ان الاطراف في العقد أو في مشارطة التحكيم قد عبروا عن ارادة صريحة وواضحة بعدم الدخول تحت سلطان القضاء تفادياً لمفاجآته وخفايا الإجراءات، ولكن أيضاً تفادياً لتطبيق تشريعات وضعية لا يقبلون بها. الا انه رغم ذلك ومهما حاول الأطراف للإفلات من سلطان القضاء، فإن ذلك يكاد يكون مستحيلاً حتى في الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية بصورة مباشرة دون نصوص تشريعية مكتوبة كالمملكة العربية السعودية والسودان والباكستان (ولعل معها دول أخرى).
والقضاء يبقى في كل الأحوال طرفاً مساعداً في اجراءات التحكيم يحتاج إليه الأطراف في تعيين المحكمين أو في الطعن فيهم وازاحتهم أو في بعض الإجراءات التحضيرية أو الإحترازية (الإحتياطية) أو الوقتية المستعجلة (مثلما ينص على ذلك صراحة الفصل 54 من مجلة التحكيم التونسية والمادة 27 من قانون اليونسترال) حتى اذا ما انتهت اجراءات التحكيم بقرار شامل في الأصل ينهي الخصومة انتقل الأمر مرة أخرى الى القضاء، لأن هناك قدراً أدنى من الرقابة القضائية لا بد أن يمارسها الهيكل القضائي الوطني في هذا البلد أو ذلك وقلما يتمكن الأطراف من تجاوزها، خصوصاً اذا لم تخلص النوايا بالإذعان الى القرار التحكيمي والإنحناء له من خلال تنفيذه التلقائي ودون أي اجراء، ولم ينص العقد أو مشارطة التحكيم على ذلك الإذعان الإرادي التلقائي ودون ممارسة أي نوع من أنواع الطعن.
ويكون تدخل القضاء بإبطال العمل بالقرار التحكيمي (وهنا نتحدث عن القرار الذي صدر وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية) من خلال ثلاثة أبواب:
الباب الأول: عند طلب المصادقة:
ان اغلب القرارات التحكيمية التي تصدر في بلد معين تحتاج الى ايداع او مصادقة السلطة القضائية التي تعطيها صبغتها الرسمية، مثلما هو الشأن مع الفصل 80 من مجلة التحكيم التونسية والمادة 458 مكرر – 19 – من أحكام القانون الجزائري للتحكيم التجاري الدولي طبق المرسوم التشريعي عـدد 9/39 المؤرخ في 25/4/1993 أو المادتين 47 و56 من قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994.
كما ان المادة 32-7 من قواعد التحكيم التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي الصادر في 15/12/1976، وكذلك المادة 35-3 من قانون اليونسترال، وكذلك الحال بالنسبة إلى إجراءات غرفة التجارة الدولية بباريس، التي تنص كلها على الإيداع أو المصادقة.
ويكون ذلك الإجراء بالتصديق فرصة في بعض القوانين کي تمارس المحكمة الوطنية رقابتها على القرار التحكيمي وبدرجات متفاوتة حسب الأنظمة القانونية. بل الأخطر من ذلك ان صدور قرار تحكيمي مؤسسي في دولة معينة قد يستلزم رقابة مزدوجة من المركز الذي صدر القرار وفق نظامه، ثم من السلطة القضائية بعد ذلك.
ولئن يصعب على الدارس أن يعثر على قرار تحكيمي لم يقع التصديق عليه، لأن القرار ينعدم وجوده بذلك الرفض ولن يسمع عنه أحد، الا ان تلك الفرضية تبقى قائمة ما دامت عملية التصديق تخضع لضوابط وشروط معينة، وهي في اغلب الاحوال شروط شكلية تتعلق بشكل القرار وتنصيصاته ولغته وعدد نسخه والوثائق المطلوب ارفاقها به.
ولكن محكمة النقض المغربية (المجلس الأعلى) قضت بالقرار رقم 288 بتاريخ 25/2/2009: "ان حكم المحكمين لا يقبل الطعن، ولكن المراقبة القضائية تتم اثناء تذييله بالصيغة التنفيذية بخصوص عدم مساس الحكم التحكيمي بالنظام العام وعدم بته (قضائه) في مادة غير تحكيمية (غير قابلة للتحكيم) وعدم خرقه او تجاوزه لسند التحكيم (اتفاقية التحكيم) ووجوب توفر تعيين النزاع في سند التحكيم واسم المحكمين وأجل صدور القرار التحكيمي وكتابة شرط التحكيم بخط اليد (نعم هكذا وفق القانون المغربي) مع الموافقة عليه حين يتعلق الأمر بعمل غير تجاري واحترام الإجراءات الشكلية الأخرى ولا توجد مراقبة قضائية أخرى غير ذلك".
فهل أبقى هذا القرار شيئا؟ صحيح أنها كلها شكليات يمكن لمن أصدر القرار التحكيمي الدولي سواء بالمغرب أو خارجه ان ينتبه اليها ويتجنبها ويتفادى السقوط فيها، ولكن المتأمل فيها يجدها في الواقع مراقبة شكلية، ولكنها دقيقة ومزعجة جداً بدءاً بكيفية معرفة النظام العام المغربي وانتهاء بتحديد موضوع النزاع في مشارطة التحكيم وكتابة هذه الأخيرة بخط اليد وتحديد أسماء المحكمين وأجل فصل النزاع.
كما أن المادتين 18 – 20 من نظام التحكيم السعودي تنصان على خضوع القرار التحكيمي لمصادقة الجهة المختصة والتي لم يقع الإعتراض لديها بعد ان سبق أن أودعت لديها وثيقة التحكيم موقعة من الأطراف والمحكمين ومستندات النزاع موضوع المادة الخامسة.
ولكن تبقى مرحلة المصادقة هذه هيئة خصوصاً إذا علمنا أن اغلب الدول اتخذت من قانون اليونسترال النموذجي مادة 35 قاعدة لقانونها، ومنها بالخصوص تونس المادة 89 الجزائر المادة 458 مكرر 8) ومصر المادة 56 التي نجد قوانينها متقاربة جداً ان لم تكن متطابقة بسبب وحدة المصدر وهي تشترط للمصادقة:
- تقديم نسخة أصلية أو نسخة مطابقة للأصل من القرار التحكيمي.
- نسخة اتفاقية التحكيم أو نسخة مطابقة للأصل منها.
- ترجمة الى اللغة العربية عندما تكون احداها بلغة أخرى.
وتضيف الى ذلك المادة 56 من القانون المصري نسخة من محضر الإيداع وفق المادة 47 من ذات القانون.
كما ان القانون الإنكليزي فصل 52، والهندي فصل 31، الصادرين سنة 1996 بخصوص ي عقود التحكيم Obligation acts سمحا بعدم تعليل القرار التحكيمي وتسبيبه، اذا اتفق الطرفان أو رضيا بذلك بعدما كان القضاء عموماً يعتبر انعدام التعليل (وحتى نقصه احياناً) مخالفاً للنظام العام، وبالتالي يبطل القرار التحكيمي، خلافاً لما عليه حال القوانين ذات المصدر الفرنسي اللاتيني (او القاري) وهو اتجاه موجود، ولكن غير مكتوب في القواعد الإنكلوسكسونية Common low منذ القدم رغبة من الانكليز في تحرير المحكم من وصاية القضاء الحكومي.
اذاً فالأمر هين نسبياً على صعيد المصادقة وفي هذه المرحلة بالذات عموماً وهي مرحلة تكاد فيها الخشية على القرار التحكيمي وعلى شرط تطبيق الشريعة الإسلامية تكون معدومة سواء في الدول الإسلامية أو خارجها.
الباب الثاني: دعوى الإبطال:
ان دعوى الإبطال هي السلاح الأكثر فتكا بالقرار التحكيمي وهو الباب الذي تركته جميع الشرائع تقريباً مفتوحاً للطعن في القرارات التحكيمية سواء منها القوانين النموذجية أو القوانين الوطنية وسواء تعلق الأمر بالتحكيم الحر أو التحكيم المؤسسي بإستثناء عدد قليل جدا من مراكز التحكيم على غرار المركز الإسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم بدبي الذي ينص نظامه الأساسي في المادة 14 على أن الحكم الصادر من هيئة التحكيم وفقاً لهذه الإجراءات يكون ملزماً للطرفين ونهائياً وهو ما تؤكده أيضاً المادة 24 من لائحة اجراءات التحكيم. كذلك الأمر بالنسبة الى نظام غرفة التجارة الدولية في المادة 28.
واذا استثنينا التحكيم الداخلي الذي له اجراءات خاصة في كل دولة، والذي يتراوح بين اختصاص القضاء، كما هو الحال بالمغرب والكويت، الى اختصاص ذي اجراءات خاصة سواء وفق انظمة مراكز تحكيم وطنية أو طبق قواعد التحكيم الحر، وهو الخاضع عموماً لإجراءات الطعن العادية (الإستئناف والنقض) فإن التحكيم ذا الصبغة الدولية يخضع فقط طبق كل القوانين الوطنية لإمكانية الطعن بالإبطال، ولكن في حالات محددة تتعلق بالنظام العام أساساً سواء الإجرائي أو في الأصل.
ان النظام العام تراوح حسب الأزمنة والاوطان بين النظام العام القانوني والنظام العام الإقتصادي والنظام العام الإجتماعي وبين النظام العام في مفهوم القانون الدولي العام والنظام العام طبق قواعد القانون الدولي الخاص.
وكان هذا هو المدخل الأهم الذي يقع من خلاله الطعن في القرارات التحكيمية سواء بالنظر الى منطوق الحكم والنتيجة التي توصل اليها أو لتعارض موضوع العقد مع النظام العام. أو تضارب الشرط التحكيمي ذاته مع قواعد النظام العام، ولذلك شكل هذا العنصر الخطر الأكبر على التحكيم وربما يزداد الخطر استفحالا عندما يتعلق الأمر بتطبيق الشريعة الاسلامية التي تتعارض في كثير من القواعد مع القوانين الوضعية، وخصوصاً في الدول التي تختلف ثقافاتها مع مقتضيات الشريعة الاسلامية من منظور حضاري أكثر منه ديني، بل وحتى داخل الدول التي توصف بأنها اسلامية، ولكن قوانينها أقرب ما تكون إلى العلمانية، لأنها تنطلق أساساً وبصورة مبدئية من الإبتعاد عن الدين ان لم تصل الى معاداته.
وحيث أن كل القوانين التي تنظم التحكيم سواء كانت قوانين خاصة أو ضمن القوانين المدنية (فرنسا) أو الإجرائية (المغرب – ليبيا) أبقت باب الابطال مفتوحاً عند مخالفة النظام العام، اما تصريحاً (مصر – تونس - الجزائر – لبنان – المغرب وغيرها) أو تلميحاً مثل المادة 20 من نظام التحكيم السعودي الذي يشير إلى ذلك بعبارة "بعد التثبت من عدم وجود ما يمنع تنفيذه شرعاً .
وبالرجوع الى حالات الإبطال التي طالت قرارات التحكيم الصادرة وفق أحكام الشريعة الاسلامية واتجاهات المحاكم في ذلك الشأن مع ندرتها نجد ان الإتجاه بدا رفضاً شبه مطلق في البداية منذ قضية أرامكو الشهيرة سنة 1963 ضد الحكومة السعودية التي رفض بموجبها المحكمون (وليس محكمة الإبطال) تطبيق الشريعة بحجة عدم تمتعها بصفة القوانين الوطنية المتعارف عليها وهي تلت قضية أمير أبو ظبي ضد شركة التنمية البترولية المحدودة سنة 1952، وكذلك قضية شيخ قطر ضد المؤسسة الدولية البحرية للنفط المحدودة.
ورغم أن الإتجاه العالمي العام بدأ يميل أكثر فأكثر إلى التخفيف من وطأة الإبطال وتيسيراً على التحكيم كوسيلة لفض المنازعات، الا ان القضاة الإنكليز واصلوا في النسق نفسه تقريباً بذرائع مختلفة كما حدث سنة 2004 مع بنك شامل البحريني ضد شركة Beximco للأدوية المحدودة، حيث لم تر محكمة الإستئناف الأنكليزية في الشريعة المراد منها تطبيقها سوى قواعد دينية، ومن ثم قررت رفضها، خصوصاً وان اتفاقية روما كانت زمن صدور الحكم مطبقة وهي للأطراف اختيار قانون دولة وليس مجرد قواعد غير تشريعية.
كذلك الموقف نفسه تبناه القضاء الانكليزي في قضية شنغي بوليستر المحدودة ضد هيئة تتيح الاستثمار الدولي الكويتية سنة 2001.
الا اننا من خلال القياس ومن خلال الأنظمة القانونية المتبعة في كل دولة يمكننا أن نتنبأ ببعض الحالات، وعلى سبيل المثال لا الحصر، التي يمكن للمحاكم أن تبطل فيها القرار التحكيمي بناء على مفهومها للنظام العام.
- حالة تخصيص الدولة بعض الأنشطة الإقتصادية أو المواد لإحتكارها الحصري ودون ان يكون لأي كان الحق في الإتجار مثلا أو توريدها.
فتوريد الذهب والتبغ مثلاً حكر على الأجهزة الحكومية في اغلب الأنظمة، وخصوصاً في دول الجنوب، وكل عقد متضمن المتاجرة أو المرابحة أو المضاربة في عمليات تتعلق بتوريد تلك البضاعة أو تصنيعها يكون مآلها حتماً الإبطال. لذلك فمن الجنون أن يفكر أحد في هذه الأنشطة مهما تفنن في التحري عند صياغة العقود أو مشارطات التحكيم.
كذلك الأمر بإمتلاك الأراضي الزراعية في عديد الدول من طرف اجنبي فكل تعامل سواء كان من قبيل الإستثمار المالي أو النهوض بالقطاع الزراعي، اذا تعلق بإمتلاك أراض فلاحية من أجنبي أو مساهمة الأجنبي ولو بأسهم قليلة في شركة تخضع للقانون المحلي هدفها امتلاك عقارات زراعية، يكون مآله البطلان بتحكيم او بدونه، لأن موضوع التعاقد بأطل بمنظور النظام العام ولا يصح التعامل فيه أصلاً، كما هو الحال مثلاً في تونس بموجب قانون 12 ماي 1964.
- كما أن تعيين محكم غير مسلم في نزاع خاضع لشرط تطبيق الشريعة الاسلامية اذا ما نجا من الإبطال في دولة مقر التحكيم (واذا كانت لا تعتبر تطبيق الشريعة الإسلامية يهم النظام) فإنه سيصطدم بذلك عند طلب الإكساء بالصيغة التنفيذية في احدى الدول التي تشترط ذلك كالسعودية واليمن والسودان وباكستان مثلاً.
ومن الضروري التنبيه الى ان تعقيدات العلاقات وتداخل العقود جعلنا نجد انفسنا في عديد الحالات امام اطراف متعددين يتداخلون في دعوى التحكيم اثناء سيرها ويطالبون بحقهم في تسمية محكم عن كل طرف منهم احتراماً لمبدأ مهم وطبيعي في التحكيم وهو معاملة الأطراف على قدم المساواة. أو ان ينتظر أحد الأطراف او اطراف متعددون انتهاء اجراءات التحكيم انتظارا للنتيجة ليقوموا بعد ذلك بالإعتراض على ذلك القرار التحكيمي أمام هيئة التحكيم نفسها أو تقديم اعتراض قضائي امام الجهة المخولة بالتصديق أو الابطال أو منح الإكساء بالصيغة التنفيذية.
وامام تعدد هذه الحالات وما نتج منها من أحكام بالإبطال بحجة أن عدم معاملة الأطراف على قدم المساواة يخالف النظام العام بدأ يظهر اتجاه يتضمن شرطاً تحكيمياً يوجب على كل الأطراف اللاحقة والتي تعمل في اطار تلك العلاقة الأولية والأصلية ان تنص في تلك العقود الثانوية (او من الباطن) نفس الشرط التحكيمي، وأن تضم الى ذلك الطرف الأصلي الذي تعاملت معه في صورة اللجوء الى التحكيم أو التنصيص، على أنها اطلعت على ذلك الشرط في العقد الأصلى وقبوله به والإنضواء تحته.
الا ان تلك الطريقة لاقت صعوبات في التطبيق وخلفت من المشاكل لإجراءات التحكيم اكثر مما عالجت من نزاعات دون أن تكون التشريعات الوطنية أو الإتفاقيات الدولية قد أوجدت الحلول المناسبة.
لذلك ابتدعت غرفة التجارة الدولية ICC حلاً للمحتمين بها، وذلك بتحرير مشارطة تحكيم (او شرط تحكيمي صلب العقد) يساوي بين الجميع من خلال تنصيصه على انه في صورة تعدد الأطراف في النزاع، فإنهم يكلفون غرفة التجارة الدولية بدرس علاقة الأطراف بعضها ببعض ومدى تمتع بعضها بإستقلالية عن الاخرى او وجود مصالح مشتركة ومتشابكة، فتعين الغرفة محكماً واحداً عنهم. لكن اذا كان التحكيم حراً فمن يقوم بهذه المهمة؟
انها المحكمة التي تقرر طريقة تعيين المحكمين عن الأطراف المتعددين أو تعينهم هي حتى تساوي بين الجميع وذلك بطلب حسب الشكل الذي يوجبه القانون.
الا ان المحكمة التونسية في نزاع بين اطراف متعددين تونسيين وأجانب لم تهتد الى الحل الصواب مثلها مثل الهيئة التحكيمية وبقي الأمر لم يستقر على حل معين .
ولعله من المفيد أن نحاول مستقبلاً استنتاج حل بدأت شخصياً في تضمينه في العقود (مرافق للورقة) ويقتضي: "اذا اتضح من خلال النزاع ان اطرافه متعددون وليسوا طرفاً في هذا العقد فقط فإن المحكمين الثلاثة تقع تسميتهم من المركز الاسلامي الدولي للمصالحة والتحكيم بدلا منهم ويتنازل بذلك الاطراف صراحة عن حقهم في تسمية المحكمين.
ويجب على طرفي هذا العقد الإشارة في كل العقود اللاحقة أو عقودهما مع الغير المرتبطة بهذا العقد الإطاري التنصيص صراحة ان التحكيم هو وسيلة حل النزاع ويكون وفق بنود هذا العقد التي يقع تضمينها في تلك العقود أو التنصيص صراحة على وقوع الإطلاع عليها والقبول بها".
ومن الحالات التي تشكل مدخلاً لإبطال القرار التحكيمي أو حتى اتفاقية التحكيم ذاتها مخالفة بعض المقتضيات الخاصة التي تراها هذه الدولة أو تلك تشكل نظاماً عاماً وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه أو السكوت عنه.
فالشرط التحكيمي بتطبيق الشريعة الإسلامية لن تكون له قيمة ويقع أبطاله بكل يسر حسب رأيي في تونس مثلاً، فيما لو نص على أنه يشترط في المحكمين أن يكونوا من الرجال فقط، فإنه اعتماداً على مبدأ مساواة المرأة وحمايتها من كل أشكال التمييز وانخراط تونس في كل الإتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة، يجعل من ذلك الشرط مخالفاً للنظام العام التونسي والدولي. ولكن بالمقابل لو يقع التحكيم في بلد غير المملكة العربية السعودية ويكون أحد أعضاء هيئة التحكيم امرأة أو غير مسلم فلا بد أن ننتظر ابطال القرار التحكيمي الذي شاركت اصداره عندما يطلب المحكوم له اكساء ذلك القرار التحكيمي بالصيغة التنفيذية في المملكة العربية السعودية مثلاً. لكن لو نص الشرط التحكيمي نفسه (او مشارطة التحكيم) على تعيين امرأة سواء بالإسم أو بالصفة فإن الشرط التحكيمي كله لن تكتب له الحياة اعتمادا على مخالفة النظام العام السعودي الذي يطبق الشريعة الإسلامية كقانون، فضلا عن تنصيص اللائحة التنفيذية للتحكيم على وجوب ان يكون المحكم مسلماً ذكراً.
وماذا يكون موقف القضاء التونسي، يا ترى، عند طلب اكساء حكم اجنبي صادر لصالح طرف تونسي واتضح أن له زوجتين تزوجهما بعد 13/8/1956 تاريخ منع تعدد الزوجات؟
بطبيعة الحال سيقول القضاء ان هذا القرار يهم طرفاً تونسياً يخضع في حالته الشخصية للقانون التونسي ويعتبر زواجه بثانية مخالفا للنظام العام، ولذلك لا يمكن التعاطي مع القرار التحكيمي أو القبول به اصلا وليكن ما يكون مع اتفاقية نيويورك أو مع الدولة التي صدر القرار فيها أو لمصلحة رعاياها.
وهكذا نؤكد مرة أخرى أن نجاح التحكيم وبقاء الشرط التحكيمي نافذا يرتكز أساساً على حسن تحرير العقد او مشارطة التحكيم أولاً وآخراً.
كما ان عدم قابلية الموضوع للتحكيم يؤدي حتماً للإبطال وهي تتصل بقوانين الزواج والطلاق والجنسية والحالة المدنية والقوانين الجنائية وهي تخضع كلها لإختصاص القوانين الوطنية. وبينما تخلت اغلب الدول عن حقوق العمال واعتبرتها قابلة للتحكيم بشروط وانظمة خاصة ومقيدة كمجلة الشغل التونسية بقيت قوانين انتداب واقامة العمال الأجانب خاضعة لإختصاص القاضي الوطني في كل الأنظمة ولا تقبل التحكيم.
لكن اتجاه التسامح السائد نال بعضاً من هذه الممنوعات فأصبح القانون الألماني مثلاً (المادة 1030 جديدة من قانون الإجراءات) يسمح بالتحكيم في الأحوال الشخصية.
كما أصدر أحد المحكمين في تحكيم أمام غرفة التجارة الدولية سنة 1983 أنه مختص بالنظر في نزاع يتعلق بطلب أحد الوكلاء عمولة بموجب عقد على الرغم من ان العقد ذاته مخالف للقانون. بينما أصدر المحكم الشهير القاضي Lagergren سنة 1963 قراراً تحكيمياً يفيد ان العقود المتضمنة تسديد رشاوى تكون غير صحيحة ومخالفة للنظام العام الدولي مما يجعل المنازعات الناشئة عن تلك العقود غير قابلة للتحكيم .
في حين تناقضت محاكم جنيف ونونتار مرتين بالرفض ثم القبول لعمولة رفض المحكم السويسري اسنادها لشركة Hilmarton من عقد أبرمته شركة فرنسية مع الحكومة الجزائرية لمخالفة شرط العمولة للقانون الجزائري والقوانين الأوروبية كمخالفته للآداب العامة وفق القانون السويسري الذي يحكم العقد .
وقضت محكمة الإستئناف التونسية في قرارها عدد 6969 بتاريخ 9/3/2000 بأن القرار التحكيمي الذي ألزم طرفاً تونسياً بدفع تعويضات بالعملة الأجنبية لا يخالف قانون الصرف رغم انه من القوانين الآمرة (lois de polices) وبالتالي فهو لا يخالف النظام العام؟.
بينما بالمقابل أصدر مجلس المنافسة بتونس قرارا عدد 5181 بتاريخ 10/11/2005 يعتبر ان إخلال شركة حكومية بقواعد المنافسة من خلال استيراد مواد تخضع قانوناً للترخيص ودون الحصول على تلك التراخيص يكون مخالفاً للنظام العام الإقتصادي لما فيه من كتمان ومراكنة واخلال بقواعد المنافسة واضرار بمصالح المستهلك.
فإذا كان مجلس المنافسة المؤسس من قضاة اعتبر اخلال الجهة الرسمية بعدم الحصول على التراخيص اللازمة، فإننا يجب ان نبدي احترازاً جدياً تجاه مخالفة اية علاقة مالية أو اقتصادية متصلة بتونس للقوانين والإجراءات الإدارية وكراسات الشروط المتعلقة ببعض الأنشطة الإقتصادية.
كما يمكن لأي قرار تحكيمي يصدر لفائدة مصدر تكنولوجيا إلى مصر أن يتم ابطاله أو رفض تنفيذه أن لم يقع الطعن في العقد بالبطلان من أساسه أمام المحكمة المدنية المصرية اذا كان مشتملاً على شروط تقييدية ضد حرية المستورد في استخدام التكنولوجيا او تطويرها او تصريف الإنتاج أو الإعلان عنه، لأن ذلك مخالف للمادة 75 من قانون التجارة المصري الجديد، وبالتالي يصبح مخالفا للنظام العام الإقتصادي المصري فإذا ما وجد عقد مضاربة أو مرابحة أو استصناع ولو نص على التحكيم وفق الشريعة الإسلامية، فإنه لا أمل له في الإفلات من القضاء المصري اذا ما وقع الطعن فيه امامه وتوافرت قواعد إسناد مرجع النظر اليه.
ورغم ذلك نخلص إلى أنه رغم الإتجاه نحو التساهل والتيسير في كل ما له علاقة بالتحكيم، وخصوصاً التحكيم الدولي فإن أبطال حوالي 30% من القرارات التحكيمية الصادرة بتونس هو أمر مفزع حقاً خلافاً لما يراه البعض ممن يعتبرون بقاء 70% من القرارات التحكيمية ناجية من الإبطال دليل صحة وعلامة نجاح التحكيم في تونس.
فما الرأي بالنسبة الى شروط اعفاء الناقل البحري من المسؤولية بعقد كتابي صريح في لبنان مثلاً؟ فإذا ما طبق محكم ذلك الشرط الذي لا يحمل تغريراً من الناقل (مبدئياً) اعتماداً على أحكام الشريعة الإسلامية المشترطة في العقد بين البنك والمصدر مثلا وهو الشرط الذي احيل الى الناقل فإن المتضرر منه سواء كان المصدر أو البنك الممول له يمكنه أن يحصل على ابطال القرار التحكيمي اعتماداً على المادة 212 من القانون البحري اللبناني. والشيء نفسه يقال أيضاً عن تنازل الشاحن الى الناقل عن حقوقه الناشئة عن التأمين على البضاعة وفق المادة نفسها.
وهذا ما يقال لو ان بنكاً إسلامياً تعاقد في عملية مرابحة مع مالك عقار فيه مشروع استثماري في تونس، واحال ذلك المشروع على عميله واشترطا في العقدين شرطاً تحكيمياً على تطبيق الشريعة الإسلامية. لكن نشأ نزاع حول ملكية العقار مع الغير وطال النزاع البنك والبائع له الذي أقحم في عقد البيع الى البنك شرطا يعفيه من ضمان الإستحقاق على اعتبار أن البنك اجرى أبحاثه اللازمة وتأكد من مسألة الملكية وانتهى النزاع بإستحقاق ذلك الغير للعقار. وبتفعيل الشرط التحكيمي بين البنك وعميله وبائع العقار صدر القرار التحكيمي (على سبيل الإفتراض) بإخراج بائع العقار للبنك من النزاع احتراماً للشرط وبتحميل البنك بوصفه البائع للعميل كامل الخسائر والمسؤولية فيما حصل بوصفه هو الضامن في الإستحقاق للعميل. وهنا يطعن البنك في القرار التحكيمي الذي طبق قواعد الشريعة الإسلامية ضده بإعتماد قاعدة جواز بيع البراءة في مذهب الإمام مالك.
فالقضاء التونسي الذي يرفع أمامه نزاع من هذا القبيل لا بد أن يقضي بإبطال القرار التحكيمي الذي حكم وفق ذلك الإعفاء من المسؤولية لمخالفته النظام العام اعتمادا على الفصل 642 من م.أ.ع. التونسية الذي ينص في فقرته الثانية على أنه لا عمل على شرط براءة البائع اذا انبنی استحقاق المبيع من المشتري على شيء من فعله هو بذاته أو اذا كان يوجب الإستحقاق من غروره كبيعه لما هو لغيره أو لما يعلم سبب استحقاقه ولم يعرف به المشتري. وبذلك الإبطال يعتبر التحكيم قد انتهى ويصبح البنك عندئذ مضطراً الى القبول بولاية القضاء التونسي والقانون التونسي الوضعي.
- وفي قضية شهيرة أساءت الى التحكيم التونسي قامت هيئة تنظيم العاب البحر الأبيض المتوسط برفع دعوى ضد مستثمر سعودي (تعاقدت معه على منحه امتيازا بالإشهار المتعلق بتلك الألعاب مقابل حقوق بث حصرية لتلك الألعاب بمقابل غير معين) بهدف ابطال الشرط التحكيمي الذي اقتضى ان كلا الطرفين يدفع اتعاب المحكم الذي يعينه اعتماداً على تناقض ذلك مع مبدأ الحياد والإستقلالية المشترطين في المحكم.
الا أن المحكمة التونسية عوض ان تبطل ذلك الجزء من الشرط المتعلق بكيفية خلاص الأتعاب فقط ويبقى بقية الشرط نافذاً بين الطرفين قياساً على مبدأ استقلال الشرط التحكيمي عن العقد فقد ابطلت كامل الشرط التحكيمي لمخالفته النظام العام حسب رأيها، وهكذا اعتبرت مصالح المتقاضين في استقلالية المحكم (الذي هو قاض من نوع خاص) جزءا من النظام العام، وهذا خلافاً لما عليه التعامل مع القاضي المجرح فيه والذي يعتبر تنحيه التلقائي يهم النظام العام، لأن السكوت عنه يعتبر تنازلا عن ذلك الحق في التجريح والذي لا يهم سوى الطرف الذي قد يتضرر منه، واذا علم الأخير بموجب التجريح وقبل مباشرة الخصام أمامه فإن طلب التجريح فيه لا يقبل (فصل 249 من مجلة الإجراءات المدنية) أفلا يكون الطرف الذي امضى على الشرط التحكيمي القاضي بدفع كل طرف مستحقات المحكم الذي عينه أولى بأن لا يقبل تجريحه في المحكم بالطعن في العقد برمته؟
وهكذا يكون القرار القضائي في هذه الحالة قراراً حمائياً لسلطان القضاء الوطني حتى يتخلص من الشرط التحكيمي لفائدة الجهة التونسية، التي هي جهة عامة في الواقع، وفي ذلك تكمن خطورته في القضايا المشابهة التي يمكن ان تعرض على القضاء حتى مع وجود الشرط التحكيمي بتطبيق الشريعة الإسلامية لأنه بهذه الطريقة يمكن أن يلغى الشرط التحكيمي بأقل خطأ او سوء تحرير.
وهذا القرار كان منحرفاً جداً سواء عن المنطق القانوني السليم أو حتى استناداً إلى ما درج عليه فقه القضاء حتى عن ارادة الطرفين اللذين وان اخطأا في صياغة الشرط التحكيمي (وهنا تبرز اهمية حسن الصياغة) بتضمينه مقتضيات لا تتفق مع التحكيم عامة ومع النصوص الواردة في مجلة التحكيم التونسية التي وقع اختيارها كقانون منطبق فقد كان من واجب القضاء في هذه الحالة احترام ارادة الطرفين في اللجوء الى التحكيم والإفلات من سلطة القضاء التونسي (وهذه الإرادة هي التي تهم النظام العام في الحقيقة اعتمادا على قاعدة ان الإختصاص القضائي (يهم النظام العام) وذلك بالإكتفاء بإلغاء طريقة خلاص المحكمين فقط والرجوع في ذلك الى المقتضيات المتعارف عليها والى مجلة التحكيم التونسية نفسها، ويبقى الشرط التحكيمي صالحاً وقائماً فيما عدا ذلك، لأن فقه القضاء نفسه مستقر على أمرين على الأقل وهما استقلال الشرط التحكيمي عن العقد وكذلك امكانية التصريح بالبطلان الجزئي في حدود الجزء الباطل من العقد او من القرار التحكيمي المطعون فيه ولا سيما أن الأمر تعلق بمسألة اجرائية ولم يتعلق بالمساس بالنظام العام في الأصل.
وتجدر الملاحظة ان قانون التحكيم التونسي من بين الأنظمة القانونية النادرة التي تنص على أمكانية تنازل الأطراف والإتفاق مسبقاً على حق الطعن بالإبطال في القرار التحكيمي كلياً أو جزئياً، اذا لم يكن لهم بتونس مقر أو محل اقامة أصلي او محل عمل (الفصل 78 – فقرة 6 – من مجلة التحكيم). وهذا معناه ان هذا التنازل عن حق الطعن مرتبط بعدم عودة تلك الأطراف الى القضاء التونسي لا للإبطال ولا لطلب الإكساء بالصيغة التنفيذية ولا لمباشرة اجراءات التنفيذ اي فك الإرتباط مع القانون والقضاء التونسي نهائياً. وهو اجراء لا يوجد حتى في قانون اليونسترال، ولكنه لعله يكون مقتبسا من الفصل 192 من مجلة القانون الدولي الخاص السويسرية. وبمثل هذا الشرط واختيار اتمام التحكيم بتونس يمكن أن يكون ذلك طوق نجاة للقرار التحكيمي من هذه الناحية (الإبطال) على الأقل.
الباب الثالث: الإكساء بالصيغة التنفيذية (الأمر بالتنفيذ):
وهي حالة الرقابة الثالثة عندما يصدر القرار التحكيمي في بلد ويحتاج المنتفع به الى تنفيذه في بلد آخر. وقد ذهبت القوانين وفقه القضاء مذاهب شتى في هذا الخصوص.
ففي أحد القرارات التي تخص تنفيذ قرار تحكيمي اجنبي تبنت المحكمة الفدرالية الكندية عند طلب اكسائه بالصيغة التنفيذية موقفاً حاسماً من ذلك القرار التحكيمي بالقول أن أمد سقوط الحق بمرور الزمن يقع احتسابه وفق مقتضيات القانون الكندي، وكذلك طرق التنفيذ التي لا تتأثر لا بالقانون ولا بالقرار التحكيمي الأجنبي. فلو طبقنا هذا الرأي في تونس مثلاً فإن اكساء قرار تحكيمي مضى على صدوره عشرون عاماً يصبح أمراً مستحيلاً.
اما القضاء المغربي فهو احيانا يعتمد اتفاقية نيويورك لعام 1958 التي انخرط فيها المغرب يوم 10/2/1959 ويعتمد احياناً أخرى على الإتفاقيات الثنائية، كما هو الحال في قرار المجلس الأعلى بتاريخ 3/8/1979 (حيث تطلب اصدار قرار الإكساء عشر سنوات) في قضية Sepo ضد شركة سيوفه Syoufa حيث اعتبر اتفاقية التحكيم غير خاضعة للقانون الوطني لمكان التنفيذ، وانما للفصل 16 من الإتفاقية المغربية الفرنسية بدلا من الفصل 5 من اتفاقية نيويورك.
وهو الموقف نفسه الذي تبنته محكمة استئناف Douai الفرنسية التي طبقت مقتضيات مجلة الإجراءات الفرنسية وليس اتفاقية نيويورك في اكساء قرار تحكيمي اجنبي رغم وقوع ابطاله في بلد صدوره، لأنه لم يدخل تحت طائلة أسباب الرفض الواردة بالفصل 1502 من قانون الإجراءات الفرنسي وهو الموقف الذي تبنته أيضاً محكمة الدار البيضاء في حكمها الصادر يوم 2/5/1975.
واذا كانت القوانين الفرنسية والسويسرية والألمانية قد نصت بوضوح أن القرارات التحكيمية التي صدرت تطبيقاً لتلك القوانين الوطنية تعتبر هي نفسها وطنية، حتى لو صدرت في الخارج، فإن القانون المغربي الصادر بالظهير الشريف بتاريخ 28/9/1974 لم يحسم تلك المسألة بوضوح، ولكن المجلس الأعلى تبنى ذلك المنحى وبطريقة أكثر إيجابية وتشكل ضماناً أكبر للقرارات التحكيمية أو حتى الأحكام الصادرة وفق الشريعة الإسلامية، لأنه لا القانون المغربي ولا المجلس الأعلى اشترط تطبيق القانون الوطني لتصبح تلك القرارات تتصف بالوطنية، بل اشترط فقط مطابقتها (أو عدم تعارضها) مع القانون المغربي ذي الصبغة الإسلامية عموماً، لكن بشرط أن يكون أحد الأطراف مغربي الجنسية، وهذا معناه بكل بساطة ان القرار التحكيمي الصادر وفق أحكام الشريعة الإسلامية لفائدة طرف مغربي او ضده، لا يحتاج الى اكساء بالصيغة التنفيذية، مما يعطي ضمانا اكبر للمعاقد الأجنبي اذا كان يريد تنفيذ القرار التحكيمي على غريمه المغربي داخل التراب المغربي. ويكون الحال عكس ذلك اذا كان القرار صادراً لفائدة الطرف المغربي وكانت للطرف الأجنبي ممتلكات بالمغرب، فإن هذه الأخيرة تصبح مهددة طالما ان صاحبها لا حق له في الإعتراض بأية طريقة داخل المغرب حتى لو لم يقع احترام الشرط المتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية أو ضرب عرض الحائط بكل المبادئ القانونية والشرعية في البلد الذي صدر فيه القرار التحكيمي، وان الإبطال لا يكون الا أمام الدولة التي صدر القرار التحكيمي على ترابها أو وقع تطبيق قانونها بصرف النظر عن المكان الذي صدر فيه القرار.
وبالمقابل فإن محكمة سورية مثلاً رفضت اكساء قرار تحكيمي صادر عن غرفة التجارة الدولية بباريس بالصيغة التنفيذية بحجة ان الفصل 21 من نظام تلك الغرفة يوجب عرض القرار التحكيمي لمراقبة لجنة خاصة بالغرفة وهذا ما يتعارض مع سرية التحكيم التي تعتبر من منظور القضاء السوري امراً ماساً بالنظام العام.
في حين أصدرت المحاكم المصرية قرارات اعتبرت فيها القضاء المصري غير مختص بالنظر في بطلان القرارات التحكيمية الصادرة بالخارج من منظور البلد الذي صدرت فيه تلك القرارات، وذلك تطبيقا لإتفاقية نيويورك التي انضمت اليها مصر، وكذلك المادة 52 ثانيا من قانون التحكيم المصري، بل وذهب القضاء المصري في القرار رقم 23/125 بتاريخ 2/7/2008 عن محكمة استئناف القاهرة "ان عدم اختصاص المحاكم المصرية بدعاوى بطلان احكام المحكمين الأجنبية هي قاعدة ولائية، ومن ثم تقضي بها المحكمة من تلقاء نفسها وفقاً لنص المادة 109 من قانون المرافعات .
وظاهر ان هذا الموقف جاء موافقا للمادة 19 من القانون المدني المصري الذي يحترم سلطان الإرادة صراحة.
كما حكمت محكمة استئناف القاهرة (الدائرة 91 تجاري) في الدعوى رقم 7 بتاريخ 27/7/2003 بأن الأمر بوضع الصيغة التنفيذية على أحكام المحكمين الأجنبية يكون بطريق الأمر على عريضة اسوة بتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة طبقاً لقانون التحكيم عدد 27 لسنة 1994 المصري واعمالاً لأحكام المادة الثالثة من اتفاقية نيويورك (العدد الخاص بمركز القاهرة الإقليمي المشار اليه آنفاً - صفحة 15). وجلي جداً ان هذا الموقف جاء موافقاً للمادة 19 من القانون المدني المصري التي تحترم سلطان الإرادة صراحة.
بينما ذهبت محكمة الإستئناف بتونس مذهباً مختلفاً مع التزامها بإتفاقية نيويورك التي انضمت اليها تونس بالقانون عدد 12/67 المؤرخ في 10/4/1967 حيث اشترطت للإكساء صدور القرار التحكيمي بتراب دولة منضوية هي الأخرى لتلك الإتفاقية ووفق مبدأ المعاملة بالمثل اي قبول تلك الدولة اكساء القرارات الصادرة بتونس بالصيغة التنفيذية.
لكن المحاكم اعتبرت انخراط آية دولة في اتفاقية نيويورك دليل على ثبوت المعاملة بالمثل .
كما ان المادة 60 من مجلة التحكيم في موريتانيا (قانون عدد 6 بتاريخ 18/1/2000) تؤكد هي ايضاً مبدأ المعاملة بالمثل تجاه اي قرار تحكيمي ومهما كانت الدولة التي صدر فيها، لكن اكساءه بالصيغة التنفيذية يقع بمجرد اذن على العريضة يوجه الى رئيس محكمة المحافظة (الولاية) علماً أن كلاً من ليبيا وموريتانيا لم تنضما إلى الآن الى اتفاقية نيويورك (على حد علمي).
الخلاصة:
ان الامة الاسلامية لها رسالة عالمية لا ترضى الضعف ولا تخضع لأي نوع من انواع الغر ولذلك عليها واجب اعلاء كلمة الله.
وان مسألة تطبيق الشريعة الاسلامية في حل النزاعات مرهون بعنصرين أساسيين:
الاول- هو حسن التفاوض منذ البداية على شروط العقد فيحدد المعاقد المسلم أهدافه بوضوح في الموازنة بين ضمان تطبيق الشريعة على العلاقة التعاقدية بكل جزئياتها وعدم التهاون بذلك المبدأ تنفيذاً لأمر رباني:
"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت وسلموا تسليما". الآية 65 من سورة النساء –
وبين تأمين عنصر الربح من تلك العلاقة لأنه هو الغاية.
ان التفاوض على العقد هو العنصر الحاسم وخصوصاً إذا كان الطرف المسلم في موقع اقوی: موقع المشارك بالمال - موقع المستثمر - موقع مصدر التكنولوجيا - بائع محروقات • وهي الفرصة التي يستطيع خلالها تمرير شروطه التي تناسبه، وأولها التأكيد بوضوح على خضوع العلاقة بكاملها للشريعة الاسلامية وبمقاصدها المتعارف عليها وسيلة ونتيجة وبفنون وقاعدة تفاوضية علمية ومدروسة.
ان غيـر المسلميـن وحتى المسلمين غير الخائفين من شرع الله لا هم لهم غير الربح ومتى علموا أن هناك خطراً بخسـارة الصفقة فإنهم سيرضخون لشروطنا. ولتكن لنا الثقة بالله ثم بأنفسنا.
الثاني- تحرير العقود بدقة وسعة اطلاع وحرفية كبيرة، وذلك من خلال:
- وضوح شرط تطبيق الشريعة الاسلامية على العقد خالصة من آية عناصر خارجية عنها سواء كانت قوانین او اتفاقيات او اعرافا تجارية دولية Lex Mercatoria.
- ايضاح حقوق كل طرف بدقة منذ بداية التعاقد الى مراحل التنفيذ الى نهاية اعمال التنفيذ والضمانات المترتبة على العلاقة.
التنصيص على الشرط التحكيمي بكل وضوح نوعاً ومكاناً ولغة وطريقة تعيين المحكمين أو الجهة المخولة بذلك بدلا من الطرفين، وخصوصاً في حال تعدد الأطراف.
- التأكيد على المذهب الذي يتم على أساسه التحكيم ولا سيما اذا تعددت عناصر الارتكاز كخضوع المستثمر مثلا للمذهب الحنبلي وخضوع العميل للمذهب المالكي وتنفيذ العقد يتم في موقع يسود فيه المذهب الحنفي، واذا اختار الاطراف محكمين او عينوا جهة تتولى تعيين المحكمين يقع مركزها حيث يسود المذهب الشافعي أو الاباضي. مع الحرص على ترتيب المذاهب أولا بأول مثلما فعل القانون الاماراتي.
-وفي هذه الحالة تظهر أهمية تحديد مذهب التحكيم، بل مذهب المحكمين أيضاً ، ولم لا؟ أليس في ذلك ضمانات أكبر.
- الاحتراز من التشريعات الوطنية المختلفة التي يمكن ان يجد الاطراف المتعاقدون انفسهم تحت سلطانها سواء من خلال القانون المنطبق في الاصل لحل الخلاف أو من خلال اجراءات التحكيم او ان مركز التحكيم يقع في نطاق ولايتها او احتمال الاستنجاد بها في طلب الاكساء بالصيغة التنفيذية، لأن مكاسب المعاقد المحكوم ضده تقع بذلك البلد مع ما يتطلب ذلك من فهم الحد الادنى لتلك التشريعات تفادياً للإصطدام بالبطلان الشكلي او مخالفة النظام العام لهذا البلد أو ذاك.
- وعند الضرورة وفي حالة الخوف يقع اللجوء الى تعيين مقار مخابرة مختارة (أو حتى المطالبة بكفلاء) تراعي المصالح المنشودة وتجنبنا الاشكاليات القانونية المحتملة.
اننا نحن المسؤولون عن أبطال العقود ونحن المسؤولون عن أبطال الشرط التحكيمي بإغفالنا للإحتياطات الواجبة عند تحريرها وبالتساهل في قبول الشروط المملاة علينا.
ان ما يلاحظ من اتجاه القضاء والمحكمين الانكليز الى استبعاد تطبيق الشريعة الاسلامية بسائر الطرق لو قابلناه بمنع تطبيق الى استبعاد تطبيق الشريعة الاسلامية بسائر الطرق، لو قابلناه بمنع تطبيق القانون الانكليزي صراحة ومنع اجراء التحكيم ببريطانيا لكان كافياً لرجوعهم عن ذلك الخط، ولكن من سوء الحظ واصل المسلمون الاحتكام إلى القانون الانكليزي واللجوء الى المحكمين الانكليز، الذين لا يفهمون ديننا ولا لغتنا ولا حضارتنا ولا طريقة تفكيرنا ولا حتى الاعراف التجارية الخاصة بنا، لأنه لا توجد اعراف تجارية كونية، بل لكل حضارة اعرافها الخاصة بها.
وأن لجوء الجهات الرسمية الفرنسية وحتى غرفة التجارة الدولية بباريس إلى تشكيل لجنة بشأن كيفية التعامل وتيسير تطبيق الشريعة الاسلامية لم يكن أبدأ بدافع الحب والصداقة، بل بدافع المصلحة حتى يفر المسلمون بتحكيمهم من انكلترا الى فرنسا.
وليكن الفرار الى ربوعنا. الى موطن شريعتنا. الى محكمينا وعقولنا، ولتكن علاقتنا بهم مجرد انفتاح وتعاون وتبادل ذوباناً وشعوراً بالنقص.