الخدمات

ابواب التحكيم الرئيسية
  • التنفيذ / دعوى البطلان / المجلات العلمية / مجلة التحكيم العالمية - العدد 14 / دعوى بطلان حكم التحكيم

  • الاسم

    مجلة التحكيم العالمية - العدد 14
  • تاريخ النشر

  • عدد الصفحات

  • رقم الصفحة

    103

التفاصيل طباعة نسخ

جواز الطعن على حكم التحكيم أمام القضاء

   القول باستقلال التحكيم عن القضاء لا يعني أنه بعيد عنه تماماً، إذ لا يوجد فصل تام بينهما، فعلاوة على دور القضاء للتحكيم المعاون أو المساعد، فأحكام التحكيم تخضع للرقابة القضائية في الفترة التالية لصدورها، وإن اختلف شكل هذه الرقابة ومداها من نظام قانوني إلـى آخـر. ولأن الحكم التحكيمي حكم متميز عن أحكام المحاكم الرسمية للدولة، يصدره محكم لا قاض، فقد كـان من الضروري أن تتسم صور الرقابة القضائية التي يخضع لها، هي الأخرى، بطبيعة ذاتية غير تلك المعمول بها بشأن الأحكام القضائية.

   وإذا كان للقضاء دور رقابي محدود (هامشي) عند نظر الأمر بتنفيذ الحكم التحكيمي، فإنـه يبقى الدور الأهم هو الدور الرقابي للقضاء على حكم التحكيم عند الطعن فيه، إذ تجيز التشريعات المقارنة المتعلقة بالتحكيم لصاحب المصلحة من الخصوم التظلم من الحكم التحكيمي أي الطعـن فيه.

    والطعن في حكم التحكيم بالبطلان يرفع توخياً لمصالح شتى إلى قضاء الدولة، دولـة مقـر التحكيم. ذلك أن السائد على المستوى القانوني الدولي هو عقد الاختصاص بنظر أمر الطعن على حكم التحكيم، أياً كان شكله أو صورته، لقانون دولة المقر الذي عقدت جلسات التحكيم بأرضها أو التي صدر حكم التحكيم وفقاً لقانونها "توطين جغرافي قانوني لدولة المنشأ"، ويقال أنه عندما يلجأ الأطراف للتحكيم كوسيلة لحسم منازعاتهم المالية، فإنهم يكونون قـد رضـوا ضـمناً إخـضاع تحكيمهم للرقابة القضائية لبلد مكان إجراء التحكيم، خاصة في ما يتعلق بدعوى بطلان حكمـه ولكن يلاحظ أن القاعدة في تنازع القوانين تقضي بخضوع قواعد المرافعات القضائية لقـانون القاضي بحسبان أن القضاء وظيفة من وظائف الدولة تباشرها بواسطة سلطة من سلطاتها العامة، فما دامت ولاية القضاء إقليمية، تكون القواعد اللازمة لمباشرتها إقليمية بدورها.

- استبعاد المشرع المصري طرق الطعن المتبعة بالنسبة إلى الأحكام القضائية:

    من المعروف أن طرق الطعن ضد الأحكام التي تصدرها محاكم الدولة، إنما تهـدف إلـى تدارك ما وقع في الحكم القضائي من خطأ، سواء كان هذا الخطأ قد وقع في القانون (الإجرائي أو الموضوعي) أو في الواقع، وعادة ما يتحقق ذلك عن طريق رقابة المحكمة الأعلى درجة علـى أحكام المحاكم الأدنى درجة. وقد وضع المشرع المصري في قانون المرافعات نظاماً للطعن في الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم وذكر طرق الطعن هذه على سبيل الحصر. ويقسمها الفقه إلى طرق طعن عادية هي المعارضة والاستئناف، وطرق طعن غير عادية هي التمـاس إعـادة النظر والطعن على الحكم بالنقض. وطريق الطعن العادي هو الطريق الذي يمكن الطعن به فى جميع الأحكام دون استنادها إلى أسباب خاصة لقبول الطعن، ويكفي ألا يوجد نص فـي القـانون يمنع الطعن في الحكم ليكون الطعن فيه بالطرق العادية جائزاً. أما طريق الطعن غير العـادي، فهو طريق لا يمكن سلوكه إلا بالنسبة الى بعض الأحكام، وفي الأحوال التي يـذكرها القـانون، ولأسباب محددة ينبني عليها الطعن، ليكون مقبولاً. هذه الطرق للطعن لا تنطبق إلا بالنسبة الـى الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم المصرية بما لها من سلطة، أما المشرع التحكيمـ يعامل حكم التحكيم، في هذا الخصوص، المعاملة التي يعامل قـانون المرافعـات بـهـا القضائي.

    فقد استبعد المشرع المصري الطعن بالاستئناف (أو المعارضة) كطريق عادي لإعادة النظر في أحكام التحكيم لعدم توافق هذا الطريق مع طبيعة نظام التحكيم والغرض منه. واستبعد، أيضاً، من مجال التحكيم الطعن بطريق النقض، لأن أحكام التحكيم لا تعتبر صادرة من محاكم الدولة أو من درجة من درجات التقاضي. واستبعد المشرع، كذلك، الطعن بالتماس إعادة النظر في مجـال الطعن في حكم التحكيم. أخذ قانون التحكيم بعين الاعتبار الطابع الاتفاقي للتحكيم، وراعى أيـضاً خصوصياته كنظام متميز عن القضاء. أعترف المشرع التحكيمي وقبل بحقيقة أن المحكم لـيس بقاض، وإن الخصومة أمام المحكم هي خصومة تحكيمية، وإن القرار الـذي يـصدره المحكـم والفاصل في موضوع النزاع هو حكم تحكيمي خالص، وإن اشتبه بالحكم القضائي. وبالنظر إلى خصائص فكرة التحكيم نفسها تقلل القوانين التحكيمية من رقابة القضاء على أحكام التحكيم حتـى تكون لها الفاعلية المطلوبة.

- طريق متميز للطعن في حكم التحكيم "دعوى البطلان":

    بحسبان أن للتحكيم خصوصياته ودقائقه، التي من أبرزها أنه يستنكف الخضوع لقضاء الدولة، ذلك أن مجرد الاتفاق على التحكيم يعني رغبة الأطراف في استبعاد قانون الدولة أو قضائها، وغالباً ما تكون الرغبة في استبعاد الأمرين معا. ولأن حكم التحكيم لا يصدر عن محاكم الدولة، بل عن هيئة تحكيم خاصة، ولا يصدر في دعوى قضائية، بل في دعوى أو قضية أو خصومة تحكيمية، فإن قانون التحكيم المصري لا يعرف سوى طريق وحيد للطعن في حكم التحكيم هو دعوى البطلان أو الطعن ببطلان حكم التحكيم بطريق الدعوى المبتدأة، سواء أكان تحكيماً دولياً اتفق أطرافه على خضوعه لقانون التحكيم المصري أم تحكيماً داخلياً، وسواء أكان تحكيماً بالقانون أم بالصلح. وترفع دعوى البطلان أو الطعن بالبطلان في الحكم التحكيمي، أمام المحكمة المختصة، من ذي الصفة وصاحب المصلحة وفق القواعد العامة في قانون المرافعات بحسبانها دعوى قضائية أو طعن قضائي.

    فالمشرع المصري، كالحال في التشريعات الحديثة، لم يخضع أحكام التحكيم لنفس طرق الطعن الحاصلة في الأحكام القضائية، وإنما وضع نظاماً خاصاً مستقلاً ومتميزاً للطعن في الحكم التحكيمي مستهدياً في ذلك بالقانون النموذجي للتحكيم (قانون اليونسترال). فلم يجز إلا دعوى البطلان كطريق أصلي، وحيد، للطعن في أحكام التحكيم واستناداً إلى أسباب إجرائية محدودة واردة على سبيل الحصر، بحيث لا يجوز القياس عليها.

   فقد جرى نص المادة 53/1 على أنه «لا تقبل دعوى حكم التحكيم إلا في الأحوال الآتية:.... »، ثم أخذت المادة بعد ذلك في سرد هذه الأحوال. كما نص في الفقرة (2) من المادة نفسها على "وتقضي المحكمة التي تنظر دعوى البطلان من تلقاء نفسها ببطلان حكم التحكيم إذا تضمن ما يخالف النظام العام في جمهورية مصر العربية". وضع قانون التحكيم أساساً عاماً لرقابة القضاء على حكم التحكيم، وذكر حالات محددة لإبطاله، تاركاً للقضاء سلطة تقدير توافر شروط ومقتضيات انطباقها.

    وتتميز دعوى بطلان حكم التحكيم (كما يسميها القانون) أو الطعن بالبطلان على حكم التحكيم (حسبما يذهب الفقه ويسايره في ذلك القضاء) بأنه لا يوجد طريق للطعن ضد أحكام القضاء يمكن رد هذا الطعن (أو الدعوى) إليها بشكل آلي، فالطعن في حكم التحكيم ليس كالطعن بالاستئناف، وإن كان يتمتع ببعض خصائص الطعن بطريق الاستئناف، وهو وإن كان يشبه طريق الطعن بالنقض فإنه ليس من دروب الطعن بالنقض. فهو طعن مختلط إن جاز التعبير، هذا الاختلاط يرشح الطعن في الحكم التحكيمي بامتياز بأن يكون طعناً متميزاً، مثله في ذلك مثل كون التحكيم، نظاماً متميزاً. وعلى كل حال فأوجه الشبه بين أي من الاستئناف أو النقض والطعن في حكم التحكيم لا يجعلنا نطبق، بصورة آلية، حلول النقض أحياناً وحلول الاستئناف في الأحيان الأخرى، فالمسألة قد تختلف. وقد فرضت الطبيعة المميزة للتحكيم ذاتية خاصة على طريق الطعن الذي استنه المشرع لبطلان الحكم التحكيمي. ويمكن أن نقرر هنا أن الطعن في حكم التحكيم ليس استئنافاً خالصاً، وليس نقضاً خالصاً، وإن كان يتمتع ببعض خصائص كل منهما معاً.

- من ملامح دعوي بطلان حكم التحكيم:

    سوف نلقي النظر في هذه الفقرة على بعض الملامح الأساسية على دعوى بطـلان الحكـم التحكيمي التي يعرفها المشرع المصري ويتبناها:

- إن المقصود بعدم جواز الطعن بالطرق الذي يعرفها قانون المرافعات في هذا الخصوص هو الطعن المباشر في حكم التحكيم، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال إمكانيـة الطعـن، بـأي طريق من طرق الطعن العادية وغير العادية المبينة في قانون المرافعـات، فـي الـحـكـم الصادر من جهة قضائية في أمر متعلق بشأن من شؤون التحكيم، ومنها الحكم الـصـادر في دعوى بطلانه.

- إذا كانت دعوى بطلان حكم التحكيم، كما ترفع على حكم التحكيم الحاصل ي مـصر، داخلياً كان أم دولياً، فإنها تجوز أن ترفع أيضاً في مصر ضد حكم التحكيم إذا كان تحكيماً تجارياً جرى في الخارج (وهذا هو التحكيم الأجنبي) متى اتفق أطرافه علـى إخـضاعه لقانون التحكيم المصري.

- أما التحكيم الأجنبي الذي لم يتفق على إخضاع إجراءاته لقانون التحكيم المـصري، فـلا يكون للخصم الذي يحتج عليه بالحكم المذكور داخل مصر سوى الاعتراض على تنفيذه، وإقامة الدليل على توافر أحد الأسباب المانعة من الاعتراف به وتنفيـذه طبقـاً لاتفاقيـة نيويورك بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين الأجنبية وتنفيذها؟.

- إذا كان القاضي في إصدار الحكم القضائي لا يراعي فقط مقتضيات صـحته كعمـل إجرائي، بل أنه بهذا الحكم يطبق إرادة القانون في القضية التي أصدر حكمه فيها. فـإذا اخطأ في هذا، فإن هذا الخطأ قد يشكل مخالفة للقانون أو خطأ في تطبيق القانون أو خطأ في تأويله، ويجيز قانون المرافعات الطعن في الحكم القضائي لمثل هذه الأسباب. يختلف الأمر في نطاق التحكيم، إذ لا تقبل ادعاءات بطلان حكم التحكيم المؤسسة علـى خطـأ الحكم التحكيمي في التقدير أو للخطأ في تطبيق القانون أو في تأويله أو بحجة الفساد الاستدلال –بالمعنى ذاته المطبق في شأن الأحكام القضائية-. وبطبيعـة الحـال لا تعـد دعوى البطلان مناسبة للأطراف لطرح أوجه دفاع جديدة بشأن النزاع التحكيمي.

- الأسباب التي ذكرها المشرع والتي تقبل دعوى البطلان على حكم التحكيم استناداً إليهـا (المادة 53) محددة حصراً لا يجوز بحسب القانون المصري الاتفاق على خلافها. وهـذه الأسباب تتعلق جميعاً، وبحسب الأساس، بالشكل والإجراءات دون غوص في موضـوع النزاع. لذلك لم يمنح المشرع محكمة البطلان، إذ هي قضت ببطلان حكم التحكيم، سلطة إعادة نظر النزاع الذي كان معروضاً على التحكيم، بل يقتصر دورها فقط على النظر في أمر إبطال الحكم التحكيمي، وفقا للحالات المذكورة دون التصدي لنظر النـزاع، فيعـود الأطراف عند الحكم بالبطلان إلى الحالة التي كانوا عليها قبل نظـر التحكـيم، وبحيـث يقتصر دور قضاء الطعن على بيان صحة الحكم التحكيمي أو بطلانه (إجرائياً)، كليـاً أو جزئياً، دون أن يمتد إلى التصدي لموضوع النزاع أو إعادة الفصل فيه أو إلى تـصحيح الحكم التحكيمي.

- لأن قاضي الطعن لا ولاية له في الفصل في النزاع المردد في الدعوى التحكيمية، فهو لا يملك التعرض – بشكل مباشر – للموضوع الذي فصل فيه حكم التحكيم أو مناقشة مــدى صواب أو خطأ ما ذهب إليه المحكم أو في تصديه لفهم الواقع أو تطبيق القانون، إلا أن هذا لا يعني حرمان قاضي البطلان مطلقاً من أن يفحص الحكم التحكيمي وموضوعه من غير تعمق توصلاً إلى استظهار أسباب الطعن للقضاء ببطلان الحكم أو برفض البطلان، وهو الأمر المطلوب منه.

في قانون التحكيم المصري، لا يحق للأطراف النزول عن دعوى البطلان قبل ثبوت الحق فيها، فلا يجوز لهم قبل صدور حكم التحكيم الاتفاق على استبعاد دعوى البطلان أو حتى على تضييق حالاتها، كما لا يجوز لهم تحديد تنظيم اتفاقي آخر للطعن على حكم التحكيم، وهذه الأمور تعد من النظام العام الداخلي. أما النزول اللاحق على صدور الحكم التحكيمي، فهو جائز، وقد يتخذ صورة صلح أو إبرام صفقة يبرمها الخصوم يحصل في إطارها تنفيذ اختياري لحكم التحكيم. ولم يشترط المشرع المصري لصحة التنازل اللاحق عن الطعن في حكم التحكيم شكلاً معيناً، ومن ثم فإنه من الجائز أن يحصل هذا التنازل بشكل ضمني.

- تسمح بعض التشريعات الأجنبية للأطراف، بموجب نص صريح في اتفاق التحكيم أو في اتفاق لاحق، على استبعاد إمكانية الطعن في أحكام التحكيم. فالمشرع البلجيكي، على سبيل المثال، يجيز ذلك بشرط ألا يكون أي من الطرفين شخصاً طبيعياً يتمتع بالجنسية البلجيكية أو يقيم ببلجيكا أو شخصاً معنوياً له مقر رئيسي أو فرع فيها. وتبنى المشرع السويسري الموقف ذاته بقيود مختلفة، والحال كذلك في التشريع التونسي. وتثار مسألة أمكانية اتفاق الأطراف على توسيع النطاق التقليدي الضيق لرقابة القضاء على أحكام التحكيم (أي خلاف الأسباب التقليدية المتعلقة بالشكل والإجراءات) وذلك عن طريق إضافة أسباب أخرى غير تلك المنصوص عليها في قوانين التحكيم لإبطال الحكم بحيث يمكن مثلاً أن تقام دعوى البطلان لمخالفة القانون أو الواقع بناء على نص تعاقدي سابق، في هذا الخصوص تباينت أحكام القضاء الأمريكي، كما اختلف الفقه على الصعيد الدولي".

- لم يرسم القانون طريقة خاصة لبيان أسباب الطعن في حكم التحكيم، ولكن يستلزم بداهـة أن تكون هذه الأسباب واضحة محددة للعيب الذي يدعيه الطـاعن، وأثـر هـذا الـعيـب وموضعه من الحكم المطعون فيه. كما أنه ليس في القانون مـا يحـول دون أن يرفـع الطاعن في حكم التحكيم طعناً آخر في الحكم ذاته ليستدرك ما فاته من أوجـه الطعـن، طالما كان ميعاد الطعن مفتوحاً، ولم يفصل في الطعن الأول. وتغيير الأسـاس القـانوني للإدعاء لا يشكل ادعاء جديداً. وطبقاً لقانون التحكيم، فإنه لا يترتب على مجـرد رفـع دعوى البطلان وقف تنفيذ حكم التحكيم، بل يجب أن تأمر محكمة البطلان بهـذا الوقـف بناء على طلب مدعي البطلان ولأسباب جدية تقدرها.

   ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه لتأكيد فاعلية أحكام التحكيم الصادرة تحت مظلة المركـز الدولي لفض المنازعات الناشئة عن الاستثمار في نطاق معاهدة واشنطن لـسنة 1965 "الإكسيد" تتمتع بنظام قانوني خاص بها، ذلك أنه لا يمكن الطعن في هذه الأحكـام بـأي طريق من طرق الطعن أمام أي جهة قضائية، إنما تخـتص لجنـة خاصـة - لأسـباب محددة يتم تشكيلها من قبل رئيس المجلس الإداري للمركز الدولي للنظر فـي صـحة الحكم أو بطلانه إعمالا لقواعد المركز ذاتها.

قد يعيد البطلان الأطراف إلى تحكيم جديد مرة ثانية:

    وإذا كان بطلان حكم التحكيم قد بني على بطلان اتفاق التحكيم أو عدم وجـود مثـل هـذا الاتفاق أصلاً، فيكون لصاحب الشأن اللجوء إلى القضاء بحقه، كما قد يعمد الأطراف إلى عقـد اتفاق جديد على التحكيم. أما إذا كان البطلان قد بني على سبب آخر غير بطلان اتفاق التحكـيم، فالأصل هو التزام الخصوم باللجوء إلى تحكيم جديد للفصل في نزاعهم المتفـق علـى حـسمه بالتحكيم مرة أخرى. وإذا تبين للمحكمة صحة ما زعمه مدعي البطلان من أن المحكم قد تجاوز حدود اتفاق التحكيم وفصل في مسألة لم يتفق الأطراف صراحة أو ضمناً على شمول التحكـيم لها، فأن البطلان هنا ينبغي أن يكون محدداً فقط بالجزء محل التجاوز. وفي كـل الأحـوال، إذا قضت المحكمة بالبطلان، فلا اختصاص لها بالفصل في موضوع النزاع التحكيمي.

لا تسري دعوى الطعن إلا على حكم التحكيم النهائي:

     لا تسري أحكام دعوى البطلان التي نظمها قانون التحكيم، إلا على أحكام التحكيم الحاسـمة بالمعنى القانوني الصحيح، والعبرة هنا هو بحقيقة الواقع، فلا تقبل دعوى الـبطلان هـذه علـى القرارات الصادرة عن نظم قانونية أخرى قد تختلط بالتحكيم كالصلح أو الخبـرة أو الوسـاطة. فدعوى بطلان حكم التحكيم التي نظمها قانون التحكيم لا شأن لها كأصل عام بما يعرف بالتحكيم الرياضي أو السياسي أو الطبي أو الضريبي أو التحكيم في مسائل الأحوال الشخصية... الـخ. ولحكم التحكيم خصائصه الذاتية فلا يرتبط التكييف بالعبارات التي استخدمها الأطراف أو وصفهم أي عمل بأنه قرار أو حكم تحكيم؟.

    ويلاحظ أن عدم قبول دعوى البطلان ضد ما لا يعتبـر حـكـم تحـكـيـم نهائيـا، بـالمعنى الصحيح، يتعلق بدعوى البطلان التي نظمها قانون التحكيم، ولهذا فإن العمل القانوني المطعـون فيه وإن كان لا يقبل بشأنه دعوى البطلان هذه، يمكن أن تقبل بشأنه دعوى بطـلان التـصرف القانوني التي تخضع للقواعد العامة في القانون المدني". وقد جاء في حكم صغنا حيثياتـه ؛ الدعوى 75 لسنة 117 قضائية تحكيم تجاري القاهرة، الـدائرة السابعة التجاريـة، بتـاريخ 1/1/2002: ".. وإذ ثبت للمحكمة، على نحو ما سلف، أن المحرر المطعون ببطلانه والمعنـون بأنه "حكم تحكيم" قد خول كل خصم من الخصمين حق عدم الالتزام بقـرار المجلـس العرفـي (التحكيمي) وأن له الحق في العدول عنه نظير دفع تعويض تضمنه شرط جزائي، ....ومن ثـم لا يعد هذا العمل القانوني تحكيماً، وإن اعتبر عقداً أو تصرفاً يخضع لأحكـام النظريـة العامـة للالتزامات في القانون المدني، وتكون الدعوى – وإذ رفعت أمام هذه المحكمة بحـسبانها طعنـاً في حكم تحكيم- غير مقبولة".

اختلاف الطعن في حكم التحكيم عن دعوى بطلان الحكم القضائي

    أوصد المشرع طرق الطعن العادية وغير العادية ضد أحكام المحكمـين واستبدلها جميعـاً بدعوى البطلان، واختار المشرع، كما ذكرنا، دعوى البطلان كأداة إجرائية وحيدة لإبطـال حـكـم التحكيم. فإن هذا الاختيار مرجعه ودافعه الأساسي هو الأصل العقدي لنظـام التحكـيم، وأن حكـم التحكيم كان محض ثمرة لاتفاق التحكيم.

    وجاء في حكم أصدرته محكمتنا الدستورية: ...احتراماً لإرادة الأطراف في التحكيم واعترافـاً بحجية أحكامه ووجوب ووجوب نفاذها من جهة، ومواجهة الحالات التي يصاب فيها حكم التحكـيم بعـوار ينال من مقوماته الأساسية ويدفعه إلى دائرة البطلان بمدارجه المختلفة من جهة أخرى، أقام المشرع توازناً دقيقاً بين هذين الأمرين من خلال سماحه بإقامة دعوى البطلان الأصلية، بشروط محددة في شأن حكم التحكيم، مستصحباً الطبيعة القضائية لهذا الحكم، ليسوي بينه وبين أحكام المحاكم القضائية بصفة عامة، "من حيث أقامة دعوى بطلان أصلية في شأنها". . ومع تحفظنا عما جاء فـي الحكـم المذكور بخصوص مساواته حكم التحكيم بالحكم القضائي، فأننا نرى أن الحكم اعتبر دعوى بطلان حكم التحكيم شأنها شأن دعوى بطلان الحكم القضائي، فقد ساوى بينهما القاضـي الدسـتوري دون مسوغ أو مقتضى. وهنا نسجل أن دعوى بطلان الحكم القضائي شيء، أما دعوى بطـلان حك التحكيم فشيء آخر، ومن الضروري التمييز بينهما، وسوف نعرض ذلك على النحو الآتي:

     القاعدة أن دعاوى البطلان لا تقبل، كأصل عام، في الأحكام القضائية، لأن هـذه الأحكـام ليست تصرفات قانونية أو عقوداً يمكن إبطالها عن طريق الدعوى، بل أحكام قضائية حقيقية، لا يجوز إهدار حجيتها، إلا بطرق الطعن المحددة في القانون مثل الاستئناف أو النقض. ومع ذلك استقر الفقه والقضاء على أن بعض الأحكام القضائية تعتبر منعدمة الوجود وليست لهـا صـفة الأحكام ولا خصائصها، وذلك إذا شابتها عيوب جسيمة تنعدم معها صفتها كعمل قضائي، ومن ثم يجوز طلب القضاء ببطلانها بدعوى أصلية. كما هو الحال في الحكم الذي يصدر عـن شـخص زالت عنه ولاية القضاء، أو عن هيئة مكونة من قاضيين بدلاً من ثلاثة قضاة، وكالحـكم الـذي يصـدر على شخص توفى.

    ولكن يلاحظ أن دعوى بطـلان حكم التحكيم مقررة تشريعياً، لا كاستثناء تمليه الاعتبارات الملائمة كالحال في دعوى بطلان الأحكام القضائية، وإنما كأصل عام تمليه الطبيعـة المتميـزة لحكم التحكيم، بمعنى أن حكم التحكيم لا يخضع لنظام دعوى بطلان الحكم القضائي، إنما يخضع لنظام دعوى بطلانه هو، وهناك اختلافات كثيرة بين الدعويين. فالطعن على حكم التحكـيم هـو وسيلة متميزة وطعن مختلف «متميز»، أوجده القانون الخاص بالتحكيم، لا يعرفه النظام القانوني الذي ينظم أحكام القضاء ويرسم طرق الطعن فيها، فالحال مختلف حتى بالنسبة الى الفروض التي تقبل فيها، استثناء، دعوى بطلان الحكم القضائي.

- الغش في التحكيم:

    في أطار دعوى بطلان حكم التحكيم نوضح أن «قاعدة الغش يبطل التصرفات» تعد قاعـدة قانونية أصيلة تفرض نفسها بحكم البديهة، ولو لم يجر بها نص خاص في القانون، إذ تقوم علـى اعتبارات خلقية واجتماعية في محاربة الغش والخديعة والاحتيال. وقد أكـدت محكمـة الـنقض الفرنسية على اعتبار هذه القاعدة من النظام العام الدولي، لأن لها صفة تسمو على التشريعات، بمعنى أنها من القواعد التي تندرج تحت ما يعرف بالقانون الطبيعي، بحيث يبطل حكم التحكـيم في حالات وقوع الغش في أية مرحلة من مراحل التحكيم.

    وحتى إذا تم كشف الغش بعد صدور الحكم التحكيمي - بعد فض هيئة التحكيم وتعذر انعقادها مرة أخرى- فأنه يجوز تشكيل هيئة تحكيم جديدة للنظر في سحب الحكم المبني على الغش". وقد جاء في حكم حررناه وصغنا حيثياته بتاريخ 5/7/2009 ما يلي: "... ولئن كان اتفاق التحكيم فـى جوهره اتفاقاً على حسم نزاع مالي ما بطريق نظام التحكيم، فهو كغيره من الاتفاقات يتطلب لزوماً تجاه إرادة طرفيه إلى غاية مشروعة، فإن كان الباعث على الاتفاق غير مشروع أضحى الاتفـاق باطلاً، وذلك بحسبان أن البطلان هو الجزاء القانوني المدني لعدم مشروعية سبب الاتفاق (المـادة 137 من القانون المدني)، فهو جزاء لاختلال ركن من الأركان المتطلبة لاستيفاء الاتفاق (العقـد) شروط صحته، وبحيث يعني البطلان انعدام أثر الاتفاق بالنسبة إلى المتعاقدين، وبالنسبة الى الغيـر تبعاً لذلك، كما أنه من الأصول المقررة في القانون أنه لا يجوز أن يستند الـشخص إلـى غشه للمطالبة بحق سواء أمام القضاء أو عن طريق التحكيم..... لما كان ذلك وكانت المنازعة موضوع تحكيم التداعي غير قابلة للتحكيم، لسبب يتصل بالنظام العام، فموضوعها يتعلق بـ.... وهو مـن المسائل التي لا يجوز الاتفاق على التحكيم بشأنها.... ولأن النزاع موضوع حكم التحكيم يخرج عن حدود الولاية الممنوحة قانونا للتحكيم، فإنه لا تكون لمشارطته ولا للحكم الصادر بنـاء عليهـا حرمة، فلا حجة أو أثر لهما في نظر القانون، وعلى ذلك فإن التحكيم الطعين يكون، بمحله وغايته، قد استهدف التعدي على النظام العام ممثلاً خرقاً لنصوص آمرة ترمي في الأسـاس إلـى تحقيـق مصالح اقتصادية واجتماعية لازمة لصيانة حق الملكية العقارية في البلاد، ومثل هـذه المـصلحة الحيوية تعلو على مصلحة الأفراد، فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها بحيث لا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم حتى لو حققت هذه الاتفاقيات لهم مصالح فرديـة... لذلك يضحي الاتفاق على التحكيم قد ولد معيبا.....، وتحكيم النزاع، فضلاً عن عـدم مـشـروعية اتفاقه من ناحية، فإن أطرافه من ناحية أخرى تظاهروا باحترام هذه القواعد القانونية، وهـم فـى الحقيقة ينتهكونها ويهدرونها، وهذا هو الغش، فالأطراف اتخذوا الشكل أو المظهر التحكيمي مسرحاً لإجراء تصرف غير مشروع ومخالف لمقتضيات النظام العام في صورة خدعة أو حيلة مصطنعة لخدمة مصلحة غير مشروعة، فالتحكيم موضوع التداعي ليس سوى مظهر مصطنع منـذ أبـرام اتفاقه حتى صدور حكمه، وعلى ذلك فلا يكون للحكم في هذه الخصومة التحكيمية الصورية أيـة قيمة، فالأحكام الواجبة الاحترام هي الأحكام التي تصدر في خصومة جدية ولو كانت تحكيميـة..". وجاء أيضاً في حيثيات الحكم وهو برقم 19 لسنة 126 قضائية تحكيم تجاري استئناف القاهرة وأحكام أخرى في السياق ذاته "الدائرة السابعة": ... وحيث إن الحكم المطعون عليه – رغم وجوده المادي- يضحي بحسبانه غشاً باطلاً مطلقاً، ولأنه تصرف أعرج محروماً من أثـاره يعـد غيـر موجود قانوناً، ويتعين على المحكمة إذا ما عرض عليها أن تعتبره ومن تلقاء نفسها باطلاً وتهدره، وتكون للطاعنة (النيابة العامة) والحال هذه، مصلحة في طعنها، وتضحي دعواها قد أقيمت علـى سند صحیح من الواقع والقانون، ومن ثم تقضي المحكمة ببطلان التحكيم موضوع التداعي مع مـا يترتب على ذلك من آثار .

   ويجيز القانون الإيطالي فسخ حكم التحكيم كطريق استثنائي لإبطال الحكم، لأن عيوباً جسيمة تؤثر فيه، فالفسخ جائز في حالة الغش من قبل طرف ما أو التزوير واكتشاف مستندات لم تكـن معلومة في السابق، وفي حالة تأثر الحكم التحكيمي بالغش من قبل المحكم.

- التدخل الناعم (المختلف أو المرن) عند نظر دعوى بطلان حكم التحكيم:

     الجدير بالتنويه، في الشأن الذي نتناوله، أنه عند ممارسة القاضي دوره الرقابي عند الطعن في حكم التحكيم للقول بصحته أو بطلانه، وفي غير حالات الغش، فأنه لا يراقب حكماً قـضائياً، بل حكماً تحكيمياً له طبيعته الخاصة وغير صادر عن قاض، وإنما عن فرد عادي قد لا يكون من ذوي المؤهلات القانونية.

   ويمكننا هنا أن نفرق بين تدخل مرن «ناعم» للقضاء عند الفصل في الطعن المقـام بطل بطلان حكم التحكيم، وتدخل جاف «خشن» وهو التدخل الذي يحصل عند الطعـن فـي الحـكـم القضائي بأي صورة من صور الطعن في الأحكام القضائية. هذا التدخل الجاف يجب استبعاده في نطاق الطعن ببطلان الحكم التحكيمي اكتفاء بالتدخل المتسم بقدر من المرونة والقائم على ثقافـة خاصة مؤسسة على مفاهيم تناسب خصوصية التحكيم وطابعه الاتفاقي المتحـرر مـن قواعـد المرافعات الشكلية، بمعنى أن أمر صحة أو بطلان التحكيم، إنما يرجـع إلـى قواعـد التحكـيم وقانونه، وليس إلى قواعد قانون المرافعات المتعلقة بالطعن في أحكام القضاء وتطبيقاتها.