من الفرص الضائعة الأكيدة والمحققة » لو كان مشروع التعاقد قد أكتمل تنفيذه ، واحتساب الأصافي أرباح الشركة طوال مدة الاستثمار، 83 سنة.
ثانيا: إجراءات دعوى البطلان:
لم تقبل الحكومة الليبية بحكم التحكيم، فأقامت دعوى البطلان رقم 39 لسنة 130 في، أمام محكمة استئناف القاهرة، باعتبار أن مصر هي دولة مقر التحكيم، بغية الحكم ببطلانها.
وبجلسة 2/5 /2014، قضت محكمة استئناف القاهرة بعدم قبول الدعوى؛ استنادا إلى أن الاتفاقية العربية الموحدة » لاستثمار رؤوس الأموال العربية عام 1980، لم تتضمن نظاما إجرائيا لبطلان أحكام التحكيم الصادرة في نطاقها وتحت مظلتها، إذ إنها لم تذكر مصطلح أو لفظ البطلان، وأن التحكيم الخاضع لتلك الاتفاقية وملحقها يعتبر نظاما قانونيا مستقلا بذاته، لا علاقة الله بأي نظام إجرائي وطني ولو في الدولة التي جرى فيها التحكيم، فيكون حكم التحكيم الصادر في نطاقها، نهائيا وملزما | ونافذا، غير قابل للطعن فيه أمام المحاكم، ويخرج بحسب طبيعته عن نظام دعاوی البطلان الوارد في قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994.
طعنت دولة ليبيا على حكم محكمة الاستئناف القاضي بعدم قبول دعوى البطلان بطريق النقض، بالطعن رقم 6065 لسنة 84 ق. وبجلسة 14 / 11 / 2015، قضت محكمة النقض بنقض الحكم، على سند من إنه ولئن كانت الاتفاقية الموحدة - بالتحديد ملحقها- قد حظرت الطعن في أحكام المحكمين الخاضعة لها بطرق الطعن العادية وغير العادية إلا أنها لم تمنع صراحة إقامة دعوى بطلان أصيلة في شأنها، فدعوى البطلان المقررة لأحكام التحكيم لا تعد طريقا من طرق الطعن بدرجاته المتعارف عليها في قانون المرافعات القضائية، بل هي دعوى أصيلة مبتدأة تعد أداة فضائية (استثنائية وخاصة ومتميزة ) لرد حکم التحكيم الذي أصابه عوار في مقوماته الأساسية مما يستوجب زواله ومنعه من إنقاذ آثاره.
وفي هذا الصدد، أكدت محكمة النقض أن كل حكم تحكيم جرى في مصر يخضع دائما، ولو كان دوليا، النظام دعاوى البطلان وحالاتها وأسبابها ذات الطبيعة الإجرائية الواردة في قانون التحكيم المصري، والتي تهدف - في الأساس وبخلاف الطعون القضائية العادية - إلى معاقبة أو ملاحقة المخالفات الخطيرة الظاهرة في حكم التحكيم التمسك ببطلاته، وبالتالي وبحسب حكم النقض تكون دعوى البطلان القائمة مقبولة شكلا، ويتعين على محكمة البطلان لذلك أن تتحقق وتبت في المخالفات المثارة أو المنسوبة لحكم التحكيم وأن تأتي بجواب صريح فيها.
أحيلت دعوى البطلان مرة أخرى إلى محكمة استئناف القاهرة كمحكمة بطلان، اللفصل في موضوعها - بدائرة أخرى - وفقا القانون التحكيم المصري ، باعتباره الشريعة التحكيمية العامة لكل تحكيم بيجري في مصر، وبجلسة 2018/8/6 أصدرت المحكمة - بدائرة مغايرة - حكمها القاضي بعدم اختصاصها دوليا بنظر دعوى البطلان؛ مستندة إلى فهم جديد لواقع الدعوى وأساس قانوني مغاير لفهم وأساس الحكم الأول المنقوض. وأقامت محكمة الاستئناف قضاءها بعدم الاختصاص على سند من أن الدعوى التحكيمية جرت في ظل أحكام الاتفاقية الموحدة، فيكون حكمها يكون محصنا أمام القضاء المحلي لكل دولة من دول الاتفاقية ولو بدعوی إبطال مبتدأة.
وأضاف الحكم أن الدعوى الأصيلة ببطلان أحكام التحكيم تعد - بشكل أو آخر - منازعة ناشئة عن تطبيق الاتفاقية التي تحدد بشكل حصري محكمة الاستثمار العربية كجهة قضائية خاصة بالمنازعات الناشئة مباشرة عن الاتفاقية نفسها، وأن تلك المحكمة التابعة لجامعة الدول العربية هي محكمة إقليمية دولية مستقلة منقطعة الصلة بالأنظمة الإجرائية الوطنية بما في ذلك كل نظام تحكيمي وطني، وبهذه المثابة فإن دعوى البطلان تخرج عن ولاية القضاء المصري ونطاق اختصاصه الدولي.
لم تقبل حكومة ليبيا أيضا بهذا الحكم القاضي بعدم الاختصاص، وطعنت عليه للمرة الثانية أمام محكمة النقض، بالطعن رقم 15 186 لسنة 88 قي. وجلسة 10 / 12 / 2019، قضت محكمة النقض ينقض الحكم؛ مؤكدة في حكمها، أن موضوع الاختصاص – بصوره المختلفة - يعد أمرا مطروحا دائما على محكمة النقض ولو لم يرد بشأنه نعي خاص به، وأن حكم النقض الأول الصادر بجلسة 2015/11/14، يتضمن بالضرورة، وكمسألة قانونية محسومة بقضاء فاصل وقاطع، اختصاص محكمة استئناف القاهرة بنظر دعوى بطلان حكم التحكيم المطروحة، وعلى محكمة استئناف القاهرة الالتزام بقضاء محكمة النقض بالفصل في موضوع دعوى البطلان، ونظرا لعدم تصدي محكمة الاستئناف لموضوع الدعوى فقد أحيلت الدعوى مرة ثانية إلى محكمة استئناف القاهرة للفصل في موضوعها بحكم جديد يتصدى للأسباب التي أقيمت عليها دعوى الإيطال، حتى لا تفوت على أطراف الخصومة درجة من درجات التقاضي، ولم تستنفد المحكمة ولايتها بشأنه بعد.
وامتنانه للحكم الناقض؛ أعيد نظر دعوى البطلان أمام محكمة استئناف القاهرة بدائرة مغايرة، حيث تناضل طرفا الدعوى في أسباب البطلان المطروحة. وبجلسة 2020/6/3، حكمت المحكمة ببطلان حكم التحكيم المطعون فيه الصادر في مصر القاهرة 8 بتاریخ 2013/3/22 وإلزام الشركة المدعى عليها المصاريف القضائية ومبلغ مئة جنيه كمقابل لأتعاب المحاماة.
وقد استندت محكمة استئناف القاهرة في حكمها الأخير الذي فصل في موضوع الدعوى لمجموعة من الدعامات القانونية يمكن إيجازها في أن التنظيم القانوني الدعوى البطلان لا يحرم قاضي البطلان من فحص أسباب الحکم بفهم ويقظة ودراية للتحقق من عدم جسامة مخالفاته التي قد تصل على حد إيطاله، والتيقن من عدم خروجه على قواعد النظام العام، ومن عدم خروج التعويض عن مقتضيات العدالة وروح الإنصاف ، بما يجعله تعويضا عاصقاء فاحشا، متعسقا، غير مبرر؛ وذلك على النحو الذي أسهبت فيه المحكمة، وهو ما سنتناوله بالتحليل في المطلب الثاني.
لم تقبل شركة الخرافي هذا الحكم ببطلان حكم التحكيم، فطعنت عليه أمام محكمة النقض بالطعن رقم 12262 لسنة 90 قي، يطلب الحكم بنقض الحكم المطعون فيه وبجلسة 2021/6/24، قضت محكمة النقض بنقض الحكم المطعون فيه، وألزمت المطعون ضدهم المصروفات ومبلغ مانتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة ، وحکمت في موضوع الاستئناف رقم 39 لسنة 130 في القاهرة برفضه وألزمت المدعيين بالمصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
وقد جاءت أسباب الحكم الأخير لمحكمة النقض مؤكدة أن قانون التحكيم رقم 27 السنة 1994، قصر البطلان على حالات معينة يينتها المادة (53) على سبيل الحصر، وليس لقاضي دعوى البطلان مراجعة حكم التحكيم التقدير ملاءمته أو مراقبة حسن تقدير المحكمين، وأن ما ذهب إليه الحكم المطعون فيه من عيوب في تكييف العقد أو المغالاة في التعويض ليس من بين حالات البطلان التي أوردتها المادة (53) من قانون التحكيم على سبيل الحصر، إذ هي من الحالات التقديرية الهيئة التحكيم ولا يتسع لها نطاق هذه الدعوى وهو ما يعيبه بعيب مخالفة القانون والخطأ في تطبيقه ويوجب نقضه.
وقد تصدت المحكمة الموضوع دعوى البطلان باعتباره صالحا للفصل فيه، وقضت برفض الدعوى للسبب ذاته الذي نقضت على أساسه الحكم.
المطلب الثاني التحليل القانوني لحكمي محكمة استئناف القاهرة ومحكمة النقض
أولا: التحليل القانوني لحكم محكمة استئناف القاهرة: ينطلق حكم محكمة استئناف القاهرة الصادر في دعوى البطلان رقم 39 لسنة 130ق، بجلسة 2020/6/3، من أساس فلسفي الفكرة العدل والعدالة وإعلاء الحق، ودور القاضي اللامحدود في إقامة العدل، وأن هذا الدور لصيق بالعمل القضائي حتى في دعوى البطلان. ورغم تسليم الحكم بأن دور القاضي في دعوى البطلان لا يمتد إلى عناصر التقدير والمواءمة في الحكم، إلا أنه يؤكد عدم وجود حصانة مطلقة، ولا قدسية لعمل المحكم، تنأى بحكم التحكيم عن الإيطال إذا أهدر القواعد الأساسية التي توجبها الفطرة والعدالة وحقائق الأشياء.
نتأمل هذا المعنى فيما صدرت به المحكمة أسباب حكمها بقولها: وحيث إنه في القانون المصري، فوفقا لأحكام دعوى بطلان أحکام التحكيم التي هي الضمانة الكبرى المرتبطة بمصالح أطرافه، ويحسب طبيعتها، فلا شأن القاضي البطلان بالنتيجة التي خلص إليها حكم التحكيم، كما إن أخطاء الحكم المتعلقة بعيوب في التقدير بالنسبة لعناصر الواقع أو يمخالفة القانون لا تجعله بالضرورة موصوا بالبطلان، وبطبيعة الحال لا يجوز للخصوم إعادة الجدل في عناصر النزاع الموضوعي أو إعادة طرحها من جديد على محكمة البطلان لمراجعتها. ولا يملك القضاء تصحيح أو إتمام النتائج التي أثبتها المحكم أو رد الأمور إلى نصابها أو أن يقوم أو يصحح ما يكون في حكم التحكيم من عوج . ومع ذلك كله، وعلى الرغم من قوامه وكيانه الاتفاقي الذاتي والمتميز، فإن النظام أو طريق التحكيم من الأطر التحكيمية الكلية والقواعد المبدئية «العدلية » التي توجبها الفطرة وتفرضها حقائق الأشياء ما يحول دون إساءة استخدامه بما يخرجه عن وظيفته وحدوده المنطقية المشروعة، فالتحكيم نظام قانوني لا نظام مطلق، لذلك فإن جاوز حکم التحكيم ضوابط التحكيم وأطره الجوهرية أو عطلها، فلا يكون الحكم مستحقا للحماية المقررة له، وبالتالي فلا يكون محصنا. فغير مسموح للمحكم أن يتحرر من أي ضوابط قانونية أساسية أو أن يهدر مبادئ عدلية جوهرية أو أن يتحلل من الضمانات والواجبات السلوكية واجبة الصيانة ، أو أن يخترع شينا من لا شي.
لذا، فلاجرم قاضي البطلان - عند مخاصمة حكم التحكيم - من أن يمر على أسباب الحكم فاحصا إياها، بعناية وفهم ويقظة ودراية، سبيلا إلى استظهار واستبیان مفترضات المطاعن المثارة في شأنه والتي قد تؤدي -حسب ظهورها الواضح الصريح وتأثيرها الجسيم - إلى إبطاله.
ومن زاوية النظام العام، فيحق للقضاء دائما التدقيق والاستيثاق يما إذا كانت معايير المحاكمة التحكيمية (النزاهة الإجرائية) قد تم الالتزام بها أو إنها أهدرت يشكل جوهري، خطير وواضح، وكذلك يملك القضاء تقدير عما إذا كان الحكم فقد تضمن - في أسبابه المؤثرة في محصلته أو في منطوقه - عدوانا، حقيقيا وواضحا، على قواعد النظام العام، تلك ذات الأصول اليقينية الثابتة، من عدمه، وتندرج تحت هذه القواعد بطبيعة الحال القواعد الأولية الضرورية التي تلازم ضوابط ومعايير العقل وتفرضها حقائق الأشياء، فهذه لا يجوز للمحكم أن يتجاوزها أو يهدرها أو يتجاهلها على نحو مفرط، هكذا، وفي حدود قانونية محدودة وضيقة، يقول فضاء البطلان كلمته في شأن حكم التحكيم، إبطاله أو رفض دعوى إبطاله. وفي كل الأحوال، ورغم مرونة الضوابط القانونية والشكلية للشأن التحكيمي، قياسا على الضوابط الصلبة أو الخشنة المتصلة بالشأن القضائي، فإنه لا يمكن للمحكم أن يتمتع بسلطة كاملة ومطلقة لا قيد عليها ولا عاصم من جموحها أو انحرافها. في نطاق تبعات ودلالات قواعد النظام العام، أوامره ونواهيه، وموازينه العصرية التي استقرت حقيقتها، لا يتبوأ كل حکم ولو كان تحکیمیا صدارة ما، فليس له - كغيره - مصدر قدسي ، فالتحكيم ليس مقصودا لذاته، ولا هو مزية يتحرر فيه الحكم من كل قيد بعد تقديم الحكم للأساس المار ذكره، تعمق فحصا وتمحيضا لأسباب حكم التحكيم، خاصة فيما يتعلق بالمسئولية المدنية وتقدير التعويض، فقد ارتأي حكم البطلان أن تقدير التعويض المستحق للمستثمر جاء فجا، مشويا بالغلو والشطط والإجحاف الذي يقفز إلى العين، ويغاير كل قواعد التعويض وتناسب التعويض مع الضرر.
يبدو ذلك فيما بني عليه حكم البطلان من أسباب نورد منها: في مجال المسؤولية المدنية، فالحكم بالتعويض يعد أمرا مرهونا | لزوما بوقوع الضرر، وبحيث يتم تحديد مقدار التعويض بقدر يتناسب مع الضرر، أي متكافئا عقلا مع الضرر ومناسبا لجبره ، ويقاس الضرر بمعايير أو أسس موضوعية تأخذ في الاعتبار الظروف الواقعية الملابسة. يمثل مبدأ التكافؤ أو التناسب في تقدير التعويض قاعدة ثابتة من قواعد النظام العام المشتركة التي لا يجوز التفريط فيها لارتباطها الوثيق بمصالح وحقوق الأفراد واحترام توقعاتهم المشروعة، فيحق للقضاء أن يستظهر - دون بحث موضوعي أو تعمق - مدى احترام حكم التحكيم لمبدأ | التناسب هذا، بحيث يمكن إبطال الحكم، أو رفض تنفيذه ، إذا كان متضمنا - بوضوح وبشكل ملموس بارز - تعويضا مجحفا | ظالما ظلما شديدا، يتجاوز الضرر بشكل فادح، غير ملائم وغير قابل للتعليل بالمرة . وعموما، فالتعويض - أيا كان وفي إطار توازن المصالح على اختلافها - يجب أن لا يتعارض في مداه مع مقتضيات العدالة وروح الأنصاف، وإلا تمخض إلى فوضى وعدوان، وبالتالي فإنه لا يوجد تعويض بلا قيد أو سقف أو حاجز، وإلا صار الغوا عبثيا، فعلا تحکما تسلطيا، منهيا عنه في كل قانون.
يستند حکم البطلان كذلك إلى المبادئ العليا الحاكمة، التي تسمو على كل القوانين، والتي تتعلق بحقوق الإنسان وقيمة العدل ودرء الظلم فيؤكد: عند الكلام في القانون في مجملها فهناك مبادئ عليا حاكمة، لا يمكن التلاعب في جوهرها أو معناها لأنها تسمو في مرتبتها على كل قانون ولو كان مكتوبا . تأكيدا وتوطيدا لحقوق الإنسان ولقيمة العدل - الذي تزهو به الأمم - وأطرها ومفاهيمه، فإن المبدأ الهادف إلى دره الظلم الجسيم والفاضح الذي يرفضه العقل القويم - دفع المضار. يعتبر أصلا ثابتا ساريا في كل زمن وعبر كافة الدول، فمثل هذا الظلم الشديد يجب أن يذهب، ودروها ليس مجرد تکلیف دیني أو أخلاقي سلوكي وإنما بعد، فوق ذلك، التزاما قانونيا من المتعين مراعاة توجيهاته وتوكيد معناه.
استندت محكمة البطلان أيضا إلى عشوائية تقدير التعويض وعدم معقولیتها حيث جاء عاصفا غير مبرر، مخالفا لطبيعة الأشياء، بل يخرج عن نطاق التوقع، مينيا على تصورات مجردة تفتقد الواقعية فجاء مشوبا بغلو وافراط شديدين، غلو يأياه العقل وإفراط لا يقره قانون ، يما هدد گیانه، فالعدل فيه كان مفقوا على نحو صارخ، فصار لذلك مسکونا بالبطلان.
فتؤكد المحكمة أن الأمر البارز فيه - يقفز إلى العين - يتمثل في ضخامة مبالغ التعويض المحكوم بها، نحو مليار دولار أمريكي. بالنظر إلى الصورة الكلية أو الإطار العام للنزاع التحكيمي ومظاهره وعناصره الواقعية، فإنه يمكن وصف هذا التعويض بكونه تعويضا عاصفا غير میرر بالمرة، مخالفا لطبيعة الأشياء، ما كان في الوسع توقعه عقلا وقانونا، فقد البنى التعويض على معطيات نظرية وتصورات مجردة، بلا واقع يسنده، بداية تكتفي المحكمة في هذه الفقرة بأن تشير إلى ما سجله حكم التحكيم نفسه، قالكتاب المؤرخ 2012/8/23 المعتبر كصحيفة دعوى التحكيم أو مفتاحها والصادر عن المحامي الوكيل عن شركة الخرافي المحكمة الأستاذ و...)، فقد ذكر فيه أنه سبق لشركته أن عرضت على هيئة التمليك والاستثمار الليبية عدة خيارات ، من بينها: .. أن تدفع - تلك الهينة - للشركة خمسة ملايين دولار أمريكي وهو ما يمثل فقط جزء من خسائرها وتنتهي العلاقة بين الطرفين ، هذا هو مقدار التعويض الذي ارتضت به المحكمة بداية، مبلغ خمسة ملايين دولار، أو ما يزيد عنه قليلا، ثم أخذ التعويض يمتد ويتصاعد في تلاحق دراماتیکی، فخلال دعوى التحكيم عادت الشركة ورفعت مقداره أكثر من مرة، بداية من 55 مليون دولار لتصل إلى حوالي مليار و4 14 مليون دولار ولتستقر في طلباتها الختامية إلى طلب ما يزيد على مليارين و55 مليون دولار تعويضا لها عن إنهاء المشروع المعطوب. هذا السلوك الصادر عن المحكمة - بإشاراته الموحية التي تستدعي الانتباه بشدة - يعد فعلا يشبه السخف بل هو السخف ذاته، ومع ذلك، فقد سایر حکم التحكيم سخف المحكمة وانقاد إليه وتعامل معه بجدية - وبمنطق عاجز وحجج واهية سقيمة- قصار لذلك حكما سخيفا عبثيا، يتسم بالقسوة المفرطة، يؤذي العقل والقانون ومدلول العدالة والإنصاف، جميعا .
مخالفة حكم التحكيم القواعد المسئولية المدنية والتعويض عن الكسب الفائت، وعدم التفرقة بين ضياع الأمل في فرصة الكسب، والتعويض عن ضرر فعلي كان سيقع حتما في المستقبل ، وهو خطأ فاحش في تطبيق القانون، ومخالفة لأبسط مفهوم من مفاهيم العدالة المستقرة ، المعايير الدنيا للإنصاف، موضوعية كانت أم إجرائية.
فتبين محكمة البطلان ذلك بأنه: خالف حكم التحكيم النظر القانوني المتقدم، فقام بتقدير التعويض عن الكسب الفائت - الذي يمثل العمود الفقري من جسم الحكم وعصيه- لا يحسبانه تعويضا احتمالا عن ضياع الأمل في فرصة الكسب وإنما باعتباره تعويضا أكيدا عن ضرر فعلي كان سيقع حتما في المستقيل، هذه المخالفة الخطيرة للقانون، فهمه وتأويله وتطبيقه، قادت الحكم وجرته إلى مزالق لا قاع لها، إذ أدت به إلى الوقوع في شطط - يشبه الفوضى - لا يمكن قبوله، بحيث تمتد إليه بالضرورة - كملاذ أخير- الرقابة القضائية رقابة البطلان. فالمبلغ المحكوم به للمحكمة عن الكسب الفائت، على ضوء | ما أحاط النزاع من ظروف ملابسة، بعد بكل مقياس قانوني عدلي تعويضا ظالما ظلما صارخا مبالغا فيه على نحو مفرط، اصطناعي، غير منضبط أو متوازن بالمرة. فعلاقة العلة بالمعلول التي هي دعامة كل تعويض، كانت منتفية، فالضرر المحكوم بالتعويض من أجله كان متوهما، منتح مجردا بغیر واقع، فانحل عدوانا على الحقوق المتنازع بخصوصها حول المشروع المعطوب . بحسب الأصول القانونية المحسومة في النطاق الدولي ويشكل عام، فإنه يجوز إبطال حكم التحكيم، أو عدم تنفيذه عند الاقتضاء، وذلك إذا كان معيبا بعيب الغش والاحتيال أو في الحالات التي يثبت فيها مخالفة هيئة التحكيم لأبسط مفهوم من مفاهيم العدالة المستقرة ، المعايير الدنيا للإنصاف، موضوعية كانت أم إجرائية.
أشار حكم البطلان إلى أن تقدير حکم التحكيم للتعويض ينسف مفهوم المحاكمة العادلة المنصفة، إذ مسخت هيئة التحكيم قواعد قانونية جوهرية كانت مؤثرة في حكمها.
وفي ذلك انتهت محكمة البطلان إلى أن: بحسب ما ساقه حكم التحكيم من مقدمات وتعليلات، سوف يأتي ذكرها لاحقا، يظهر - بإحساس قانوني يصعب تجاهله - أن تقدير الحكم للتعويض السالف الذكر يتسم بالتعسف والغلظة والإسراف الشديد في مداه ، يخرج عن حدود كل معقول، ويشكل انتهاكا ظاهرا وخطيرا الجوهر مبدأ التكافؤ أو التناسب بين مقدار التعويض وبين الضرر، مهدا بذلك وبصورة تحكمية الحقوق والمركز القانونية المتصلة بالدعوى التحكيمية بما يمثل إخلالا بالضمانات المشروعة - حقا وعفة - للمحاكمة المتصفة العادلة. فقد أفرغ الحكم قاعدة التناسب هذه وجردها من مضمونها الهادف إلى تحقيق العدالة - ولو في حدودها الدنيا - لا إلى الحرمان منها. بوضوح، وبشكل تعسفي أيضا، فقد مسخ الحكم مضمون الحق في التعويض في أصله ومحتواه وحقيقة مرماء، فتجاوز نطاقه ومتطلباته ومقاصده وخواصه المنصفة الملائمة، ففقد التعويض مقوماته ومغزاه ، وبالتالي يصير من الظلم احترام الحكم الذي قرر تعویض معيب هكذا شأنه، أو حماية أثاره.
ويضيف الحكم، فلا حصانة لكل شلطة طليقة تحكمية - ترمي شباكها حيث تشاء وترغب - أو مفرطة في الشدة، بخاصة عندما تتمخض شطا مجافيا المفهوم العدالة وحدودها المنطقية، إذ لا يصح - تحت ستار السلطة التقديرية أو تمسخا بها - خرق القيم العدلية أو فصل الأصول القانونية عن الأغراض المقصودة منها أو اقتحام بنیانها والحدود المنظمة لها. من الجلي إذن، أن هيئة التحكيم فشلت في أداء الواجب الذي يقع على عاتقها بمراعاة الأصول القانونية والأطر العقلية الثابتة ومسخت قواعد قانونية جوهرية كانت مؤثرة في حكمها، ولم تلتزم بحدود القيود والضمانات الحيوية التي تقتضيها تبعات ومستلزمات المهمة التحكيمية الموكولة إليها، تلك التي لا يستقيم بدونها الحق في المحاكمة المنصفة، ولا يكتمل ويصان إلا باحترامها. وعلى ذلك يكون حكمها المطعون فيه موصوما - بقوة السلطة التحكيمية في استعمال وبتجاوزها.
ثانيا: التحليل القانوني لحكم محكمة النقض:
يمكن حصر أسباب حكم محكمة النقض الصادر بجلسة 24 /6 /2021، في سبب وحيد، هو حصر وقصر حالات البطلان في المادة (53) من قانون التحكيم رقم 27 السنة 1994، فليس لقاضي دعوى البطلان مراجعة حكم التحكيم التقدير ملاءمته أو مراقبة حسن تقدير المحكمين، يستوي في ذلك أن يكون المحكمون قد أصابوا أو أخطأوا عندما اجتهدوا في تكبيفهم للعقد أو تقديرهم للتعويض، لأنهم حتى لو أخطأوا فإن خطأهم لا ينهض سبا الإبطال حكمهم باعتبار أن دعوى البطلان تختلف عن الطعن بطريق الاستئناف. لما كان ذلك وكان الحكم المطعون فيه قد أقام قضاؤه ببطلان حكم التحكيم استنادا إلى أن التعويض المحكوم به مغالى فيه متجاوزا حدود المعقول والغرض المقصود منه، وكان هذا الذي ذهب إليه ليس من بين حالات البطلان التي أوردتها المادة (53) من قانون التحكيم على سبيل الحصر، إذ هي من الحالات التقديرية لهيئة التحكيم ولا يتسع لها نطاق هذه الدعوى. وللسبب ذاته، قضت المحكمة برفض دعوى البطلان، بعد تصديها لنظر موضوعها، باعتباره صالحا للفصل فيه.
المطلب الثالث التعليق على حكم محكمة النقض :
لم يسهب حكم محكمة النقض الصادر بجلسة 2021/6/24، في أسباب نقض الحكم، ولم يتناول أسباب الحکم المنقوض، ولا أسباب دعوى البطلان إيرادا وردا، بعد أن تصدت محكمة النقض للفصل في موضوع دعوى البطلان.
وقد كان السؤال الذي ارتأت محكمة النقض أنه محور الفصل في النزاع هوإلى أي مدى تمتد رقابة القضاء على حكم التحكيم من خلال دعوى البطلان؟ والواقع، أن من يبحث في بحر التحكيم يجد مناطق هادئة صافية، يستخرج منها صدقات البحر، ومناطق شانكة عاتية الأمواج، يصعب فيها الوصول إلى الهدف.
ومن أهم تلك المناطق الشانكه البحث في نطاق رقابة القضاء على حكم التحكيم من خلال دعوى البطلان، فهل هي رقابة شكلية بحتة، أم تمتد إلى الأسباب الموضوعية للحكم؟
أولا: الاتجاه الموسع لرقابة القضاء يذهب الاتجاه الأول - مدفوعا باعتبارات العدالة لكبح جماح بعض أحكام التحكيم - إلى ضرورة مد نطاق رقابة قاضي البطلان لتشمل المسائل الموضوعية التي تثيرها دعوى بطلان حكم التحكيم، وعدم الاقتصار على جوانبه الشكلية .
فيرى البعض، أن دعوى بطلان حكم التحكيم نظام خاص وأسلوب جامع المراجعة حكم التحكيم، فلا يجوز تفسير اسبابها تفسيرا ضيقا أو تخصيصها بغير نص، باعتبارها السبيل الوحيد لإلغاء حكم التحكيم المعيب. فإذا كان المشرع، اتساقا مع طبيعة التحكيم ونظام آلية حسم منازعاته، قد رسم سبيل إصلاح خطأ ما يصدر عن هذه الآلية وحصرها في دعوى البطلان بناء على أسباب حددها، فإنه يتعين عدم مقارنة هذه الوسيلة بسبل إصلاح الخطأ في النظام القضائي ، لاختلافه عن نظام التحكيم من حيث أداة الحكم، ودور الإرادة والقانون الذي على أساسه تصدر الأحكام، والهدف من سبل الإصلاح ويؤكد هذا الرأي أن دعوى بطلان حكم التحكيم تهدف إلى إبطال الحكم إشباعا الغريزة العدالة في نفوس الخصوم .
وتحت هذا الباب الواسع لمفهوم دعوى البطلان، يرى أنصار هذا الرأي أنه يمكن إدخال العديد من المسائل ضمن أسباب البطلان التي تضمنتها المادة (53) من قانون التحكيم المصري، مثل حالات ابتناء حكم التحكيم على الغش أو ورقة مزورة ، أو ظهور مستند حاسم كان يحتجزه الخصم، وحالات عيوب التسبيب کفصورها وتناقضها، والخطأ في تطبيق القانون. وهكذا ينتهي إلى أن دعوى بطلان حكم التحكيم لا يمكن مقارنتها بدعوى بطلان الأحكام القضائية، وهي تتسع للمسائل الموضوعية التي يجوز إثارتها أمام قاضي الاستئناف في النظام القضائي ، مثل الخطأ في تطبيق القانون والقصور في التسبيب. وهنا تؤول دعوى البطلان - بهذا المفهوم الواسع - إلى طعن با لاستئناف على حكم التحكيم.
وهذا المفهوم الواسع الدعوى البطلان، هو ما تيناه حكم محكمة استئناف القاهرة في دعوى بطلان حكم التحكيم الصادر لصالح شركة الخرافي ضد الحكومة الليبية وانطلق من الأساس الفلسفي ذاته، وهو إشباع غريزة العدالة في نفوس الخصوم، وانه لا قدسية ولا حصانة مطلقة لحكم التحكيم، وأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن الرقابة القضائية لا يجب أن تتقهقر في سبيل إظهار الحق والعدل. وهذا المفهوم الواسع ذاته، هو ما رفضته محكمة النقض المصرية في حكمها محل التعليق. وفي الاتجاه ذاته، ولكن أقل توسعا، واستنادا لما ورد بتقرير اللجنة المشتركة من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشئون الاقتصادية عن مشروع قانون في شأن التحكيم التجاري الدولي في شأن استبعاد القانون الواجب التطبيق؛| ذهبت محكمة النقض المصرية إلى أن الخطأ في تطبيق القانون الدرجة المسخ يدخل في نطاق استبعاد القانون الواجب التطبيق باعتباره سيا من أسباب البطلان. فقد قضت محكمة النقض بأن: «النص في المادة 23 من القانون رقم 27 لسنة 1994 بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية على أن لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية ومنها: إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع. وعلى ما جاء بتقرير اللجنة المشتركة من الجنة الشنون الدستورية والتشريعية ومكتب لجنة الشئون الاقتصادية عن مشروع قانون في شأن التحكيم التجاري الدولي - على استحداث اللجنة اللبند المذكور، لتضيف إلى حالات قبول دعوی بطلان حكم التحكيم الواردة على سبيل الحصر حالة هذا الاستبعاد وإنما يتسع ليدخل في مفهوم تطاق استبعاد القانون الواجب التطبيق الخطأ في تطبيقه إلا أن ذلك مقيد بأن ينحدر هذا الخطأ إلى درجة مسخه وذلك بتحويله إلا نص مخالف الأصله،،،،،،
إذا كان الثابت من حكم هيئة التحكيم المطعون عليه بالبطلان أنه أقام يرفض الدعوى استنادا إلى عدم أحقية الشركة المطعون ضدها الأولى في استرداد رسوم الخدمات المحصلة وفقا لنص المادة 111 من قانون الجمارك رقم 66 لسنة 1963، باعتبار أن تحصيلها كان قبل القضاء بعدم دستوريتها في الدعوى رقم ۱۷۵ لسنة 22 ق دستورية، وبالتالي تخضع لأحكام القانون رقم ۱۹۸ لسنة ۱۹۹۸ بتعديل الفقرة الثالثة من المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا بسريان الأحكام الصادرة بعدم دستورية النصوص الضريبية بأثر مباشر وليس بأثر رجعي.
ومن ثم فإن وصمه بتطبيق نص المادة 49 من قانون المحكمة الدستورية العليا تطبيقا خاطئا ليس فيه أي استبعاد للقانون المصري رغم اجتهاد محكمة الاستئناف لبيان المقصود بالمسخ، إلا أنها لم تصل إلى تعریف جامع مانع له، فجاء تعريفها له مبهما
واجب التطبيق بل اجتهاد في تطبيقه دون مسخ، ومن ثم فإن المجادلة في شأن صحة تلك المسألة والتي تتعلق بسلطة هينة التحكيم من ناحية صواب أو خطأ اجتهادها في تفسير القانون وتطبيقه هو مما لا يتسع له نطاق دعوى البطلان ، وإذا خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى ببطلان حكم هيئة التحكيم المطعون عليه فإنه يكون معيبا »
ويلحظ، أن محكمة النقض لم تحدد مفهوم المسخ، ولم تبين الحدود الفاصلة بينه وبين صواب أو خطأ الاجتهاد في تطبيق وتفسير القانون ، كما ورد في حكمها، فإلى أي مدى يمكن اعتبار الخطأ في تطبيق أو تفسير القانون خطأ عاديا من قبيل الاجتهاد، وما | يجاوز ذلك يعتبر من قبيل المسخ الذي يعتبر في حكم استبعاد القانون الواجب التطبيق؟ نشير هنا إلى أنه سبق لمحكمة استئناف القاهرة تقرير المبدأ ذاته، وبيان مفهومها للمسخ، فقضت بأن: «وحيث إن الطاعنة تنعي بالبطلان على حكم التحكيم بمقولة استبعاده تطبيق القانون واجب التطبيق على الموضوع إلى درجة المسخ، فإنه طبقا | المادة 1/53 فقرة (د) من قانون التحكيم المصري يجوز رفع دعوى بطلان حكم التحكيم إذ استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه بشأن موضوع النزاع ، وقد جاء بتقرير اللجنة التشريعية التي أضافت تلك الفترة، كحالة من الحالات المقررة لقبول دعوى الطعن بالبطلان، أنه يدخل في مفهوم نطاق استبعاد القانون الواجب التطبيق الخطأ في تطبيقه إلى درجة المسخ . والخطأ في تطبيق القانون إلى حد المسخ مقصودا به أن تكون أسباب الحکم - بشكل ظاهر ولافت للنظر (شديد الوضوح) - قائمة على أسباب مبهمة بحيث لا تستبين معالمها، أو مشوية بالغموض والإبهام، أو كانت عبثية أو أن ما جاء بالأسباب ليس له أي أصل ثابت بالأوراق، أو أن الدليل الذي اعتمدت عليه الأسباب غير معتبر في القانون، أو أن النتيجة التي انتهى إليها المحكم تعاكس ما ساقه من مقدمات (حالة التناقض ) ».
ورغم اجتهاد محكمة الاستئناف البيان المقصود بالمسخ، إلا أنها لم تصل إلى تعريف جامع مانع له، فجاء تعريفها له مبهما قد يستوعب الكثير من أسباب الطعن العادية مثل القصور في التسبيب أو التناقض بين الأسباب، أو الخطأ الجسيم في تطبيق القانون ، أو حتى في تحصيل الواقع أو إثباته.
ثانيا : الاتجاه المضيق لرقابة القضاء وخلافا للرأي الأول، يذهب الاتجاه الساند في محكمة النقض إلى أسباب بطلان حكم التحكيم محددة حصرا ، والتي حددتها المادة (53) من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994، وهي: 1- لا تقبل دعوى بطلان حكم التحكيم إلا في الأحوال التالية:
. إذا لم يوجد اتفاق تحكيم أو كان هذا الاتفاق ياطة أو قابلا للإبطال أو سقط پانتهاء مدته .
. إذا كان أحد طرفي اتفاق التحكيم وقت ابرامه فاقد الأهلية أو ناقصها وفقا للقانون الذي يحكم أهليته .
. إذا تعذر على أحد طرفي التحكيم تقديم دفاعه بسبب عدم إعلانه إعلاتا صحيحا يتعيين محكم أو بإجراءات التحكيم أو لأي سبب آخر خارج عن ارادته .
. إذا استبعد حكم التحكيم تطبيق القانون الذي اتفق الأطراف على تطبيقه على موضوع النزاع.
. إذا تم تشكيل هينة التحكيم أو تعيين المحكمين على وجه مخالف للقانون أو الأنفاق الطرفين.
.إذا فصل حكم التحكيم في مسائل لا يشملها اتفاق التحكيم أو جاوز حدود هذا الاتفاق، ومع ذلك إذا أمكن فصل أجزاء الحكم الخاصة بالمسائل الخاضعة للتحكيم عن أجزائه الخاصة بالمسائل غير الخاضعة له فلا يقع البطلان إلا على الأجزاء الأخيرة وحدها. .
. إذا وقع بطلان في حكم التحكيم أو كانت اجراءات التحكيم باطلة بطلانا أثر في الحکم
2 - وتقضي المحكمة التي تنظر في دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية »
وكما يبدو من هذه الأسباب المحددة حصرا، فإنها لا تمتد بحال إلى عيوب التقدير أو الخطأ في تطبيق القانون.
وتطبيقا لهذا الاتجاه، قضت محكمة النقض بأنه: « ولئن كان القانون رقم 27 السنة 1994 بشأن التحكيم في المواد المدنية والتجارية قد أجاز الطعن بدعوى البطلان في حكم المحكمين إلا أنه قصر البطلان على أحوال معينة بينتها المادة 53 منه على سبيل الحصر، وليس لقاضى دعوى البطلان مراجعة حكم التحكيم التقدير ملاءمته أو مراقبة حسن تقدير المحكمين، پستوى في ذلك أن يكون المحكمون قد أصابوا أو أخطأوا عندما اجتهدوا في تكييفهم للعقد أو تقديرهم للتعويض لأنهم حتى لو أخطأوا فإن خطأهم لا ينهض سبا الإيطال حكمهم باعتبار أن دعوى البطلان تختلف عن الطعن بطريق الاستئناف، لما كان ذلك، وكان الحكم المطعون فيه بعد أن قدم لقضائه بقوله إن دعوى إبطال حكم التحكيم لا شأن لها بالنتيجة التي خلص إليها الحكم أو بصحة تطبيق المحكم للقواعد القانونية التي تحكم المنازعة من ناحية الموضوع، وأن أخطاء حكم التحكيم المتعلقة بعيوب التقدير بالنسبة للواقع أو بمخالفة القانون لا تجعله موصوا بالبطلان، عاد ليقرر: «أن رقابة القضاء على تسبيب حكم التحكيم ولئن كانت لا تقتضي فحصا أو تمحیضا موضوعيا فإنها لا تقف عند حد الشكل الظاهري؛ فيتحقق سبب البطلان إذا هيئة التحكيم لم تتحر توافر عناصر الضرر الواقعية التي طرحتها الشركة المحكمة والمولدة في حال ثبوتها للحكم بالتعويض
تبين عند قراءة حكم التحكيم بدقة» | وجود مخالفة ملموسة بارزة في أسبابه كانت حيوية وحاسمة فيما انتهى إليه من نتيجة. ثم أشار الحكم إلى أنه وعلى الرغم من أن المحكمة طرحت في دعوى التحكيم وعلى نحو مفصل أوجه الضرر الذي لحقها مستندة في ذلك إلى تقرير خبرة فنية أعده محاسبها القانوني «مکتب ............... %، إلا أن هيئة التحكيم لم تتحر توافر عناصر الضرر الواقعية التي طرحتها الشركة المحكمة والمولدة في حال ثبوتها للحكم بالتعويض، بل ذكرت صراحة عبارة « أنها لم تتقيد بها ، فتكون هيئة التحكيم قد استبعدت وأسقطت أوجه الضرر التي كانت مطروحة من جانب المحكمة وقدرت مباشرة مبالغ التعويض المحكوم به على نحو إجمالي دون أن تكشف أو تذكر شيئا ثبوتا أو نفيا عن الضرر الذي تم التعويض عنه وأثر ذلك في الحكم، وبذلك يكون حكم التحكيم قد أغفل مسألة جوهرية تتعلق بالأضرار المؤدية للتعويض وتركها بغير تسييب أو تدليل أو مواجهة اكتفاء بتناول ركن الخطأ ومظاهره باستفاضة ، مع أن حكم التحكيم لا يقوم مع غياب الأسباب المتعلقة بوقائع الضرر إذ هي عماد الحكم وقواهيه، وبذلك يكون قد تحقق للمحكمة سبب بطلان حكم التحكيم . وكان هذا الذي ذهب إليه الحكم المطعون فيه ليس من بين حالات البطلان التي أوردتها المادة 53 من قانون التحكيم على سبيل الحصر، ذلك أن استخلاص توافر ركن الخطأ وتقدير التعويض عنه من سلطة هيئة التحكيم ويتعلق بفهم الواقع في النزاع المطروح عليها وكان المشرع لم يجعل من خطأ حكم المحكمين في استخلاص وقائع النزاع أو قضائه بالتعويض جملة دون بيان عناصر الضرر أو مبالغته في تقدير التعويض - من الأسباب التي تجيز طلب إبطال الحكم، إذ هي من مسائل الواقع questions of fact التي تدخل في نطاق السلطة التقديرية لهينة التحكيم وليست من حالات بطلان حكم التحكيم، ولا يتسع لها نطاق هذه الدعوى حسبما تقدم بيانه ، وإذ خالف الحكم المطعون فيه هذا النظر وقضى ببطلان حكم التحكيم فإنه يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه بما يعيبه ويوجب نقضه .
وحيث إن موضوع دعوى بطلان حكم التحكيم رقم لسنة 132 في استنتاف القاهرة المقامة من المطعون ضدها الأولى (منتجة البرنامج ) صالح للفصل فيه، ولما كانت الشركة المطعون ضدها الأولى تستند في دعواها، وعلى ما هو ثابت يعدونات الحكم المنقوض (ص 9 - 10 ) إلى سببين فقط، أولهما، المغالاة غير المسبوقة في تقدير التعويض المحكوم به على نحو جزافي تحكمي. وثانيهما، أن حكم التحكيم أغفل استظهار رکن الضرر رغم أهمية ذلك وتأثيره في دعاوى التعويض عموما. وإذ كانت هذه الأسباب، وعلى ما سلف بيانه لا تعد من الأسباب التي يجوز التعرض لها في دعوى البطلان، وهذه هي أبرز عيوب نظام التحكيم، فلا تستطيع محكمة النقض، في مقام احترامها للقانون، وأيا كان وجه الرأي في كيفية تقدير التعويض من جانب هيئة التحكيم، إلا احترام هذا الحكم ولا يحق لها المساس به، ومن ثم فلا تملك إلا أن تقضي برفض دعوى البطلان المرفوعة من المطعون ضدها الأولى »
وفي حكم أكثر وضوحا وصراحة، قضت محكمة النقض بأن: «اتفاق التحكيم هو دستوره ومنه يستمد المحكمون سلطانهم للفصل في النزاع ، فالعبرة في صحة التحكيم هي بصدوره وفق إجراءات القانون فلا يبطله القصور في التسبيب أو الفساد في الاستدلال أو إيراد تقديرات قانونية خاطئة لكونها لا تندرج تحت مسوغ رفع دعوى بطلان حكم التحكيم والمحددة طبقا للمادة 53 من قانون التحكيم، فدعوى بطلان حكم التحكيم ليست طعنا عليه فهي لا تتسع لإعادة النظر في موضوع النزاع بل المراقبة صحة تطبيق وتوافر أعمال القانون المنطبق »
ثالثا: التعليق على المسألة محل الخلاف. نرى أن سبب الخلاف الفقهي والقضائي في نطاق رقابة القضاء على حكم التحكيم من خلال دعوى البطلان هو أن البعض ينظر إلى حكم التحكيم كجزء من نظام التقاضي والفصل في الحقوق، ويريد تحكيها بطعم القضاء، فيرغب أن تنال أحكام التحكيم ذات القسط من الرقابة والهيمنة من درجات التقاضي الأعلى، وينطلق من فكرة 1 العدالة وإعلاء الحق، متجاوزا الطبيعة المستقلة المتميزة للتحكيم.
ونحسب أن هذا المنهج محل نظر فالتحکیم آلية اتفاقية مستقلة للفصل في الخصومات، لا تقاس على النظام القضائي في الدولة. ودعوى البطلان تقتصر على الأسباب التي تحفظ الحد الأدني للمقومات الأساسية للأحكام، وتتفق مع هذه الطبيعة الإرادية للتحكيم.
وقد وقفت المحكمة الدستورية العليا المصرية على هذا الفارق، والتوازن الدقيق التنظيم دعوى البطلان، فقضت بأن لا التنظيم التشريعي الذي اندرجت أحكامه في الباب الثالث من الكتاب الثالث من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، وكذلك في أحكام القانون رقم 27 لسنة 1994 المشار إليه، يحظر أصلا الطعن في أحكام التحكيم بمختلف طرق الطعن، العادية منها وغير العادية. ذلك أن اللجوء إلى التحكيم الاتفاقي يتأسس في نشأته، " وإجراءاته، وما يتولد عنه من قضاء، على نت إرادة أطرافه، التي تتراضي بمجرياتها على اللجوء إليه كوسيلة لفض منازعاتهم، بدلا من اللجوء إلى القضاء واحتراما لهذه الإرادات، واعترافا بحجية أحكام التحكيم ووجوب نفاذها من جهة، ومواجهة الحالات - التي يصاب فيها حكم التحكيم بعوار ينال ا من مقوماته الأساسية، ويدفعه إلى دائرة - البطلان بمدارجه المختلفة من جهة أخرى، " أقام المشرع توازنا دقيقا بين هذين الأمرين " من خلال سماحه بإقامة دعوى البطلان * الأصلية، بشروط محددة، في شأن حكم " التحكيم، مستصحبنا الطبيعة القضائية . لهذا الحكم، ليسوى بينه وبين أحكام - المحاكم القضائية بصفة عامة، من حيث جواز إقامة دعوى بطلان أصلية في شأنها، به نرى أن الحل الأوفق ليس في تمكين القضاء من زمام أحكام التحكيم
احتراما للضمانات الأساسية في التقاضي، وبما يؤدي إلى إهدار أي حكم يفتقر في مصدره إلى المقومات الأساسية للأحكام القضائية............ لما كان ذلك، وكان المشرع قد أعمل سلطته التقديرية في النص الطعين ، مستلهما الطبيعة الخاصة الأحكام المحكمين، والتي تستهدف احترام إرادة أطرافه، وسرعة الفصل في النزاع، والبعد عن إطالة أمد التقاضي وتعقد الإجراءات، ومراعيا ما تستلزمه الضمانات الأساسية في التقاضي من وجوب إهدار أي حكم قضائي فاقد لمقوماته الأساسية وأركانه، فأجاز إقامة دعوى البطلان الأصلية في شأن حكم التحكيم بشروط وضوابط محددة، وعقد الاختصاص بها لمحكمة الدرجة الثانية لتنظرها على درجة واحدة، لتكشف عن أي عوار عساه أصابها، تقديرا منه أن هذا المسلك هو الأنسب إلى طبيعة المنازعة التحكيمية، ومقتضيات سرعة حسمها ، فإن هذا الأمر لا يكون فيه إخلال بالحق في التقاضي ، وتنظيمه الدستوري ».
وعلى ذلك، فإننا نسير مع الركب العالمي في فقه التحكيم، وفي القضاء المقارن من أن دعوى بطلان حكم التحكيم دعوى ضيقة بطبيعتها، أسبابها محددة حصرا، لا يجب أن تمتد إلى تقدير الواقع والاجتهاد في فهم وتفسير وتطبيق القانون، وما قد يلابس ذلك من خطأ ، ونؤيد الاتجاه المضيق لرقابة القضاء على حكم التحكيم، والذي تبنته محكمة النقض في أحكامها، ومنها الحكم محل التعليق. تقديرا بأن من يختار التحكيم بإرادته الواعية فعليه أن يتقبله باعتباره نظاما کاملا وليس انتقائيا، فلا يسعد برائحة الورود ويشتكي شوكها. غير أن صرخة محكمة النقض المكتومة في حكمها محل التعليق، وهي تقتضب حكمها بشأن نزاع بهذا الحجم والزخم، في عبارة موجزة، بأن النزاع حول تكييفالعقد أو تقدير التعويض يخرج عن أسباب البطلان المحددة حصرا، قد سبقتها صرخة غیر مکتومة، حينما أطلقت محكمة النقض نقدها الصريح النظام التحكيم في حكمها المار إيراده ، بقولها: وإذ كانت هذه الأسباب، وعلى ما سلف بيانه، لا تعد من الأسباب التي يجوز التعرض لها في دعوى البطلان، وهذه هي أبرز عيوب نظام التحكيم؛ فلا تستطيع محكمة النقض، في مقام احترامها للقانون، وأيا كان وجه الرأي في كيفية تقدير التعويض من جانب هيئة التحكيم، إلا احترام هذا الحكم ولا يحق لها المساس به، ومن ثم فلا تملك إلا أن تقضي برفض دعوى البطلان المرفوعة من المطعون ضدها الأولى.
هذا النقد القضائي إن جاز القول، سبقه نقد فقهي شديد - سبق إيراد بعضه - لحصر أو تضييق أوجه مراجعة حكم التحكيم في أسباب البطلان، بما يهدر العدالة المبتغاة في الكثير من الحالات.
ومن جانبنا، نرى أن الحل الأوفق ليس في تمكين القضاء من زمام أحكام التحكيم، وتضييق الخناق والرقابة عليها، وإنما بتوفير سبل مراجعة حكم التحكيم بطريقة إرادية أيضا، بأن يتم تعديل قانون التحكيم، بما يكفل استئناف أحكام التحكيم أمام هيئة تحكيم تشكل بطريقة اتفاقية مشابهة للحكم الأول، فإن كان الحكم الأول مؤسسيا كان الاستئناف الدى مركز التحكيم ذاته، وإن كان التحكيم الأول حرا كان الاستئناف حرا، ما لم يتفق الأطراف على غير ذلك.
ويكفل هذا المقترح، أن يكون الأصل هو الفصل في المنازعات محل التحكيم على درجتين، أسوة بالعديد من التشريعات مثل التشريع الفرنسي بالنسبة للتحكيم الداخلي، ويجوز للأطراف الاتفاق على أن يتم على درجة واحدة، سواء كان هذا الاتفاق ضمن اتفاق التحكيم أولاحقا عليه أو حتى بعد صدور حکم التحكيم. كما يكفل احترام الطبيعة الإرادية للتحكيم، وأن يتم مراجعة أي شطط أو خطأ في تطبيق القانون أو فهم الواقع أمام هيئة التحكيم الثانية مع بقاء دعوى البطلان كملاذ أخير للقضاء عند فقدان حكم التحكيم لأحد مقوماته الأساسية.